الكتابات الأوريجانية في
القرن الرابع
الأوريجانية والرهبنة
بين إسيذورس والبابا ثاوفيلس
الإخوة الطوال في فلسطين
أثر رسالة ثاوفيلس في فلسطين
أثر رسالة ثاوفيلس في قبرص
الإخوة الطوال في القسطنطينية
القديس أبيفانيوس في القسطنطينية
الحواشي والمراجع
احتلت الكتابات الأوريجانية مركزًا هامًا في فكر آباء القرن الرابع وكتاباتهم، فقد وجد البابا أثناسيوس الرسولي فيها براهين تسنده في قانون الإيمان النيقوي، كما شغف بها كبار آباء الكبادوك مثل القديسين باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي. أما في الغرب فقد استوحى القديسان هيلاري أسقف بواتييه وأمبروسيوس أسقف ميلان منها أفكارهما وتأملاتهما. أما القديس جيروم والأب يوحنا الإنطاكي، فقد أخذ عنها منهج أوريجينوس التفسيري.
لقد انشغل آباء الكنيسة في نهاية القرن الرابع بكتابات أوريجينوس، يأخذون أفكاره ويستبعدون أخطاءه، مشيرين إليها دون أن يقلل ذلك من اهتمامهم بها(1).
وفى حوالي عام 373م بدأ القديس أبيفانيوس (315-403م) أسقف سيلاميس بقبرص عمله العظيم "خزانة العلاج لشفاء كل الهرطقات".
لقد كانت الهرطقات تهز نفسه بشدةٍ، يشعر في نفسه بالالتزام أن يرد على كل هرطقة حديثة وقديمة. وإذ هو ناسك صارم أحس كأن العلامة أوريجينوس قد أفسد نقاوة الإيمان الحقيقي البسيط بسم الثقافة الوثنية. لقد اعتبر كتاباته هرطوقية، دان فيها أولًا وقبل كل شيء ميله لتفسير العبارات الحرفية الواضحة برمزية روحية، خاصة روحنة تعليم القيامة.
لم يقصد القديس أبيفانيوس إدانة أوريجينوس الراقد، بل "مجموعة رهبان مصر" الذين شغفوا بالفكر الأوريجاني(2). لكن لن يهتم أحد بذلك، حتى جاء عام 394م فيه قامت مناضلة بين يوحنا أسقف أورشليم ومعه روفينوس كاهن أكويليا، وكان الاثنان معجبين بالعلامة أوريجينوس، وبين جيروم الذي اِعتبر أوريجينوس هرطوقيًا يؤيده في ذلك أبيفانيوس أسقف سلاميس...
لا أريد الدخول في تاريخ الخلافات بين الأوريجانيين وأضدادهم، إنما ما أريد تأكيده أن العالم الكنسي كان مشدودًا تجاه هذه المشكلة. أما مركز عنفها فكانت "برية مصر" بسببها تصارع الرهبان، بل سقطوا في تصرفات عنيفة غير لائقة. ثار البعض ضد البابا، وحاول البعض قتله، واندفع البابا في تصرفاته مع رهبان طوباويين، وأخطأ في حق بطريرك القسطنطينية، وكانت النتائج مُرّة للغاية!
أثارت الكتابات الأوريجانية ثورة فكرية في الحياة الرهبانية، وجدت لها عشاقًا بين الرهبان كما أثارت عداوة مُرّة في قلوب آخرين. فالرهبنة في بدء قيامها تأسست على الممارسة العملية للحياة الفاضلة، أي دخول إلى "حلبة الصراع في البرية ضد قوات الظلمة من أجل تنفيذ الوصية الإنجيلية". هذا الذي أعلنه القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه عن القديس أنبا أنطونيوس، الذي لا نشتم فيه أي اتجاه تأملي عقلي، لكن "الأوريجانية" تسللت إلى بعض الرهبان والنساك ليجد البعض لذتهم بل غايتهم في الانطلاق في تأملات إلهية عميقة(3).
نستطيع أن نقول أن "الكتابات الأوريجانية" هي سرّ التحول الرهباني من نسكيات مجاهدة لأجل الفضيلة إلى نسكيات مجاهدة من أجل التأمل أو التاوريا.
ففي حوالي عام 370 م. تكونت جماعة أوريجانية في منطقة نتريا، تحت قيادة "الإخوة الطوال(4)": الأب أمونيوس وإخوته الثلاثة. هؤلاء الإخوة اتسموا بالروحانية والنسك، قاموا بنضال ضد الأريوسية بعد نياحة البابا أثناسيوس الرسولي، وكانوا على علاقة طيبة بالبابا تيموثاوس السكندري، وحتى عام 400 م. مع البابا ثاوفيلس الـ23. فقد أحبهم وأكرمهم كرامة زائدة، فرسم ديوسقورس أسقفًا على هرموبوليس، وأراد أن يرسم آخر منهم فاعتذر بعدم استحقاقه لهذه الكرامة السامية، فرسم منهم كاهنين يساعدانه في الخدمة.
تعلق البابا بهم، وأراد أن يستبقيهم معه في الإسكندرية، أما هم فأحسوا بضرورة العودة إلى البرية، يمارسون نسكهم وعبادتهم الرهبانية كما يليق. وعندما جاء مار أوغريس (إفجاريوس St. Evgarius) إلى مصر، استرشد بالأب أمونيوس، وجاءت كتاباته تفصح عن فكر الجماعة.
تحفز كثير من الرهبان ضد كتابات العلامة أوريجينوس من حيث أنها تدخل بالفلسفة إلى الرهبنة، فتفقدها بساطتها، وتشغل فكر الناسك بتأملات قد تدفعه إلى الانشغال بها عن جهاده النسكي. لكن ما هو خطير بحق أن رد الفعل ضد الفكر الأوريجاني كان قويًا في منطقة الإسقيط، حيث رفض بعض البسطاء التفسير الرمزي رفضًا قاطعًا، حتى فسروا العهد القديم تفسيرًا حرفيًا، فتصوروا لله وجه وعينان وأعضاء جسدية كما جاء في بعض عبارات العهد القديم لتوضيح أفكار معينة بلغة يفهمها البشر، كقول الكتاب(5):
"اسجدوا عن موطئ قدميه"،
"عيناي على أمناء الأرض... المتكلم بالكذب لا يثبت أمام عيني"،
"شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة"،
"يديك صنعتاني وأنشأتاني"،
"أضئ بوجهك على عبدك وعلمني فرائضك"...
