الباب الأول: الإنسان الروحي: صورة الله:
لعل هذا السؤال يوجه إلى إنسان: مَن أنت؟ وما هو الإنسان؟
ويجيب البعض: الإنسان جسد وروح ونفس.
ويجيب آخر: إن إنسان كائن حي عاقل ناطق حر مريد. ويقول البعض بشعور من الاتضاع إن الإنسان تراب ورماد، كما قال عن نفسه أبو الآباء إبراهيم (تك 18: 27).
كل هذا يقال عن أي إنسان. فما هي أدق إجابة نقول في تعريف الإنسان الروحي حسب الكتاب:
فهكذا قال الرب الإله في قصة خلق الإنسان: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه" (تك 1: 26، 27).
ولعل الإنسان في صورته، هو ما كان يبحث عنه ديوجين الفيلسوف، أو هو ما يقصده المفكرون بعبارة "سوبرمان" Super Man.
وطبعًا ليس المقصود بالصورة الإلهية، أن الإنسان يشابه الله في صفاته الإلهية، مثل الأزلية، وعدم المحدودية، والقدرة على الخلق!! حاشا أن يكون هذا! إنما المقصود هو الصفات النسبية مثل:
الإنسان الروحي قبل السقوط كان بريئا بسيطًا، لا يعرف الخطية على الإطلاق أعنى أبوينا آدم وحواء قبل السقوط، حينما كانا عريانين ولا يخجلان (تك 2: 25). لم يكونا قد أكلا بعد من شجرة معرفة الخير والشر. لذلك ما كانا يعرفان الشر. كانا كالأطفال الأبرياء الذين أحبهم المسيح، وقال "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت 18: 3).
الحية خدعت أمنا حواء وكذبت عليها. وأمنا حواء لم تشك في كلام لأنها لم تكن تعرف شيئًا اسمه الكذب أو الخداع أو الشك. هذه ألفاظ لم تكن موجودة في قاموسها الفكري في ذلك الوقت.
حقًا ما أجمل تلك الأوقات التي كان فيها آدم وحواء قديسين قبل السقوط. ولكن الذي حدث هو أنه بالخطية هو أنه بالخطية فقد الإنسان قداسته، وبالتالي فقد صورته الإلهية.
وأصبح الإنسان أسير ثنائية عجيبة تلازمه، هي الخير والشر، الحلال والحرام، وما يتبع ذلك من الحياة والموت. وهكذا قال له الله "هوذا قد جعلت اليوم أمامك: الحياة والخير، والموت والشر... البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا" (تث 30: 15، 19).
وإذ فقد الإنسان صورته الإلهية بفقدان القداسة، فقد النقاوة والبساطة، بل فقد معرفة هذه الصورة الإلهية أيضًا...
وجاء السيد المسيح "صورة الله غير المنظور (كو1: 15)، فأعاد إلينا بتجسده صورة الله حتى نحاكيها...
فكيف يصل الإنسان الروحي إلى هذه الصورة؟
يقول القديس يوحنا الحبيب ينبغي "أنه كما سلك ذاك، هكذا يسلك هو أيضًا" (1يو2: 6). وبهذا اختار الله قديسيه "ليكونوا مشابهين صورة ابنه" (رو 8: 29). وإذا سلك البشر هكذا على الأرض، فإن سيدنا المسيح في القيامة العامة سيغير جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده" (في 3: 21).
ومن جهة الرجوع إلى صورة الله في القداسة، يقول السيد الرب "تكونون قديسين لأني أنا قدوس" (لا 11: 45). وكرر الرب هذا العبارة في (لا 20: 26). واقتبسها القديس بطرس الرسول حينما قال:
"نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضًا قديسين في كل سيرة..." (1بط 1: 15).
وأضاف "كونوا قديسين لأني أنا قدوس" (1 بط 1: 16) أي أرجعوا إلى صورتكم الإلهية...
وبهذه القداسة نستحق التناول من الأسرار الإلهية... وهكذا يقال "القدسات للقديسين" ونسمي القداس الذي يتناول فيه الشعب "قداس القديسين"... بالقداسة يستعد المؤمنون للتناول. أيضًا يتقدسون. وما أجمل العبارة التي قالها صموئيل النبي لبيت يسى يوم اختياره داود ملكًا. قال "تقدسوا وتعالوا معي إلى الذبيحة" ("1صم 16: 4). وهنا نسال:
*إنه قديس، لأنه خلق على صورة الله ومثاله.
