محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي: |
في نهاية دراستنا لرسالتيّ أفسس وكولوسي حيث رأينا أن الرسالتين متكاملتين ويقدمان علاقة المسيح بكنيسته. نقدم محاولة متواضعة لنلخص موضوع يصعب أن نحصره في مقالة صغيرة كهذه، وهو ماذا قَدَّمَ لنا ابن الله بتجسده. ولاحظ أن تحت كل بند شرح طويل تجده في مكانه في التفسير.
ظن البعض أن ابن الله تجسد وقدم لنا الفداء لغفران خطايانا فقط. ومع أن دم المسيح حقا "يطهرنا من كل خطية" (1يو1: 7) وأنه حقا "إشترانا لله بدمه" (رؤ5: 9)، إلا أن جسد المسيح الإنساني المتحد بلاهوته صار مصدرا لبركات لا حصر لها ولكي يعيد الرب يسوع للخليقة الصورة التي قصدها الله منذ البدء.
1- الفداء
خلق الله آدم على غير فساد. وحينما خالف آدم وصية الله وأكل من شجرة معرفة الخير والشر، مات آدم إذ أن الخطية فيها انفصال عن الله، والله هو الحياة. وإحتاج لمن يفديه ويموت عوضا عنه. وتطلب هذا أن يكون الفادي:
إنسانا - وبلا خطية - وأن يكون غير محدود.
*إنسانا = ليشبه آدم في طبيعته. فَمَنْ يفدي الإنسان يجب أن يكون من نفس جنسه.
*بلا خطية = فلو كانت له خطية لكان يموت عن نفسه. ولم يوجد إنسان بلا خطية "الجميع زاغوا وفسدوا معا" (رو3: 12). ولذلك قصد الله عبر الكتاب المقدس إظهار خطايا كل الآباء القديسين، ليظهر أن الحل يأتي من فوق كما قال الرب يسوع لنيقوديموس "ينبغي أن تولدوا من فوق" (يو3: 7).
*غير محدود = لأن خطية آدم موجهة لشخص الله غير المحدود، فتكون خطية آدم بل وخطايا نسله بعده غير محدودة، وتستلزم فداء غير محدود. ولا يوجد ملاك غير محدود.
فتجسد ابن الله الغير محدود وصار إنسانا وبلا خطية، ليقدم فداءً غير محدود لكل من يؤمن به من البشر في كل زمان "الذي لنا فيه الفداء، بدمه غفران الخطايا" (كو1: 14).
2- نتائج الخطية
لم يكن الموت فقط هو نتيجة للخطية، بل لنراجع سفر التكوين لنرى كل النتائج:-
الموت بأنواعه (انفصال عن الله وما إستتبعه من موت جسدي وروحي وأدبي وأبدي) - فقدان صورة الله - المرض (جسدي ونفسي فقايين مرض بما يشبه الشيزوفرينيا Schizophrenia) - نقص العمر - فقدان البركة ودخول اللعنة بأنواعها (للإنسان وللأرض) - فقدان الفرح وهذا معنى الطرد من الجنة - فقدان السلام - السبي والهزيمة - عرف الإنسان الخطية فتعددت الخطايا - العبودية (راجع سفر التكوين).
3- ماذا كان قصد الله نحو آدم خليقته المحبوبة؟
خلق الله آدم على غير فساد وبلا عيب، فالكتاب يقول بعد خلق آدم أن وجد الله "كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا" (تك1: 31).
وماذا كان يريد الله أن يكون عليه آدم؟
1. أن يحيا إلى الأبد ولا يموت - إذ كان معروضا عليه أن يأكل من كل شجر الجنة، وكانت شجرة الحياة من ضمن المعروض عليه أن يأكل منه.
2. أن يفرح - فالجنة هي جنة الفرح، عَدْنْ كلمة عبرية تعني فرح.
3. أن يكون في مجد - كان آدم في علاقة محبة مع الله، فآدم مخلوق على صورة الله، والله محبة. و"لذة الله مع بني آدم" (أم8: 31). وكان آدم يتكلم مع الله بلا خوف، فينعكس عليه مجد الله. وقارن مع ما حدث مع موسى إذ رأى جزءًا، على قدر احتماله، من مجد الله فلمع جلد وجهه (خر34: 29). فماذا كان عليه حال آدم في الجنة إذ كان يرى الله ويتكلم معه في محبة؟!
4. الوحدة - لاحظ أن الله خلق آدم، ثم أخذ ضلعا من آدم وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة. إذًا حواء لم تكن خليقة منفصلة عن آدم، بل كانت منه. ولاحظ قصد الله في الوحدة: حواء كانت في آدم، وآدم في الابن الذي خلقه والذي به كان كل شيء، والابن كان في الآب.
4- هل يفشل قصد الله؟
قطعًا هذا لا يمكن أن يحدث. "الله خلق الكل لمجده" (إش43: 7) أي ينعكس مجده على خليقته، فتُظهر الخليقة مجده. كما قال الرب يسوع "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت5: 16). وكان أن الابن الأول والآخر (رؤ1: 11) = اللازمني، الذي بلا بداية وبلا نهاية، الذي به كان كل شيء أن بدأ في الزمان يخلق الخليقة = "به كان كل شيء" (يو1: 3) وأظهرت الخليقة مجد الله "وهتفت الملائكة حين رأوا عمل الله" (أى38: 7). فصار الابن هو البداية (رؤ1: 8) إذ بدأ الابن الخليقة لتمجد الله، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. ولما فسدت خليقة الإنسان، ودخلت اللعنة، تجسد ابن الله ليعيد صورة الإنسان التي أرادها الله منذ البدء، ويتمجد الله ويثبت القصد الإلهي كما أراد. وبهذا صار المسيح البداية والنهاية (رؤ1: 8). البداية أي يخلق الخليقة لمجد الله، والنهاية ليعيد الخليقة لتمجد الله. لقد كان موت الإنسان وفساده تحديًا لعقل الله، إذ كان الإنسان لابد أن يموت نتيجة لمخالفة الوصية. وكان الله يحب الإنسان كما قلنا - فكيف يحل الله هذه المشكلة؟ هنا إنبرى عقل الله، ابن الله، اللوجوس ليتجسد ويفدي الإنسان ويعيد الصورة كما أرادها الله منذ البدء. ولاحظ أن الله لم يفاجأ بأن آدم أخطأ فبحث عن حل ليعيد له الحياة. بل أن الله اللازمني عالِم منذ الأزل بما سوف يحدث، وخطة الفداء كانت أزلية. الله خلق آدم على صورته حرًا، وبسبب حريته أخطأ. *والله لمحبته لآدم *ولرغبة الله أن يكون آدم حرًا - كان مستعدًا لدفع الثمن وهو الفداء.