هكذا سقطوا في بدعة "تصور شكل الله الإنساني Anthropomorphism"، وقد جرُّوا وراءهم كثيرين. وحدث نزاع بين الأوريجانيين والأنثروبومورفيت حول السؤال: هل لله أعضاء جسدية؟
وفى عام 399م جاءت الرسالة الفصحية التي يحدد فيها البابا موعد عيد القيامة تلمح بطريق غير مباشر أنه لا يليق بنا أن نفكر في الله بطريقة جسمية مادية، إذ هو غريب عن الشكل البشري. وقد روى لنا القديس يوحنا كاسيان في كتابه "المناظرات"(6) أثر هذه الرسالة على جماعة الرهبان، فقد رفضت المجامع قراءتها(7)، ما عدا القديس بفنوتيوس الذي كان أبا لمنطقة شهيت العليا، فقد تلاها في مجمعه.
للأسف تزعم الناسك البسيط صرابيون حركة مقاومة ضد هذه الرسالة الفصحية، وقد انضم إليه حشود من الرهبان بسبب بساطته ونسكه.
ومما يحزن قلب الإنسان، أن جماعات الرهبان التي خرجت إلى البرية تتفرغ للصلاة والجهاد من أجل محبة الله والناس، قد أخذتهم الغيرة والحماس فتركوا الإسقيط وخرجوا حشدًا غفيرًا إلى الإسكندرية، حيث أحاطوا بالبطريركية يصيحون ويتوعدون مهددين بقتل الكافر ثاوفيلس! هذا ما سجله لنا المؤرخون القدامى(8).
ربما لا أكون مبالغًا إن قلت إن كثيرين منهم -في بساطة- خرجوا وراء قلة يثقون فيهم ثقة عمياء، خرجوا وهم لا يعلمون ماذا جاء في الرسالة الفصحية، أو ربما شرحها لهم القادة بطريقة مثيرة. لكن هذا لا يبرر موقفهم الثوري الذي لا يحمل ترويًا ولا روحانية!
أما البابا ثاوفيلس الذي عشق الجلوس مع الآباء الرهبان(9) كلما ضاقت نفسه نزل البرية ينعم ببركة الوجود بين رهبان قديسين، بل وكثيرًا ما كان يستشيرهم وينتفع بهم، فقد أدرك خطورة الموقف. فإن كثيرين منهم بسطاء وعُباد روحيين، لكن يسهل قيادتهم، بل يبذلون كل حياتهم من أجل طاعة مرشديهم الروحيين، مملوءين غيرة وحبًا لله. رأى أن الوقت ليس للجدال والنقاش بل أراد كسب صداقتهم حتى يعالج الأمر بهدوء وسكينة.
بحكمة التقى بهم قائلًا بلطف: "إذ أراكم أنظر وجه الله". لم يتحدث في خبثٍ لكن بحكمة، فإنه يرى الله في داخلهم كأولاد لله. أما هم فحسبوه يؤمن بوجود "وجه لله" جسماني. فسروا قوله تفسيرًا حرفيًا كعادتهم. وفعلًا خفت حدة غضبهم، وأجابوه: "إن كنت تقول حقًا بوجود ملامح لله مثلنا فاحرم كتب أوريجينوس، فقد اِستخرج البعض منها أدلة تخالف قولنا. وإن لم تفعل ذلك فتوقع منا معاملتك ككافر عدو الله.
أجابهم ثاوفيلس "إني مهتم بهذا الأمر، ومستعد أن أجيب طلباتكم، لا تغضبوا عليَّ. فإني لست موافقًا على أعمال أوريجينوس، وألوم من يقتنيها".
عاد الرهبان إلى أديرتهم، وكاد الموقف أن ينتهي عند هذا الحد كقول المؤرخ سقراط لولا ثورة الأربعة الطوال. فقد رأوا في تصرف البابا جبنًا واستهتارًا بالعقيدة ومجاملة على حساب الحق. أما ما أشعل نيران المعركة بين البابا والإخوة الطوال، الخلاف الذي حدث بينه وبين القس إسيذورس (إسيدور).
بعد أن قام بتوزيع ثروته الكبيرة على الفقراء(10)، انطلق إسيذورس إلى البرية يتنسك في منطقة نتريا، فقد حباه الله وجهًا بشوشًا وطبيعة سمحة ولسانًا عذبًا، يحبه كل من يلتقي به.
أحبه البابا أثناسيوس الرسولي فرسمه كاهنًا، وأخذه معه في سفره إلى روما، وقد قضى أغلب حياته كمسئول عن المستشفى بالإسكندرية. كان عجيبًا في نسكه، يَقنع بالقليل من الماء والخبز.
هو أول من التقى بهم بالاديوس في زيارته للإسكندرية، أول ناسك مصري يتعرف عليه، فأحبه جدًا وكتب يمتدحه كثيرًا.
كان وجهه مضيئًا، حتى كل من يراه يتعجب! أحبه البابا ثاوفيلس جدًا، وكانت بينهما صداقة قوية، حتى رشحه للبطريركية على القسطنطينية عوض القديس يوحنا الذهبي الفم. لكن هذه الصداقة انقلبت إلى عداوة سافرة، إذ عاد إلى منطقة نتريا يلتصق بالإخوة الطوال، وكانوا يمثلون عنصرًا أوريجانيًا مضادًا للبابا ثاوفيلس، الذي -في نظرهم- قد مالا الأنثروبوموفليت الإسقيطيين... وهو في نظره اعتبر هذا التجمع تحديًا له، ومن هنا بدأت العداوة العلنية بين الأوريجانيين والبابا ثاوفيلس.
