محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
يوحنا: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
حدث في القرون الأولى أن بعض النُّسَّاخ لم يكتبوا هذه الآيات لأنهم ظَنُّوها تشجع على الخطية. ولكن هذه القصة موجودة في معظم النسخ وبالذات في النسخ القديمة جدًا. وقد وُرِدَت حَرْفِيًّا في كتاب تعليم الرسل في موضوع قبول المسيح للخطاة. ووردت في الدسقولية. والمسيح هنا لم يتساهل مع الشر بل هو صفح مع وصية أن لا تخطئ ثانية. فالمسيح لا يقبل الخطية لكنه يقبل الخاطئ حين يعود بالتوبة.
الآيات (1-6): "أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. ثُمَّ حَضَرَ أَيْضًا إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِنًا. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسْطِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ."
في آية (1) المسيح يذهب إلى جبل الزيتون، فيظهر التناقض واضحًا فالفريسيين ذهبوا إلى بيوتهم (آخر آية في الإصحاح السابق) أي لأماكنهم الشريرة (حيث يدبرون شرورهم). أمّا المسيح فذهب إلى جبل الزيتون حيث كان يصلي أي إلى حيث علاقته مع الآب. ولأن يسوع كان معتادًا على الذهاب إلى جبل الزيتون عرف يهوذا مسلمه هذا المكان وسلًّمه فيه (لو37:21-38). المسيح تكلم فيما سبق عن الروح القدس ثم ها هو يذهب لجبل الزيتون، وزيت الزيتون هو زيت المسحة الذي به يحل الروح القدس على الممسوح كاهنًا أو ملكًا ومنه زيت الميرون. الذي به يحل الروح القدس على كل معمد ويمسح بزيت الميرون.
جلس يعلمهم= كانت هذه عادة المعلمين أن يجلسوا لأنهم يستمروا في التعليم لساعات طويلة (لو20:4+ مت1:5+ مت55:26). حضر أيضًا إلى الهيكل= قوله أيضًا يشير لأن يسوع صار معلمًا معروفًا والشعب يلتف حوله وهذا أغاظ الفريسيين والكهنة. وقد أتوا للمسيح بهذه الزانية وكان هدفهم إحراجه فالمفروض أن يذهبوا بها للقاضي فهل المسيح قاضٍ لهم ولنلاحظ:
عقوبة الزانية الرجم بحسب الناموس (لا10:20) فإن حَكَمَ المسيح بغير الرجم يكون مخالفًا للناموس ويلقون القبض عليه ويكون مستحقًا القتل.
لو حَكَمَ بالرجم يكون قد خالف نفسه لأنه يدعو للرحمة والحب.
هم كانوا يحرجونه فمن استهزأوا به كيف يجعلونه قاضيًا فجأة؟!
يتضح من هذا ظلمهم، فلماذا لم يأتوا بالرجل الذي أمسكت معه في ذات الفعل، هل يحكمون بمكيالين؟! فالحكم يجب أن يكون على الزاني والزانية.
إن حَكَمَ المسيح بالرجم فيكون هذا ضد قوانين روما التي تمنع اليهود من أن يصدروا أحكامًا بالقتل.
قالوا له يا معلم.. موسى أوصى. فكيف وهم يقولون له يا معلم يذكروه بناموس موسى.. هذا للإحراج قطعًا.
والمسيح أتى لا لينقض الناموس بل ليكمله. ولم يأتي في مجيئه الأول ليدين العالم بل ليخلص العالم (يو17:3+ 47:12+ 22:5). هو جاء ليبرئ الخاطئ لا ليقتله ولكن هذا سيكون على حساب نفسه، إذ سيموت هو عوضًا عن الخاطئ. فالمسيح حين حكم ببراءتها دفع هو حياته ثمنًا لهذه البراءة. وكان هذا هو التشريع الجديد أو الناموس الجديد في مقابل ناموس موسى الذي يقضي برجم الزانية. ناموس موسى هو قاضٍ ضد المتهم أما المسيح فهو قاضٍ ومحامٍ في آن واحد. ليجربوه= هو نفس اسم إبليس= المجرب (مت1:4+3) ملحوظة: ناموس موسى كأي قانون يحكم بحسب الظاهر وليس بحسب القلب.
إنحنى الرب ليكتب على الأرض= ماذا كان يكتب المسيح؟ ربما كتب لهم خطاياهم ليرى كل واحد صورة نفسه دون أن يفضحهم أمام الآخرين. وغالبًا هو كتب الخطايا أو الوصايا التي كسروها كما كتب في القديم على لوحي الحجر، وربما كان يضع كل واحد أمام ضميره، وكانت فرصة للهدوء في هذا الاندفاع الأهوج ضد المرأة. المسيح وضع رأسه لأسفل فهو القدوس لم يشأ أن ينظر لهؤلاء الخبثاء ولهذه الزانية، هو حزين لما انحدر إليه البشر من خبث وشر وزنا. وكثيرًا ما يفعل المسيح هذا معنا، إذ حينما نتكلم على أحد ونشهر به تبكتنا قلوبنا إذ تكون لنا نفس الخطية أو خلافها.
لكنهم استمروا يطالبونه بالجواب فكتب ثانية بعد أن وضع مبدءًا جديدًا فليرمها بحجر من كان بلا خطية. لذلك ربما في كتابته أولًا وضعهم أمام ضمائرهم ولما لم تستيقظ ضمائرهم وضع هذا المبدأ أن لا يجوز لشرير أن يحاكم شريرًا آخر وجلس في المرة الثانية ليكتب خطاياهم صراحة فخجلوا واختشوا إذ وجدوه يعرف كل شيء وفاحصًا للقلوب والكلى. هنا كتب خطاياهم على الرمل فيمكن أن تمحى بالتوبة، ولكن هناك تسجل ولا تمحى فيدانوا. وأظهر الرب أن المسيح الذي بلا خطية هو الديان الواحد الوحيد. هنا المسيح لم يخالف ناموس موسى بل وافق عليه ولكنه وضعهم أمام مشكلة من الذي ينفذه، من الذي يستحق؟! بهذا هو يكمل ناموس موسى ويكمل ما نقص فيه وفيهم. وهنا كان قضاة هذه المرأة مثل قضاة سوسنة. فانسحب الجميع إذ انكشفوا أمام الرب. والشيوخ انسحبوا أولًا إذ لطول مدة حياتهم على الأرض كانت خطاياهم أكثر، والشيوخ المفروض هم رمز للحكمة والطهارة. لقد ستر الرب عليهم ولم يفضحهم فكان عليهم أن يستروا على المرأة، ولنستر نحن إخوتنا. وبانسحاب المدعين والشهود سقطت القضية وبقيت المرأة ولم تنسحب وهذا دليل على بداية مشاعر التوبة والانسحاق عند المرأة. هي وجدت في المسيح سلطان وقداسة وغفران ومحبة تحتاج لهم. والله كما كتب الوصية في العهد القديم، يكتب الآن بروحه القدوس (إصبعه) على قلوبنا. فنطيع وصاياه بالحب. المسيح أتى بالحنان والرحمة، وهذا ظهر في هذا الموقف. وظهر أن الله يدين الخطية لكنه يريد خلاص الخطاة.
ما حدث هنا هو بالضبط ما جاء المسيح ليعمله. فقبل المسيح ما كان يُمكن غفران أي خطية. أي خطية كانت تتسبب في هلاك الخاطئ (فبسبب خطأ من موسى حُرِم من دخول أرض الميعاد). ولكن بدم المسيح تغفر الخطية والدينونة =
ولا أنا أدينك. وهذا هو معنى قول المسيح على الصليب "يا أبتاه إغفر لهم" فقد تغطى جسده بالدم (covered)، وهذه هي الكفارة (وجسده هو كنيسته أف1: 22-23). وهذا ما نفعله في القداس حين نغمر الإسباديقون في الدم الذي في الكأس، ونغطي الجسد الذي في الصينية بالدم، لتمثيل ما حدث على الصليب.وبالتناول من جسد المسيح ودمه يكون لنا فرصة أخرى= إذهبي ولا تخطئي أيضًا. خسر المشتكون قضيتهم وإنسحبوا كقضاة، وإتضح أن الناموس عاجز إذ لا يوجد القاضي الذي هو نفسه بلا خطية، والمؤهل للحكم على الخطاة، ويضاف لذلك عجز الناموس إذ أنه يدين بحسب الظاهر. أمّا حكم المسيح فهو بحسب الداخل. لذلك إذ إنسحب القضاة الناموسيون لم يبق سوى المسيح الديّان وحده. ولكنه في مجيئه الأول لم يأت ليدين بل ليكفر عن خطايا البشر بدمه. وبرأها المسيح فهو أتى ليبرئها بدمه ولكن بشرط إذهبي ولا تخطئي أيضًا وهذه دعوة للتوبة بل منحها قوة لكي لا تعود تخطئ، فوصايا المسيح يصاحبها قوة على التنفيذ. وقوله إذهبي فيه منحها بركة وسلام، مع غفران= ولا أنا أدينك.
ويوحنا وضع هذه القصة هنا ليشرح الفارق بين ناموس موسى وشريعة المسيح. الناموس ليس به عيب ولكن العيب في البشر (فساد الشهود كما حدث في قصة سوسنة ونابوت اليزرعيلي) كما أن الناموس يحكم بالموت على الخاطئ ولا يعطي فرصة للتوبة كما عمل المسيح. وانتصار النعمة على الناموس في هذا الموقف يعطينا ثقة في القدوم للمسيح فيغفر
خطايانا. ولاحظ المسيح يقبل الخاطئ ولكنه لا يقبل أن يستمر الخاطئ في خطيته. فلنتقدم الآن لأن المسيح ما زال يكتب خطايانا على الرمال فإذا إعترفنا بخطايانا غفرت لنا، ونسمع صوت الرب على فم الكاهن مغفورة لك خطاياك.. لا تعود تخطئ.. اذهب بسلام الرب معك. والقديس أبو مقار تعلَّم هذا الدرس من المسيح وستر على الأخ الزاني وقال له لا تفعل ذلك ثانية. ولكن الآن بعد أن برأنا المسيح فمن يستهين بدم المسيح فدينونته أعظم (عب1:2-3+ عب26:10-31).
