الإنسان الروحي لا يحيا لنفسه فقط. وما أجمل المَثل الذي يقول: "ما عاش مَن عاش لنفسه فقط". ففي خدمة الآخرين لابد أن يخرج الإنسان من قوقعة نفسه ليلتقي بالغير، ويشبع الكل من محبته. ويشعُر أن رسالته في الحياة هي أن يفعل خيرًا مع كل مَن يدفعه اللَّه في طريقه. وكُلما يتسع قلبه، تتسع دائرة خدمته. فلا تقتصر على معارفه وزملائه وأصدقائه، بل تصل إلى نطاق أوسع بكثير.
** ومادام الإنسان يستطيع أن يعمل الخير نحو الغير، فعدم قيامه بذلك يُعتبر خطيئة. ولنضع أمامنا هذه القاعدة "مَن يعرف أن يعمل خيرًا ولا يفعل، فتلك خطية له".
وخدمة الآخرين في جوهرها، ما هي إلاَّ تعبير عن الحُب المختزن في القلب من نحو اللَّه والناس. فأنت إن أحببت الناس، فسوف تخدمهم بكل الوسائل المُتاحة لك والنافعة لهم.
** والخدمة المقدمة للآخرين، منها الروحية والاجتماعية أيضًا وخدمات أخرى. فمن جهة الخدمة الروحية، نذكر التعليم الروحي وقيادة الغير إلى التوبة. لأن من رد خاطئًا عن ضلال، يخلص نفسًا من الموت ويستر كثرة من الخطايا. أمَّا الخدمة الاجتماعية فهي الاهتمام باحتياجات الآخرين الذين لا يجدون كفايتهم في أمور المعيشة. ونذكر من بين هؤلاء: الفقراء والمعوزين، والأيتام والأرامل، والمرضى، وكافة المُضررين والمحتاجين. فاسأل نفسك: ما مصير الآخرين في حياتك؟
أتذكَّر أنه في إحدى المرَّات سألني طبيب جراح عمَّا يستطيع أن يعمله لأجل الآخرين. فقلت له: "على الأقل عُشر العمليات الجراحية التي تقوم بإجرائها، لتكن للفقراء والمحتاجين، بغير أجر". وهكذا يكون للَّه وللناس نصيب في علمك وعملك. وبهذا تُعبِّر عن محبتك للفقراء.
** وما أجمل ما تُقدَّمه بعض الهيئات المحلية أو العالمية من خدمات مثل جمعيات الإسعاف وهيئة إطفاء الحرائق، والهيئات الدولية للإغاثة وأمثالها التي تُقدِّم معونة في حالات الكوارث الطبيعية كالفيضانات أو السيول، أو المجاعات. ومن تلقاء ذاتها تقوم بإغاثة المحتاجين.
** إن كل شخص مُطالب أن يفعل شيئًا من أجل أخيه الإنسان، دون أن يُكلَّف بذلك من هيئة رسمية. بل إن كل شخص عليه أن يخدم غيره حسب النعمة المُعطاة له. والإنسان الخدوم، أقصد الذي فيه روح الخدمة، تجده يخدم في كل مجال: في البيت، في مكان العمل أو الدراسة، في الطريق، في النادي... مع كل أحد. إنه إنسان مُعطاء. كل مَن يقابله، لابد أن ينال من عطائه.
فكما تعطي المخدومين حُبًا من قلبك، كذلك يشبع قلبك حبًا بهذه الخدمة. فالذي يخدم الأيتام أو المرضى أو المعوقين أو الفقراء والمحتاجين عمومًا، لاشكّ أن قلبه سيمتلأ في الخدمة بمشاعر عميقة تسمو بنفسه. فإنَّ العاطفة التي يكتسبها الإنسان في حماية الآخرين من الألم والمُعاناة، هي أقوى بكثير من العواطف التي تُقدِّمها مجالات اللهو والترف. والإنسان في مجال الخدمة يكتسب كثيرًا من الخبرات الروحية، ومن علاقته باللَّه الذي يعينه في الخدمة. فلا شكّ أنك في الخدمة يعمل اللَّه معك، ويعمل فيك، ويعمل بك. وفي كل ذلك ترى عجائب من عمل اللَّه، وكيف يتدخَّل في كل الأمور المُعقدة، ويفتح لك بعض الأبواب المغلقة، أو يُقدِّم لك حلولًا للمشاكل ما كنت تُفكِّر فيها، أو يرسل لك معونات من حيث لا تدري. فتُمجِّد اللَّه في كل عملك... أمَّا الذين لا يخدمون الغير، فإنهم يحرمون أنفسهم من كل هذه الخبرات الروحية.
