الباب الثاني: الإنسان الروحي: يجعل الله الأول في كل اهتماماته:
الشواهد: (أش 44: 6، رؤ 1: 8، 17، رؤ 21: 6، رؤ 22: 13).
إن الله هو الأول دائمًا. وهو أيضًا قال عن نفسه "أنا هو الأول والآخر" (أش 22: 13).
وكما كان الله الأول، اهتم بأوائل الأشياء، وطلبها وبذلك وضع لنا وصية البكور، في تقديمها ومباركتها...
فقال "قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم، إنه لي" (خر 13: 2). وطلب البكور أيضًا في البهائم والأغنام (خر 13: 12، 15). وأيضًا أبكار الغلات، والثمار (خر 33: 16). وكان يقدم لله أول حزمة من الحصيد (لا 23: 10). وكانت قِطاف باكورة الثمار، أول سنة تُعْطَى للرب بل حتى باكورات الجَّز أيضًا (حز 20: 40) حينما يجزون صوف الغنم وكذلك أوائل كل الباكورات.
ولم يطلب الله الأبكار فقط، وإنما باركهم أيضًا...
كل شيء له هو مبارك، بل هو مقدس. لذلك قال "قدس لي كل بكر". وكان الله يبارك البكر، له البركة، وله البكورية، وله نصيب أتنين من أخوته. وله رئاسة العائلة بعد أبيه، وله الكهنوت أيضًا "قبل نظام الكهنوت الهاروني".
كان شعور كل إنسان يقدم البكور، أن الله في الأول...
خيرات أرضه، ونتاج غنمه وبهائمة، بل أول ثمر البطن، كله لله، وليس له وكان يفرح بأن يكون الله أول من يأخذ.
وهكذا إذا نظرنا إلى أول وصية، نجدها للرب...
بل ليست الوصية الأولى فقط، بل الوصايا الأربع الأول، كل وصايا اللوح الأول، كانت خاصة بالرب. أما وصايا اللوح الثاني فهي خاصة بالعلاقات البشرية، لأن الله أولًا.
كذلك المحبة موجهة لله أولًا ثم للناس فيما بعد...
الوصية الأولى والأهم هي هذه "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى" (مر 12: 28 - 30).
والثانية هي "تحب قريبك كنفسك "فالله أولًا...
ولأن المحبة هي لله أولًا، لذلك قال الرب "من أحب أبًا أو أما أكثر مني، فلا يستحقني. ومن أحب ابنًا أو ابنه أكثر مني، فلا يستحقني" (مت 10: 37).
حتى النفس لا تكون أولًا، بل الله...
وهكذا قال أنه من أجل ينبغي أن تنكر ذاتك وتتبعه. بل قال أكثر من هذا "من وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجلي يجدها" (متى 10: 39)
الإنسان الروحي يجعل الله باستمرار هو الأول في حياته وفي اهتماماته:
ولا يسمح لأية اهتمامات أن تعوقه عن محبة الله، أو أن تحظى بالأولوية في حياته.
قال السيد المسيح لمرثا "أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد" (1كو 10: 41).
أما مريم فقد اختارت النصيب الصالح، اهتمت به.
وأنت يا أخي بماذا تهتم؟ ما هي الأولويات في حياتك؟ حسب أولوياتك، يكون حماسك ويكون عملك، وتكون إرادتك.
إن الناس يختلفون في اهتمامهم، كما اختلفت مريم ومرثا. كان اهتمام مريم بمحبته، والجلوس عند قدميه والاستماع إليه.
وصارت إحداهما للخدمة، والأخرى مثالًا للتأمل.
وقليلون -مثل القديس بولس الرسول- من جمعوا بين الأمرين الرعاة اهتموا بالخدمة، والرهبان بحياة التأمل.
وحسب اهتمام كل واحد، هكذا أنت حياته...
فهل الله هو الأول في حياتك؟
ولكي نفهم هذا السؤال نضع أمامنا قصة أبينا إبراهيم، الذي منحه الله ابنًا في شيخوخته. فلما فرح به قال له "خذ ابنك، وحيدك، الذي تحبه، إسحق، وقدمه لي محرقة..."
فماذا فعل أبونا إبراهيم؟ لم يفكر إطلاقًا، بل جعل الله أولًا، ومشاعره هو كأب لإسحق أخيرًا، وكذلك مشاعر سارة أو الصبي. الله هو الأول، نحبه ونطيعه. ثم اسحق يأتي في محبته بعد ذلك، لا يتقدم الله إطلاقًا. الله يرديه محرقة، فليكن أمر الله نافذًا... وننفذه بسرعة ورضى.