ملحوظات على قصة الزانية:
* المسيح
القدوس أتى ليحمل خطايانا ويحرقها في جسده. ويمثل هذا مذبح المحرقة الذي كانت تقدم عليه الذبائح التي تحترق بالنار التي نزلت من السماء، نار العدالة الإلهية. فهو لم يتسامح مع الزنا بل هو حمل الخطية وأدانها بجسده (رو3:8).* المسيح
وضع قانون أن من هو بلا خطية فهو الذي يدين، وهو وحده الذي بلا خطية لذلك فهو وحده الذي يدين، وحين أدان فهو أدان الخطية في جسده.* لو أهملنا
الآن خلاص المسيح فدينونتنا أعظم (عب29:10-30) وهذا ظهر في دينونة حنانيا وسفيرة. فالعهد الجديد ليس عهد تساهل مع الخطية.انحني المسيح (يَسُوعُ فَانْحَنَى)
= بسبب حزنه على هذه التي تسيدت شهواتها عليها، أو هي كانت تتاجر بجسدها، وهؤلاء الشيوخ المملوئين خطية وخبث. بعد أن كان هؤلاء كلهم حين خلقوا "رأى الله كل شيء حسن جدًا". المسيح انحنى من حزنه على ما وصل إليه حال الإنسان. ما أحزن المسيح أن الإنسان الذي خلقه حرًا صار مستعبدًا. لقد إختزل الإنسان الذي خلق على صورة الله إلى مجرد جسد مستعبد بلا كرامة وبلا آدمية. إختفت إنسانيتها، صارت شيء وليس إنسانة. وبنفس المنطق بكى المسيح على قبر لعازر (إنسان مات وأنتن والباقين يصرخون من الحزن على الميت).حينما نخطئ نختبر هذه الحالة، نشعر أن الحزن ملأ قلوبنا، المسيح ينحني داخلنا وهذا عكس "مختبرين إرادة الله الصالحة.." (رو2:12). هذا الحزن ناشئ عن أن
المسيح يكون كما لو كان يكتب خطايانا بداخلنا وهو حزين. هنا نختبر مشاعر المسيح الحزينة علينا.الانحناءة الأولى التي لم يفهموها كتب فيها المسيح الوصايا التي كسرت دون تحديد، فكل منهم قال "لست أنا"، لكن الانحناءة الثانية كانت فيها توجيه اتهام محدد لكل منهم بالوصايا التي كسرها هو شخصيًا، لذلك بدأ كل منهم في الانصراف.
لماذا لم تهرب المرأة مع من هرب
ماذا أخذنا من المسيح؟ قداسة/ حياة/ نور/ فرح/ شركة في العمل/ مجد/ سلطان على إبليس.
ولنطبق هذا على المرأة:
قداسة المسيح حركت قلبها. فكرهت خطاياها فاشتاقت لهذه الحياة المقدسة وأيضًا ستر المسيح عليها.
تحولت في لحظة العبودية والانكسار في المرأة إلى فرح.
والمسيح صرفها مصحوبة ومدعمة بقوة ترفض بها الخطية.
وحين رفضت الخطية داخلها بدأت تختبر معنى جديد للفرح.
وربما أرادت أن تستمر بجانب المسيح، لكن المسيح قال لا.. اذهبي وعيشي في العالم وقوتي ستصاحبك وفرحي سيصاحبك "أراكم فتفرح قلوبكم".
هي أول مرة شعرت بكيانها الإنساني وانصرفت بحياة جديدة. كان الناس يعاملونها كجسد، ولكن وجدت نفسها حين عاملها المسيح كإنسانة.
لذلك أتت الآية "أنا هو نور العالم" في الآية التالية مباشرة للقصة. أو نقول أن القديس يوحنا وضع هذه القصة هنا إذ أن المرأة هنا اكتشفت المسيح نور العالم.
الآيات (يو8: 12– 20):- "
ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلًا:«أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ». فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَق، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَدًا. وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَق، لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَأَيْضًا فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَق: أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا». هذَا الْكَلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ. "
آية (12): "ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلًا: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ»."
هنا نجد بقية الحديث الذي جاء في (يو 37:7-38). فكان المسيح قد قال هناك "من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي.." ووجدنا نتيجة لهذا هجوم الفريسيين عليه ثم محاولة إحراجه في موضوع المرأة الزانية. وهنا ينقل المسيح تعليمه بعد أن خرج الفريسيين الضباط الذين أتوا لإلقاء القبض عليه (يو 7: 45) وإنتقل من الماء إلى النور. ولذلك يقول وكلمهم يسوع أيضا
= أي بعد أن شرح موضوع الماء إنتقل إلى موضوع النور. وقبل أن يدخل على موضوع النور نجد تطبيق عملي في موضوع الزانية الذي رأت فيه المسيح نور العالم.أنا هو نور العالم= وكان ذلك بمناسبة المنارات المضاءة في هذا العيد تذكارًا لعمود النور الذي قادهم في البرية أثناء الليل. المسيح ينتهز فرصة إستخدام الطقس (النور والماء) ليستعلن الحقائق الإيمانية من وراء الطقس، فهو الماء والنور الحقيقيين (هذا يشير لأهمية الطقوس في الكنيسة فوراء الطقوس عقائد).
أنا هو نور العالم
نور الحياة
الإنسان الحي تكون حواس جسده عاملة، فهو يبصر ويسمع... أما الميت تكون حواسه ميتة. ومن تكون له حياة المسيح تكون له هذه البصيرة الروحية التي بها يرى السماويات ويعرف المسيح ويدرك الحق ويختاره. وتكون له القدرة أن يسلك في النور، بل يكون نورا.
ويكون له المسيح نور
(يصير له المسيح نور الحياة أي يحيا فيه) النور مرتبط بالحياة، فإذا وجد النور يكون هناك حياة والعكس فالظلمة معها موت. ونور المسيح ينير الطريق فأحيا بسلوك ناتج عن حياة المسيح فيَّ. فالمسيح ليس نور خارجي بل ينير من الداخل. والمسيح هو نور الأبدية أيضًا (رؤ5:22). ويكون له المسيح نور الحياة أي يتحول المسيح فيه إلى عمل وسلوك وحياة يشهد بمدى الحق في هذا النور. ويكون له المسيح نور الخلاص والرجاء والثقة والفرح والتهليل. ويصير المؤمن هو أيضًا نورًا للعالم (مت14:5) ونور المؤمن هو انعكاس لنور المسيح. لذلك يقام للكنيسة منارة فهي جسد المسيح نور العالم حاملة النور.من يتبعني= كما تبع الشعب عمود النور في البرية فقادهم إلى أرض الميعاد. هكذا من يتبع المسيح يصل إلى أورشليم السماوية، وهناك يكون المسيح هو نور الأبدية (رؤ5:21+23-25) . وقارن مع (إش1:60-3+ 18-21+ إش6:42-7+ إش1:9-2+ إش6:49-7+ ملا2:4). وتثبيتًا لأن المسيح هو نور للعالم نجده في الإصحاح التالي مباشرة يفتح عيني الأعمى. وفي (ملا2:4) نجد المسيح شمس البر، فكما أن الشمس تعطي الصحة والشفاء والضوء هكذا المسيح هو شمس الروح وبرها ونورها وطهارتها. المسيح ينير لي كنور في العالم. = هو النور الذي يضيء لي في حياتي، "سراج لرجلي كلامك، ونورٌ لسبيلي" (مز119: 105). المسيح بحياته كقدوة، وكلامه ووصاياه وتعاليمه، إذا تبعته تكون حياتي هنا على الأرض هي الحياة الأفضل التي أتى المسيح ليهبنا إياها "وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ" (يو10: 10). وهي حياة كلها فرح وسلام ورجاء وبركة. وأيضًا إذا ما تبعته تكون لي حياة أبدية في المجد الأبدي، وتكون حياتي هنا على الأرض في فرح وسلام هي عربون الحياة في الفرح الأبدي = يكون له نور الحياة.
المسيح نور العالم= فلنسأل أنفسنا في كل تصرف.. لو كان المسيح مكاني.. كيف سيكون تصرفه وهذا معنى أنه نور للعالم.
أنت تشهد لنفسك= هذا عُرْفْ بين الناس وهذا منطق سليم بالنسبة للبشر العاديين، لكن أهذا يقال للمسيح بعد كل ما عمله وكل ما قاله. ففيه تحققت كل نبوات العهد القديم (فتح عيون العمي/ أقام موتى/ ما تكلم أحد بمثل هذا قط..) . ولقد سبق المسيح وقال في (يو31:5 + 32) بنوع من التنازل "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقًا"، وهو قال هذا بمعنى أنه حسب الناموس يلزم شهادة اثنين. وأن من يشهد له هو الآب. ولكن الآن لا داعي للتنازل فهو يكشف كل الحقيقة (فقد اقتربت أيامه على الأرض أن تنتهي)، فهو وحده الذي يدرك من هو وأما هم فلا يعلمون. وشهادته هو، هي شهادة الله فهو والآب واحد.
بضم هذا الكلام هنا مع (يو31:5) نفهم أن قوله "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق فهو النور، والنور يراه كل أحد إلاّ العميان، يكفي أن يرى الناس النور ويكون لهم هذا شهادة. عمومًا النور لا يحتاج لمن يشهد له بل لمن يراه. ولكنهم حولوا الموضوع لشهادة. وهو هنا يشير للوحدة مع الآب. فالآب هو مصدر هذا النور فهو يَلدهُ ويشهد له. ولأن المسيح نور فمن له العين الروحية (البصيرة - أو ما أسماه بولس الرسول الحواس المدربة) كان لا بُد وسيكتشفه ويعرفه كما عرفه التلاميذ وغيرهم وآمنوا به. ومن ليست له العين الروحية لن يتعرف عليه وهذا ما حدث لهؤلاء الفريسيين= أما أنتم فلا تعلمون= إذًا العيب ليس في النور لكن في غياب العين الروحية. وغياب العين الروحية سببه اتجاهات وميول رديئة وشهوة حسد وطلب ماديات العالم. لذلك لم يميزوا أن أعمال المسيح تقطع بأنه من الله. ربما لم يفهم أحد ما قاله المسيح هنا، وعن علاقته بالآب ولكن تلاميذه حفظوا ما قيل وفهموه بعد صعوده. وكان هذا عمل الروح القدس الذي قال عنه المسيح "هو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26) .
هم قالوا له شهادتك ليست حق فهم أدانوه وحكموا عليه أنه كاذب وهم تناسوا أن موسى أيضًا شهد لنفسه إذ قال أنه مرسل من الله وهكذا فعل كل الأنبياء. وهم سألوا المعمدان أن يشهد لنفسه (يو22:1). والمسيح يرد عليهم أنتم حسب الجسد تدينون= فهم ليست لهم البصيرة أو العين الروحية فهم أموات بسبب حسدهم له والحقد عليه وبسبب الكبرياء والبر الذاتي. هم بمعرفتهم القاصرة لم يدركوا طبيعته. وإعتمادهم على المقاييس البشرية التي هي بحسب إمكانيات الجسد المحدودة جعلهم لم يروا فيه سوى أنه ابن يوسف النجار وأنه ناصري، فهم يحكمون على الروحيات بالجسديات وهذا خطأ. فالطبيعة الجسدية تملي عليهم أحكامهم وهي طبيعة ناقصة المعرفة، والدينونة مرتبطة بالمعرفة فكيف ندين ونحن لا نعرف. بل هم لهم ميول منحرفة ويحسدون المسيح. وهذا يشوه حتى المعرفة الناقصة للجسد فتختل الأحكام.