5- حزن الله وغيظه واشتياقه لخلاص الإنسان الذي يحبه
الله لم ولن ينسى ما فعله الشيطان بالإنسان، ولا بد من عقابه عقابا شديدا "في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان الحية الهاربة. لوياثان الحية المتحوية ويقتل التنين الذي في البحر" (إش27: 1). وكان هذا السيف العظيم هو صليب رب المجد. ويقول الله في هذا "لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديي قد أتت" (إش63: 4). وكل العقوبات والويلات الموجهة للأمم في العهد القديم هي أصلا موجهة للشيطان الذي أسقط الإنسان وخدعه بالخطية فإستعبده، بل وجعل الإنسان يعبده من خلال العبادة الوثنية للأصنام. ولكن هناك وقت محدد لهذا اليوم، هو يوم الصليب الذي بدأ به العقاب. وكان الله متشوقا لهذا اليوم لمحبته للإنسان ورغبته في إنقاذه ولاحظ قول الوحي "ليس لي غيظ . ليت عليَّ الشوك والحسك في القتال فأهجم عليها وأحرقها معا" (إش27: 4) . بل كان ينتظر هذا اليوم على أحر من الجمر "قد صَمَّتُ منذ الدهر سَكَّتُ تَجَلَّدْتُ. كالوالدة أصيح. أنفخ وأنخر معا" (إش42: 14). ونلاحظ أن كل نبوات الأنبياء تتلخص في عرض الحالة المتردية التي وصل لها الجنس البشري، والعقاب الذي يستحقونه. ولكن لا حل عند البشر كما يقول الوحي "هل يغير الكوشي جلده (إشارة للخطية الجدية) أو النمر رقطه (خطايا الإنسان الشخصية المترتبة على الخطية الجدية المولود بها). فأنتم أيضًا تقدرون أن تصنعوا خيرا أيها المتعلمون الشر" (إر 13: 23). وكان تخلي الله عن الإنسان لفترة وجيزة جدًا عبَّر عنها الوحي بقوله لحيظة = "لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة، وبإحسان أبدي أرحمك قال وليك الرب" (إش54: 7 ، 8). لحيظة = مهما كانت المدة ما بين سقوط آدم والمجيء الثاني، والذي به ننتقل إلى المجد، فهي لا شيء بالنسبة للأبدية التي بلا نهاية. وهذا معنى قول الرسول "أخضعت الخليقة للبطل ليس طوعا، بل من أجل الذي أخضعها - على الرجاء" (رو8: 20).
6- تجسد المسيح
أ- ليحمل خطايانا وأحزاننا - ب- لتصير لنا حياته
بالفداء دفع المسيح ثمن الخطية وبهذا تصالحنا مع الآب "أي أن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعا فينا كلمة المصالحة" (2كو5: 19). وحمل المسيح بجسده اللعنة التي لحقت بالإنسان وحمل خطايانا، إذ أن موت المسيح على الصليب حمل عنا خطايانا إذ "صار خطية لأجلنا"، وحمل عنا اللعنة "إذ صار لعنة لأجلنا" (غل3: 13 + 2كو5: 21). عقوبة الخطية موت - هذا عدل الله. ولكن الله يحب آدم، ولكن رحمة الله تريد لآدم الحياة. وكان الحل هو صليب المسيح الذي فيه إجتمع عدل الله ورحمة الله معا كما قال المرتل "أرنا يا رب رحمتك واعطنا خلاصك. أني اسمع ما يتكلم به الله الرب.لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولاتقيائه فلا يرجعن إلى الحماقة. لان خلاصه قريب من خائفيه ليسكن المجد في ارضنا .الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما. الحق من الأرض ينبت والبر من السماء يطلع" (مز85: 7 - 11). (وراجع أيضًا مقالة "الصليب: لعنة تتحول إلى بركة" في نهاية تفسير الإصحاح الثالث من رسالة غلاطية).
يقول إشعياء النبي "لكن احزاننا حملها واوجاعنا تحملها" (إش53: 4). المسيح حَزِن حزنا لا ينطق به، فهو الذي قال "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت26: 38). هو بحزنه هذا حمل أحزاننا فصرنا نتعزى في وسط أحزاننا، وفي أوجاعنا نفرح فهو تحمل عنا الآلام. وهذا يشعر به كل مريض متألم ثابت في المسيح، هذا يجد أن التعزية في داخله تنسيه آلام المرض، ورأيناه في الشهداء الذين يقبلون على الاستشهاد بفرح وتسابيح، وهذا هو تفسير قول الرسول "سلام الله الذي يفوق كل عقل" + "متحيرين لكن غير يائسين" + "كحزانى ونحن دائما فرحون" (فى4: 7 + 2كو4: 8 + 2كو6: 10). وأيضًا هذا هو معنى أن "نيره هين" بمعنى أن من يرتبط به ويثبت فيه يجد أن تنفيذ الوصية (والوصية نير ثقيل (أع15: 10)) واحتمال الألم (والألم أيضًا نير ثقيل) حملهما خفيف، إذ أنه هو الذي يحمل عنا "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وأنا أريحكم" (مت11: 28). وهذا معنى قول الرب يسوع "فانتم كذلك، عندكم الآن حزن. ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع احد فرحكم منكم" (يو16 : 22) فالرب يعلم أن عندنا الآن حزن، وهو يرى أحزاننا وألامنا، ولكنه يعطي فرحًا يتغلب على ألامنا فنفرح، والفرح الذي يعطيه الرب لا يستطيع الألم أن يغلبه. وهذا ما نسميه حياة النصرة في هذا العالم، أي نرتفع بفرح على الضيقات والآلام الموجودة في العالم.
بل أن المسيح حمل عنا كل نتائج الخطية من موت وألم وعرى وشوك على رأسه ..
الذبائح في العهد القديم تشرح عمل الصليب:-
تعددت الذبائح في العهد القديم لتشير لعمل صليب المسيح:-
ذبيحة خروف الفصح (سفر الخروج):- تشير لأن الصليب أعطانا الحرية من العبودية.
ذبيحة المحرقة (لاويين) :- تشير لطاعة المسيح التي أرضت قلب الآب. ففي المسيح نُحسب نحن طائعين وكاملين إن كنا نثبت في المسيح (كو1: 28). وبهذا تعود الصورة التي أرادها الله منذ البدء. محبة متبادلة بينه وبين الإنسان. وعلامة محبة الله عطاياه، وعلامة محبة الإنسان طاعته لله وثقته فيه. وهذا معنى الآية (1كو15: 28).
ذبيحة الخطية (لاويين):- تشير لأن المسيح حمل عنا الخطية الجدية.
ذبيحة الإثم (لاويين):- تشير لأن المسيح حمل عنا الخطايا التي نفعلها نتيجة طبيعتنا الساقطة.
ذبيحة السلامة (لاويين):- تشير لأن المسيح قدَّم نفسه لنا على الصليب ذبيحة إفخارستية. ذبيحة الصليب هي ذبيحة حية دائمة ممتدة المفعول، لذلك رأى القديس يوحنا اللاهوتي المسيح في رؤياه خروف قائم كأنه مذبوح.
تقدمة الدقيق (لاويين):- تشير لأن المسيح أعطانا حياته المقامة من الأموات وهي حياة أبدية.
البقرة الحمراء (سفر العدد):- تشير أن المسيح قدم نفسه كسر تقديس لحياتنا خلال رحلة حياتنا على الأرض.
وراجع التفاصيل في:-
1) خر12:- هو سفر الخروج من عبودية فرعون لذلك نسمع فيه عن ذبيحة الحرية التي بها تحرروا من العبودية في مصر.
2) لا1 - 7 :- هو سفر التقديس (لا11: 4). ونسمع فيه عن ذبائح التقديس الخمس.
3) عد19:- هو سفر رحلة حياتنا على الأرض، التي نحتاج فيها لأن نموت مع المسيح فتظهر فينا حياته وهذا يتم بمعونة عمل الروح القدس.
لم يكن تجسد المسيح فقط ليدفع الثمن للآب، بل هو أعطانا حياته لنحيا بها في بر أي تكون أعضاءنا آلات بر نُفرِح بها قلب الله "لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالاولى كثيرا ونحن مصالحون نخلص بحياته" (رو5: 10 + فى1: 21 + غل2: 20). وكان هذا الصلح هو مطلب أيوب "ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا" (أى9: 33). المسيح حقق طلب أيوب فهو بيده اللاهوتية كان ممسكا بيد الآب، وبيده الإنسانية أمسك بيد الإنسان ليصالحنا مع الآب ويعطينا حياة. نحن في المعمودية نموت مع المسيح ونقوم متحدين به فتكون لنا حياته الأبدية (رو6: 1 - 14).