قصة أخرى هي قصة حنّة أم صموئيل، التي رزقت به بعد عمقها سنوات، وبعد صلوات وبكاء. ولكنها جعلت الله أولًا. وقدمت هذا الطفل صموئيل لخدمة الرب في الهيكل.
إنه درس لكل أم. تبخل على الله بتقديم ابنها لخدمته.
سواء طلبه الله للرهبنة أو طلبه للكهنوت... الله أولًا، ومشاعر الأمومة ثانيًا أو ثالثًا بل الواجب أن تقدم هذا الابن بفرح. وهذا أيضًا درس لكل زوجة، يطلب زوجها للكهنوت.
لا يصح أن يقول: ستشغله الخدمة عني وعن البيت!! بل يجب أن تقدمة للرب، وتقول: الله أولًا.
الإنسان الروحي يجعل الله أولًا في الطاعة...
ويقول مع الرسول "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس" (أع 5: 29). وصايا الله أولًا، وبعد ذلك كل ما يطلبه الناس، وبعدئذ كل رغباتنا وطلباتنا الخاصة وكل طاعة للناس يجعلها الإنسان الروحي في نطاق طاعته لله. أما إن تعارضت معها فينبغي أن يُطَاع الله أولًا.
وإذ يجعل الله أولًا، يضع ذاته أخيرًا، ولا ينظر إلى ذاته مطلقًا...
انظروا إلى قصة يوحنا المعمدان، الذي لما ظهر المسيح، تخلَّى يوحنا عن كل خدمته، وعن كرازته، وعن تلاميذه أيضًا، وسلم العروس للعريس، ووقف من بعيد يفرح كصديق للعريس، قائلًا: ينبغي أن هذا يزيد وأنا أنقص" (يو 3: 30)
إن السيد المسيح كان كل اهتمامه بالآخرين وبملكوت الله:
كان "يجول يصنع خيرًا" (أع 10: 38) "يكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض وضعف في الشعب (مت 4: 23). يتحنن على الكل، ويشبع كل حي من رضاه... يبشر المساكين، يعصب منكسري القلوب، ينادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق" (اش 61: 1).
وفى نفس الوقت لم يعتم بذاته، ولم يكن له أين يسند رأسه (لو 9: 58).
لم يهتم المسيح بكرامته لما أغلقت أحدى قرى السامرة أبوابها في وجهة، ووبخ تلميذيه اللذين طلبا أن تنزل نار من السماء لتهلكها. وقال لهما "لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص" (لو 9: 51: 56).
وحتى على الصليب كان كل اهتمامه بخلاص البشر وبالمغفرة حتى لصالبيه، وبالفردوس حتى للص. كما اهتم بأمه القديسة العذراء وبتلميذه القديس يوحنا.
وأنت ما هو اهتمامك الأول؟ أهو ذاتك؟!
الإنسان الروحي يخرج من دائرة الذات، لكي يهتم بالآخرين، ويهتم بهم بأسلوب روحي...
اهتمامًا من عمق القلب، تصل فيه خدمته إلى مستويات عالية من العطاء والبذل، إلى حد بذل النفس أيضًا، وبذل راحته من أجل راحة غيره.
أحيانًا يكون كل اهتمام الإنسان أن يصل إلى غرض ما.
وربما لا يكون غرضًا روحيًّا، وإنما هو لإثبات الذات ووجودها، أو "لارتفاعها" بطريقة ما...
وفى سبيل هذا الوصول، لا يهتم بالوسيلة ماذا تكون: روحية أو غير روحية... لا يهمه أن تكون حيلًا بشرية أو عالمية، أو طرقا خاطئة... تركيز الاهتمام كله في الوصول إلى الغرض، حتى لو ضيع هذا الإنسان نفسه... مثلما فعل آخاب الملك في الحصول على حقل نابوت اليزرعيلي، وما فعلته الملكة ايزابل في سبيل أن يصل زوجها إلى عرضه، ولو بالجريمة، والاتهام الباطل لنابوت، شهود الزور... حتى نال كلاهما عقوبة من الله تناسب ذنوبهما (1مل 21).
وبالمثل ما فعلته رفقة لكي ينال ابنها بركة أبيه. ومع أن الغرض هنا كان روحيًّا، إلا أن التركيز عليه افقدهما الوسيلة الصالحة. فاستخدما أسلوب الخداع" (تك 27).