أما أنا فلست أدين أحدًا= فهو جاء في مجيئه الأول ليخلص لذلك لم يدين الزانية. ولكن المسيح يعلن أن دينونته للعالم ستكون في مجيئه الثاني وأنها لن تكون حسب الجسد مثلهم بل حسب الحق فهو فاحص القلوب والكلى. وبهذه الدينونة سيدان العالم والخطية والشيطان. والمسيح الآن أمامهم لا يدينهم [1] مع أنه قادر أن يدين بسبب علاقته بالآب. [2] الدينونة ستكون عند المجيء الثاني. [3] إذ كان كلامهم عن جهل (لو34:23) . ولكن إذا إستمرت مقاومتهم له عن حسد (مر10:15) حفاظًا على مراكزهم ومجدهم الكاذب فسيكونون قد إنحازوا للشيطان. وهو سوف يدينهم بالحق في المجيء الثاني (يو11:19)= دينونتي حق فدينونة الحق تفصل بين الحق والباطل، وهو حق لذلك دينونته حق. لأني لست وحدي بل أنا والآب=إذًا فشهادته لنفسه مستمدة من علاقته بالآب، والآب يشهد له. الآب إذا أراد أن يدين أحد، فقطعا تكون هذه أيضًا إرادة الابن، فالآب والابن واحد. لكن الآب يريد والابن ينفذ. والدينونة هنا تعني أن لا يثبت هذا المدان في جسد المسيح فلا تكون له حياة أبدية. وهذا معنى قول الرب أنه "يتقيأه من فمه" (رؤ3: 16) .
أنا الشاهد لنفسي= (أنا هو) الشاهد لنفسي فبهذا يؤكد المسيح شخصيته الإلهية ومساواته للآب. ناموسكم= لو حاكمهم بحسب الناموس لأدانهم فهم لم يسمعوا للناموس، فموسى قال لهم عنه أنه النبي الذي سيأتي (تث19:18). شهادة رجلين= (تث6:17). هنا المسيح يضع نفسه على مستوى الآب تمامًا. هنا نرى الوحدة الذاتية القائمة بينه وبين الآب. فهو سبق في الآية السابقة وقال لأني لست وحدي، بل أنا والآب الذي أرسلني. والمسيح أجابهم لأن منطقهم البشري كان سليمًا حين قالوا "أنت تشهد لنفسك" (آية13). وشهادة الآب كانت [1] يوم المعمودية. وهذه سمعها المعمدان [2] أعماله وأقواله.
آية (19): "فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا»."
هم لم يفهموا أنه يتكلم عن شخص الآب، فهم لم يعرفوا المسيح ولا الآب (قطعًا هم لم يفهموا حقيقة الآب وابنه المسيح المولود منه). لكن غالبًا هم فهموا أنه يتكلم عن الله لذلك لم يسألوا من هو أبوك بل سألوه أين هو أبوك في إستهانة بكلامه وبهذه العلاقة بينه وبين الآب، وأنه يتعذر على المسيح أن يأتي بشهادة من الآب. وقد يكون سؤالهم بمعنى أين أبوك الأرضي كسخرية تعني أنهم ينكرون أبوة الله له، وبالتالي أين هو أبوك الأرضي هذا لتأتي منه بشهادة. والمسيح برده عليهم قال لهم أنتم لستم تعرفون أبي إتهمهم بالجهل فهم لا يعرفون الله (يو7: 19)، إذ ظنوا أنهم يعرفون الله، فهم لأنهم لم يعرفوا المسيح المنظور، كان هذا لأنهم لا يعرفون الآب غير المنظور ، فالمسيح هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور. وأعمال المسيح هي أعمال الآب ولكنهم لم يروا في المسيح سوى بشريته. فهم سدّوا عيونهم وأذانهم بأعمالهم وحسدهم وشرورهم فسدَّ الله لهم عيونهم وأذانهم إذ لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم. سبق المسيح وقال تعرفونني من أين أنا (يو28:7) فهذه عنه كإنسان. ولكن هنا يشير للاهوته وعلاقته بالآب وهذه لا يعرفونها.
لو عرفتموني لعرفتم أبي= فالمسيح هو النور الذي به نعرف الآب. "لا أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي" (يو6:14). لو كان اليهود داخلهم طهارة لعرفوا الآب. وبالتالي لعرفوا المسيح فهو "صورة الله غير المنظور" (كو1: 15) . ولذلك قال الرب لفيلبس "الذي رآني فقد رأى الآب" (يو14: 9) ، ولكن خطاياهم وكبرياءهم صارت عائقًا عن معرفة المسيح وكذلك عن معرفة الآب أيضًا.
آية (20): "هذَا الْكَلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ."
الخزانة
= مكان خزائن جمع الأموال من التبرعات في دار النساء أي حيث يسمح للنساء بالدخول ولا تعني أنه مكان مخصص للنساء فقط. حيث كانت تُنار المنارات في عيد المظال. وهذا المكان مواجه لمكان إنعقاد السنهدريم. وهنا عند الخزانة كان يجتمع عادة رؤساء الكهنة والفريسيين وهذا المكان مزدحم جدًا، إذًا فالمسيح واجههم في عقر دارهم لذلك قال في (يو19:18-20) أنا كلمت العالم علانية. وبهذا نطق المسيح بالحكم ضد اليهود داخل هيكلهم. ومع قوة الكلمات التي قالها المخلص أمام الفريسيين وأنها في نظرهم تستوجب الموت لم يستطع أحد أن يمد يده عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت فهو الذي سلَّم نفسه بإرادته وسلطانه في ساعة يعرفها بعد أن ينهي تعليمه وأعماله. هو قيد أياديهم حتى تأتي ساعته.
الآيات (يو8: 21–29):- "قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا:«أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا» فَقَالَ الْيَهُودُ:«أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟». فَقَالَ لَهُمْ:«أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. فَقُلْتُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضًا بِهِ. إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَق. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، فَهذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ». "
الآيات (21-24): "قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا:«أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا» فَقَالَ الْيَهُودُ:«أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟». فَقَالَ لَهُمْ:«أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. فَقُلْتُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ»."
أنا أمضي= أنا ذاهب لأبي في السماء. ستطلبونني= ولكن كالعذارى الجاهلات، بعد أن يكون قد مر الوقت. قال لهم يسوع أيضًا= أيضًا تعني ومن أجل ذلك. وهي عائدة على الآية السابقة (20) = "ولم يمسكه أحد"، أي نيتهم في قتله، وهذه خطية سيموتون بسببها وهم الخاسرون. وفى الآية (19) اتهمهم بأنهم لا يعرفون الله. فلأنهم لم يعرفوا الله، وبالتالي لم يعرفوا المسيح ورفضوه، ويخططون لقتله، ولأنهم سيأتون بعد فوات الأوان قال لهم من أجل كل ذلك = تموتون في خطيتكم= يسوع هنا يوجه الوعيد بالهلاك لمن يصر على رفض الإيمان بأن يرفضه وقالها بالمفرد، فالخطية هنا هي رفض المسيح (يو36:3) لأن المسيح أتى ليرفع الخطايا فمن يرفض الإيمان يموت في خطيته. بل تدبير مؤامرة وراء مؤامرة لقتله. ستطلبونني= وسأكون في السماوات. (هي نبوة على اليهود أنهم سيظلوا يتوقعون مجيء المسيح حتى نهاية الأيام) وهم حينما قال لهم هذا القول أنه يمضي ولا يقدرون أن يأتوا إليه قالوا لعله يذهب إلى اليونانيين. وهم هنا نجدهم في حقدهم يزدادون سخرية ويقولون ألعله يقتل نفسه= وكان هذا ردًا منهم على قول المسيح تموتون في خطيتكم فهم شعروا بأن المسيح وجه لهم إهانة ويحاولون ردها، فعند اليهود عقوبة المنتحر الهاوية أي نار جهنم. وكانوا يدفنون الموتى فورًا لكنهم يتركون المنتحرين بلا دفن حتى الغروب عقوبة لهم ويقطعون أياديهم اليمنى التي فعلت ذلك. وهم بقولهم أنه يقتل نفسه يشوهون صورة المسيح أمام الجموع. والمسيح رد لن أذهب إلى الهاوية كما تعتقدون بل لأنني من السماء من فوق فأنا ذاهب إلى حيث أتيت، وأنا من فوق فلا أرتكب مثل هذا الفعل. والمعنى أن عجزهم اللحاق به ليس لأنه ذاهب إلى الهاوية بل أنه ذاهب إلى السماء. أنتم من أسفل= طبيعتكم ترابية. أنتم من العالم= المتغير والزائل والذي يسوده الشر. والذي إنحرف عن الله وانفصل عنه. أما العالم كخليقة فقيل عنه "هكذا أحب الله العالم" وقيل عن العالم عند خلقته أنه حسن (تك1) . وكان نزول المسيح إلينا ليجذبنا إلى فوق إلى السماء حيث ذهب ليعد لنا مكانًا. ومن يتحد بالمسيح سيذهب معه إلى فوق. ومن يريد أن يذهب معه للسماء يلزمه الإيمان والتوبة عن خطاياه . ولكن هؤلاء اليهود رافضين تمامًا، لذلك فلن يرتفعوا إلى فوق بل سيموتون في خطاياهم لأنهم لم يقبلوا فداءه فبقيت خطاياهم في أعناقهم. إن لم تؤمنوا أني أنا هو= هنا المسيح يبلغ قمة استعلانه الشخصي الإلهي. أنا هو= باليونانية إيجو إيمي ἐγώ εἰμί وبالعبرية يهوه ونفس التعبير قاله يهوه عن نفسه في سفر إشعياء النبي "أَنْتُمْ شُهُودِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، وَعَبْدِي ٱلَّذِي ٱخْتَرْتُهُ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ (إش10:43). فإسم يهوه حين يترجم لليونانية يكون إيجو إيمي ego eimi وحين يترجم للعربية يكون "أنا هو" فإذا أتت أنا هو بدون صفة ورائها (مثل أنا هو النور)، فهي قطعًا تعني يهوه. إذًا أنا هو هو اسم الله. وشرط الخلاص أن نؤمن أن المسيح هو يهوه نفسه أنا أمضي وستطلبونني= المسيح يتكلم الآن في اليوم الأخير من عيد المظال. وفي هذا اليوم يحتشد كل اليهود ثم يمضي كل واحد إلى موطنه على أن يأتي في عيد المظال القادم. والمسيح يعلم أنه لن يكون موجودًا بالجسد وقت عيد المظال القادم فهو سيكون في السماء لأنه سيصلب في الفصح أي بعد ستة شهور من كلامه هذا. وكأن المسيح يقول لهم لو أتيتم في عيد المظال القادم لتطلبونني لن تجدونني. وما زال اليهود حتى الآن يطلبون مسيحًا أرضيًا يعطيهم الملك لذلك لن يجدوه. وكل من يطلب المسيح وله رجاء فيه في هذا العالم فقط يصير أشقى جميع الناس (1كو15: 19) .
آية (25): "فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضًا بِهِ."
اليهود حينما سمعوه يقول أنا هو ارتبكوا وقالوا له من أنت. وكأنهم لم يسمعوا شيئًا مما قاله عن نفسه من قبل، أو يقصدون الاستخفاف بكلامه أو تكذيبه. قال لهم يسوع أنا من البدء ما أكلمكم به= أي أنا منذ الأزل يهوه (أنا هو) الذي أكلمكم الآن، والآن صرت يهوه المتجسد الذي يكلمكم الآن. وقد تعني أنا لي الآن وقت طويل أخبركم عن نفسي ولن تسمعوا المزيد ولكن عبارة من البدء تحيرهم فهي تعني الأزل. ومنذ بدء كلامي معكم أخبرتكم عن نفسي أني "أنا هو" وأنا هو كائن منذ البدء أي منذ الأزل. وشخص المسيح الآتي لخلاص العالم ظهر في كلامه وأعماله. كأن المسيح يقول بين الكلمات إن حاجتكم الآن ليس لإعلانات جديدة بل لقلوب جديدة تفهم الإعلانات.