7- المسيح بتجسده أصلح ما أفسدته الخطية
فسد الإنسان بسبب الخطية وأنتن، ويكفي أن نرى بكاء المسيح على قبر لعازر لنرى مدى حزن الله على ما أصاب الإنسان من موت وفساد وحزن، فلعازر حبيبه قد أنتن وأحباءه يبكون. فهو كما قال عنه إشعياء النبي "في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم. بمحبته ورافته هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة" (إش63: 9).
فهل يموت الإنسان آدم ويخلق الله إنسانا جديدا، ولكن هذه الفكرة لا تحل المشكلة:-
1. الله يحب آدم ولا يريده أن يموت.
2. وحتى لو خلق الله إنسانا آخر فستكون له حرية ومعرض أيضًا للسقوط.
3. المشكلة ليست في الجسد بل في الشهوات الخاطئة التي في الجسد. فالجسد هو مجرد أداة تحركه الشهوات الداخلية.
وكان الحل أن تموت هذه الشهوات الخاطئة أو ما أطلق عليه بولس الرسول "الإنسان العتيق" (رو6: 6). ويخلق إنسانا داخليا جديدا (أف4: 24). ولكن كيف يتم هذا؟
1. يتجسد المسيح ويصير له جسدا إنسانيا مثلنا.
2. يموت المسيح ويقوم.
3. يشركنا المسيح معه في موته وقيامته. فيموت إنساننا العتيق ويولد فينا إنسانًا جديدًا (راجع رو6).
4. وحتى لا نفقد حريتنا، لم يترك الله الإنسان العتيق ليموت موتا كاملا بل أعطانا نعمة الروح القدس تعمل فينا لتدين أي لتخنق هذا الإنسان العتيق بشهواته الخاطئة (راجع تفسير رو8: 3). والنعمة أيضًا تعطي نموًّا للإنسان الجديد لمن يريد ويجاهد. أما من يريد أن يرتد لحياة الخطية فالله ترك له الحرية. والمسيح ما زال يسأل "هل تريد أن تبرأ" (يو5).
5. من يجاهد الآن يثبت في المسيح ويصير خليقة جديدة كما قال القديس بولس الرسول "إذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: ٱلْأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا" (2كو5: 17). والله يدعم ويقوي هذه الخليقة ويسندها ولكنه لا يجبر أحدًا على أن يبقى فيها بل يقول لملاك كنيسة لاودكية "هَكَذَا لِأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلَا حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي" (رؤ3: 16) (أي لن أرغمك على أن تستمر ثابتًا فيَّ). ولقد عبَّر سفر حزقيال في الترجمة الإنجليزية عن عمل النعمة مع المؤمن بتعبير رائع فيقول supported but not fastened.
6. إذًا المسيح لم يمت على الصليب ليدفع ثمن الخطية فقط بل ليجدد الخلقة التي فسدت بأن يخلقها خلقة جديدة "لِأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ (هذه هي الخليقة الأولى - آدم)، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ (هذه هي الخليقة الجديدة في المسيح) لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا" (أف2: 10). وهذا ما يتم بالمعمودية، لذلك كان الظهور الإلهي يوم معمودية المسيح، فكما إشترك الثالوث القدوس في الخلقة الأولى هكذا يشترك الثالوث القدوس في الخلقة الثانية.
8- المسيح أعاد صورة الوحدة كما أرادها الله منذ البدء بجسده
1. كان هدف الله من الخليقة الوحدة، فالله خلق آدم، ولم يخلق حواء منفصلة عنه بل جبلها من ضلع من آدم، أي أن حواء كانت في آدم. وأولادهم من كليهما أي هم أيضًا من آدم. ولذلك فالبشرية كلها من آدم. ولما كانت البشرية كلها هي جسد آدم فكان المفروض أن يرتبط الكل بالمحبة. ولكن دخلت الخطية ودخل معها الانقسام والكراهية وقتل الأخ أخيه. فصار الواحد اثنين = انشقاق وكراهية.
2. والمسيح تجسد ليجمعنا في جسده الواحد بأن وحدنا فيه، وصرنا أعضاء جسده. صار المسيح رأسا للكنيسة، وصارت الكنيسة جسده كما قال القديس بولس الرسول "وهو رأس الجسد: الكنيسة" (كو1 : 18). وشبه القديس بولس الرسول الكنيسة وعلاقتها بالمسيح رأسها، بأننا أعضاء جسد المسيح الواحد. "لأنه كما ان الجسد هو واحد وله اعضاء كثيرة وكل اعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد كذلك المسيح ايضا. لأننا جميعنا بروح واحد أيضًا اعتمدنا إلى جسد واحد يهودا كنا أم يونانيين عبيدا أم احرارا وجميعنا سقينا روحا واحدا. فان الجسد أيضًا ليس عضوا واحدا بل اعضاء كثيرة" (1 كو 12: 12-14). والمسيح "جعل الاثنين واحدا" (أف2: 14) فصار صلح بين الجميع. بل هو صالح السمائيين مع الأرضيين. صار المسيح "يجمع كل شيء فيه، ما في السماوات وما على الأرض" (أف1: 10). وصيرنا أعضاء جسده الواحد (راجع أفسس 1، 4) ولهذا فخطية الزنا هي خطية بشعة لأن من يفعلها يجعل أعضاء المسيح أعضاءَ زانيَةٍ (1كو6: 15). بل صارت الكنيسة التي يحيا أعضاءها في قداسة تظهر صورة المسيح.
3. ولكن الخطية تجعلنا أعضاء ميتة، ولا يصح أن توجد في جسد المسيح أعضاء ميتة. وكان الحل في أسرار مسحة المرضى والتوبة والإعتراف والإفخارستيا التي أسسها الرب يسوع، والتي بها تغفر الخطايا وتكون لنا حياة أبدية فلا ننفصل عن جسد المسيح. أما الإتحاد النهائي فسيكون بعد المجيء الثاني (راجع تفسير الآية رؤ19: 7، وراجع تفسير الآيات يو17: 20 - 21).
