محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14
هنا الرسول يبدأ حديثه في جوهر موضوع رسالته ألا وهو كهنوت المسيح، الذي ليس على مستوى هرون بل على مستوى ملكي صادق. وبدأ هنا الحديث عن هرون بكونه أول رئيس كهنة مدعو من الله، ثم يقدم لنا من هو أعظم منه بما لا يقاس، ربنا يسوع الذي يدخل بنا إلى الأقداس السماوية يشفع فينا على مستوى جديد وفريد.
آية 1: "لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ مَأْخُوذٍ مِنَ النَّاسِ يُقَامُ لأَجْلِ النَّاسِ فِي مَاِ للهِ، لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ عَنِ الْخَطَايَا."
هذه الآية راجعة [للآية السابقة عب 16:4] والمعنى فلنتقدم بثقة فلنا شفيع مُجرَّب مثلنا.
هنا نجد شرطين لرئيس الكهنة.... الأول:- أن يكون مأخوذًا من الناس ليشفع عن بني جنسه، فلقد قال الله لموسى "قرب لي هرون وبنيه معه من بين بني إسرائيل" (خر28: 1) إذ يشعر بضعفاتهم ويعمل باسمهم . وهذا الشرط تحقق في السيد المسيح إذ أخذ جسدنا. الثاني:- أنه يقام لأجل الناس ليقدم ذبائح عنهم، مهمته الأولى أنه يقدم شعبه لله وهذا الشرط الثاني فعله المسيح بذبيحة جسده. فهو رئيس كهنتنا الحقيقي الذي قدَّم ذبائح = ذبيحة جسده على الصليب. و قَرَابِينَ = تقدمة الدقيق. والدقيق المسحوق الأبيض يرمز لحياة المسيح البار المسحوق لأجل آثامنا والمسيح أعطانا حياته هذه نحيا بها (غل20:2) .
آية 2: "قَادِرًا أَنْ يَتَرَفَّقَ بِالْجُهَّالِ وَالضَّالِّينَ، إِذْ هُوَ أَيْضًا مُحَاطٌ بِالضَّعْفِ."
هنا يفترق المسيح عن أي رئيس كهنة، إذ المسيح غير محاط بالضعف لكنه يشعر بضعفنا وآلامنا؛ أولًا بكونه خالقنا فهو يعرف كل شيء. ثانيًا لأنه عاش وسط ضيقاتنا. وفي العهد القديم كان رئيس الكهنة إذ له نفس الطبيعة الضعيفة الساقطة، يرثى لحال الخاطئ القادم ليقدم ذبيحة. ولأنه هو نفسه محاط بالضعف كان يشفق على المخطئ كأنه أخطأ بجهل ودون علم وبهذا يترفق بالخاطئ حتى لا يموت. والكاهن المسيحي الآن يصلي قائلًا في أثناء تقديمه للذبيحة أنه عن خطاياه وجهالات الشعب. أما المسيح الكامل الذي وحده بدون خطية فهو في رحمته العجيبة حمل كل خطايانا مترفقا بضعف بشريتنا.
آية 3:" وَلِهذَا الضَّعْفِ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ كَمَا يُقَدِّمُ عَنِ الْخَطَايَا لأَجْلِ الشَّعْبِ هكَذَا أَيْضًا لأَجْلِ نَفْسِهِ."
كان رئيس الكهنة يقدم ذبائح عن نفسه أولًا حتى يمكنه أن يقوم بدوره الشفاعي إذ هو أيضًا يخطئ. ولكن المسيح يفترق عن رئيس الكهنة اليهودي في هذا أيضًا فهو بلا خطية ولا يقدم ذبائح عن نفسه
. وهو لا يصلي لأجلنا لكي يقبلنا الله بل هو يحملنا فيه كأعضاء جسده خلال ذبيحة نفسه، ونحن فيه نصير مقبولين لدى الله.
آية 4: "وَلاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ هذِهِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، بَلِ الْمَدْعُوُّ مِنَ اللهِ، كَمَا هَارُونُ أَيْضًا."