وبالمثل قد يهتم خادم آخر أن يملأ عقول سامعيه بالمعلومات، دون أن يضع اهتمامه في حياتهم الروحية كيف ينمون... كل اهتمامه في المعلومات لا في الروحيات!
أو أب كل اهتمامه أن يلقن أولاده كلاما من الكتاب يحفظونه. ولا يهتم بالتداريب الروحية التي تعمق صلتهم بالله. والكتاب يقول "افعلوا هذه ولا تتركوا تلك" (إنجيل متى 23: 23؛ إنجيل لوقا 11: 42).
إنسان آخر في الخدمة، يهتم كيف تمتلئ الكنيسة بالناس هذا هو كل هدفه، ولا بهتم بأن يصل هؤلاء الناس إلى الله. وربما يلجأ إلى وسائل عالمية!!
مثلما تلجأ بعض الطوائف إلى منح المعونات المالية والاجتماعية لجذب بعض المحتاجين إليهم، ويخرجونهم بذلك من كنائسهم!! الاهتمام كله ليس في الملكوت إنما في أن يزيد عددهم ولو على حساب كنائس أخرى.
ولعلنا بعد كل هذا، نسأل بأي شيء يجب أن تهتم؟
إن ربنا يسوع المسيح يقول في العظة على الجبل:
"اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره" (مت 6: 33).
هناك مشكلة نجدها في إنفاقات ومشروعات بعض الكنائس...
غالبية المال قد تنفقه على البناء والتعمير، أو على تجميل الكنيسة وتزيينها بالديكور وبالأيقونات وبالنجف الغالي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولا يعطي مجلس الكنيسة ولا كهنتها نفس الاهتمام لخدمة الفقراء والحالات المحتاجة من أجل الأحياء المجاورة المحتاجة إلى رعاية روحية، ولا حتى الاهتمام بالخدمة الروحية في نفس الكنيسة... للأسف كل الاهتمام مركز في البناء والديكور...
نفس الوضع في عناية الأسرة بالطفل...
يقول الأب والأم أن اهتمامها الأول هو تربية أطفالهما ورعاية متقبلهم. وحسنًا يقولون. ولكن أي أنوع من التربية يهتمون به؟ إنهم يهتمون بصحة أولادهم، وأكلهم وشربهم ولبسهم، وأيضًا تعليمهم وإعدادهم لوظيفة لائقة. ثم بعد ذلك بتزويجهم... ويقول الأب بعد ذلك، ويقول الأم كذلك: "أشكرك يا رب، إني أديت رسالتي نحو أبنائي. الآن ضميري استراح من جهتهم".
ومع ذلك لا يضعون اهتمامهم الأول بتربيتهم الروحية وبمصيرهم الأبدي!!
لا يعطونها الغذاء الروحي اليومي، مثلما يعطونها غذاءهم الجسدي. وإن سألتهم عن واجبهم في ذلك، ربما يجيبون "إننا أرسلناهم إلى مدارس الأحد"... دون متابعة لما أخذوه أو حفظوه من دروس، ودون إضافة شيء خلال الأسبوع. كأب الأب غير مسئول عن معلومات ابنه الدينية، وعن تربيته روحيًّا!! وكأن الأم غير مسئولة، وهي التي استلمت ابنها من المعمودية كإشبينة له تتعهده بالعناية الروحية، وبالتعليم الديني، وبالتدريب على الفضائل...
وفى الخدمة الاجتماعية، قد نجد نفس الظاهرة.
اهتمامنا الأول أو الوحيد هو في العناية بالفقراء ماديًا، سواء في المساعدات المادية، أو مشاكل التعطل أو المرض أو الإسكان... وما إلى ذلك. ويندر أن يعطي اهتمام حقيقي بروحيات هؤلاء المحتاجين... وإن عقد لهم اجتماع روحي، قد يكون شكليا... لا اهتمام فيه يربط هؤلاء الناس بالله، وبالاطمئنان على حياتهم الروحية، وعلى تناولهم واعترافاتهم وتوبتهم...
نفس الوضع نقوله بالنسبة إلى الصلاة في مجال الخدمة، وفي حياة كثير من الخدام... إنهم يهتمون بتحضير الدرس، أكثر من اهتمامهم بتحضير أنفسهم روحيًّا... يهتمون بمواعيد الخدمة، واجتماعاتها، والصور والهدايا، والمكتبة والنادي، وبالافتقاد وبالأنشطة... ونادرًا ما يهتمون على نفس القياس بصلواتهم! فلا نجد اجتماعات الصلاة، مثل اجتماعات الشبان والشابات
النشاط يأخذ الاهتمام الأول، وليس الصلاة.