9- كل ما عمله المسيح بجسده كان لحسابنا
حينما تجسد المسيح اتحد جسده بجسدنا، وهو بلاهوته واحد مع الآب. ولاحظ قول المسيح "أنا فيهم (جسده متحد بجسدنا وحياته فينا نحيا بها) وأنت فيَّ (لاهوتيا)" (يو17: 23). ولأن جسد المسيح الوحيد الجنس (مونوجينيس) كان متحدا مع لاهوته صار لنا مصدرا لبركات لا تحصى. نلاحظ أن كل ما حدث للمسيح بجسده له فعل ممتد، وإلا كيف نفهم قول الرسول "مدفونين معه في المعمودية" (كو2: 12) هذا لا يفهم إلا لو كان فعل صلبه وموته وقطعا قيامته ممتدا للآن، وهكذا رآه القديس يوحنا في رؤياه "خروف قائم كأنه مذبوح" (رؤ5: 6) هنا نرى فعل الموت (مذبوح) وفعل القيامة (قائم). وهنا نرى أن فعل موته وفعل قيامته ممتدين. لذلك حين يقول السيد المسيح "فِي ٱلْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ ٱلْعَالَم" (يو16: 33) فلأن المسيح قد غلب العالم فنحن فيه قادرين أن نغلب العالم، وهكذا كل ما فعله المسيح بجسده فنحن قادرين أن نفعله وهذا معنى أن كل ما عمله المسيح بجسده كان لحسابنا. مات المسيح بحياة آدم لنموت فيه بإنساننا العتيق الذي ورثناه من آدم / قام بحياة أبدية لنقوم معه بحياة أبدية / غلب العالم لنغلب نحن فيه العالم / وأخيرًا تمجد بجسده الإنساني لنتمجد أيضًا معه. والآن لنرى تفاصيل أكثر:-
المسيح اتحد بجسدنا ليصير مصدرًا لكل بركة - ويكون لنا نصيبا في أمجاد السماء: هو بتجسده اتحد بجسدنا الإنساني ولن يتخلى عن هذا الجسد في الحياة الآتية، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. فيوحنا رآه في رؤياه بجسده الإنساني الممجد (رؤ1). ودخل المجد بجسده هذا الإنساني فصار باكورة لنا، وصار سابقا يدخل الأمجاد بجسد إنساني، فيقول لنا "في بيت ابي منازل كثيرة، والا فاني كنت قد قلت لكم. انا امضي لاعد لكم مكانا. وان مضيت واعددت لكم مكانا اتي أيضًا وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون انا تكونون انتم ايضا" (يو14: 2 ، 3). فصار بجسده لنا هو "الطريق" (يو14: 6) للمجد السمائي وللحياة الأبدية والفرح الأبدي بل لكل بركة حصلنا عليها. وكون أن الكنيسة صارت جسده جعل القديس بولس الرسول يشبه علاقة المسيح بكنيسته بعلاقة عريس بعروسه (أف5). وصرنا "شركاء الطبيعة الإلهية" (2بط1 : 4). "في المسيح يحل كل ملء اللاهوت جسديا وأنتم مملوؤون فيه" (راجع تفسير كو2: 9 ، 10). فصرنا نأخذ من المسيح المتحد جسده بجسدنا - كل ما نحتاج إليه ونمتلئ به - ولا يوجد سوى في الله المتحد به جسد المسيح لاهوتيا - كالحياة الأبدية والحكمة والقداسة والمجد، بل وسكنى الروح القدس فينا. غير أن المجد الذي فينا الآن هو غير مستعلن وسوف يستعلن في الأبدية (رو8: 18). "والخروف الذي في وسط العرش سوف يقتادنا إلى ينابيع ماء حية لنمتلئ من الروح القدس" (رؤ7: 17). بل أن كل ما حصلنا عليه الآن هو عربون ما سنحصل عليه في السماء (أف1: 14 + 2كو1: 22).
المسيح بموته أمات الخطية فيه ليخنقها ويميتها فينا: يقول بولس الرسول أن المسيح دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ (رو8: 3). فما معنى أن المسيح دان الخطية؟ المسيح حمل كل خطايا البشرية في جسده، ومات بجسده ليحكم على الخطية ويميتها ويدينها. ولذلك تستعمل كنيستنا القبطية خبزًا مختمرًا في سر الإفخارستيا كما فعل المسيح. والخمير يرمز للشر والخطية، ولكن حين يدخل العجين المختمر إلى نار الفرن تموت الخميرة. وهذا ما حدث تماما للمسيح الذي حمل خطايانا ومات بها على الصليب فدانها وأماتها. فالمسيح أخذ جسدنا البشري ليحمل خطايانا ويميتها، ويطلب منا أن نثبت فيه فيميت الخطايا داخلنا. وفي المعمودية نموت معه وندفن معه (كو2: 12) فنتحد بجسده الذي ماتت فيه الخطية فتموت خطايانا ونخرج بلا خطية موروثة أو خطية نكون قد فعلناها. ولكننا بعد المعمودية نعود فنخطئ، لذلك يطلب السيد المسيح منا أن نثبت فيه "إثبتوا فيَّ وأنا فيكم" (يو15: 4). وكيف نثبت في المسيح؟ الذي يثبتنا في المسيح هو الروح القدس (2كو1: 21-22). ورسم القديس بولس الرسول طريق الإمتلاء بالروح القدس (أف5: 17-22). ونلاحظ أيضًا أنه يجب علينا عدم مقاومة صوت الروح القدس وذلك بأن: أ) نجاهد في حفظ الوصايا والابتعاد عن كل شر وشبه شر. ب) الإلتصاق بالله في الصلوات والتسابيح ودراسة الكتاب. ج) الإفخارستيا: يقول الرب "مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يو6: 56). فالإفخارستيا طريق الثبات في الرب. وثباتي في جسده الذي أخذه من آدم عن طريق العذراء مريم ومات به فدان الخطية وأماتها، يعطيني موتا لخطاياي. لذلك يصرخ الكاهن ويقول "يُعطى لمغفرة الخطايا". وبقدر جهاد الإنسان في أن يميت خطاياه، وهذا ما نسميه حياة الإماتة يزداد ثباته في المسيح، وتساعده النعمة في ذلك، لذلك يطلب الرسول قائلًا "إحسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية" (رو11:6). وبقدر ما أمارس حياة الإماتة وبقدر جهادي في الثبات في المسيح أشعر بموت الخطية وإضمحلالها وسطوتها على جسدي. لذلك نصلي في إحدى القسم في القداس قائلين "عند إصعاد الذبيحة على المذبح تضمحل الخطية من أعضائنا بنعمتك".
يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولى: أننا بالخطية دخل إلينا الموت فصرنا ننحل ونفنى، ولكننا بعد قيامة المسيح صرنا كالبذور التي حين تُلقى في الأرض لا نفنى ولا ننحل بالموت، بل نُزرع في الأرض لنقوم ثانية، بما أن الموت قد أبيد بنعمة قيامة المخلص. لقد أمات المسيح الموت الذي فينا وأعطانا حياته الأبدية. وهذا يتم بالمعمودية التي فيها نتحد بالمسيح فيميت المسيح الموت الذي فينا ويعطينا حياته الأبدية (رو6). "لأَنَّ هَذَا ٱلْفَاسِدَ لَابُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهَذَا ٱلْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْت. وَمَتَى لَبِسَ هَذَا ٱلْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هَذَا ٱلْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ ٱلْكَلِمَةُ ٱلْمَكْتُوبَةُ: ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ" (1كو15: 53-55). لذلك نرتل في ترانيم القيامة قائلين "بالموت داس الموت". المسيح بموته أباد الموت فيه، حياته إبتلعت الموت فصار الموت ميتًا أي بلا فاعلية فصار لا يخيف أحدًا، مثله كمثل وحش مفترس كان مخيفًا وهو حي، فلما مات صار لا يخيف أحدًا. ونحن بإتحادنا به أمات المسيح الموت الذي فينا، وبقيامته أعطانا حياة أبدية. والدليل أن المسيحي صار يحتقر هذا العدو الذي كان مخيفا وصار المسيحيون يقبلون على الاستشهاد بفرح، فهم إعتبروا أن الموت قد صار ميتًا. وصارت الكنيسة تصلى قائلة ليس موت لعبيدك يا رب بل هو إنتقال. وهذا ما تعلمناه من رب المجد الذي غيَّر كلمة الموت إلى نوم – فماذا قال الرب يسوع عن الموت؟ *قال عن موت إبنة يايرس "الصبية لم تمت لكنها نائمة" (مت9: 24). *وقال عن موت لعازر "لعازر حبيبنا قد نام، لكنى أذهب لأوقظه" (يو11: 11) ولما لم يفهمه تلاميذه قال "لعازر مات" (يو11: 14). فبعد النوم هناك إستيقاظ.