نجد هنا الشرط الثالث:- لرئيس الكهنة وهو أن يكون مدعوًا من الله لهذه الوظيفة. وكان اليهود يفتخرون بأن الله هو الذي دعا رئيس كهنتهم هرون. والإنسان عمومًا موسوم بالخطية فكيف يقترب للشفاعة عن غيره إن لم يكن مدعوًا من الله. وفي هذا أيضًا يتشابه المسيح مع رئيس الكهنة ، فالآب أرسله لهذا العمل الكهنوتي. "تقدموا إليَّ اسمعوا هذا. لم اتكلم من البدء في الخفاء. منذ وجوده أنا هناك والآن السيد الرب أرسلني وروحه" (إش48: 16) + (يو3: 34 + 5: 23 ، 38). + "فالذي قدسه الاب وارسله إلى العالم، أتقولون له: انك تجدف، لأني قلت: أني ابن الله" (يو10: 36). وقوله قدسه في الآية الأخيرة تعني خصصه ليكون كاهنا يقدم ذبيحة نفسه.
هذه الوظيفة = كلمة الوظيفة في اليونانية تأتي بمعنى كرامة وهذا يتفق مع آية (5).
آية 5: "كَذلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا لَمْ يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ، بَلِ الَّذِي قَالَ لَهُ:«أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ»."
الله الآب دعا ابنه ليقوم بعمله الكهنوتي. ودعوة الآب للابن هي تخصيص عمل داخل المشورة الثالوثية للأقانيم الثلاثة =
"والآن السيد الرب أرسلني وروحه" (إش48: 16). فالآب يختص بالتدبير والابن بالخلاص والروح القدس يثبتنا في المسيح الابن. فيحملنا الابن لأحضان الآب. والله دعا ابنه لهذه الوظيفة التي بها تمجد بالجسد، حين قال في المزمور أنا اليوم ولدتك أي يوم أعطيتك الطبيعة الإنسانية حتى يمكنك بها أن تقدم جسدك ذبيحة وتموت ثم تقوم لتقيم الكنيسة معك. والابن قد تمجد بالصليب أولًا ثم يوم القيامة ويوم الصعود ثم جلوسه عن يمين الآب بناسوته. فالمجد الذي نتكلم عنه هو المجد الذي صار للجسد الإنساني الذي حصل عليه لحسابنا . هذه الآية تشير لأن القول "أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" يشير للتجسد والصلب والقيامة... راجع تفسير آية (عب5:1).
آية 6: "كَمَا يَقُولُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ»."
هنا الرسول يشير إلى مزمور آخر يتضح منه دعوة الآب لابنه ليكون رئيس كهنة وهو (مز110). ونرى هنا أن المسيح صار كاهنًا إلى الأبد وليس كرؤساء الكهنة الذين هم على رتبة هرون والذين كانوا يموتون ليقوم غيرهم مكانهم. والمسيح صار كاهنا إذ قدَّم ذبيحة نفسه على الصليب ثم دخل للأقداس بدمه. ورآه يوحنا في الرؤيا كخروف قائم كأنه مذبوح (رؤ6:5). فهو دخل للسماء بجروح يديه ورجليه وجنبه. صائرا ذبيحة حية (ذبيحة = كأنه مذبوح + حية = قائم) مقدما نفسه هكذا يوميًّا على مذبح الإفخارستيا، غفرانا للخطايا كذبيحة، وحياة أبدية لأنه قائم. كاهنًا إلى الأبد = ذبيحة الصليب هي ذبيحة دائمة طالما كانت الكنيسة قائمة، ولذلك نقول أن كهنوت المسيح أبدي. ولنلاحظ أن كلمة كاهن تعني يُقَدِّم ذبيحة ليشفع في الناس.
رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَق
= سيأتي عنها الحديث في (ص7) ولكن باختصار فرتبة ملكي صادق أعلى من رتبة هرون. فملكي صادق بارك إبراهيم أبو الآباء فهو أبو هرون.
آية 7: "الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طَلِبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ."
في أيام جسده = إشارة إلى ألامه التي تحملها بجسده (1بط 4: 1).
إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ = لم نسمع أن المسيح حاول الهرب من الصليب، بل هو جاء لهذا السبب "أيها الآب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة" (يو12 : 27) وانتهر بطرس إذ حاول أن يثنيه عن الصليب (مت21:16–23) بل تنبأ كثيرًا عن ألامه وموته. ولكن هل يعقل أن يضرب بالسياط وتدق المسامير في جسده ولا يصرخ ويبكي، فهو صرخ لأجلنا وقبل العار لأجلنا. صراخه ظهر في صلاته في بستان جثسيماني وعرقه الذي كان مثل الدم وطلبه أن تجوز عنه هذه الكأس. هو تحمل آلام حقيقية وكان يئن ويصرخ كأي إنسان. ربما كإنسان طلب أن لا يتحمل هذه الكأس ولكنه إذ هو واحد بلاهوته مع أبيه ومشيئتهما واحدة قال لتكن لا كإرادتي بل كإرادتك. الإرادة الإنسانية ترفض الألم وهنا نرى المسيح وقد أخضع الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية ليخلص البشر. وهكذا عاش القديسون، يطلب جسدهم شهوة رديَّة ويقولون - لا لجسدنا وشهواته ولتكن إرادة الله وليس إرادتنا. وصار هذا هو طريق الخلاص للبشر.
أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ = هذه لا تفهم إطلاقًا أن الآب استجاب له فلم يمت، بل أن الآب استجاب له بأن أقام جسده وخلصه من الموت ليقيمنا نحن فيه، فنحن جسده الذي طلب له الخلاص من الموت. وكان ذلك بأن تركه يموت ومن داخل الموت تعامل مع الموت، قوة الحياة التي فيه ابتلعت الموت فخلص نفسه من الموت بلاهوته ، وقام وخلص البشرية معه فقامت البشرية من الموت. بالموت داس الموت. والله استجاب له بالقيامة التي صارت حياة جديدة له ولكل الكنيسة. المسيح أتى ليخلص البشر من الموت وعند صراخه استجاب له الآب وخلَّص البشر من الموت بموتهم فيه في المعمودية وقيامتهم متحدين معه في قيامته.
وفي تفسير مكمل لما سبق نلاحظ أن صلاة المسيح ليرفع الله عنه كأس الآلام كانت في بستان جثسيماني. ولاحظ فاللاهوت كان يمكن أن يجعله لا يشعر بالآلام ولكنه لم يفعل. والمسيح كان مقبلا على آلام رهيبة وهنا يطلب قوة للاحتمال حتى لا يموت من هول الآلام قبل الصليب لكي يُكمل الفداء على الصليب فيقول "قَدْ أُكْمِلَ". وبالفعل طالت حياته الجسدية إلى أن أتم عمل الصليب. وهذا معنى قول الرسول "وإذ كُمِّلَ صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي". ومعنى سُمِع له أنه لم يمت قبل أن يتم الفداء بالصليب وأن يُسَلِّم هو روحه بسلطانه على الصليب بإرادته الكاملة. وكانت هذه إرادة المسيح أن يُصلب، فالصليب لعنة، وقد أراد المسيح أن يحمل عنا اللعنة التي جاءت علينا بسبب الخطية (راجع موضوع الصليب لعنة تتحول إلى بركة في نهاية الإصحاح الثالث من رسالة غلاطية).
مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ = كيف انتصر على إبليس وعلى الموت؟ راجع (يو30:14) "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء" ، فرئيس هذا العالم إبليس لم يجد فيه خطية. وبالتالي لم يكن للموت سلطان عليه فداس الموت ببره. كان إبليس عند موت أي إنسان يأتي ويقبض على روحه ويأخذها معه للجحيم ، فكل إنسان قَبِلَ من يده خطية ، وعند موت الإنسان يطالب إبليس بثمن الخطايا والملذات الخاطئة التي قدمها له . والثمن الذي يطلبه هو نفس الإنسان . أما المسيح الذي بلا خطية فهو لم يقبل من يده شيء . فعند موته لم يتمكن إبليس من القبض على روحه ، بل أن المسيح المتحد لاهوته مع روحه هو الذي قبض على إبليس وقيده . وأيضًا قوله من أجل تقواه= لأن المسيح كان بلا خطية فهو مات فداءً عن البشر وليس عن نفسه، فلو كانت له خطية لكان قد مات عن نفسه. وأيضًا هذا إشارة لطاعته الكاملة والطاعة صفة من صفات الناسوت. وهو في هذه الحالة يطيع لاهوته هو فمشيئته هي نفس مشيئة الآب. وقوله سُمِع له لأجل تقواه = يعني أن الآب استجاب لشفاعته كرئيس كهنة يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، وغفر لشعبه المؤمن به الذي يتقدم بثقة إلى عرش النعمة. ألم يأتي المسيح كرئيس كهنة ليشفع فينا ويقدم ذبائح وقرابين (عب4: 15 ، 16 + 5: 1).