مهما أشاع الفريسيون من إشاعات ضده فهو يخبرهم بالحق ويعلن الحق. والمسيح هنا يقول أن له كلام وحكم عليهم، كلام كثير يدينهم على ما في قلوبهم وأفكارهم ونياتهم لإهانتهم له ولانحراف قلوبهم. ولكن هذا ليس وقته بل هناك يوم للدينونة.
ما سمعته منه
= منذ الأزل ومازلت أسمع فهو فيَّ وأنا فيه، هو كلمة الله الذي أعلن إرادة الله للعالم. والمسيح لا يتكلم إلاّ ما يسمعه من الآب. والآب لا يريد أن تكون الدينونة الآن. لذلك المسيح لن يتكلم الآن.
وكلمة رفع في رفعتم ابن الإنسان تعني في المفهوم اليهودي:- الهوان بعقوبة الصلب، وتعني أيضًا المجد والصعود (تك13:40+19). ونحن بالصليب إرتفعنا، ومن يقبل أن يصلب نفسه (أهواءه وشهواته) يرفعه الله. وفي تقديم الحمل نقول رفع الحمل (في القداس) والكاهن يرفعه فوق رأسه فمن يُقَدَّم ذبيحة إفخارستية هو له كل المجد.
يخبرهم المسيح هنا بأنهم لن يؤمنوا وسيصلبوه= متى رفعتم ابن.. تفهمون= فهو لن يترك العالم بدون فهم. فمن رأى الظلمة وشق الحجاب والزلزلة وقيامة الأموات.. إلخ. وإنفتح قلبه آمن. وربما آمن البعض والبعض الآخر لم يؤمنوا. ولكن ما فعله اليهود بالمسيح ظل عبر العصور تهمة ملصقة بهم أنهم صلبوا رب المجد.
من رأى هذه الظواهر (الزلزلة والظلمة...) وتحرك قلبه آمن، كما حدث مع الجندي الروماني لونجينوس Longinus الذي آمن وقال "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا" (لو23: 47). وقال أيضا في إنجيل مرقس حين سمع صرخته العظيمة قبل أن يموت "وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هَكَذَا وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ، قَالَ: «حَقًّا كَانَ هَذَا ٱلْإِنْسَانُ ٱبْنَ ٱلله" (مر15: 39). فالمصلوب يكون غير قادر على التنفس فمن أين أن جاءت للمسيح هذه القوة؟! هنا أدرك قائد المئة أن المسيح ليس إنسانا كباقي البشر بل هو ابن الله. ولكن بعد أن إرتفع المسيح للمجد بالجسد، أرسل الروح القدس الذي أعلن حقيقة المسيح وأنه هو "يهوه" = أنا هو. "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (1كو12: 3) .
لست أفعل شيئًا من نفسي= كما تظنون أنني إنسان عادي. لا بل أنا كلمة الآب. أفعل ما يرضيه= طعامي أن أصنع مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله، فإرادته هي إرادة الآب. وإرادة الآب خلاص النفوس. كل حين= بعض البشر يفعل إرادة الله بعض الوقت، لكن المسيح كان يفعل إرادة الله كل حين. والثابت في المسيح يحسب بارًا بسبب هذا. أبي لم يتركني وحدي= منذ اللحظة التي أتيت فيها إلى العالم، هناك إتحاد دائم بينهما. كما علمني أبي= كل تعاليم المسيح هي نطق الآب فيه. فهو كلمة الآب ويتكلم بكلامه. وستفهمون بعد ذلك الوحدة بيني وبين الآب، وأنا لا أنطق بشيء إلاّ بما في ذهن الآب فهو يتكلم فيَّ (عب2:1). فالابن قبل التجسد كان كائنًا عند الله، كائنًا معه، إبنًا في حضن أبيه. وبعد التجسد صار الآب عند المسيح كائنًا معه متكلمًا فيه. والآب والابن إرادتهما متطابقة أي لهما نفس الإرادة فهما واحد. وقوله كما علمني = يشير لنطق الآب على لسان المسيح، كما يقول بولس الرسول "الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة. كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب1: 1 ، 2) . فالمسيح الابن ينفذ إرادة الآب فما يريد الآب إعلانه يعلنه الابن. وبنفس المفهوم نفهم أن الساعة لا يعلمها إلاّ الآب، والابن لا يعلمها= فالآب لا يريد إعلانها. إذًا الابن لن يعلنها. وبعد كلامه هذا آمن به كثيرون (آية30) فهناك أقلية نقية.
الآيات (يو8: 30–40):- "وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ:«إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ». أَجَابُوهُ:«إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ! كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَارًا؟» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا. أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأَنَّ كَلاَمِي لاَ مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ. أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ». أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ:«أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللهِ. هذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ. "
الآيات (30-32): "وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ»."
مقدمة للآيات القادمة:- خلق الله الإنسان حرًا لأنه على صورة الله. ولكنه إستغل حريته بطريقة خاطئة فإنفصل عن الله ففسدت طبيعته ومات. وقال القديس بولس الرسول عن هذا: أنه صار في داخل الإنسان منا، إنسان آخر أسماه الإنسان العتيق". وصار هذا الإنسان العتيق يشتهي الخطية ويقود الإنسان الخارجي ليفعلها. وقال عن هذا داود النبي "بالخطية ولدتني أمي" (المزمور الخمسون). بل قال بولس الرسول نفس الشيء "... فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ .. فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ" (رو7: 14-25). ولما تكلم المسيح أنه أتى ليحرر اليهود، ظنوا أنه سيحررهم من الرومان. ولكن المسيح شرح لهم أنه ما أتى لهذا بل ليحررهم من سلطان الخطية وإستعبادها للإنسان. لقد أدرك الشيطان من أول يوم بعد سقوط الإنسان هذه الحقيقة ألا وهي ضعفه أمام شهوات الجسد. وكانت خطة الشيطان ليستعبد الإنسان هي أن يعرض الخطية على الإنسان بأسلوب مغري، ليس لأنه يقدم خدمة للإنسان ليُفرحه، بل هو يكره الإنسان ويحسده كما نقول في القداس "والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس هدمته" لأن الإنسان حلَّ مكانه في المجد، وكانت خطة الشيطان:-
1. يعرض الخطية بأسلوب مغري، ويخفي عن الإنسان نتائجها، وما يصاحبها من نكد وحزن وألم. كما إشتهى بنو إسرائيل لذة طعام مصر ونسوا سياط العبودية إذ أخفاها الشيطان عن عيونهم ليعودوا إلى عبوديته بعد أن حررهم الله.
2. هذا ما قال عنه القديس بولس الرسول غرور الخطية "بَلْ عِظُوا أَنْفُسَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ، مَا دَامَ ٱلْوَقْتُ يُدْعَى ٱلْيَوْمَ، لِكَيْ لَا يُقَسَّى أَحَدٌ مِنْكُمْ بِغُرُورِ ٱلْخَطِيَّةِ" (عب3: 13). والمعنى أن يقنع الشيطان أحد بأن الخطية تعطيه كل ما يريد من الملذات الحسية وهو مخدوع ناسيًا آلام وعذابات مَنْ يسير في هذا الطريق. مثل هؤلاء قال عنهم سفر الرؤيا "ملوك الأرض" الذين ظنوا أنهم إمتلكوا كل ما يشتهونه من ملذات العالم (رؤ17: 2 + رؤ18: 3)، ولكن لاحظ مصيرهم.
3. شوَّه الشيطان مفهوم الحرية لدى الإنسان فصوَّر له الحرية على أنها هي أن يصنع الخطية وقتما يريد ولا يسمح لأحد أن يمنعه. كمن يدخن ويقول لك أنا حر بينما هو مستعبد للسيجارة ويعرض نفسه لأمراض قاتلة. ونموذج لهذا ما حدث هنا، فالمسيح يتكلم عن المفهوم الصحيح للحرية وأنها الحرية من الخطية والتحرر من عبودية الشيطان. ونجد اليهود رافضين كلام المسيح، لماذا؟ لأن الشيطان يخدعهم بأن يشتت مفهومهم عن الحرية الصحيحة ويضع في عقولهم مفهوما خاطئًا عن الحرية، حتى يستمروا عبيدًا له ولا يتحررون منه. فيصوِّر لهم الحرية أنها الحرية من الرومان. فيرفضوا السماع لصوت المسيح ويرفضوا ما يقوله عن الفهم الصحيح للحرية وهو التحرر من عبوديتهم له أي للشيطان فيستمروا عبيدًا للخطية وللشيطان. والحرية من الرومان ليست خطأ، ولكن ما له الأولوية هو التخلص من عبودية الإنسان للخطية وعبوديته بالتالي للشيطان، فالعبودية للخطية وللشيطان تقود للهلاك الأبدي.
4. الشيطان يتبع نفس أسلوب تجار المخدرات الذي يسلكونه اليوم مع الأبرياء. فهم يعطونهم المخدر مجانًا مرة وإثنتين فيتحول إلى إدمان عند الشخص أي أنه أصبح لا يستغني عن هذا المخدر. وبهذا يفقد حريته ثم يفقد نفسه، ثم يتحول إلى إستعباد. ونجد الشخص البريء وقد تحول إلى عبد يلهث ويجري وراء التاجر لكي يعطيه المخدر. هنا نقول أن الإنسان صار عبدًا للشيطان، يفقد حريته ويتحرك وفق إرادة سيده الشيطان. بل هو يجري وراءه إذ صار في إحتياج دائم للخطايا التي يسهلها له الشيطان. ونجد مثل هذا الإنسان لا يطيق أن يستمر في الكنيسة بيت الله فيتركها كما فعل الابن الضال، وديماس الذي ترك بولس الرسول "إذ أحب العالم الحاضر" (2تى4: 10). وفي بعض الأحيان نجد الشيطان يدخل في الإنسان ويمتلكه تمامًا.
5. ونرى تطبيقًا لهذا ما فعله الشيطان مع رب المجد يسوع "أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي" (مت4: 9). نجد هنا الشيطان يعرض ملذات، ولكن هناك ثمن يدفعه الإنسان للشيطان ألا وهو السجود والعبودية للشيطان. ولأن المسيح لم يقبل من يده شيء قال "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء" (يو14: 30). فالشيطان يأتي في لحظة الموت ليطالب بثمن كل خدماته النجسة التي قدمها للإنسان، ومن يجده ثابتا في المسيح لا يستطيع معه شيء. أما من كان مستعبدًا له يأخذه معه فيهلك.
*والرب أتى متجسدًا ليربط الشيطان القوي ويحررنا، فبعد الصليب والقيامة صعد ليجلس عن يمين الآب ويرسل الروح القدس ليسكن فينا كأفراد ويسكن في الكنيسة لتتميم الأسرار السبعة المقدسة التي بها نثبت في جسد المسيح الحي فنحيا:-
1. في سر المعمودية يموت الإنسان العتيق، هذا الذي كان منفتحا على الشر يشتهيه وينفذه. ولكن حتى لا يحرمنا الله من حريتنا فنحن قادرين أن نعيده للحياة إن أردنا، فالله لا يلغي حريتنا بالمعمودية.