قال المعترضون: لماذا لم يأمر الله الموت بالابتعاد عن الإنسان دون أن يتجسد ويفدى الإنسان؟ ويجيب القديس البابا أثناسيوس الرسولى:- لقد صار الإنسان بعد الخطية مثل القش لو اقتربت منه النار لأحرقته وأفنته، لأن النار لها خاصية إحراق القش. فلو أحطنا القش بمادة الإسبستوس التي لا تتأثر بالنار، فسيقاوم القش النار إذ قد تحصن بإحاطته بمادة غير قابلة للإحتراق. هكذا الإنسان بعد الخطية صار الموت والفناء يتهددانه. فحتى لو أمر الله الموت بالابتعاد عن الإنسان لظلت طبيعته هشة مثل القش بحسب طبيعة الأجساد. ولكي لا يكون الأمر كذلك، فإن كلمة الله الذي بدون جسد قد لبس الجسد الإنسانى القابل للموت لكي يُلاقى الموت في الجسد ويبيده بقوة الحياة التي فيه. وقام به من الموت، ولبس الحياة فهو الحياة. لكى لا يعود الموت والفساد يُرهب الجسد لأن الجسد الإنسانى الذي في المسيح قد لبس الحياة كثوب، كما لبس القش ثوب الإسبستوس فما عادت النار قادرة أن تطوله. وهكذا أبيد منه الفساد الذي كان فيه. لقد حصننا المسيح الحي بإتحاده بنا فصار الموت بلا فاعلية ضدنا، إذ أن الموت ليس له سلطان على الحياة.
المسيح يعطيني حياته في سر الإفخارستيا: ولكن أيضًا الإفخارستيا ذبيحة حية، لذلك نضيف في القداس "وحياة أبدية لكل من يتناول منه". في سر الإفخارستيا تغفر خطايانا وتكون لنا حياة المسيح الأبدية وبها نسلك في البر. وأيضًا فلنلاحظ أن الحياة الأبدية التي إتحدت بجسد المسيح في القبر، إتحدت به وهو في حالة موت. لذلك كلما جاهدنا في أن نحيا حياة الإماتة نثبت في المسيح، نثبت في موته فتموت خطايانا وتغفر، ونثبت في حياته فنحيا أبديًا، وتظهر فينا حياة المسيح (2كو4: 10-11).
هو مات بجسده، وهذا الموت له فعل ممتد: ففي المعمودية نجد أن كل معمد يموت معه بإنسانه العتيق، ويقوم بحياة جديدة متحدًا به. وذلك لأن صليبه له فعل ممتد. وأيضًا فالإفخارستيا ليست صلبًا جديدًا للمسيح بل هي ذبيحة الصليب ذاتها، هي استمرار لها وليست تكرارا لها. ذبيحة الصليب حاضرة دائما منذ يوم صُلِبَ المسيح، لذلك رآه يوحنا خروف قائم كأنه مذبوح. وحينما يصلي الكاهن يحول الروح القدس الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. نتناول من هذه الذبيحة الحية فتغفر خطايانا (فهي ذبيحة ولها فعل الموت الممتد عبر الزمن) ونحيا أبديا (بفعل حياة المسيح الأبدية فهي ذبيحة حية). ونثبت في المسيح مرة أخرى بعد أن أخطأنا. وحينما نثبت في المسيح نمتلئ بالروح. والروح القدس يعطينا معونة (النعمة) تعمل فينا ليساعدنا على أن نقبل أن نظل في حالة إماتة للشهوات الجسدية فتظهر حياة المسيح فينا (2كو4: 10 ، 11).
المسيح أتى لنا هنا بالحياة السماوية وصار لنا نصيبا في المجد الأبدي: قام المسيح -وهو قام بحياة أبدية- أي أنه لن يموت ثانية (رو6: 9). وأعطانا المسيح حياته الأبدية هذه، لذلك لن نموت، بل ستكون لنا حياته الأبدية (فى1: 21). أما موتنا الآن بالجسد فهو إنتقال إلى الفردوس استعدادا ليوم المجيء الثاني حيث ننتقل للمجد الأبدي (راجع 1كو15). وهو قام وصعد إلى السماوات (أف1: 20) وقيامته وصعوده لهما فعل ممتد. فهو "أقامنا وأجلسنا معه في السماويات" (أف2: 6). وهذه تعني أننا نحيا السماويات ونحن على الأرض (فى3: 20) وهذا معنى أن المسيح "طأطأ السماوات ونزل" (راجع تفسير مز18: 9). ملحوظة:- الأشرار في الأبدية سيكون مكانهم في الظلمة الخارجية للأبد، فهل هذه تسمى حياة أبدية؟! قطعًا لا. فالحياة الأبدية المقصود بها أنها في نور المسيح "والفرح الأبدي الذي لا ينطق به ومجيد" (1بط1: 8).
المسيح أعطانا حياته نسلك بها في البر: وهذه الحياة هي أفضل، ففيها الفرح والسلام والشركة مع الروح القدس. لذلك قال السيد المسيح "وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ" (يو10: 10).
صار لنا أن نكون صورة للمسيح: في المعمودية تولد داخلنا بذرة حياة "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لَا مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لَا يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلْأَبَدِ" (1بط1: 23). ومن يسهر على تنمية هذه البذرة يصير له شكل المسيح من محبة ووداعة وتواضع وروح خدمة ..، وهذا معنى "إلبسوا الرب يسوع المسيح" (رو13: 14). وهذا كان هدف بولس الرسول من خدمته "يَا أَوْلَادِي ٱلَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ" (غل4: 19) . ويقول أيضا القديس بولس الرسول "وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ" (2كو3: 18).
المسيح جدد خلقتنا: اعتمد المسيح ليؤسس سر المعمودية. فكل من يعتمد الآن يموت مع المسيح ويقوم مع المسيح في حياة جديدة (رو6) وبخليقة جديدة، فنحن المعمدون لنا خلقتان:- الأولى بحياة آدم أخذناها بالميلاد من أبوينا الأولين، والثانية في المسيح حصلنا عليها في المعمودية "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فاعدها لكي نسلك فيها" (أف2: 10). ويقول بولس الرسول أيضًا "إذًا إن كان احد في المسيح فهو خليقة جديدة. الاشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدا" (2كو5: 17).
حل الروح القدس على جسد المسيح رأس الكنيسة لحساب الكنيسة جسده: وبسر الميرون صار الروح القدس يسكن في الكنيسة ويقودها. ويسكن فينا كأفراد (راجع مزمور133). ليثبتنا في جسد المسيح (2كو1: 21 ، 22) ويبكتنا ويعين ضعفاتنا (رو8: 26 + يو16: 8). ويجدد طبيعتنا (تى3: 5) فيهيئنا كعروس لعريسها السماوي ابن الله.
المسيح غلب إبليس لنغلب إبليس فنمتلئ بالروح: الروح القدس يصعد يسوع إلى البرية ليُجَرَّب من إبليس. وصام 40 يومًا و40 ليلة وجرَّبه إبليس وغلبه الرب يسوع كإنسان. "ورجع يسوع بقوة الروح" أي إمتلأت الإنسانية التي فيه من قوة الروح القدس (لو4: 14). وكان هذا لحسابنا، فكل من هو ثابت في المسيح صار له القدرة أن يغلب إبليس فيمتلئ من قوة الروح. لذلك يقول الرب "ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يو16: 33). فنحن نغلب فيه.
يقول القديس يوحنا أن المسيح كان مملوءًا نعمةً وحقًا"
(يو1: 14). ويقول "ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا" (يو1: 16). والقديس بولس الرسول
يكرر نفس المعنى "فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللَّاهُوتِ
جَسَدِيًّا. وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ" (كو2: 9-10).