أما سرّ خروجه إلى البرية فقد تضاربت فيه الأقوال، غير أن المؤرخ سوزومين يرجح القصة التالية(11): قيل إن أرملة قدمت للقس إسيذورس ذهبًا ليشتري به ملابس للفقراء واشترطت إلا يخبر ثاوفيلس بالأمر حتى لا يبني به كنائس. لكن الخبر لم يختفِ عن البابا فتألم جدًا واستدعاه يستجوبه. أجابه القس في صراحة "الاهتمام بأجساد المتألمين الذين هم بحق هياكل الله أفضل من بناء حوائط، وأن المبلغ قد دفع لهذا الغرض". ومن هنا كانت بداية الاحتكاكات التي انتهت بقطع الكاهن، فهرب إلى البرية يعيش حياة الوحدة والتأمل واستقبله الرهبان استقبالًا حافلًا أغضب البابا.
هذه العداوة بين البابا والأوريجانيين -إن صح التعبير- وجدت نعمة في أعين الأنثروبوموفيلت، الذين دخلوا مع الأوريجانيين في مناضلة انتهت بانقسام البرية إلى جبهتين استخدمت فيها الألفاظ الجارحة، بل استخدموا أعمال العنف(12).
روى لنا المؤرخ سوزومين أن الأب آمون أخذ معه بعض الرهبان والتقوا بالبابا يتوسلون إليه أن يعيد إسيذورس إلى الشركة، فوعدهم بذلك. وإذ انتظروا لم يفعل شيئًا فأعادوا الكرة ولم يفعل شيئًا. أخيرًا أدركوا أنه يماطلهم فذهبوا إليه وضغطوا عليه لعله يحقق ما وعدهم به، وللأسف عوض أن يعيد الأب إسيذورس إلى الشركة ألقى القبض على أحدهم وأودعه الحبس، أما هم فذهبوا إلى الحبس وتظاهروا بالرغبة في مقابلة أخيهم يقدمون له احتياجاته. وإذ دخلوا الحبس اعتصموا هناك ورفضوا الخروج منه. أرسل إليهم البابا يدعوهم للتفاهم معه فأبوا، قائلين إنه أساء إليهم علنا بحبس أخيهم الراهب، فلا يخرجوا سرًا، إن أراد فيأتِ البابا بنفسه ويخرجهم من الحبس. لكنهم أخيرًا رضخوا وخرجوا فاِعتذر لهم عما حدث.
أثار هذا الحادث نفس البابا ونفوسهم، فتأزم الأمر، وجاءت الرسالة الفصحية لعام 400م تهاجم الأوريجانية، الأمر الذي أثار هذه الجماعة، خاصة أنه يدعوها "هرطقة" أو بدعة، بينما في نظرهم (أوريجينوس) هو معلم المسكونة.
من هنا بدأت التحديات العلنية، وقد تحولت الإسكندرية ومنطقة نتريا إلى صراعات وأحداث مشينة لم يسجل المؤرخون تفاصيلها. لذا فسنذكر أهم أحداث تلك الفترة:
1. عقد مجمع بالإسكندرية حُرم فيه آمون وأخواه الراهبان وربما بعض الإخوة المحيطين بهم.
2. اِعتصم الآباء في كنيسة الدير بنتريا، ومنعوا دخول أحد من الأساقفة وأوقفت العبادة الجماعية.
3. زار البابا ثاوفيلس المنطقة، واستغل البعض ذلك، فحاولوا الهجوم على الإخوة الطوال، مما اضطرهم إلى الهروب والاختفاء في مقبرة، وإذ لم يجدوهم أحرقوا قلاليهم وأمتعتهم(13).
4. استخدم البابا سلطانه الكنسي في الحرمان، كما استخدم الشدة فلجأ إلى وسيلة النفي.
وهكذا فقدت الكنيسة جمالها الروحي، وتحولت البرية المقدسة إلى صراعات وتحزبات.
هرب الأربعة الإخوة الطوال وفي صحبتهم الأب إسيذورس ومعهم جماعة من الرهبان يقدرهم بثمانين راهبًا(14)، جاءوا إلى أورشليم لعلهم يجدون لهم ملجأ في قلب الأسقف يوحنا الأورشليمي المعروف بإعجابه بأوريجينوس.
ترددت الإشاعات في الإسكندرية أن الآباء الرهبان هربوا متوجهين إلى القسطنطينية يعرضون قضيتهم ضد البابا ثاوفيلس. أسرع البابا فأرسل خطابًا مجمعيًا بعث به إلى 17 أسقفًا لفلسطين(15) و15 أسقفًا لقبرص(16)، جاء فيه(17):
[إلى السادة المحبوبين جدًا، الإخوة والأساقفة الشركاء...
ثاوفيلس يبعث تحيات في الرب.
لقد زرنا أديرة نتريا بأنفسنا ووجدنا هرطقة "الأوريجانية" قد سببت دمارًا عظيمًا بينهم. لقد صاحبها تعصب غريب: بتر أناس أعضاءهم(18) وقطع البعض ألسنتهم لكي يظهروا احتقارهم للجسد. لقد وجدت بعضهم انطلق من مصر إلى سوريا وإلى مدن أخرى، حيث تكلموا ضدنا وضد الحق.
لقد قرأت كتابات أوريجينوس أمام مجمع من الأساقفة، فأجمع الكل بحرمانه. إن أهم أخطائه التي وجد أغلبها في كتاب... هي:
1. إذا قورن الابن بنا يكون "الحق"، أما بالنسبة للأب فهو بطلان.
2. سينتهي ملكوت الله يومًا ما.
3. يلزمنا الصلاة للآب وحده دون الابن.
4. ستكون أجسادنا بعد القيامة قابلة للفساد وللموت.
5. ليس أحد كاملًا في السماوات، فإن الملائكة أنفسهم مخطئون وبعضهم يغتذي على الذبائح اليهودية.
6. تشعر الكواكب بحركاتها، وتعرف الشياطين من دورانها المستقبل.
7. السحر، إن كان حقيقيًا، فهو ليس شرًا.
8. تألم المسيح مرة من أجل الناس، وسيتألم مرة أخرى من أجل الشياطين.