2. الروح القدس يعطينا النعمة وهي قوة جبارة قادرة أن تعيننا وتغلب إغراءات إبليس "هو يعطي نعمة أعظم" (يع4: 6). الله يعطي نعمة تدعمنا لكن لا تثبتنا فيه رغما عن إرادتنا. نحن صرنا بالنعمة "supported but not fastened" (حز41: 6 - NKJV). وكتطبيق لهذا يقول المسيح لملاك كنيسة لاودكية "أنا مزمع أن أتقيأك من فمي (رؤ3: 16). هذا الملاك حتى الآن هو ثابت في المسيح ولكن إن أراد التحرر من المسيح، فالمسيح لن يرغمه على البقاء .. إذًا فليخرج.
3. يعطينا الروح القدس أن نتذوق حلاوة الحياة السماوية التي أتى لنا بها المسيح هنا على الأرض "طَأْطَأَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ" (مز18: 9)، كعربون لما سنحصل عليه في السماء "بلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ ٱللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَه . فَأَعْلَنَهُ ٱللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ" (1كو2: 9-10). ولكن ما يعطينا الروح القدس أن نراه وندركه قال عنه الرسول أيضًا "إِنَّنَا نَنْظُرُ ٱلْآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. ٱلْآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ" (1كو13: 12). وما يعلنه الروح لنا من حلاوة الحياة السماوية التي أتى بها الرب يسوع، وما يعلنه لنا من عربون ما في السماء من فرح، يجعلنا نحتقر العالم الباطل. هذا هو ما قاله الرب يسوع "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو8: 32).
4. في مقابل مَنْ قيل عنهم "ملوك الأرض" [أنظر نقطة 2 عاليه، (رؤ 17: 2)] جعلنا الله ملوكًا وكهنة (رؤ1: 6). وماذا نملك؟ نملك الآن وعودًا بالمجد السمائي، وهناك نملك كما وعدنا المسيح. ونصدق الآن بالإيمان هذه الوعود خصوصا أننا نتذوق هنا عربون السماويات، ولذلك نحكم على أنفسنا بصلب الجسد مع الأهواء والشهوات والنعمة تؤازرنا وتدعمنا، ومن يفعل يتذوق ثمار الروح القدس من الفرح والسلام .. وبهذا نصير ملوكًا، نملك قوة التحكم في شهواتنا ولا تمتلكنا شهواتنا. فنصير أحرارًا. وبهذا تكون الحرية الحقيقية هي في القداسة وطاعة الوصية. في المعمودية يموت الإنسان العتيق الذي كان السبب في أننا نسعى وراء الخطية فيستعبدنا الشيطان. وحتى يستمر هذا الإنسان العتيق في حالة موت علينا أن نمارس ما نسميه "الإماتة" أي نقف كأموات أمام الخطية (رو6: 11 + كو3: 5 + 2كو4: 10-11) فنجد النعمة تساندنا ونظل ثابتين في المسيح. ومن يفعل لا يعود للعبودية مرة أخرى. وهذا معنى قول الرب "إن حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو8: 36).
5. نلاحظ أن بولس الرسول بعد أن شرح حالة الإنسان بدون عمل النعمة في (رو7) شرح لنا عمل النعمة، وعمل الروح القدس الذي أعاد لنا الحرية من بعد العبودية "لِأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ ٱلنَّامُوسُ عَاجِزًا عَنْهُ، فِي مَا كَانَ ضَعِيفًا بِٱلْجَسَدِ، فَٱللهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلِأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ، دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ فِي ٱلْجَسَدِ" (رو8: 2-3).
قال السيد في (يو44:6) لا أحد يأتي إليَّ إن لم يجتذبه الآب. وفي هذا الإصحاح نجد تطبيقًا على هذا. هو إصحاح حواري للإقناع. فنجد أن هناك من يؤمن وهناك من لا يؤمن مع كل محاولات المسيح لجذبهم.
آمن به كثيرون.. قال يسوع لليهود الذين آمنوا به = آمن الأولى تعني الإيمان بالمسيح فعلًا believe in him. أما آمنوا الثانية فتأتي بمعنى صدَّق believe him. الأولى تشير لمن آمن بالمسيح فعلًا. والثانية تشير لمن آمن بالمسيح حسب رأيهم وفهمهم أن المسيح هو الذي سيحررهم من الرومان، مسيا الدنيا والسياسة. والمسيح عرف ما في ضمائرهم وأنهم أضمروا قتله لو لم يحررهم من الرومان. لذلك بادرهم المسيح بأقوال هي تشجيع لمن آمن حقيقة، ليكون إيمانه ثابت حقيقي أي ليُثَبِّت إيمانه، فلا يكون إيمان وقتي ضعيف زائف بل إيمان قوي.
وبالنسبة للآخرين أي لمن آمن بطريقة خاطئة تكون كلماته لهم فحص ضمير وكشف لحقيقة إيمانه. فالمسيح يريد الإيمان بشخصه والثبات في كلامه بدون أغراض أرضية. إيمان يؤدي لمعرفة الحق الذي هو الله.
إن ثبتم في كلامي= فالمسألة ليست تصديق كلام بل إيمان به، بل إتباع المسيح تمامًا والثبوت في كلامه أي يتخذوه منهجًا وطريقًا ويتبعوه تمامًا ويسلمون له الإرادة والحياة وينفذوا كلامه . هؤلاء بنوا بيوتهم على الصخر (مت24:7-25)، هؤلاء يكونون تلاميذ للمسيح= بالحقيقة تكونون تلاميذي= والتلاميذ سيعرفون الحق ومن يعرف الحق يتحرر= والحق يحرركم. إذًا التلمذة هي تلمذة مبادئ وحق وحياة حسب كلامه هو وليس بحسب أفكارهم هم. وهكذا يتحررون من المعرفة الخاطئة التي تعلموها.
وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ =
هناك فرق بين الحق والصدق. فالصدق هو ما يشعر به المتكلم بحسب رؤيته. لذلك فالصدق هو نسبي. أما الحق فهو الواقع الحقيقي، هو المطلق.
الحق النسبي = في كل خلاف بين إنسان وإنسان، تجد أن الموضوع خلاف نسبي. فكل طرف يُصِّر أن رأيه هو الحق. ولكن هناك حق مطلق وهو كل ما يخص الله. أي أن الله حق مطلق، وكلام الله في الكتاب المقدس حق مطلق، ووعود الله لنا هي حق مطلق. لذلك قال الرب عن نفسه "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو14: 6) ، وكان المسيح يقول "الحق الحق أقول لكم ..." . والمسيح سيُعَرِّف الناس الحق والطريق للحق، فهو الطريق والحق، أي هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الحق. سيُعَرِّف الناس ويأخذهم فيه إلى حضن الآب الحق.
والعالم ليس فيه حق مطلق وإن وجد فهو نسبي، لذلك قال بيلاطس للمسيح "وما هو الحق" (يو38:18) حين قال المسيح "جئت للعالم لأشهد للحق" . فبيلاطس كان قاضيًا وعليه أن يحكم في الخلافات بين أطراف يدَّعي كل منها أن له الحق. وقد إختبر صعوبة تحديد الحق المطلق في القضايا التي تعرض أمامه.
المسيح يكلم يهودًا يحلمون بالحرية السياسية والمجد العالمي، وهم يرون أن هذا حق. والمسيح أتى ليعطيهم حياة أبدية ومجد أبدي. فبينما كان المسيح يتكلم عن حق مطلق، كانوا هم مستعبدين لفكرة هي حق نسبي، فمثلًا كان الرومان يرون أن من حقهم تحصيل الجزية من اليهود فهم مهدوا لهم الطرق ويحمونهم من كل أعدائهم المحيطين بهم، ويحفظون الأمن في البلاد.
والمسيح هنا يكشف أنه ليس المهم أن يتحرروا من الرومان بل أن يتحرروا من خطاياهم وكبريائهم وأفكارهم الخاصة وخرافاتهم. فالمسيح يهتم بحياتهم مع الله وليس بالسياسة. فإذا صاروا تلاميذا للمسيح فإنهم يتتلمذون للحق، يعرفونه ويسيرون بمقتضاه = تعرفون الحق. فالحرية السياسية مهما كانت مهمة، فالأهم هو أن يعرفوا الحق فيخلصوا وتكون لهم حياة أبدية.
تعرفون = ليس معرفة المعلومات، فالمعلومات لا تحرر. ولكن المعرفة هي علاقة محبة مع المسيح.
وكلمة تعرفون تعني الإتحاد كما قيل "وعرف آدم امرأته فولدت". هي إتحاد خرجت منه حياة (الابن الذي ولدته حواء) ، لأنهما صارا جسدًا واحدًا. ونعرف الحق أي نتحد بالحق، أي نتحد بالمسيح إتحادا يعطينا حياة أبدية. فالمسيح هو القيامة والحياة (يو11: 25) . فمن يتحد به يتحد بالحياة الأبدية. فالمعرفة إذًا حياة "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو3:17).
ونتيجة هذا الإتحاد سنعرف المسيح (معرفة بمعنىto know) ولكنها ليست معرفة سطحية من الخارج كما نعرف الناس، بل معرفة الإتحاد، معرفة من واقع الإتحاد. ولاحظ قول بولس الرسول "وأوجد فيه.. لأعرفه" (في9:3-10). ليست المعرفة السطحية بل معرفة الحب التي تقود للطاعة.
وكيف نعرفه أي نتحد به فنحيا أبديا؟ يقول السيد الرب "اثبتوا فيَّ وأنا فيكم" (يو15 : 4)، وهذا يأتي بطاعة الوصية، فالثبات يأتي من الانفصال عن الخطية فلا شركة للنور مع الظلمة.
والبداية التغصب على طاعة الوصايا (مت11: 12). ولكي نطيع شخصا يجب أن نعرف هذا الشخص، هي ليست معرفة جمع المعلومات بل العشرة والإختبار. وبالنسبة للعشرة مع المسيح فكلما أعرف المسيح وأعاشره بالأكثر أحبه، فمن إختبره وجده يستحق كل الحب، وفي هذا قال داود النبي "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مز34: 8) . ومن يحبه يطيع وصاياه عن حب (يو23:14). فمع نمو الحب في القلب سنطيع عن حب وليس عن تغصب. ومن يفعل سيتحرر من سيرته الداخلية التي أبعدته عن الله وزيفت له خصائص المسيا، إذ تنفتح عيناه (مت5: 8) فيعرف المسيح حقيقة. فالمسيح هو الحق الذي يحرر. ومن يفعل سيعرفه ويزداد ثباتا فيه، وتكون له حياة، فهو الحياة. وهذا ما يجعل الحب ينمو ويزداد. هي معرفة إختبارية فيها نتذوق حلاوة المسيح الحق في القلب. ونتلذذ بكل ما هو حق عوضا عن ما كنا نتلذذ به من ملذات العالم الباطل قبلا.