وإذا فهمنا أن النعمة هي القوة التي يعطينا إياها الروح القدس،
سنفهم معنى أن المسيح مملوءًا من النعمة. فالروح القدس يملأ الإنسانية التي في
المسيح (يملأ جسده) لأن "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا" (كو2: 9). والمسيح
لأنه انتصر في
التجربة على الجبل "رجع بقوة الروح" (لو4: 14). هذه القوة التي
ملأته جسديًا هي التي يقال عنها أن المسيح مملوءًا نعمة. وبنفس المفهوم
نفهم كيف أن المسيح كان يتقدم في النعمة (لو2: 52). فهذا يعنى أن الروح القدس
كان يملأه قوة ونعمة فوق نعمة. نتكلم من ناحية الجسد، فمن ناحية اللاهوت
فالثلاثة أقانيم هم إله واحد. وعندما نثبت فيه نستمد نحن القوة من هذه القوة أو
النعمة التي تملأه = "وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعًا أَخَذْنَا،
وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ" (يو1: 16). ويقول بولس الرسول ونحن مملوؤون
فيه (كو2: 10). ولأن هذه القوة التي ملأت المسيح كانت لحسابنا فنستطيع أن
نغلب، قيل عنه بعد أن حلَّ عليه الروح القدس بعد المعمودية "وَلِلْوَقْتِ
أَخْرَجَهُ ٱلرُّوحُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ" (مر1: 12) وأيضًا "ثُمَّ أُصْعِدَ
يَسُوعُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ مِنَ ٱلرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ" (مت4:
1). أي أن الروح القدس دفعه ليُجَرّب من إبليس. والمسيح غلب الشيطان بجسده وليس
بلاهوته، فلا معنى للقول أن الله غلب الشيطان. فكان لابد للمسيح أن يغلب
الشيطان فنغلب نحن فيه. وبعد أن غلب الشيطان في تجربة الجبل قيل أنه "وَرَجَعَ
يَسُوعُ بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْجَلِيل" (لو4: 1). فلأنه غلب الشيطان رجع
بقوة أكثر. وعندما نثبت فيه نستمد نحن القوة، من هذه القوة أو النعمة التي
تملأه. لذلك يقول الرب يسوع أن نيره هين وحمله خفيف (مت11: 30) فهو حقيقة الذي
يحمل، ونحن نعمل بقوته. والرب يسوع يقول "بدونى لا تستطيعوا أن تفعلوا شيئًا"
(يو15: 5). وتقول عروس النشيد "إجعلنى كخاتم على ساعدك" (نش8: 6) فهي تعمل ولكن
بقوة عريسها. ولنرى خطوات إمتلاء المسيح من النعمة: أ) المعمودية وحلول الروح
القدس عليه. ب) الصوم 40 يومًا. ج) الانتصار في التجربة. وهنا إمتلأ من القوة.
ونفهم الآن كيف نمتلئ: نحن معمدين وحلَّ علينا الروح القدس في سر
الميرون. إذًا كل المطلوب منا أن نثبت فيه فنستمد منه القوة وهذا بالتناول
(يو6: 56). وبالصلاة ليكون لنا علاقة ثابتة فيه. وبالصوم ورفض الخطية، لأن هذا
الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم (مت17: 21).
وكان المسيح يصلي ليقيم علاقة بين جسده وبين الله وهذا لحسابنا: فالكنيسة هي جسده (أفسس). ونصبح نحن قادرين على عمل هذه العلاقة. هذه العلاقة بين جسدنا وبين الله هي التي ترفع الإنسان من المستوى المادي إلى المستوى الروحي. ومع الصوم أي الزهد في الماديات نغلب الشيطان الذي سلاحه هو إغراء الإنسان بالماديات الحسية. لذلك يعلمنا الرب يسوع أن الصوم والصلاة بهما نغلب الشيطان. فبالصوم والزهد ننزع السلاح من يد الشيطان، والصلاة هي قوتنا إذ بالصلاة نكون في يد الله. والرب يسوع كإنسان صلى وصام فغلب إبليس. وبهذا فتح لنا طريق الغلبة على إبليس بالصلاة والصوم. بل وصارت هذه الغلبة طريقا لنا للامتلاء من الروح "رجع يسوع بقوة الروح" (لو4: 14).
المسيح بصلاته أقام علاقة بين الجسد الإنساني وبين الله: هل كان المسيح يحتاج للصلاة؟ أليس هو ابن الله وهو واحد مع الآب؟ هذا حقيقي، ولكن المسيح تجسد وتأنس وشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها. وكإنسان جاع وعطش وحزن وتألم وبكى وصرخ على الصليب (عب5: 7). وفي ضيقته صلى في بستان جثسيماني طالبًا معونة، إذ أن اللاهوت لم يسانده وكان ما يحصل عليه، كان يحصل عليه كإنسان. وعند اختيار تلاميذه صلى قبل أن يختار تلاميذه، بل قضى الليل كله في الصلاة (لو6: 12 ، 13). وكان يصلي في موضع ورآه تلاميذه ورأوا نورانيته حينما كان يصلي، فطلبوا منه أن يعلمهم الصلاة ليكونوا مثله (لو11: 1). وهذا رأيناه مع القديسين الروميين مكسيموس ودوماديوس إذ كانوا حينما يصلون تخرج نارا من فمهما وأياديهما للسماء، وهكذا مع القديسة أنا سيمون السائحة. وما حصل عليه هؤلاء القديسين إنما كان نتيجة للصلة التي عملها المسيح بين الجسد الإنساني والله. المسيح كان إذًا يصلي لأنه محتاج، وأيضا هو أقام علاقة بين جسده الإنساني وبين الله وكان هذا لحسابنا. وكان هذا لأن المسيح صالحنا مع الآب (2كو5: 18).
أخضع المسيح إرادته الإنسانية للمشيئة الإلهية لتكون لنا نفس المقدرة: لنتأمل في هذه الآيات 1*"وكان يصلي قائلا: يا ابتاه ان امكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد انا بل كما تريد انت" (مت26: 39). + 2*"الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ أيها الاب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا اتيت إلى هذه الساعة" (يو12: 27). + 3*"الذي في ايام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر ان يخلصه من الموت، وسمع له من اجل تقواه، مع كونه ابنا تعلم الطاعة (إخضاع المشيئة الإنسانية للإرادة الإلهية) مما تألَّم به. وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه، سبب خلاص ابدي" (عب5: 7 - 9). هنا نجد أن المسيح كإنسان كامل لا يريد أن يتألم، وقوله هذا "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" يثبت أنه كإنسان تجسد وتأنس فهو قد شابهنا في كل شيء حتى في ضعفات جسدنا فنجده يتمنى لو وُجِدَت طريقة لخلاص البشر بدون الصليب. فلا يوجد إنسان طبيعي يتمنى الألم. لكن هو يعلم أن هذه هي المشيئة الإلهية، وهي مشيئة واحدة للآب والابن، وهو أتى ليصلب. لذلك يقول "ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة". ونجد أن المسيح قد أخضع مشيئته الإنسانية للإرادة الإلهية "ولكن ليس كما أريد انا بل كما تريد انت" وهذا معنى أن المسيح تعلم الطاعة. وصار كل القديسين الثابتين في المسيح يفعلون نفس الشيء، لأنهم صارت لهم نفس القدرة على إخضاع مشيئتهم الخاطئة لإرادة الله. فكل ما تممه المسيح بجسده صار لنا الإمكانية أن نعمله كما يقول الرب "الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي انا اعملها يعملها هو ايضا، ويعمل اعظم منها، لأني ماض إلى ابي" (يو14: 12). ولقد شرح رب المجد هذه النقطة حينما قال "لِأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ" (مت11: 30). والمعنى أن من يرتبط بالمسيح ويجتهد في حفظ الوصية سيجد أن تنفيذ الوصية سهل جدًا والسبب أن المسيح القوي هو الذي يسنده. لذلك قال بولس الرسول "لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ، وَٱلْخَطِيَّةَ ٱلْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ" (عب12: 1) ويقصد أن تنفيذ الوصية سهل لأن المسيح هو الذي يحملنا.