والخدمة أيضًا تفيدك في أنها مدرسة للصلاة. ذلك لأنك كُلَّما تخدم الآخرين، أو تعمل على حل مشاكلهم، كُلّما تشعر أن هناك أمورًا تحتاج إلى معونة إلهية، فتتدرَّب على الصلاة من أجلها. كما أنك تُصلِّي لكي يبارك اللَّه العمل الذي تعمله، ولا يتركك وحدك. وقد تُصلِّي وتطلب قائلًا: "إن هؤلاء الناس المحتاجين، يحتاجون بالأكثر أن تكون لهم علاقة بك يا رب متصلة دائمًا من أجلهم. فأعطني ذلك ليس من أجلهم فقط، وإنما أيضًا من أجل نفسي. لكي ترعاني وترعاهم، وتحفظني وتحفظهم. وليتني أكون جسرًا صالحًا يصلون به إليك".
** والخدمة تمنح الإنسان ألوانًا من المعرفة: فيعرف مشاكل الناس، ويعرف تفاصيل كثيرة عن النفس البشرية وما يدور فيها من مشاعر. ويعرف أيضًا الحلول العملية لكي ما يتعرض له الناس من مشاكل داخلية وخارجية. وإن لم يكن يعرف، فعلى الأقل سيرى كيف يتدخل المرشدون الروحيون في حل تلك المشاكل. فتزداد خبرته في الحياة.
** هناك أشخاص لا يقومون بالخدمة في ذاتها، ولكنهم يساعدون على ذلك بما يتبرعون به للخدمة. أو على الأقل يقومون بخدمة الصلاة من أجل أن يُنجح اللَّه خدمة العاملين ومن أجل أن يحل المشاكل. وقد تكون لصلواتهم استجابة أكثر نفعًا، وتكون هي الخدمة الخفية التي تقوم على أساسها الخدمة الظاهرة.
** من شروط الخدمة أن تحب الناس الذين تخدمهم، ولا يكون في نفسك ضيق أو تبرج. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). واعرف أن طُلاب الحاجات قد يلجأون أحيانًا إلى الكذب والاحتيال، أو يمتزج طلبهم بإلحاح متعب، أو بضجيج وعلو صوت. وقد يتبرم البعض بهم فيطردهم أو يقسو عليهم! أمَّا القلب المُحب الخدوم، فإنه لا يكتفي بمساعدة المحتاجين، إنما يحتمل أيضًا متاعبهم. ويشعر أنه لولا احتياجهم الشديد، ما كانوا يلجأون إلى تلك الأخطاء.
** لا تجعل خدمتك للمحتاجين تتصف بالروتين، أو مُجرَّد النشاط بدون روح. ولا تسمح للخدمة أن تفقدك وداعتك وتواضعك. ولا تسمح بشيطان المجد الباطل أن يتعبك بالمديح أو أن يرتفع قلبك بذلك. بل قل لنفسك باستمرار: "أنا ما دخلت إلى الخدمة لكي أقع في خطايا جديدة، إنما لكي أنمو روحيًا!". إنما إن نجحت في خدمتك، فلا تنسب ذلك إلى نفسك، وإنما إلى اللَّه الذي ساعدك، وإلى الآخرين الذين تعاونوا معك. وفي خدمة الفقراء ابعد عن أسلوب الأمر والنهي. وليكن لك أدب التخاطب مع الصغير كما مع الكبير. ومهما أوتيت من سُلطة في الخدمة، لا تكلم الناس من فوق، ولا تتعالَ على أحد. ولا تقل عن نفسك إنك فاعل خير، وإنما أنت خادم للخير.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/5wafa4v