هذا ويحاول الأوريجانيون أن يقهروني للخضوع لهم، فقد وشوا بي لدى الوثنيين في أمر خراب معبد السيرابيوم(19)، كما سعوا في إخراج شخصين متهمين بجرائم خطيرة من القضاء الكنسي. أحدهما هو الامرأة التي قيدها إسيذورس خطأ في قوائم الأرامل، والآخر هو إسيذورس نفسه، قائد الحركة الهرطوقية، الذي بثروته يمدهم بفيض لتنفيذ مشروعاتهم العنيفة.
لقد حاولوا قتلي، لقد اغتصبوا كنيسة الدير بنتريا، ولفترة ما منعوا الأساقفة الدخول فيها وممارسة العبادة فيها.
إنهم الآن مثل بعلزبول، يجوبون الأرض هنا وهناك.
إني لم أضرهم في شيءٍ، بل أنا حافظت عليهم.
إني لا أريد الصداقة -مع إيسيذورس- التي تفسد إيماننا ونظامنا.
أرجوكم أن تصدوهم أينما حلوا، وتمنعوهم عن أن يقلقوا الإخوة الذين تحت رعايتكم.]
اجتمع أساقفة فلسطين، وبعثوا رسالة إلى البابا ثاوفيلس، وقام جيروم بترجمتها اللاتينية، جاء فيها:
[لقد نفذنا كل ما ترغبه، لكن فلسطين في غالبيتها لا تحمل وصمة الهرطقة.
إننا نرغب لا في قمع الأوريجانيين وحدهم، بل وأيضًا اليهود والسامريين والوثنيين.
لا وجود للأوريجانية بيننا، فإننا لم نسمع هنا قط عن التعاليم التي تصفها لنا.
إننا نحرم المتمسكين بمثل هذه التعاليم، كما نحرم تعاليم أبوليناريوس، ولا نقبل قط أحدًا ممن تحرمهم أنت(20).]
كما بعث الأب ديوناسيوس أسقف اللدّ برسالة إلى البابا، يمدحه فيها على انتصاراته الواضحة على الأوريجانية، ويحثه على الاستمرار في الجهاد ضد الهرطقة. وقد قام جيروم أيضًا بترجمتها إلى اللاتينية(21).
أما القديس جيروم فقد أعجب بموقف البابا ثاوفيلس الحازم ضد الأوريجانية، فإنه منذ حوالي ست أعوام كان الصراع قد بلغ أشده ضد روفينوس ويوحنا أسقف أورشليم، حتى اضطر الأخير أن يلتجئ إلى البابا ثاوفيلس، الذي بدوره أرسل القس إسيذورس (المحب لكتابات أوريجينوس) فسجل تقريره للبابا في غير صالح جيروم (وأبيفانيوس).
أخذ جيروم يكتب إلى ثاوفيلس عدة رسائل يعاتبه فيها على تهاونه مع الأوريجانيين، ويحذره من خطورة التراخي معهم، لكن البابا لم يجب عليه، وأخيرًا أجابه عام 397م برسالة يهدئ فيها قلب جيروم، فكتب إليه جيروم يقول له:
[جيروم إلى البابا الكلي الطوبى ثاوفيلس.
تذكر قداستكم أنه في الوقت الذي صمت عن الكتابة لي، أنا لم أكف عن القيام بواجبي بالكتابة إليكم...
إن كانت لجاجة المرأة قد غيرت عزيمة القاضي الظالم، كم بالأكثر التجائي المستمر إليكم يلين قلبًا أبويًا مثلكم..؟
أبرار كثيرون لا يسرون من طول أناتك بخصوص هذه الهرطقة المفزعة، إذ تحسب نفسك قادرًا بلينك أن تصلح هؤلاء الذين يهاجمون أعضاء المسيح الحية. إنهم يؤمنون أنه في انتظارك توبة هذه القلَّة من الناس. تسند جسارة أناس مهجورين وتعطي جماعتهم قوة.
وداعا في المسيح(22).]
هذه الرسالة التي كتبت حوالي 397م قبل قيام مشكلة الإخوة الطوال بحوالي ثلاث سنوات تكشف لنا عن موقف البابا ثاوفيلس الخفي. يقول Moulard إنه كان شغوفًا بكتب أوريجينوس، هذا أمر لا يشك فيه، لكنه كبقية الآباء يعرف أخطاءه ولا يقبلها(23). كان يدرك بعض الأخطاء التي تسللت بين عشاق كتابات أوريجينوس، لكنه يؤمن أن كتاباته تحمل روحًا وفكرًا، يمكن للقارئ أن يتجاهل ما ورد بها من أخطاء عارضة. كان يؤمن بطولة الأناة في معالجة الخطأ. لقد عاد بعد عامين يكتب لجيروم (سنة 399م) مطالبًا إياه بالتصالح مع الأب يوحنا أسقف أورشليم (الأوريجاني)، فأجابه برسالة طويلة يظهر فيها شوقه للسلام وموضحًا مضايقات الأوريجانيين له(24).
على أي الأحوال، إذ سمع بأخبار "منطقة نتريا" ومضايقات البابا للأوريجانيين أرسل يهنئه على نجاحه في جهاده ضد الأوريجانية، محدثًا إياه عن الأعمال الصالحة التي قام بها رسولاه بريسكوس Priscus وإيبيلوس Eubulus. لقد طلب الصفح عن يوحنا أسقف أورشليم الذي قبل جماعة الأوريجانيين المحرومين دون أن يعرف قضيتهم وعن غير قصد.
[جيروم، إلى البابا الطوباوي ثاوفيلس.
تسلمت عن قريب رسائل من طوباويتك... وإني أكتب إليك سطورًا قليلة لأهنئك على نجاحك.
العالم كله يمجدك في انتصاراتك. جموع من كل الأمم تتطلع متهللة إلى الصليب الذي رفعته في الإسكندرية عاليًا، وإلى النُصب التذكارية المشرقة فوق الهرطقة.
لتحل البركات على شجاعتك! لتحل البركات على غيرتك!