تفصيل أكثر للنقطة السابقة: لنضع أمامنا كلمتان "خطية" و"إثم". خطية = تعني أن يخطئ إنسان الهدف، فإن أصابه يحصل على المكافأة، وإن فشل ولم يصبه لا يحصل على المكافأة. وفي هذا أخطأ جميع البشر نسل آدم، لذلك يقول القديس بولس الرسول "إذ الجميع اخطاوا واعوزهم مجد الله" (رو3: 23) أي أن الخطية أضاعت منا مجد الله. أما كلمة إثم فتعني أي خطأ في حق الله أو في حق إنسان. ويقول القديس يوحنا "كل إثم هو خطية" (1يو5: 17). وهذا يعني أن أي خطأ نرتكبه يضيع منا مجد الله، لأننا صنعنا إرادتنا وليس إرادة الله فلم نصِب الهدف. فما هو الهدف الذي يجب أن نُصَوِّب أعيننا عليه؟ هو أن نصنع إرادة الله. وأخطأ آدم، وصنع إرادته فخسر كل شيء، ونحن وراءه خسرنا كل شيء. وجاء المسيح ليصحح الوضع فيقول"ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت". وبهذا صحح ما أخطأ فيه آدم. بل ونحن فيه نستطيع بسهولة أن نفعل نفس الشيء فيعود لنا مجد الله. المسيح جاء ليصحح ما أخطأ فيه آدم الأول، ويستعيد للبشر كل ما فقدوه فصار آدم الأخير.
المسيح مصدر لا ينتهي لكل الخيرات: المسيح "المُذَخَّر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو2: 3) صار مصدرا لكل حكمة وعلم لكنيسته (راجع تفسير كو2: 8 - 10).
بإتحاده بنا وهو ابن الله أعاد لنا البنوة لله: فيقول للمجدلية "أبي وأبيكم"، ويقول لنا أن نصلي "أبانا الذي في السموات". ونلاحظ أن كل ما حصلنا عليه الآن هو عربون لما سنحصل عليه في الأبدية من بنوة كاملة حين نلبس الجسد الممجد (2كو5: 4 + 1يو3: 2 + فى3: 21 + رو8: 23) وحينها "لا نستطيع أن نخطئ" (1يو3: 9). هو الابن الذي بثباتنا فيه يحملنا إلى حضن أبيه.
صار للكنيسة جسده نفس سلطانه: (راجع مت9: 35) وقارن مع (مت10: 1 + مر16: 17 ، 18) فترى أن كل ما كان للمسيح بالجسد من سلطان على الأمراض وعلى الأرواح الشريرة صار للكنيسة.
صار للكنيسة سلطان الحل والربط وغفران الخطايا: (يو20: 22 ، 23 + مت16: 19 + مت18: 18). فالكنيسة صارت امتدادا للمسيح على الأرض، فهي جسده. وكما تُوَزِّع قطرات المطر ضوء الشمس الأبيض إلى ألوان الطيف السبعة، يُوَزِّع الروح القدس (ورمزه المطر النازل من السماء) عمل المسيح (شمس البر) على أعضاء المسيح أفراد الكنيسة. ولو قام كل عضو بعمله يظهر المسيح في هذه الكنيسة (راجع تفسير أفسس4 + مقدمة أفسس + 1كو12: 4 وبقية الإصحاح).
هو تمجد بجسده الإنساني لنتمجد معه: صار بجسده "وارثا لكل شيء" (عب1: 2) أي كل المجد الذي للاهوته صار لناسوته، وكان هذا لحسابنا، إذ أعطانا أن نرث نحن معه (رو8: 17 + يو17: 4 ، 5 ، 22 ، 24 + عب1: 2 + 1يو3: 2 + فى3 : 21 + رؤ3: 21).
هو الوحيد الذي التزم بالناموس لنكون نحن فيه كاملين: المسيح كان بلا خطية "من منكم يبكتني على خطية"(يو8: 46)، "مولودا تحت الناموس" (غل4: 4). هو الوحيد الذي التزم بالناموس ولم يكسر وصية واحدة. لذلك يحسبنا الآب فيه كاملين (كو1: 28) وبلا لوم (أف1: 4) وبلا دينونة (رو8: 1). فصار رجاء لأعظم الخطاة (المجدلية / السامرية / العشارين / موسى الأسود / أغسطينوس ليصيروا كاملين أمام الله).
المسيح حمل لنا صورة الآب: الخطية حجبت عنا رؤية الآب وما عدنا نراه أو نعرفه. فآدم بعد الخطية اختبأ من الله (تك3: 8) إذ ما صار قادرا على معاينة مجده. ومع إزدياد الخطايا ما عاد الإنسان قادرا على رؤية الله، فصار الله محتجبا بالنسبة للإنسان كما قال إشعياء النبي "حقا أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المُخَلِّصْ" (إش45: 15). لذلك قال الله لموسى "لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر33: 20). فجاء المسيح وصار هو الألف والياء به نعرف الآب وندرك محبته ووداعته وإرادته الصالحة من نحونا، صار هو اللغة التي يحدثنا بها الآب فنراه ونعرفه. يحيي المَوتى فنفهم أن الآب يريد لنا الحياة وليس الموت، يفتح أعين عميان لنفهم أن الآب يريد لنا العين المفتوحة التي تراه وتعرفه. أي صار المسيح ابن الله المتجسد هو اللغة المفهومة للبشر التي بها كلمنا الله عن نفسه، نرى المسيح فنرى صورة الله ونعرف إرادة الله الخيِّرة من نحونا. "الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر" لأنه هو "صورة الله غير المنظور" (كو1: 15). لذلك قال لفيلبس "الذي رآني فقد رأى الآب" (يو14: 9). و(راجع تفسير تث 18: 15-19).
المسيح نموذج وقدوة لنا: صار المسيح بكماله وحياته ومحبته وتواضعه ووداعته نموذجًا نقتدي به.
صار المعلم: وواضع دستور الحياة في العهد الجديد عهد النعمة. وهو صار لنا النور الحقيقي في هذا العالم وفي الأبدية. (راجع تفسير يو8: 12).
بل فلنقل هو أكمل الناموس: "لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لانقض بل لأكمل" (مت5: 17). فوصية لا تزن صارت لا تنظر إلى امرأة لتشتهيها، ووصية لا تقتل صارت لا تغضب. فالنعمة التي صارت لنا في العهد الجديد أعطتنا هذه الإمكانيات العالية.
أسس المسيح الأسرار التي بها يتأسس جسده أي الكنيسة: فبالمعمودية ننتسب لجسد المسيح ونصير أعضاء فيه. وبالميرون يسكن فينا الروح القدس ليجدد طبيعتنا ويعطينا نعمة تعين ضعفاتنا. وبأسرار مسحة المرضى والتوبة والاعتراف والإفخارستيا نظل أعضاء حية ثابتة في جسد المسيح. وبسر الزيجة ينمو الجسد عدديًّا. أما سر الكهنوت فهو خادم بقية الأسرار.