مَن عرف المسيح يعرف الحق، وحينئذ يتحرر حتى من رغباته الشخصية... مثال:- مريض يريد الشفاء ويصلي كثيرًا من أجل الشفاء. إلى هنا لا يوجد خطأ، ولكن إن تأخر الشفاء أو ازداد المرض سوءًا، فنحن أمام موقفين للإنسان:- 1) مَن عرف المسيح ومحبته وأنه صانع خيرات لن يضطرب لأنه يثق فيه ويحبه فيقول له "المر الذي اخترته لي يا رب خير من الشهد الذي أختاره لنفسي". فأنت تحبني أكثر مما أحب نفسي. إذًا فهذا المرض هو طريقي للسماء. 2) مَن لم يعرف الحق سيظل أسيرًا لفكرة الشفاء، فإن لم يأتي الشفاء يتصادم مع المسيح ويشك في محبته إذ أن إرادة المسيح لم تتوافق مع إرادته في الشفاء.
فمن يعرف المسيح بهذا المفهوم، ويتذوق الحب والحرية والحياة، سيتحرر من العبودية لملذات العالم الباطل = تعرفون الحق والحق يحرركم = مَنْ وجد لؤلؤة كثيرة الثمن فمضى وباع بقية اللآلئ (مت 13) . وبنفس المفهوم قال بولس الرسول "بل أني احسب كل شيء أيضًا خسارة من اجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من اجله خسرت كل الاشياء وانا احسبها نفاية لكي اربح المسيح" (فى3: 8) . فهو حين عرف المسيح اللؤلؤة كثيرة الثمن باع كل ما كان في نظره لآلئ (باع هنا أي فقدت قيمتها في نظره بل رآها كنفاية) .
الحق هنا هو في مقابل الباطل الذي هو العالم بملذاته الحسية الخاطئة. والحق يلد الحرية، والحرية تدعم الحق. والحق يحرر من عبودية الموت والخوف وعذاب الضمير والحرية الزائفة حرية الشهوات. من يعرف المسيح (= الحق) حقيقة يعرف الفرح الحقيقي فيتحرر من لذات العالم الباطل.
ولنرى الآن المنهج الذي يريدنا الرب أن نتبعه.
البداية: طاعة في تغصب= ثبتم في كلامي. وبعد هذا يبدأ الالتصاق والعشرة والاكتشاف لشخص المسيح "الطريق والحق والحياة" فنحبه. ومن يحب يطيع (يو21:14+23) وهذه الطاعة تصبح عن حب وليس عن تغصب. وكلما ازدادت الطاعة يزداد الثبات والمعرفة، معرفة الحق الذي يحرر من العبودية لملذات العالم الباطل. وكلما عرفنا الحق أي المسيح سنحبه فمن عرفه حقيقة وجده يستحق هذا الحب، بل وتتضاءل أمام عينيه كل ملذات الدنيا. بل تتضاءل أمام عينيه كل رغبة شخصية كانت تسيطر عليه. وهنا يُسَلِّم الإنسان حياته للمسيح تسليم مطلق إذ وثق في محبته. وهل نخاف أن نسلم حياتنا في يد من مات ليعطينا الحرية والمجد الأبدي.
آية (33): "أَجَابُوهُ: «إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ! كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَارًا؟»"
المسيح بكلامه هذا استثار فيمن كان إيمانه غير صحيح، أفكاره الخاطئة. هؤلاء الذين أظهروا تصديقًا لكلامه وإيمانًا من نوع believe him لكنهم يؤمنون ليس بالمسيح الذي يحرر من الخطية، بل هم يطلبون مسيح يخلصهم من الرومان، هؤلاء بدلًا أن يفكروا في كلمة الحق يحرركم ظنوه يتهمهم بالعبودية السياسية فثارت النزعات الوطنية فيهم وشعورهم المتكبر بأنهم أولاد إبراهيم الذي كان حرًا لم يستعبد لأحد، وهم الشعب المختار الذين هم فوق العالم، مفروزين عن العالم. ومن هنا بدأوا سلسلة من الاتهامات للمسيح. وهنا بينما هم يتشدقون بالحرية نجدهم كاذبين، فهم تحت الحكم الروماني الآن. (هم كان لهم حرية دينية وظلوا متمسكين بميراثهم وتقاليدهم، وربما كانت هي المقصودة هنا). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). لكن واضح الكبرياء والتزييف فهم سألوا أيجوز أن ندفع الجزية لقيصر، إذًا هم يدفعون الجزية لقيصر. بل كانوا تحت الحكم اليوناني والفارسي والبابلي، بل تحت عبودية شعوب صغيرة، وربما هم في غرورهم ظنوا أن هذه العبودية هي عبودية مؤقتة، ولذلك يبحثوا عن مسيا يخلصهم من الرومان. ولكن أتى لهم مسيا يحدثهم عن الخلاص من الخطية فرفضوه. بينما أن الخطية في الحقيقة هي التي تسلب الإرادة والاختيار. والذي يخطئ يصير عبدًا للخطية. فالعبودية حقيقة هي للخطية. إذًا الجنس البشري كله فقد حريته حين أخطأ. والمسيح لا يريدهم أن يخلطوا ما بين الحرية من الخطية والحرية السياسية.
الآيات (34-36): "أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا."
اليهود ظنوا أن الحرية هي من الرومان. والسيد يقول هنا.. لا فالعبودية هي للخطية وليست للرومان. والحرية الحقيقية هي من الخطية وليس من الرومان.
كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية
= ليس إنسان بلا خطية ولكن المقصود هنا هو من يفضل الخطية ويختارها تاركًا طريق الله ويقيم عهدًا مع الخطية، وتقوده شهواته. تبدأ الخطية بسقطة ثم يتعود الإنسان عليها فتصبح عادة فإستعباد. في البداية يظن الإنسان أنه يستطيع تركها في أي وقت، ومع الوقت يستعبد لها ولا يقدر أن يتركها، ويفقد الإنسان سيطرته على إرادته. والذي يفعل الخطية فهو يحيا حياة الإثم والتعدي، إذ يرتبط بالعالم ويفقد حريته ثم نفسه ويكون قد فقد حرية البنين وصار عبدًا للخطية وإبليس يسيطر عليه ويتولى قيادته (1يو8:3). وبالتالي الحرية هي القداسة، والعبودية هي الخطية. الحرية تقودنا إلى الله والخطية تقودنا إلى إبليس. والمسيح أتى ليحررنا من يد إبليس ويعيدنا إلى حق البنين وميراث بيت الله أي الشركة في ميراث الابن. وهدف الحياة هو العلاقة مع الله، والخطية تجعلني أفقد هدف الحياة. وهناك حرية مخادعة حين يقول خاطئ "أنا حر أفعل ما أشاء" وهو في الحقيقة مستعبد للخطية كمن يدخن. ولكن الحرية الحقيقية هي علاقة مع الله تنشئ حرية من رباطات الخطية. الحق الحق أقول= هذا لا يقوله سوى الرب أما الأنبياء فكانوا يقولون "هكذا يقول الرب" أما المسيح فيتكلم باسم نفسه. العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد= الابن له حق البنين في الميراث أمّا العبد فلا يقيم في بيت سيده إقامة دائمة مثل الابن، فهو إمّا يهرب من نفسه أو أن صاحب البيت يطرده. وهكذا من إستعبد للخطية فإنه لا يقيم في ملكوت الله إلى الأبد. ومن يحيا تحت ظل أكثر القوانين حرية فهو مستعبد لو عاش في الخطية. أما لو حرره الابن فهو سيتمتع بحرية حقيقية ويتمتع بميراث البنين. إذًا الحرية التي يتكلم عنها المسيح والتي جاء من أجلها هي أسمى من الحرية من الرومان التي يطلبونها. فبالحقيقة= ليس كحرية اليهود الزائفة أو حرية الخاطئ المزعومة الذي يزعم أنه بحريته يخطئ. ونلاحظ أنهم قالوا أنهم أولاد إبراهيم أهل بيت الله والمسيح قال لن تبقوا في البيت بسبب شروركم فالإنسان لا يبقى إبنًا لله وللخطية بآنٍ واحد. وهناك من يحيا في بيت الله بروح العبيد طالبًا أجرة (كالأخ الأكبر للابن الضال). هذا يترك بيت الله بسبب تجربة أو طلبة مادية لم تتحقق.إن حرركم الابن.. تكونون أحرارًا
= مهما قلتم أنكم أحرار (سياسيًا أو وطنيًا). لكنكم محتاجين للحرية من الداخل. وهذه لا تأتي سوى بالمسيح المخلص، فهو وحده يفك الإنسان من أسر الخطية والشيطان. هو يربط القوي الذي ربط الإنسان. وهنا اختار رب المجد لقب الابن= إن حرركم الابن= فبه صرنا أبناء في بيت الآب ووارثين.
الآيات (37-40): "أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأَنَّ كَلاَمِي لاَ مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ. أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ». أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: «أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللهِ. هذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ."
المسيح ينفي عن اليهود أنهم أولاد إبراهيم بالحقيقة (غل7:3+29)، فأولاد إبراهيم يعملون أعمال إبراهيم ولهم إيمان إبراهيم ولكنه قال إنكم ذرية إبراهيم= أي نسله بالجسد ولكن هذا لا يحررهم من إبليس والخطية. أي لم يتبق لليهود سوى تاريخ يتمسحون به وهم غرباء عنه، وهذا يتضح من أنهم صاروا عمي وصم لم يسمعوا ولم يعرفوا المسيح الذي فرح به إبراهيم. بل يطلبون قتل المسيح لأنه يبكتهم ويريد أن يعرفهم طريق الحياة وذلك لأن قلوبهم مملوءة حسدًا وضعه إبليس، ووضع في قلوبهم خطط قتل للمسيح وهم إنصاعوا وراءه فهم بهذا مستعبدين لإبليس وليسوا أحرارًا. فالمسيح جاء ومعه خطة الآب للخلاص الذي سيتممه بموته. وهم إستلموا خطة القتل من إبليس أبيهم كما رسمها لهم فهو قاتل وأبو كل كذاب. أما إبراهيم فتشفع من أجل خطاة سدوم وعمورة حتى لا يموتوا. كلامي لا موضع له فيكم= لقد أغلقتم قلوبكم بسبب حقدكم وحسدكم لي وتعصبكم الأعمى ضدي. كل هذا ملأ قلوبكم فما عاد فيها موضع لكلامي. فكلامي نزل على أرض محجرة. أتكلم بما رأيت عند أبي= (رأيت تشير لتطابق الإرادة ولكن ما يريده الآب ينفذه الابن) فهو يعلن عن الحق والحياة الأبدية التي يريدها الآب للبشر. وهذه في مقابل أنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم أي إبليس فهم لم يروا الشيطان ولا ما عند الشيطان ولكن المعنى توافق الآراء بينهم وبين الشيطان في قتل المسيح. ونلاحظ في (38) أن المسيح نسب لنفسه الكلام ونسب لهم الأعمال فهو يكلمهم عن الآب وهم يخططون لقتله. ونلاحظ في (آية 40) إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله= فهو الإنسان يسوع المسيح الوسيط بين الله والناس.
أبونا هو إبراهيم= السيد لم يوافق على هذه العبارة فالبنوة لإبراهيم كما قال السيد هنا (وكررها بولس الرسول بعد ذلك) ليست بحسب الجسد، إنما بأن يعمل الإنسان أعمال إبراهيم ويكون له نفس إيمانه. هي بنوة روحية وليست جسدية.