*وهو قديس، لأنه هيكل للروح القدس، وروح الله ساكن فيه (1كو3: 16). ولا يمكن أن يسكن روح الله في الهيكل نجس، إذ يقول المرتل في المزمور "ببيتك تليق القداسة يا رب" (مز 93: 5)
* والمفروض في الإنسان الروحي أن يكون قديسًا كابن لله. والكتاب يقول "المولود من الله لا يخطئ... والشرير لا يمسه" (1يو 5: 18)... "ولا يستطيع أن يخطئ، لأنه مولود من الله" (1يو 3: 9).
* والإنسان الروحي قديس بفعل الأسرار الإلهية العاملة فيه.
قديس بسر المعمودية الذي صلب فيه الإنسان العتيق (رو 6: 6). وغسل من خطاياه (أع 22: 16). بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس (تي 3: 5). وهو قديس بسر التوبة الذي تغفر فيه خطاياه، وبسر الأفخارستيا الذي به يثبت في المسيح، ويثبت المسيح فيه (يو 6: 56).
*وهو قديس، لأنه عضو في جسد المسيح (1كو6: 15).
وجسد المسيح مقدس هو. فما دام عضوا فيه، لا بُد أن يكون قديسًا. لأنه أية شركة للنور مع الظلمة؟! وأيَّة خلطة للبر مع الإثم؟! (2كو6: 14).
وهكذا كان المؤمنون يدعون قديسين في الكنيسة في أيام الرسل. وقد تكررت عبارة "المدعوين قديسين" في رسائل القديس بولس، كما في (رو 1:7) (1كو1:2) (أف 1:4) (كو 1:22) ويقول في رسالته إلى فيلبي: "سلموا على كل قديس في المسيح يسوع" (في 4: 21).
والمقصود طبعًا الكمال النسبي، نسبة لما يستطيع الإنسان الروحي في جهاده أن يصل إليه، حسب إمكانية ومقدار عمل النعمة فيه. أما الكمال المطلق فهو لله وحده.
وهكذا قيل عن أيوب الصديق أنه "رجل كامل ومستقيم" (أي 1: 8) وقيل "كان نوح رجلًا بارًا كاملًا" (تك 6: 9). وقال الله لأبينا إبراهيم "سر أمامي وكن كاملًا" (تك 17: 1). وقال الرب في العظة على الجبل:
"كونوا كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت 5: 48).
والسيد المسيح كان كاملًا في كل مرحلة من مراحل السن، أثناء تجسده على الأرض. وهكذا أظهر لنا كيف نكون في الصور الإلهية في كل فترة من فترات السن: في الطفولة والصبوة والشباب والرجولة.
علينا إذن أن نسعى باستمرار نحو الكمال، لكي نكون صورة اللهو نحقق وصيته لنا...
ونقول كذلك أنه لما خلق الله الإنسان على صورته، لم يخلقه على صورته فقط في القداسة والبر والكمال، وإنما:
وهكذا قال الرب "أثمروا وأكثروا، واملأوا الأرض واخضوعها. وتسلطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تك1: 28)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. نفس هذه البركة منحها الله لأبينا نوح وأولاده بعد رسوّ الفلك، وقال في ذلك "ولتكن خشيتكم ورهبتكم على على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء... وكل اسماك البحر" (تك 9: 2). هكذا كان نوح الفلك، مع كل الكائنات.
حينما كان الإنسان صورة الله، كان ملك وسيد الخليقة وكاهنها.
ولما فقد الصورة الإلهية، بدأت الخليقة تتمرد عليه... الحية تسحق عقبه (تك 3: 15) وإن عمل في الأرض، لا تعود تعطيه قوتها" (تك 4: 12). وبدأ الإنسان يصيد الحيوان والحيوان يفترس الإنسان الذي فقد احترامه، إذ فقد صورته الإلهية...