آية 8: "مَعَ كَوْنِهِ ابْنًا تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ."
مَعَ كَوْنِهِ ابْنًا = هو ابن الله بالطبيعة ومشيئتهما واحدة. ولكنه بالجسد وضع تحت الطاعة ليتكمل بها بالآلام. لكي يصير رئيس كهنة لزم أن يتعلم الطاعة على مستوى البشر وهذه لا يتعلمها البشر سوى بالآلام = تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ = إذ أخضع إرادته الإنسانية لإرادة لاهوته كما ذُكِر في الآية السابقة. وقد ظهرت طاعته في أكمل صورها حين احتمل آلاما حقيقية صرخ لأجلها ولكنه أطاع. فإن كان هذا هو منهج الله مع ابنه فعلينا أن نطيع الله ولا نتذمر على أي ألم يسمح به فنحن نكمل بالآلام. ونلاحظ أن هذا الكلام موجه للعبرانيين المتألمين ليحتملوا الآلام فهي بسماح من الله ليكملوا.
آية 9: "وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ، سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ."
وَإِذْ كُمِّلَ = كُمِّلَ = بالآلام والصليب ثم كمل بالمجد الأبدي وجلوسه عن يمين الآب فصار رئيس كهنه يشفع فينا وسبب خلاص أبدي. لكن ليس لكل إنسان بل للذين يطيعونه ويخضعون إرادتهم الإنسانية لمشيئة الله، ويحتملون الآلام التي سمح بها الله بشكر (كو2: 7) وبدون تذمر أو ارتداد عن الإيمان.
آية 10: "مَدْعُوًّا مِنَ اللهِ رَئِيسَ كَهَنَةٍ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ."
هو تكمل بالآلام ليصير
رئيس كهنة وكاملًا كمخلص. رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق هذه الآية هي تقرير نهائي عما سبق فهو لم يغتصب الكهنوت وهو أكمل الطاعة وصار مجربًا في كل شيء مثلنا، احتمل الآلام كالبشر وأطاع حتى موت الصليب (فى2: 8، 9).
آية 11: "اَلَّذِي مِنْ جِهَتِهِ الْكَلاَمُ كَثِيرٌ عِنْدَنَا، وَعَسِرُ التَّفْسِيرِ لِنَنْطِقَ بِهِ، إِذْ قَدْ صِرْتُمْ مُتَبَاطِئِي الْمَسَامِعِ."
كان موضوع ملكي صادق يمثل لليهود لغزا لم يستطيعوا فهمه أبدا. فمن هو ملكي صادق وكيف يبارك إبراهيم أبو الآباء ومن أين أتى وكيف يعطيه إبراهيم العشور.