آية (41): "أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِنًا. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ»."
هم يدعون هنا أنهم أولاد الله، ولو كانوا حقًا أولاد الله لعرفوا المسيح. ولكانت أعمالهم أعمال خير ومحبة.
أبناء زنا= أي لم تختلط دمائنا بالوثنيين، فالاختلاط بهم يسمونه زنا، وعبادة الأوثان زنا روحي. وهم يدَّعون كذبًا أنهم لم يعبدوا الأوثان، فالأنبياء اتهموهم بهذه التهمة.
الآيات (42-44): "فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كَانَ اللهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كَلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ."
هم قالوا أنهم أولاد الله والمسيح يرد عليهم بأنهم ليسوا أولاد الله لأنهم لو كانوا أولاد الله لعرفوه إذ هو ابن الله، ولو عرفوه لأحبوه لكنهم أرادوا قتله وبهذا أثبتوا أنهم يتبعون إبليس القتال الذي قتل آدم وبنيه. عمومًا البنوة لله هي بصنع مشيئته "من هو أخي وأختي وأمي.." خرجت من قبل الله وأتيت= (خرجت من الله بترجمة أدق) والخروج يشير للبنوة الإلهية للمسيح وأتيت تفيد التجسد.
والخروج من.... له 3 حالات في اليونانية:
بمعنى الخروج والابتعاد وهذا التعبير إستخدمه التلاميذ عن إيمانهم (يو30:16) وهذا بقدر معرفتهم في ذلك الوقت.
خروج مع بقاء بجانب ، كزمالة. وهذه إستخدمها المسيح ولكن ليعبر بها عن وجهة نظر التلاميذ عن المسيح (يو27:16) فهو يعبر عن قدر فهمهم.
خروج من الداخل مع البقاء في الجوهر (يو28:16) وهذا هو تعبير المسيح عن نفسه والمستخدم هنا في آية (42). ويشير المعنى أن الابن هو من الله في وجوده وكيانه ومجده قبل الميلاد والتجسد. وهو باقٍ مع الله بالرغم من تجسده وبالرغم من خروجه. هو خروج دون انفصال عن الآب في الجوهر.
خرجت= خروج النور من الشمس، هذا له صفة الاستمرارية دون انفصال. أتيت= تفيد استعلانه كابن الله المتجسد لنا على الأرض. لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني= فهجومهم عليه هو هجوم على الله الذي يدَّعون أنه أبوهم، فالمسيح يمثله تمثيلًا ذاتيًا وكليًا كنائب له، وهو أتى بمشيئة الآب ليمجد الآب وليس ليطلب مجد نفسه.
لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي= كلامي هنا تأتي بمعنى حديثي معكم، وهم غير قادرين أن يدركوا أقوال المسيح أي حديثه. أما قولي فهي في أصلها اللوغوس والسماع للوغوس يعني الإدراك بالروح لشخص المسيح وأنه كلمة الله. لم يدركوا أن كلام المسيح هو بفكر إلهي وبمنطق (لوغوس) إلهي. ولماذا لم يدركوه لأنهم لم يحبوا الآب (يو42:5-43). وكانوا في كبريائهم يطلبون مجد أنفسهم (يو44:5). طلبهم مجد أنفسهم أعمى قلوبهم فلم يعرفوا الله حقيقة، ولم يفهموا المنطق الإلهي ولا الإرادة الإلهية. أما المتواضع فيسكن الله عنده (إش15:57) فيكون له الأذن الروحية التي تميز صوت الله. (يو3:10-5+ رؤ7:2). والأذن الروحية هي التي يدربها الروح القدس على تذوق وفهم كلام الله (عب5: 14) . فإن لم يكن للإنسان أذن روحية تسمع كلمة الله فتكشف طبيعتها الإلهية، فلن يفهم هذا الإنسان حديث المسيح ولا ما يقوله فكلامه روحي (رؤ7:2) . ومن ليس له هذه الأذن فسيرى المسيح مجرد إنسان بل مجدف على الله، إذ يساوي نفسه بالله . لذلك يستحيل أن يفهم أحد الإنجيل إن لم تكن له الأذن الروحية. لذلك فالفهم عند المسيح لا يتوقف على الذكاء العقلي بل على خضوع الإنسان لمشيئة الله، والطاعة لوصاياه، ومثل هذا الإنسان يمتلئ من الروح القدس، وحينئذ تحدث إنارة الله في الداخل فيعرف الإنسان ويفهم. لذلك فهناك بسطاء جدًا من ناحية علمهم لكنهم كانوا يعرفون الله (التلاميذ كانوا صيادين).
أنتم من أب هو إبليس= المسيح هنا يدافع عن الله الذي نسبوا أنفسهم له، فهو لا يريد أن ينتسب هؤلاء القتلة إلى الله. والمسيح يعلن أيضًا عن الأب المحرك لهم (راجع مت37:13-39). شهوات أبيكم تريدون أن تفعلوا= الشيطان له القدرة أن يجعل الناس الذين يخضعون له كأب، تفعل ما يشتهيه من شر. وشهوة الشيطان تنبع من عداوة شخصية لله ولكل من يتبعه. وتريدون تأتي بمعنى الإصرار وهكذا نرى أبناء إبليس مصرين في عناد وشراسة أن يرتكبوا الخطايا بينما أولاد الله نراهم ودعاء مسالمين.
ذاك كان قتالًا للناس منذ البدء= منذ تسبب في موت آدم وحواء ثم نسلهما، وعلم قايين قتل هابيل ولذلك نقول في القداس (والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس). وقوله قتالًا وليس قاتلًا تفيد استمراريته في قتل الناس. ولم يثبت في الحق= لم يرسخ في الحق الذي خلقه الله فيه وطمع في الأكثر جدًا.
لأنه ليس فيه حق= الله هو الوحيد الذي فيه الحق فهو الحق. ويكون معنى كلام المسيح أن الله خلق الشيطان في الحق ولكنه رفض أن يثبت في الحق. وطالما اختار الانفصال عن الله، لم يعد يعرف الحق، فالحق ليس من طبعه لذلك صار كذاب وأبو الكذاب (تترجم أبو الكذب) فهو مخترعه. فالكذب هو فقدان الحق. ومن هو الكذاب إلاّ الذي ينكر الحق. وصار الشيطان يغرس الكذب في نفوس آدم وحواء (راجع حواره مع حواء "لن تموتا") . والشيطان يغلف كلامه بمنطق ما هو الألذ وما هو الأسهل، وما هو الأسرع والأكثر فائدة والمعقول، وللآن يكذب على الناس قائلًا أن الله لن يدين الناس وليسلكوا بحسب هواهم فحللوا الزنا بل والشذوذ، بل يقال الآن عالميًا أن الشذوذ حرية بل يجب إباحته في كل العالم كعلامة على الحضارة وعدم التخلف. بل يطالبوا الكنيسة في بعض البلاد المتقدمة بحذف الآيات التي تهاجم الشذوذ في الكتاب المقدس لانهم يرون في وجود هذه الآيات علامة تخلف. وهو يجعل الإنسان ينسى حقيقة الموت والدينونة. وحينما يرفض الإنسان مشورة إبليس المزيفة يتلاشى من أمامه ، أما إذا قبلها يجد الشيطان له مسكنًا فيه. وهذا منتهى أمل الشيطان أن يجد مجالًا في الإنسان فهذا يوسع من دائرة تخريبه. والإنسان إمّا يتبع الحق الذي هو المسيح. أو يتبع إبليس الذي هو الكذب. يتكلم مما له= من فضلة القلب يتكلم اللسان. وماذا في داخل إبليس سوى الكذب والقتل. والمولود من إبليس الكذاب ينجذب للكذب فليس فيه بذرة الحق. أما المولود من الله فينجذب للحق. فكل واحد ينجذب للمصدر المولود منه.
أمّا= المسيح يعطي المقابل لإبليس، فالمسيح هو النقيض لأبيهم. وهنا المسيح يشرح لهم لماذا لم يقبلوه بكل الصراحة. هذا لأن طبيعتهم صارت متساوية مع إبليس وهو الذي يقودهم فلا ينجذبوا للحق. من منكم يبكتني على خطية= كلمة يبكتني هنا تعني إقامة دليل على المتهم. الخطية هنا تجمع كل أنواع الكذب ونفاق إبليس ضد الحق. فقول المسيح من منكم يبكتني على خطية يتساوى مع إني أقول الحق وأعمل الحق. وإذا لم يعثروا له على خطية صار لزامًا عليهم أن يعترفوا بأنهم يقاومون الحق، وبأن المسيح فعلًا من الله بل هو الله، فهل يوجد إنسان بلا خطية؟ بل "الكل زاغوا وفسدوا" (رو12:3).
يبكتني= أي يقيم دليل على خطأ صدر مني. وبهذا القول يثبت المسيح أنه فوق مستوى البشر. فمن هو الذي بلا خطية، هذا استعلان لمستواه الإلهي. والسؤال الذي يوجهه المسيح لضمائرهم .. إذا كنت بلا خطية فلماذا تهاجمونني، ولماذا ترفضونني. عليكم أن تراجعوا أنفسكم وتتساءلوا من الذي يحرككم.
آية (47): "اَلَّذِي مِنَ اللهِ يَسْمَعُ كَلاَمَ اللهِ. لِذلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللهِ»."
الذي من الله يسمع= يقصد السماع الروحي أي السماع بالقلب ويلازمه التنفيذ. سماع وطاعة. وقارن مع (1يو6:4). ومن هو من إبليس يقول الكذب الذي يسمعه منه ويضمر القتل للآخرين.
الآيات (48-50): "فَأَجَاب الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: «أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَنًا: إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ، لكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي. أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ."
نجدهم بدلًا من أن يسمعوا ويفهموا يشتمون الرب يسوع.
سامري = هي إهانة وشتيمة للمسيح. فالسامري في نظر اليهود كافر مصيره جهنم، ويقصدون أيضًا بالسامري عدو الشعب والأمة اليهودية. فلأنك تشتمنا فأنت عدو للأمة اليهودية كالسامريين. وهم بهذا يردون على المسيح لأنه قال لهم أنكم لستم أولادًا لإبراهيم. وبك شيطان= وهم طالما إتهموه أنه يصنع معجزاته بواسطة الشيطان (مت25:10، 34:9، 24:12+ مر22:3+ لو15:11+18-20) وقالوا هذا عن المعمدان (مت16:11-18). وهم أخذوا يشتمون لأنهم لم يجدوا حجة يردون بها على المسيح ولا استطاعوا أن يمسكوا عليه خطية. والمسيح لم يرد على قولهم سامري له فهو أتى من أجل السامريين أيضًا، وللجميع موضع في المسيح، فهم يعرفون أنه جليلي وإبن ليوسف، وهو لن يدخل في منافسة الأنساب، لكن لم يسكت عن قولهم بك شيطان وقال أنا ليس بي شيطان= لأن هذه الإهانة تلحق بالآب الذي فيه. فالمسيح لا يرد على الشتائم بل يظهر الحق. لكني أكرم أبي وأنتم تهينونني المسيح يشرح لليهود أنهم بقولهم أن فيه شيطان يهينون الآب، فالمسيح أتى ليعمل ما يريده الآب، فإن أهانوا المسيح يكونون قد أهانوا الآب الذي أرسله وهو يعمل ما يريده. وقوله أكرم أبي= حتى لا يظنوا أنه يطلب كرامة لنفسه فيقولون عنه أنه متعجرف. الذي يطلب مجدي هو الآب= فهو الذي يدين من يهينني. أنا أمجده وهو يمجدني وسيدين من يهينني.