فالإنسان الروحي هو إنسان قوي، لا أقصد القوة الشمشونية الجسدية، إنما أقصد قوة الشخصية: قوة الروح، والفكر والإرادة، قوة الاحتمال، القوة في حروب الشياطين وفي الجهاد الروحي. قوة المعنويات: فالإنسان الروحي لا يهتز ولا يخاف ولا يتردد ولا تسيطر عليه أفكار اليأس ولا الفشل.
والذي على صورة الله، ولا يمكن أن يخاف.
وفى هذا قال داود النبي "إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي. وإن قام عليَّ قتال، ففي ذلك أنه مطمئن (مز 27: 3). إن الخائف ليس هو صورة الله. لذلك فالخائفون لا يدخلون الملكوت (رؤ 21: 8). آدم بعدما أخطأ خاف (تك 3: 10) وقايين بعدما أخطأ أدركه الرعب" (تك 4: 14). لأن كليهما فقدا الصورة الإلهية.
إن القديسين والأنبياء قد أعطوا صورة عميقة لعدم الخوف.
القديس الأنبا أنطونيوس سكن أولًا في مقبرة، ولم يخف من حروب الشياطين. ولم يخف حينما كانوا يظهرون له على هيئه وحوش تصيح بأصوات مرعبة وتهجم عليه. والشهداء لم يخافوا من كل تهديدات الحكام وتعذيباتهم. ودانيال النبي لم يخف من جب الأسود، ولا الثلاثة فتية من أتون النار.
ولذلك فالإنسان الفاشل، أو الساقط أو الراسب، ليس هو على صورة الله، فالذي على صورة الله، يكون "كالشجرة المغروسة على مجاري المياه، تعطي ثمرها في حينه. وكل ما يفعله ينجح فيه "وهكذا قيل عن الرب مع يوسف. فكان رجلًا ناجحا" (تك 39:2).
حقًا إن الله هو المتواضع الوحيد بالمفهوم الدقيق الذي للكلمة، لأنه وهو العالي في سمو علاه، يتنازل إلى مستوانا، ويتعامل معنا، ويتخاطب معنا ويسمع صلواتنا لكن الإنسان أيضًا يمكن أن يكون متواضعًا حسب مستواه. على الأقل يعرف ذاته أنه تراب ورماد، ولا يقبل لنفسه أفكار وتصرفات الكبرياء والتعاظم والمجد الباطل، والإنسان المتواضع تخافه الشياطين، لأنها ترى فيه صورة الله المتواضع الذي هزمها وحطمها، حينما أخلى ذاته (في 2: 6) أما الإنسان المتكبر فهو فاقد الصورة الإلهية.
فمِن صفات الله المحبة. والذي يكون على صورة الله، ينبغي أن يكون محبًا مثله و"مَنْ يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه" (1يو 4: 16). إنه وديع ومتواضع. وهو يطلب منا أن نتعلم ذلك منه (متى 11: 29). وبالمثل في باقي الفضائل... الله هو نور العالم (يو 8: 12). بل هو النور الحقيقي (يو 1: 9). وقد دعانا أيضًا أن نكون "نورًا للعالم" (متى 5: 14)، على اعتبار أننا صورته ومثاله.
وقال الرب "أنا هو الراعي الصالح" (يو10:11). وفي نفس الوقت دعا البعض أن يكونوا رعاة (أف 4: 11). ومع أنه هو المعلم، وكان يدعى هكذا، إلا أنه أيضًا دعا البعض أن يكونوا معلمين (أف 4:11) (مت 28: 19، 20).
وقال البعض أن الله خلق الإنسان على صورته في تجسده: كان يعرف طبعًا الصورة التي سيتخذها حينما سينزل لخلاصنا، فخلقنا بهذه الصورة بهذه الصورة التي تجسد بها. وخلقنا على شبهه ومثاله...
الله يريدنا أن نكون مثله، صورته، حتى في العمل. نسير في طريقه، تكون لنا نفس مشيئته وإرادته "كما في السماء كذلك على الأرض" (لو 11:2). نتكلم كما لو كان الله هو المتكلم على أفواهنا. ننطق بكلامه هو "لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم هو الذي يتكلم فيكم" (مت 10: 20). وفي تصرفاتنا "كما سلك ذاك، نسلك نحن أيضًا" (1يو 2: 6). ونعمل عمله. وفي كل ما نعمله، نسأل أنفسنا أولًا: لو كان السيد المسيح في مكاننا، لكان يعمل هذا... وفي كل حياتنا، كل من يرانا يقول: حقًا هؤلاء أولاد الله، هم يشبهون أباهم، كأبناء حقيقيين له...