هنا وقفة مع العبرانيين الذين يريدون الارتداد للناموس. وهي وقفة عتاب. فبعد أن قدم لهم كل ما عمل المسيح لأجلهم يعقد هنا مقارنة بين نمو الجسد ونمو الإنسان الروحي ويصور هؤلاء العبرانيين بالأطفال غير الناضجين. وبسبب حالتهم الروحية صارت الحقائق الواضحة مثل موضوع ملكي صادق عسرة الفهم. أما لو كانت النفس سليمة يصير لها كل شيء سهلًا مثل من له معدة قوية يستطيع بها أن يهضم أي طعام. فالله في معاملاته معنا يبدأ بالتدريج عمله لننمو ، ولو تجاوبنا مع الله نصل لحالة النضج في الإيمان،
فنُستأمن على أسرار النعمة. ولكن لو استهنا بكلمة الله ترجع كلمة الله فارغة دون ثمار ويرتد الإنسان كطفل روحي. وكما لو حاولت الأم إطعام طفلها بطعام دسم لا يقبله، هكذا الأطفال الروحيين لا يقبلون الكلام العالي. وبالنسبة للرسول كان سهلًا عليه أن يقارن بين المسيح وموسى، والمسيح ويشوع ولكنه وصل الآن لموضوع كهنوت المسيح الأبدي وتصور حال هؤلاء الأطفال روحيًّا وكيف أنهم لن يستسيغوا هذا الكلام بسبب عجزهم الروحي فهم يريدون الارتداد عن المسيحية. وبولس له كلام كثير يقوله عن كهنوت ملكي صادق ولكن إذ هم متباطئي المسامع أصبحوا لا يدركون.من كتاب اليهودي المتنصر إدرشيم:
حاول الربيين اليهود محاولات عديدة لفهم قصة ملكي صادق. وكان لهم عدة تفسيرات وما ذكره إدرشيم منها هذا التفسير:- أن الله سلَّم آدم كهنوت ذبيحة الخبز والخمر. وسلمها آدم لمن بعده حتى وصلت إلى نوح، وسلمها نوح لابنه سام. وظل سام حيًا وكان هو ملكي صادق نفسه. وتقابل مع إبراهيم فسلمه كهنوت ذبيحة الخبز والخمر، ثم وصل هذا السر إلى موسى. ولكن حرم الله اليهود من كهنوت الخبز والخمر بسبب خطيتهم في موضوع العجل الذهبي في سيناء، وفرض عليهم الكهنوت الهاروني - كهنوت الذبائح الحيوانية الدموية. وقالوا حينما يأتي المسيا المنتظر سيعيد كهنوت الخبز والخمر.وواضح من القصة أن بها أخطاء، ولكن بها فكر صحيح أيضا، واضح أنه بوحي من الله. ومن الأخطاء أن الله سلَّم آدم كهنوت الخبز والخمر، فالله هو الذي كسا آدم وحواء بجلد ذبيحة دموية. ورفض تقدمة قايين غير الدموية، بينما قبلت ذبيحة هابيل الدموية. وأيضًا ما الذي غيَّر اسم سام إلى ملكي صادق؟! ولماذا لم تذكر التوراة أن سام هو ملكي صادق؟! ولكن كانت هذه محاولة منهم لتبرير أن يبارك أحد إبراهيم أبو الآباء فلجأوا لهذا الحل، لأن سام هو أبو الجنس اليهودي كله. أما فكرة كهنوت الخبز والخمر التي يأتي بها المسيا، فواضح أنه وحي من الله ليُعِّد أذهان اليهود لقبول هذا الكهنوت الجديد، أوحي به الله لأحد آبائهم وكان يستحق أن يوحي له الله بهذا.
آية 12: "لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ، وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى اللَّبَنِ، لاَ إِلَى طَعَامٍ قَوِيٍّ."
لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ
= هم كانوا يهود لهم خبرات طويلة مع الكتاب المقدس. والآن فهم لهم سنوات طويلة في المسيحية ولهم خبراتهم فيها.وبسبب هذا كان من المفروض أن يكونوا معلمين. كان يجب عليهم لو كانوا قد نموا روحيا أن يفهموا مثلا لمن يشير ملكي صادق ومعنى كهنوته.
آية 13: "لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ اللَّبَنَ هُوَ عَدِيمُ الْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ الْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ."
لأن كل من يأخذ التعاليم الروحية البسيطة أو المبادئ الأولية من التعاليم الروحية التي تقابل اللبن الذي يقدمونه للأطفال حتى يسهل هضمه، لا يكون له خبرة ولا يعرف التعاليم التي تقود للتبرير وإلى الحياة الفاضلة السماوية والتي يكون فيها منقادًا بالنعمة يحيا حياة فائقة على الطبيعة. أما الأطفال روحيًا فهم يحيون على مستوى الأخلاقيات العالمية.