والأسرار هي لتأسيس جسد المسيح السري الذي هو كنيسته (أف5: 30 + أف1: 22-23). ونقول أن الأسرار هي موت وحياة. بالمعمودية نتحد بجسد المسيح الذي ماتت فيه حياة آدم، هو حمل خطايانا ومات بها فأماتها فيه، ونقوم بحياة أبدية هي حياة المسيح الذي إتحدت بجسده المائت في القبر فقام من الأموات. المسيح مات حقيقة وانفصلت روحه عن جسده. أما نحن فنموت بإنساننا العتيق فقط، ولذلك يقول بولس الرسول "أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ" (رو5: 6)، فنحن في المعمودية لا نموت بالكامل وتنفصل أرواحنا عن أجسادنا مثلما حدث مع المسيح، بل فقط إنساننا العتيق أي الشهوات الداخلية، ولكن تستمر لنا الحرية أن نحيى هذا الإنسان العتيق. وهذا الإنسان العتيق لو أيقظناه يستمر في مشاغباته ويثير فينا الرغبة للخطية (رو7: 14-23). ولذلك يسندنا الله بقوة النعمة كما قلنا سابقا وهذا عمل الروح القدس الذي يسكن فينا في سر الميرون، وعمل النعمة فينا هو المعونة في أن نحتفظ بإنساننا العتيق في حالة موت بقدر الإمكان. وكلما مارسنا حياة الإماتة ونحيا كأموات أمام الخطية تظهر حياة المسيح فينا (2كو4: 10-11 + رو6: 11 + كو3: 5). فحياة المسيح الأبدية التي إتحدت بجسد المسيح المائت في القبر، لا تظهر إلا في جسد مائت عن الخطية. فلا شركة للنور مع الظلمة (2كو6: 14). وما يثبتنا في جسد المسيح إذ نخطئ هو 1) قرار بالتوبة والإعتراف فينقل الروح القدس خطايانا ويضعها على المسيح، وهذا القرار هو قرار بأن نموت عن الخطايا المحبوبة. 2) وفى سر الإفخارستيا نتحد بجسد المسيح - فتموت خطايانا بفعل الموت الذي في جسده - ونأخذ حياته بفعل الحياة التي فيه، فهو الآن ذبيحة حية "خروف قائم (فيه فعل الحياة الأبدية) كأنه مذبوح (فيه فعل الموت بحياة آدم، حياة آدم التي أخذها من العذراء وماتت فيه إذ مات على الصليب)". فنعود كأعضاء حية في جسده. ولن تنتهي مشاغبات جسدنا هذه سوى بموت الجسد، لذلك يقول بولس الرسول "وَيْحِي أَنَا ٱلْإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا ٱلْمَوْتِ" (رو7: 24). فإذ يموت جسدنا بالكامل، يموت الإنسان العتيق بالكامل، حينئذٍ يكون هناك إمكانية إتحاد حياة المسيح الأبدية بأرواحنا ثم بأجسادنا الممجدة عند المجئ الثاني إتحادًا أبديًا.
هذا بالإضافة لما سبق ذكره، فالمسيح قدَّم لنا الفداء وصالحنا مع الآب. وأعطانا حياته لنصنع البر. حمل أحزاننا وأوجاعنا. ربط الكنيسة بكل أعضائها في محبة وصارت أعضاء جسده. صرنا خليقة جديدة بل صار كل شيء جديدًا. أعاد المسيح الخليقة إلى ما كان عليه قصد الآب أولًا، بل وفاق ما حصلنا عليه ما كان عليه آدم أضعافًا.
10- المسيح بتجسده أعاد الصورة التي أرادها الله منذ البدء
الله لم يخلق الإنسان ليعيش أياما قليلة ثم يموت وينتن، بل ليحيا الإنسان حبيبه حياة أبدية في فرح وفي مجد وفي عشرة حلوة مع الله. والله خلق الإنسان على غير فساد. ولكن الخطية - التي هي اختيار آدم الخاطئ - سببت حزن الله وانفصال آدم عن الله فحدث ما حدث. وحزن الله على 1) عدم ثقة آدم فيه. 2) موت آدم حبيبه الذي قال عنه الله "لذاتي مع بنى آدم" (أم8: 31). وصار خصام بين الله والإنسان وما عدنا نرى الله، بل صار إله محتجب (إش45: 15). وتجسد المسيح ليصلح ما فسد ويعيد الصورة كما أرادها الله منذ البدء.
* المصالحة: لقد صالحنا المسيح مع الله. وصالح السمائيين مع الأرضيين، وتصالح كل واحد مع نفسه فصرنا نحيا في سلام. وكان هذا بأن صرنا في المسيح خليقة جديدة، وماتت الخليقة القديمة. وفي هذا يقول المسيح عن الآب "إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم". لقد عدنا إلى رعية الله راعي نفوسنا وليصير الله راعيا لنا وأبا لنا.
* صرنا أعضاء في جسد المسيح والروح القدس يسكن فينا: والروح القدس يعطي ثباتًا في المسيح وقوة ونعمة على التجديد.
* صار لنا حياة أبدية: أعطانا المسيح حياته الأبدية.
* عاد لنا الفرح: وبدل أحزاننا فرحا. فالفرح سيعود لعودة المحبة لقلوبنا نتيجة للامتلاء من الروح القدس. والمحبة هي أول ثمار الروح القدس. والفرح هو نتيجة طبيعية لوجود المحبة المتبادلة مع الله، كما كان الوضع في جنة عَدْنْ.
* عاد لنا مجد حلوله فينا: وصار في وسط كنيسته مجدا لنا (قارن مت18: 20 مع زك2: 5)، وعلى مستوى كل واحد منا هو فينا مجدا لنا. وفي النهاية نكون معه. ويُستعلن المجد فينا، فتكون لنا الأجساد النورانية والممجدة (يو17: 24 + فى3: 21 + 1يو3: 2 + رو8: 18).
* ثبات القصد الإلهي: فعادت لنا الصورة التي أرادها الله بل وأعظم مما كان عليه آدم من حياة أبدية، ومحبة وفرح ومجد غير معلن وسوف يستعلن (رو8: 18). نحن في مجد الآن غير مستعلن وندرك هذا بالإيمان لأننا "بالإيمان نسلك لا بالعيان" (2كو5: 7) ولكننا في السماء سنرى الله وجها لوجه ونرى مجده عيانا (1كو13: 12). فينعكس علينا مجده (1يو3: 2). فتكون لنا الأجساد الممجدة.
* عادت لنا صورة الوحدة: ولكن ليست في جسد آدم ولكن في جسد المسيح.
* ما أعطاه لنا المسيح يفوق أضعاف أضعاف ما كان لآدم أولًا: وهذا معنى ما قاله بولس الرسول "ولكن ليس كالخطية هكذا أيضًا الهبة" (رو5: 15). فنحن فقدنا فردوس أرضي في أرض العراق وحصلنا على وعد بمكان في عرش المسيح (أي شركة في مجده) (رؤ3: 21). وخسرنا جسد من تراب، فحصلنا على جسد ممجد. خسرنا جسد قابل للموت وحصلنا على جسد يحيا أبديًّا.
وكل ما حصلنا عليه هو من خلال جسده الإنساني الذي اتحد بنا.
وكان هذا معروضا على آدم ولكنه رفضه حينما لم يأكل من شجرة الحياة
عجيب أنت يا رب واسمك عجيب
رفض آدم أن يأكل من شجرة الحياة فيتحد بك وتكون له حياة أبدية.
فتجسدت أنت لتتحد بنا فتكون لنا حياة أبدية وفرح ومجد أبديين.
← تفاسير أصحاحات كولوسي: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4
الفهرس |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
تفسير كولوسي 4 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/hrrv6j2