لقد كشفت أن صمتك الطويل لم يكن انحرافًا بل حكمة. فإنني أحدث غبطتكم في صراحة تامة، أن صبرك الطويل قد عذبني، ولم أكن أعرف خطة القائد، فقد كنت أتوق إلى هلاك هؤلاء المهجورين. لكنني كما أرى الآن، لقد رفعت يدك عن الضرب لكي تضرب بأكثر عنفٍ.
أما من جهة الترحيب الذي قدمه لهم البعض، فليس لك أن تغضب على أسقف المدينة، إذ لم تعطِ أية تعليمات عن هذا الأمر في خطابك، فإنه كان يحسب متهورًا أن يأخذ قرارًا في قضية لا يعرف عنها شيئًا.
إني أظن أنه لا يود أن يضايقك في شيء، ولا يجرؤ على ذلك(25).]
فرح البابا ثاوفيلس برسالة القديس جيروم، فعاد يبشره بأخبار الكنيسة، التي أرسلها مع الأسقف أغاثون والشماس أثناسيوس، يعلن له طرد الأوريجانيين من أديرة نتريا، ويشجعه على إظهار غيرته على الإيمان.
[هلم من جانبك أشترك في هذه المكافأة بمقالاتك الكتابية (الإنجيلية)، مسرعًا إلى رد المخدوعين.
شوقنا هو أن نحفظ في أيامنا هذه -ما استطعنا- إيمان الكنيسة الجامعة وأحكامها، بل ونحفظ الشعب الذي تحت رعايتنا، ونبدد كل تعليم غريب!(26)]
لقد افتخر أنه حصد الأوريجانيين بمنجل النبي(27)، فأرسل إليه جيروم يقول:
[جيروم، إلى الكلي الطوبى البابا ثاوفيلس.
لقد أفرحتني رسالتك فرحًا مزدوجًا، فمن جهة فرحت بحامليها المكرمين والمعتبرين الأسقف أغاثون والشماس أثناسيوس، ومن جهة أخرى إنها تظهر غيرتك على الإيمان ضد أشر هرطقة.
صوت قداستكم يدوي في العالم، وفرح كل كنائس المسيح قد أبكم ايعازات الشيطان المسمومة.
لم تعد الحيّة القديمة تنفث، بل قطعت إربًا، واختبأت في خباياها المظلمة، غير قادرة على احتمال إشراقات الشمس!
لقد قمت ببعث رسائل إلى الغرب فعلًا قبل أن أخط لك هذه الرسالة، وأشرت فيها لأبناء لغتي (اللاتينية) بعض مراوغات الهراطقة.
لقد حسبتها عناية من الله أن تكتب إلى البابا أنسطاسيوس(28) في نفس الوقت الذي كتبت فيه إليَّ، فإنه مع عدم معرفتي بذلك، تصير رسالتك هذه شهادة لي.
الآن إذ طلب مني أن أفعل ذلك (أكتب مقالات ضدهم)، فإني سأكون أكثر غيرة من الآخرين حتى أرد النفوس البسيطة، القريبة والبعيدة، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. إن احتاج الأمر فإني لا أتردد حتى إن صبوا غضبهم عليَّ، فإنه ينبغي أن أُسرّ الله لا للناس(29)، وإن كان بالحقيقة لهم الكثير يدافعون به عن هرطقتهم أكثر مما لي في الهجوم عليهم.
أيضًا أرجوك أن ترسل لي قوانين المجمع الخاص بهذا الموضوع إن كانت لديك، حتى استند بسلطان أسقف عظيم مثلك، فاتحًا فمي للمسيح بأكثر قوة وثقة!
منذ يومين وصل الكاهن Vincent من روما، وهو في تواضع يسلم عليك. لقد أخبرني مرة أخرى أن روما بل غالبًا إيطاليا كلها قد أنقذتها رسائلك بعد المسيح.
لهذا فلتجاهد أيها البابا المحبوب جدًا، الكلي الطوبى، وإذا ما أتيحت لك فرصة أكتب إلى أساقفة الغرب بغير تردد لكي تقطع بمنجلٍ حادٍ كل زوان الشر.]
هذه صورة للمكاتبات التي كانت بين البابا وجيروم. تكشف لنا عن ظروف دفعت البابا بالأكثر نحو هجوم الأوريجانيين، فقد ظهر البابا كبطل يدافع ضد هرطقة يدعوها جيروم أشر هرطقة، الحيّة القديمة، زوان الشر! وقد بقيت هذه الصداقة بينهما ترويها كراهيتهما للأوريجانية، فحتى بعد صلح البابا مع الأوريجانيين سنة 403م بالقسطنطينية بقيت رسائله الفصيحة تندد بالأوريجانية، ويقوم جيروم بترجمتها باللاتينية ونشرها في الغرب(30).
أرسل البابا ثاوفيلس إلى القديس أبيفانيوس رسالة خاصة يحثه فيها على عقد مجمع بقبرص لإدانة الأوريجانية، ويرسل قراراته مع نسخة من رسالة ثاوفيلس المجمعية إلى القسطنطينية، حيث كان الأوريجانيون قد انطلقوا من أورشليم إلى القسطنطينية، يعرضون قضيتهم على القديس يوحنا الذهبي الفم.
وقد قام القديس جيروم بترجمة هذه الرسالة إلى اللاتينية، جاء فيها:
[ثاوفيلس، إلى السيد المحبوب جدًا، الأخ، والأسقف الشريك أبيفانيوس.
قال الرب لنبيِّه: "أنظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم... وتبني وتغرس" (إر 1: 10).
في كل عصر يمنح الله كنيسته ذات النعمة، لكي يحفظ جسده (أف 1: 23) كاملًا، لا يقوى عليه سم الأفكار الهرطوقية في أي موضع.
والآن ها نحن أيضًا نجد الكلمات تتحقق، لأن كنيسة المسيح التي "لا دنس فيها ولا غصن أو شيء من مثل ذلك" (أف 5: 27)، تقطع بسيف الإنجيل الحيات الأوريجانية الزاحفة من جحورها، وتنقذ جوقات رهبان نتريا المثمرين من وبائهم الميت.
لقد بعث إليك صورة مختصرة لتصرفاتي معهم في الرسالة العامة(31) التي وجهتها للجميع بغير تمييز.