آية 14: "وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
الإنسان الذي تدربت حواسه الروحية على الإنجيل وقيادة النعمة يثبت وجهه نحو الوطن السمائي يقوده الروح القدس. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). أما الإنسان المنشغل أو المهموم بالعالم عن الله وحياته الروحية يفقد رؤيته وحواسه. المسيحي لو واظب على التعلم من كلمة الله وتطبيقها على سلوكه وأعماله وأقواله وأفكاره فإنها تتحول فيه إلى قوة تمييز في الفكر فيصير له إدراك وإفراز ما هو خير وما هو شر فَيَتَقَوَّم سلوكه. ونلاحظ أن الطعام الروحي القوي أي التعاليم الروحية العميقة هي من أجل المسيحيين الناضجين الذين بواسطة المران والاعتياد صارت لهم الحواس الروحية مدربة وتستطيع بسهولة أن تميز بين الخير والشر. فكما أنه لنا حواس جسدانية فنحن لنا حواس روحية فنحن لنا أعين روحية بها نرى الله (مت5: 8) + (عب12: 14) ولنا أذان روحية (رؤ2: 7) ويمكننا تذوق الله (مز34: 8) وهذه الحواس يتعطل عملها بالخطية وتكتسب قوتها وصحتها بواسطة عمل نعمة الروح القدس.
الحواس المدربة = أفضل شرح لهذا هو قصة الأعمى الذي فتح السيد المسيح عينيه (مر22:8-26) فالسيد المسيح تفل في عينيه (ليعطيه حياة لعينيه فجسد المسيح يعطي حياة) ووضع يده عليه فرأى الأعمى الناس كأشجار يمشون. ثم عاد السيد المسيح فوضع يده عليه فأبصر بصورة طبيعية. هنا السيد المسيح صنع معجزتين في الحقيقة:-
1. السيد شفى عيني الأعمى لكن ظلت الرؤية كحاسة غير مدربة فهو لأول مرة يبصر، وقطعًا لا يدري الفرق بين الناس والأشجار فهو لم يسبق له رؤية أيهما فلقد كان أعمى.
2. ملأ السيد المسيح ذاكرة الأعمى بصور كثيرة فصار يميز بينهم فنحن نرى الشكل ونسجل الصورة في ذاكرتنا، ثم حين نراه ثانية نبحث عن الصورة في الذاكرة فنعرفه. والطفل حين يولد يكون بلا ذاكرة، ويظل يملأ ذاكرته من الصور والأصوات والروائح....إلخ وبعد ذلك يستطيع أن يتعرف على أيهم حين تكون ذاكرته ممتلئة.
ونفس الشيء يحدث مع الذاكرة الروحية. فالروح القدس يدرب حواسنا الروحية فنستطيع أن نتعرف على أعمال الله ونسمع صوته فنعرفه، كخراف تميز صوت راعيها، ونتلذذ بتذوق عشرته. تصير أذًا حواسنا مفتوحة على السماء.
ما يفتح حواسنا الروحية على السماء هو الروح القدس. وما يغلق حواسنا الروحية هي الخطية. ومن تكون حواسه الروحية المنفتحة على السماء مدربة يكون حيًا روحيًا أي الروح القدس جدد طبيعته فصار أمام الله حيًا. والعكس من لم يستجب لعمل الروح القدس وظلت حواسه الروحية ميتة وغير عاملة يقول عنه الكتاب "لك اسم أنك حي (فحواسك الجسدية تعمل) وأنت ميت (روحيًا)". فنحن لا ندرك الله ونفرح بأعماله ولا ندرك السماويات بالحواس الجسدية بل بالحواس الروحية، وهذا معنى "طوبى للأنقياء القلب. لأنهم يعاينون الله" (مت5: 8) + "الخراف تتبعه (الراعي) لأنها تعرف صوته" (يو10: 4). + " ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مز34: 8). هذه عن الحواس الروحية.
← تفاسير أصحاحات عبرانيين: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير عبرانيين 6 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
تفسير عبرانيين 4 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/h4gm4db