إن رسالة أولاد الله هي أن يحملوا صورة الله في أشخاصهم إلى العالم. كل من يراهم يعرف الله ويحبه، لأنه أحب صورته.
كل مَن يراهم في محبتهم وهدوئهم وشخصياتهم المتكاملة وأمثلتهم الحية، يمجد أباهم الذي في السموات. السيد المسيح صعد إلى السماء... ولكنه ترك صورته في تلاميذه، يحملها جيل إلى جيل، مع تعاليمه.
ولعل البعض يسأل: كيف يكون الإنسان على صورة الله، بينما الله وحده غير محدود؟! فهل الإنسان على صورته في هذا أيضًا؟!
والإجابة هي أن الإنسان محدود بلا شك. ولا يمكن أن يكون مثل الله غير محدود. ومع ذلك فإن الله الذي خلقه على صورته، وضع في داخله الاشتياق إلى كل ما هو غير محدود. ومن هنا كان الطموح عند الإنسان، والنمو أيضًا وعدم الاكتفاء. فهو باستمرار ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام، يسعى نحو الغرض، يسعى لعله يدرك (في 3: 12-14)...
وطبعًا الإنسان الذي على صورة الله، يكون له الطموح الروحي والنمو الروحي، وليس الطموح في الماديات والعالميات.
والسؤال الثاني: كيف يكون الإنسان على صورة الله والله خالق؟!
طبعًا الله هو الوحيد الخالق. ولكن أيضًا وهب الإنسان موهبة الإبداع والفكر الخلاق، الذي يقدم باستمرار شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل... ولكن الفرق هو أن الله يخلق من العدم. أما ألإنسان فيستخدم ما خلقه الله ليكون منه شيئًا جديدًا.
الإنسان ذات لها عقل وروح، والذات والعقل والروح كيان واحد. وهو في ذلك صورة الله، الذي هو ذات وعقل وروح، هؤلاء الثلاثة هم واحد، كائن واحد.
أخيرًا أقول أننا مادمنا صورة الله، ينبغي أن نحتفظ بهذه الصورة، ونجاهد ألا نكون صورة للعالم.
إنني أعجب من الذين يريدون أن يقلدوا أهل العالم في كل شيء، حتى يقال عنهم إنهم عصريون، وليسوا متخلفين. وينبغي أن نكون حكماء هذا الأمر، لأن القديس بولس الرسول يقول:
"لا تشاكوا أهل هذا الدهر..." (رو 12:2).
أي لا تصيروا شكله، لأن شكلكم أسمَى من العالم بكثيرة، أنتم بكثير، أنتم صورة الله. وفي هذا يقول القديس يوحنا الرسول "بهذا أولاد الله ظاهرون" (1يو 3: 10). إذن لا يليق بالإنسان الروحي أن يقلد أهل العالم، بل يكون قدوة لهم، نورا للعالم يرون فيه صورة الله ويحبون صورته
الإنسان الروحي يقارن نفسه بالصورة الإلهية، يسأل ذاته باستمرار: أين أنا الآن؟ وإلى أين وصلت.
وفي الأبدية السعيدة توجد صورة واحدة، وهي الله ومن هم على صورته. أما الذين ليسوا على صورته، فيطرحون في الظلمة الخارجية.
إنكم يا أخوتي، لم تخلقوا لتكونوا مجرد تراب ورماد. فقد خلقكم الله ليعطيكم مجده ليكون جمالكم كاملًا ببهائه الذي جعله عليكم" (خر 16: 14).
والقديس بولس الرسول، إذ أراد أن يوضح هذه الصورة، قال في عبارة تحتاج هي الأخرى إلى توضيح "لأن جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح، قد لبستم المسيح" (غل 3: 27). فما معنى عبارة "لبستم المسيح"؟
أتراني أقف أمامها مفسرًا، أم أقف في دهش وذهول؟ أمام صورة الله...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/spiritual/image.html
تقصير الرابط:
tak.la/yjx6t2k