ولما كنتم غبطتكم دائمي النضال في صراعات مثل التي أمامي، فإن واجبكم يُحتم عليكم اليوم أن تسندوا الأيدي العاملة في هذا الحقل، فتجمعوا أساقفة جزيرتكم (قبرص). جميعهم لهذا الهدف. كما يليق بكم أن تبعثوا رسالة مجمعية لي ولأسقف القسطنطينية وللأساقفة الآخرين الذين ترون أن ترسل لهم، لكي ما يدان أوريجينوس نفسه والهراطقة الشائنة التي أوجدها، لذلك بنضال جماعي.
لقد رقا إلى علمنا أن جماعة من المفترين ضد الإيمان الحق، يدعون أمونيوس ويوسابيوس وأفثيموس(32) مملوءين حماسًا زائدًا لحساب الهرطقة قد أبحروا إلى القسطنطينية لكي يلقوا بشباك خداعاتهم إلى جماعة من المهتدين حديثًا ما استطاعوا، وأن يتداولوا من جديد مع أصحاب قدامى في شرهم.
احرصوا على وضع الأمور بين يديّ الأساقفة في Isar وبمفيلية والإيبارشيات المجاورة.
علاوة على هذا، تستطيع أن تضم رسالتي (إلى قرار مجمعكم) إن رأيت ذلك، فتجمع الكل معًا بروحٍ واحدةٍ، وبقوة ربنا يسوع المسيح تسلم هؤلاء للشيطان لهلاك الشر الذي ملك عليهم (1 كو 5: 4-5).
ولكي تتأكد من سرعة وصول مراسلاتك إلى القسطنطينية ابعث رسولًا مجتهدًا، أحد الكهنة، يقدر أن يروي الأحداث.
أطلب إليك فوق الكل أن تقدم للرب صلوات حارة، حتى نستطيع أن ننتصر في هذا النضال، فإن قلوب الناس بالإسكندرية وفي كل بقاع مصر تفرح فرحًا ليس بقليل، من أجل استبعاد قلة من الناس عن الكنيسة، حتى يبقى جسدًا طاهرًا.
سلام للإخوة الذين معك.
الشعب الذي معنا يحبك في الرب(33).]
جمَع القديس أبيفانيوس مجمعًا في جزيرة قبرص، حيث اجتمع عدد كبير من الأساقفة، هاجم فيه القديس أعمال أوريجينوس(34). أرسل نسخة من قرارات المجمع إلى الأساقفة خاصة القديس يوحنا أسقف القسطنطينية، كما أرسل نسخة منها مع رسالة خاصة إلى القديس جيروم يطلب منه ترجمة القرارات إلى اللاتينية، ويبشره بنجاح المجمع، ويعتبر نفسه سعيدًا أن يقوم بهذا العمل المجيد في شيخوخته. لقد امتدح ثاوفيلس "الذي نكس لواء الأوريجانية من مذبح الإسكندرية"، وأنه ليجد "في شهادة هذا الأسقف العظيم تأييدًا لما لم يكف عن إعلانه(35)".
في بساطته الزائدة وغيرته سافر إلى القسطنطينية -وقد ناهز الخامسة والثمانين من عمره- ليفند الآراء الأوريجانية، ويقاوم "رهبان نتريا" الذين حملوا في رأيه الهرطقة الأوريجانية، ويقاومون البابا ثاوفيلس.
إذ كان البابا ثاوفيلس يلاحق الآباء الرهبان أينما حلوا، لم يجدوا لهم موضع راحة، فتركوا فلسطين، وخرجوا من بلدٍ إلى آخر، ويلتجئون من أسقفٍ إلى أسقفٍ، وأخيرًا اضطروا للسفر إلى القسطنطينية يلتقون بالبطريرك يوحنا الذهبي الفم في أوائل عام 402م.
مهما قال سقراط(36) فإن البطريرك لم يكن يجهل المشادة التي قامت بين الإخوة الطوال وثاوفيلس(37).
اتجه الآباء إلى دار الأسقفية حيث التقوا بالأب البطريرك الذي كان محبًا لرهبان مصر، يتغنى بالبرية في مصر كما بفردوس النعيم، ويتطلع إلى رهبانها أكثر بهاءً من كواكب السماء! لقد أحب المصريين، فقال عنهم إنهم يُغذون أجساد القسطنطينية بالقمح كما يغذون قلوبهم بالإيمان.
فتح قلبه للرهبان الذين كشفوا له عن جراحاتهم، يشكون له تصرفات البابا ثاوفيلس، طالبين إلا يخيب رجاءهم فيه، بل يضمد جراحهم، وإلاَّ اضطروا إلى الالتجاء للإمبراطور، الأمر الذي لا يليق بالكنيسة. توسلوا إليه أن يعمل على مصالحتهم مع البابا ويتدخل في إرجاعهم إلى مصر(38). وإذ كان البطريرك واثقًا أنه قادر على تهدئة غضب البابا عليهم أراح قلبهم وفتح لهم داره. والتف الكل حولهم يسمعون لهم ويتعزون بكلماتهم، وكانت الشماسات والأرامل والعذارى التقيات يقمن بخدمتهم، الأمر الذي جلب عليهم تعييرات البابا ثاوفيلس(39).
أرسل القديس يوحنا إلى بابا الإسكندرية يخبره بالأمر، طالبًا الصفح عنهم، مدافعًا عنهم وعن العلامة أوريجينوس، كما أرسل يخبره أن الرهبان قدموا شكوى ضده بالرغم من محاولته معهم على تهدئة خواطرهم، وأنه في موقف حرج لا يعرف كيف يتصرف(40).