آية (51): "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كَلاَمِي فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ»."
في مقابل الدينونة الرهيبة لمن يهين الابن الذي جاء ليكرم الآب، فإن من يؤمن ويحفظ كلام المسيح له حياة أبدية، ولن يكون للموت سلطان عليه. لأن من يحفظ وصايا المسيح يثبت هو في المسيح ويثبت فيه المسيح، فتكون له حياة المسيح الأبدية.
يحفظ= أي يؤمن بكلامي ويثبت فيه ويستوعبه ويطيعه. يرى الموت= تشير كلمة يرى لرؤية طويلة بلا نهاية ودائمة فيها يتأمل الإنسان ويعاين رعب الموت. بل ويحيا في الجسد خائفًا من الموت. والمسيح قال لن يرى الموت ولم يقل لن يذوق الموت فهو نفسه ذاق الموت (عب9:2) أي مات بالجسد ولكن يرى الموت تعني أنه لن يموت موتًا روحيًا أي ينفصل عن الله. وكل من له رؤية للمسيح لن يرى الموت لكنه سيذوق الموت. لذلك ما عاد الموت يخيف أولاد الله. ورأينا هذا في مواكب الشهداء.
الآيات (52-53): "فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَانًا. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ، وَأَنْتَ تَقُولُ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كَلاَمِي فَلَنْ يَذُوقَ الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ. أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ؟ وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟»"
الآن علمنا= كم مرة نتصور أننا علمنا والحقيقة أننا لا نكون نعلم شيئًا. بك شيطان= يجعلك مجنونًا وتتصور أن من يسمعك لن يموت بينما أن الآباء ماتوا كلهم. وقد مات إبراهيم= الذي كلمه الله، بل مات كل الآباء الذين كلمهم الله. والمسيح كما قلنا لم يقل أن من يؤمن لن يذوق الموت فهو نفسه قد ذاقه ولكنه لم يرى الموت ولن يراه كل مؤمن. فالمسيح يتكلم عن الموت الأبدي واليهود يتكلمون عن الموت الجسدي، المحتم أن يراه كل إنسان. من تجعل نفسك= بالنسبة لإبراهيم وللآباء. ولو أجاب المسيح على هذا السؤال سيكون مضطرًا لشرح جوانب لاهوتية هم غير أهل لها، فأجاب بما لا يمس مجد الآب. ولاحظ تفوق المرأة السامرية على هؤلاء. فهي حين تحيرت في شخصه قالت "ألعلك أعظم من أبينا يعقوب" وهذا لتتعرف على شخصه المبارك، أما هؤلاء فشتموه وأهانوه.
الآيات (54-55): "أَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئًا. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي، الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلهُكُمْ، وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِبًا، لكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ."
المسيح في تواضع وإخلاء ذات يقول من جهة بشريته أنا لا أمجد نفسي فأنا أخليت ذاتي. وكون أني قلت "إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت" فهذا ليس معناه أنني أمجد نفسي بل أقول الحقيقة. والآب هو الذي سيعطيني مجدي الذي لي قبل أن أخلي ذاتي. أنا لا أطلب مجدًا في منافسة مع الآب، بل هو أعطاني مجدًا، الآن ظاهرًا في أعمالي وسيمجدني أيضًا بعد ذلك حين أجلس عن يمينه= أبي هو الذي يمجدني. والمسيح حين أخلى ذاته فهو أخلى ذاته من مجده لا من ألوهيته وهذا يعني أنه لم يظهر مجده للناس. الذي تقولون أنتم إنه إلههكم= من يسميه اليهود إلههم هو أبو المسيح، وهو والمسيح ذات واحدة لذلك يقول لستم تعرفونه أما أنا فأعرفه (إشارة لإتحاده بالآب) معرفة المسيح لله هي معرفة الذات للذات ومعرفة المثيل للمثيل. وهم لا يعرفونه فهم لو عرفوا الله لما رفضوا ابنه. ومن أقوى الأدلة على معرفة الابن للآب طاعته الكاملة له حتى الصليب. فهو يعرف إرادته وينفذها والعكس فاليهود لا يعرفون الله ولا عرفوا ابنه بل صلبوه بجهالة وإصرار. أكون مثلكم كاذبًا= لو جارى المسيح اليهود في وطنيتهم الزائفة وتمسكهم بالسبت والثورة على الرومان لكان كاذبًا، إذ سيخالف إرادة الآب التي يعرفها حق المعرفة. ومن الكذب أن لا يذكر الإنسان كل الحقيقة. وكان أسهل على المسيح أن لا يهاجم اليهود ويكشف لهم ضعفهم ليتوبوا. وكان أسهل عليه أن لا يخبرهم بعلاقته بالآب حتى لا يتشككوا ولكنه لا يكذب بل يقول الحق. ولا يصح أنه في اتضاعه ينكر علاقته بالآب. هو أتى ليظهر الحق ، وهو الحق ، وإخفاء حقيقة علاقته بالآب يصير هذا ضد الحق أي كذب. أحفظ قوله= هي معرفة كاملة ناشئة عن الإتحاد، فهما واحد ولهما إرادة واحدة. وهذا ظهر في الطاعة الكاملة حتى إلى الصليب. الآب يريد والابن يريد ولكن التنفيذ هو دور الابن .
تأمل: أبي الذي يمجدني= على كل إنسان أن لا يسعى أن يمجد نفسه في نظر الناس، بل يخدم الله في أمانة، وإذا أراد الله أن يمجده فليمجده.
آية (56): "أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ»."
أبوكم إبراهيم= هذه في مقابل أنه هو ابن الله. هنا المسيح يقول أنه بحسب الجسد فإبراهيم أبوكم ولكنه بالنسبة لي فهو مجرد شاهد رأى خلاصي وفرح.. ولكن ماذا رأى إبراهيم؟ في (تك11:22-14) بعد أن قدم إبراهيم ابنه ذبيحة يقول أنه دعا اسم المكان يهوه يرأة (الرب يُرى) ولكن الكتاب أمسك عن ذكر ما رآه إبراهيم. وغالبًا فالله أظهر لإبراهيم تفسير ما صنعه معه وأن ما حدث هو رمز كامل للفداء الذي سيقوم به ابن الله الوحيد والذي به يخلص إبراهيم، وكل من كان على إيمان إبراهيم أي أولاد إبراهيم بالروح، وهذا ما جعل إبراهيم يتهلل فهو فهم معنى أن قبائل الأرض تتبارك في نسله أي المسيح الذي سيصلب ويقوم ليعطينا قيامة من الموت. ولذلك أشارت العذراء في تسبحتها "كما كلّم أبائنا. لإبراهيم ونسله إلى الأبد" (لو46:1+54-55+ أع25:3-26+ عب13:6-15+ 17:11-19). ونلاحظ هنا أن إبراهيم قدّم ابنه إذ آمن أن الله قادر على أن يقيم من الأموات ثم عاد به حيًا، فهو رأى القيامة مرتين، مرة بالإيمان، ومرة بالعيان ولاحظ أن هذه القيامة حدثت بعد 3 أيام من طلب الله تقديم إسحق ذبيحة. كما نفذ المسيح وصية الله مُقَدِّمًا نفسه على الصليب وهو مؤمن بالقيامة من الأموات.
أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح = كثيرين من الربيين وشيوخ السنهدريم يفسرون ما حدث لإبراهيم "وقع على أبرام سبات، وإذا رعبة مظلمة عظيمة واقعة عليه" (تك15) بأنه خلال هذا السبات أراه الله ما سيحدث لأبنائه في المستقبل من آلام مرعبة. وأراه أيضًا أمجاد أيام المسيا. فمن سمع هذا الكلام ولم يفهم فهذا راجع ليس لصعوبته أو غرابته بل لأنه لا يريد أن يفهم. وهذا ما حدث من اليهود فحاولوا قتل المسيح.
الآيات (57-59): "فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ». فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازًا فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هكَذَا."
كان عمر المسيح 33 سنة في ذلك الوقت ولكن هيبته جعلتهم يعطونه سن 50 سنة. والمسيح قال إبراهيم رأى يومي.. فقالوا أفرأيت إبراهيم= هم تصوروا أنه يقصد أن إبراهيم رآه بالجسد وبالتالي فهو رأى إبراهيم بالجسد. ولكن ما كان يقصده المسيح أن إبراهيم رأى أنني فيَّ ستكمل المواعيد. ولذلك فحينما أعلنوا عدم فهمهم أكمل يسوع بوضوح وأعلن عن أزلية وجوده وأنه كائن قبل إبراهيم. ولم يقل "كنت أنا" فبهذا يصير زمنيًا ولكنه قال "أنا كائن" وبهذا يشير لاسمه يهوه أي الكائن. فهنا في مقارنته مع إبراهيم يقارن ما بين الخالق (المسيح) وبين المخلوق (إبراهيم)، الأبدي الأزلي (المسيح) مع الزمني (إبراهيم). وهم حاولوا قتله. وأمسك الله أيديهم فالوقت لم يأتي بعد، وهم كانوا سيرجمونه بالحجارة. ولاحظ أن الهيكل كان يبنى في ذلك الوقت وبالتالي كانت الحجارة موجودة بوفرة. ونلاحظ أن اختفاء المسيح من وسطهم لم يكن المرة الأولى (لو28:4-30)+ (يو30:7+32+42) ، ثم تكرر في( يو39:10+ يو36:12) . واختفاء المسيح يشير لعماهم الروحي فهو وجد في وسطهم ولم يعرفوه ونجد العكس في الإصحاح القادم فالمسيح يفتح عيني أعمى فهو أتى لهذا ليفتح عيني كل من يقبله. واختفاءه يشير لأنه لم تأتي ساعته للموت. ولكن حين أتت الساعة أسلم ذاته بإرادته.
قبل أن يكون (معناها الأصلي يصير) إبراهيم، أنا كائن (أصلها كينونة وأنا كائن أي أهية= اسم الله).
معنى ما قاله السيد المسيح عن إبراهيم هنا:-
الإصحاح كله يدور في حوار لاهوتي يثبت فيه المسيح أنه ابن الله. وبنفس المفهوم يقول لهم هنا.. أنتم تفتخرون بإنتسابكم لإبراهيم أباكم، لكن بالنسبة لي فإبراهيم هو مجرد شاهد رأى فكرة عن الخلاص الذي جئت لأتممه وأنا أكلمكم عنه. الخلاص الذي قلت لكم فيه أنه سيكون لكم حياة أبدية وحرية حقيقية. بل حينما ظهر إبراهيم كنت أنا كائن فأنا أزلي لأنني ابن الله.
← تفاسير أصحاحات إنجيل يوحنا: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير يوحنا 9 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
تفسير يوحنا 7 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/zy8ypsq