ولو دخلنا في التفاصيل، لوجدنا أيضًا العمل الروحي لا يأخذ الاهتمام الأول... فالنادي مثلًا: قد نهتم بمكانه وترتيبه، وما توجد فيه من ألعاب ومن أنشطة رياضية وتسليات. وقد نهتم بتنظيم الكارنيهات والمواعيد، والمسابقات، وفرق التمثيل والكورال... وفي كل ذلك قد لا يوجد الإشراف الروحي الكامل. ونجد النوادي في ضوضائها وفي أخطائها، ولا تعطي الصورة الروحية المرجوة، وربما لا تختلف عن النوادي العادية لعدم وجود المشرف الروحي...
لماذا؟ الجواب الصريح... لأننا لم نضع الله في قمة اهتمامنا.
وأنت مثلًا حينما تستيقظ كل يوم، بماذا يكون اهتمامك؟
هل تهتم بحياتك اليومية، تغسل وجهك، تفطر، تعد ملابسك، تستعد للذهاب إلى عملك؟ أم اهتمامك الأول كيف نبدأ اليوم مع الرب، بالصلاة والقراءة التأمل...؟ حسب اهتمامك سيكون تصرفك...
البعض يعتذر أحيانًا ويقول: لم يكن لدى وقت للصلاة...! وأنا دائمًا أرفض هذا العذر، ولا اعتبره السبب الحقيقي، وأقول:
لو وضعت الصلاة والتأمل في قمة اهتماماتك، لأمكنك أن تجد لهما وقتا... لذلك اجعل الله له الأولوية. في كل شيء...
في الراحة مثلًا: لا تفضل راحتك الجسدية، على عملك الروحي مع الله، سواء في الصلاة أو الخدمة. لا تستسلم للنوم أو للاسترخاء، وإنما ينبغي أن تضحي براحتك من أجل الرب.
كذلك في الصوم، لا تقل "صحتي" لا تقل: احتياجي إلى البروتينات، والأحماض الأمينية Amino Acids الرئيسية، إنما قل: الله أولًا.
هكذا ليكن الله أولًا، في موضوع العطاء والعشور...
لا تهتم بكل إنفاقاتك الأخرى، وتضع الله في آخر القائمة، إن بقى له شيء، كان بها. وإن لم يبق شيء، تعتذر للرب، أو نؤجل حقوقه. ذلك لأن اله ليس هو الأول.
كذلك، ليكن الله في أول كل عمل، وكل يوم.
أول شخص تكلمه في كل يوم، هو الله. وكل عمل تعمله، تضع فيه الله أولًا. تصلي في دخولك، وفي خروجك، وفي أكلك وشربك، وفي عملك، تكلم الله أولًا...
إن وضعت الله في الأول، لن تخطئ إليه:
ذلك لأنك تضعه فوق رغباتك العالمية، وفوق كل لذة أرضية. ويكون الله أمامك باستمرار، والعالم خلفك...
الإنسان يخطئ لأنه لم يضع الله أمامه، ولم يسبق فيتذكره قبل كل سقوط. ولم يحسب حسابا لمشاعره.
اجعل الله الأول، من جهة الوقت، ومن جهة الأهمية، ومن جهة الرغبات. ومن جهة الحب والاشتياق، ومن جهة الطاعة أيضًا... ليكن الأول في كل شيء.
وحينما يقول الرب "يا ابني أعطني قلبك" إنما يقصد أن تكون له هذه الأولوية "ماذا يستفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه"، وخسارة نفسه ما هي إلا حرماتها من الله...
إن الإنسان الروحي ليس فقط يجعل الله أولًا وقبل كل شيء. بل تكون علاقته بالله هي كل شيء في حياته...
ويقول مع الرسول "لي الحياة هي المسيح" (في 1: 21). ويقول أيضًا "لأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 20).
وأخيرًا لست أريد أن ثقل عليك بنصائح كثيرة. إنما أقول لك نصيحة واحدة إن نفذتها تكون قد نفذت جميع الوصايا، وهي:
اجعل الله في بدء اهتماماتك، ولا تَعِش مستقلًا عنه أو غريبًا عنه، ابدأ به يومك، ابدأ به كل عمل.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/spiritual/first.html
تقصير الرابط:
tak.la/9c9qtmd