ومن المؤلم أثارت رسالته غضب ثاوفيلس بدلًا من رضاه، وخاصة وأنه عرف أن البطريرك قد سمح لهم بالشركة في العبادة العامة، مع أن القديس يوحنا لم يسمح لهم بالشركة في الأسرار المقدسة حتى يأتي رد البابا. فأرسل إليه رسالة مملوءة جفاء وتعنيفًا. اتهمه بتحريض الرهبان للتمرد عليه، كما أعطاه درسًا لا يستحقه، بقوله: أنت تعلم بلا شك قوانين نيقية التي تحرم على الأساقفة أن ينظروا الدعاوي الخارجة عن حدود إيبارشياتهم. إن كنت تجهل ذلك، فاِعلمه الآن وامتنع عن استلام شكوى مكتوبة ضدي، وإن كان يجب أن أُحاكم، تكون محاكمتي أمام المصريين، ولا أن أحاكم أمامك، أنت الذي يفصلنا عنك طريق يستغرق خمسة وسبعين يومًا(41).
لقد تأثر البطريرك جدًا، لعله أشار لذلك في تفسيره للرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي، عندما تحدث عن يوسف كعبد في بيت فوطيفار المصري، إذ قال: [كان يقدم حساباته لمصري. وأنتم تعرفون أن هذا الجنس مندفع، يثأر لنفسه. إذا ما نال سلطة لا يمكن وقف غضبه(42).]
تعرف الرهبان على البلاط الملكي -غالبًا عن طريق القديس يوحنا الذي أحس بفشله في تهدئة ثاوفيلس- وقد أُعجب الكل بالآباء الرهبان خاصة الأب آمون، الذي قدم شكواه إلى الإمبراطورة. لقد قالت له "باركني. صلِ من أجل الإمبراطور ومن أجلي ومن أجل أولادي، ومن أجل الإمبراطورية. إني أجاهد بعقد مجمع لمحاكمة ثاوفيلس(43)". وألقى القبض على مبعوثي ثاوفيلس حيث أُلقوا في السجن.
صدر الأمر الإمبراطوري بدعوة البابا ثاوفيلس للحضور إلى القسطنطينية ليحاكم أمام مجمع كنسي يرأسه القديس يوحنا، الأمر الذي أثار نفس ثاوفيلس معتبرًا القديس يوحنا محرضًا للرهبان ضده أمام الإمبراطور.
أرسل ثاوفيلس إلى القديس أبيفانيوس يعجله بالسفر إلى القسطنطينية يهيئ له الجو قبل وصوله، وفعلًا قام القديس رغم شيخوخته إلى القسطنطينية.
استغل ثاوفيلس هذا القديس الذي تشهد كل الكنائس الرسولية بقداسته. بالرغم من شيخوخته لا يطيق أن يسمع عن هرطقة أو بدعة، قديمة أو حديثة. وقد رأينا كيف انضم إلى القديس جيروم يحاربان القديس يوحنا الأورشليمي وروفينوس من أجل كتابات أوريجينوس.
لقد اِعتبر أبيفانيوس أوريجينوس هرطوقيًا وحسب "الأوريجانية" هرطقة.
على أي الأحوال، لا نستطيع أن ننكر في أبيفانيوس حسن نيته وغيرته، خاصة وقد ناهز الخامسة والثمانين من عمره، فحسبه شرفًا عظيمًا أن يتحمل المشاق ليخمد -في نظره- البدعة الأوريجانية ويقف جنبًا إلى جنب مع ثاوفيلس الذي يمثل في عينيه بطلًا يحارب من أجل استقامة الإيمان.
لقد جاء في بدء عام 403م متحاملًا على القديس يوحنا الذهبي الفم، لا لخلافات شخصية ولا لمطامع، لكنه في نظره "إنسانًا يحمي بدعة".
جاء القديس ليجد الموازين قد تغيرت في القسطنطينية، فقد انقلبت الإمبراطورة على القديس ولم تعد تطيقه. إذ بدأت الخصومة بينهما في صيف 402م.
يذكر لنا المؤرخ سقراط(44) بعض أعمال استفزازية قام بها القديس أبيفانيوس، فقد نزل بجوار كنيسة القديس يوحنا المعمدان(45)، فأرسل إليه القديس كهنته لينزل دار الأسقفية، أجابه أنه لن يقيم لديه ولا يصلي معه حتى يطرد ديسقورس وإخوته عن المدينة، ويوقع بيده على إدانة كتب أوريجينوس، فأرسل إليه يوحنا أنه لا يقدر أن يتصرف هكذا في غير تروِّ قبل عقد مجمع عام، لذلك نزل الأب أبيفانيوس في فندق.
جمع الأب الأساقفة الذين كانوا في العاصمة، وكان معروفًا بتقواه وهيبته، وقرأ عليهم قرارات المجمع التي تدين لأعمال أوريجينوس وطلب منهم التوقيع، فوقع البعض، وآخرون وقعوا خجلًا منه، لكن كثيرين رفضوا التوقيع منهم الأب ثيؤتيموس Theotimus of Scythia الذي قال: ["لا أقدر أن أسب إنسانًا أنهى حياته الورعة منذ وقت طويل يا أبيفانيوس، ولا أتجاسر أن اَرتكب كفرًا كهذا، أن أدين ما لم يدنه أسلافنا خاصة وأنا أعلم أنه ليس في كتب أوريجينوس تعاليم شريرة(46).] وتلا الأسقف ثيؤتيموس فقرات من كتب العلامة أوريجينوس ليكشف إنها تتفق مع تعليم الكنيسة وعقيدتها.
قيل أيضًا أنه تعمد رسامة شماس في كنيسة تتبع الأسقف يوحنا دون أن يستأذنه.
أخيرًا حرضه أعداء يوحنا أن يذهب إلى كنيسة الرسل حيث أعلن أمام الشعب حرمه لكتابات أوريجينوس وحرمه لديسقورس وإخوته، كما اِتهم القديس يوحنا بتشجيعه لهم. سمع البطريرك بذلك، فأرسل في اليوم التالي إليه رسولًا عند دخوله الكنيسة يقول له: "صنعت أمورًا كثيرة تخالف القوانين يا أبيفانيوس. أولًا قمت برسامة في كنائس خاضعة لي. بعد هذا -بغير استئذاني- أعطيت لنفسك سلطانًا للخدمة فيها. أضف إلى هذا إني دعوتك فرفضت الحضور، وها أنت تعطي نفسك هذه الحرية. اِحذر لئلاَّ تحدث ضدك ضجة بين الشعب، ويصيبك منهم ضرر".
إذ سمع الأسقف أبيفانيوس هذا التحذير ترك القسطنطينية ليعود إلى جزيرته. وقد روى سقراط قصة محزنة -هو نفسه لا يعلم مدى صحتها- لكنها إن دلت على شيء فإنما تدل على ضعفنا البشري، الذي قد يسقط فيه أي إنسان! قال سقراط أن الأسقف أبيفانيوس تضايقت نفسه من تحذير الأسقف يوحنا، وفي مرارة قلب قال له: [إنك لن تموت وأنت على كرسي أسقفيتك.] فأجابه الأسقف يوحنا في ضيقة نفسه أيضًا: [وأنت لا تظن أنك ترى وطنك.] يعلق سقراط بأنه مع عدم تحققه من صدق الرواية، فإن النبوتين قد تحققتا، إذ نُفي يوحنا بعد عزله من الأسقفية، كما لم يصل الأسقف أبيفانيوس وطنه بل مات في الطريق وهو على المركب.
ما أن اِنطلق الأسقف من القسطنطينية حتى سمع الأب البطريرك أن أفدوكسيا لعبت دورًا خفيًا في ثورة الأسقف أبيفانيوس ضده، فوقف على المنبر يتحدث عن الرذائل التي تسببها النساء. لقد أدرك العامة أن الحديث موجه كله ضد الإمبراطورة، فخرجوا يتحدثون عنها، وقام بعض الوشاة بتبليغ الأمر، وهى بدورها شكت لزوجها بأن كل ما يمسها، إنما يمسه هو أيضًا(47)، فانقلب ميزان القضية. لقد وجدت في حضور ثاوفيلس لمحاكمته الفرصة ليكون المتهم حاكمًا والقاضي متهمًا. إنها فرصة لا تجد مثلها فقد كان ثاوفيلس في الطريق -حين سمع بهذا النبأ- وكان قلبه ملتهبًا مرارة تجاه البطريرك يوحنا.
يخبرنا المؤرخ بالاديوس أن ثاوفيلس كان في الطريق حين بلغه نبأ طلبه لإقالة يوحنا كأمر أفدوكسيا(48) وزوجها.
_____
الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(1) R. Moulard: Saint Jean Chrysostome, p 317.
(2) H. Chadwick: The Early Church, ch. 13.
(3) Lossky: The Vision of God, ch 6.
(4) دعوا كذلك من أجل طول قامتهم Soc 6: 7. أما أسماؤهم فهي: ديسقورس أسقف هرموبوليس، ويوسابيوي، وأفثيموس، وأمونيوس (آمون) الذي دعي باروتيس أي صاحب الأذن الواحدة. وذلك أنه طلب للأسقفية فبتر أذنه اليسرى للهروب منها، وإذ قبل البابا ثيموثاوس رسامته من اجل عظم فضيلته هدده بقطع لسانه، فاضطروا إلى تركه.
(5) (مز 99: 5، 101: 6، 7 ، مز 119: 73).
(7) فصل 2.
(8) Soc 6: 7, Soz. 8: 11.
(9) يشهد بذلك كتاب بستان الرهبان... فربما كان أكثر الآباء البطاركة حبًا للتردد على الأديرة للاستجمام الروحي ونوال بركة النساك وطلب صلواتهم والاسترشاد بهم.
(10) إيريس حبيب المصري: قصة الكنيسة القبطية ج1، بند 461.
(11) Soz. 8: 12,
(12) Moulard, Saint Jean Chrysostome, ch 16.
(13) Moulard, ch 16.
(14) Soz. 8: 13.
(15) Eulogius, John, Zebianus, Auxentius, Dionysius, Gennadius, Zeno, Theodosius, Dicterius, porphyry, Saturninus, Alan, Paul, Ammonius, Hilanus, Eusebius, the other Paul and to all the Catholic bishops gathered together at the dedication festival of Aelid.
(16) Epiphanius, Marcianus, Agrapetus, Boethius, Helpidius, Entasius, Norbanus, Meccedonius, Aristo, zeno, Asiaticus, Heraclidus, the other Zeno, Cyriacus and Aphroditus.
(17) قام القديس جيروم بترجمته إلى اللاتينية (رسالة رقم 92).
(18) الأب آمون بتر أذنه اليسرى.
(19) راجع موضوع حرق معبد السيرابيوم في كتاب: إيريس المصري: قصة الكنيسة القبطية ج1.
(20) Jerome: EP. 93.
(21) Ibid. EP: 94.
(22) Jerome, EP. 63
(23) Moulard, ch 16.
(24) Jerome, p. 82.
(25) EP 86.
(26) Jerome: EP 87.
(27) (يوئيل 3: 13).
(28) أسقف روما 398-402.
(29) (أع 5: 29).
(30) راجع رسائل جيروم: رسالة 98 (الرسالة الفصيحة لعام 402 تعالج الاوريجتنية والأبولينارية)، رسالة 100 (الرسالة الفصيحة لعام 404 تذم أخطاء أوريجين)، رسالة 109 (يعتذر لتأخيره في ترجمة الرسالة الفصيحة لعام 405، يرسل الترجمة التي قام بها رغم شدة مرضه ووجود اضطربات من هجوم الاشوريين).
(31) راجع جيروم: رسالة رقم 92.
(32) الأخوة الطوال ما عدا الأسقف.
(33) Jerome: EP. 90.
(34) Soc. 6: 10.
(35) Jerome: EP. 91.
(36) PG 67: 688.
(37) Moulard. P 324.
(38) Palladius, PG 47: 24, 25.
(39) Ibid 25, 26.
(40) Ibid 25.
(41) Ibid 25.
(42) PG 62: 472.
(43) Pallad PG 47: 26, Soz. H.E.
(44) soc 6: 1214.
(45) على بعد 7 أميال من القسطنطينية (سقراط 6: 17).
(46) Soc 6: 12.
(47) Soc: 6: 15. Soz. 8. 16. Theod. 5: 34. pallaadius 3: 8-10.
(48) Palladius PG 47: 26.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/chrysostom/tall.html
تقصير الرابط:
tak.la/3yyb5xq