St-Takla.org  >   bible  >   commentary  >   ar  >   nt  >   f-b-meyer  >   peter1
 
St-Takla.org  >   bible  >   commentary  >   ar  >   nt  >   f-b-meyer  >   peter1

شرح الكتاب المقدس - العهد الجديد - ف. ب. ماير (تعريب القمص مرقس داود)

بطرس الأولى 1 - تفسير رسالة بطرس الأولى

 

* تأملات في كتاب رسالة بطرس الرسول الأولى:
تفسير رسالة بطرس الأولى: مقدمة رسالة بطرس الأولى | بطرس الأولى 1 | بطرس الأولى 2 | بطرس الأولى 3 | بطرس الأولى 4 | بطرس الأولى 5

نص رسالة بطرس الأولى: بطرس الأولى 1 | بطرس الأولى 2 | بطرس الأولى 3 | بطرس الأولى 4 | بطرس الأولى 5 | بطرس الأولى كامل

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح

← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

1: الافتتاحية

«بطرس رسول يسوع المسيح إلى المتغربين من شتات بنتس وغلاطية وكبادوكية وآسيا وبيثينية المختارين، بمقتضی علم الله الآب السابق في تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح. لتكثر لكم النعمة والسلام» (1 بط 1:1-2).

 

كانت هذه الرسالة وليدة دموع كثيرة وأحزان متراكمة. والأرجح أنها كتبت حوالي 65 م، حيث كان أتباع يسوع الناصري يقابلون بكراهية شديدة،وكان«بیت الله» يجتاز عاصفة عنيفة من الآلام والاضطهاد (1 بط 4: 17).

كان التلاميذ قد بدأوا فعلًا يتعلمون بالاختبار المرير أن يقتفوا خطوات سيدهم في طريق الصليب، لكی يصلوا إلى نور صباح القيامة، وبدأوا يتعلمون بأن لا يتوقعوا معاملة أفضل مما لقي معلمهم. لقد كانوا في حاجة إلى تعزية، وحث على الصبر، وعلى الاحتمال بشجاعة، وهذه أمدهم بها روح الله القدوس عن طريق هذه الرسالة.

يندر أن يوجد في الكتاب المقدس جزء يقرأه المتألمون والمجربون بشغف كما يقرأون هذه الرسالة. لقد قرأها بلذة وتأمل فيها بعمق الذين تشتتوا في بلاد سحيقة وحرموا من كل عطف بشري، والمسافرون والمتغربون، والمؤمنون المضطهدون والمتألمون، المطاردون في المغاير وشقوق الأرض، والذين أعاقتهم أمراضهم وتقدمهم في السن عن الذهاب إلى الكنيسة.

إن من يدرس حياة الرسول بطرس الأولى قد يرى أنه يكاد يكون مستحيلا أن ذلك الشخص المندفع، الخشن الطبع، السريع الحركة، قد اختير ليكتب هذه الكلمات التي تعتبر من أرق ما وقع على آذان المؤمنين المتألمين المضطهدين، وما أكثرها باعثا على التعزية. لكن هذا ما حدث. ونحن ليس لنا إلا أن نستنتج بأن ذلك الشخص العنيف لا بُد أن يكون قد تألم قبل أن تلين طبيعته وترق، وقبل أن يتضع، لكی يؤهل لكتابة أرق كلمات التعزية الإلهية. كان رسول يسوع المسيح هذا وقت كتابة هذه الرسالة يختلف كثيرًا عن صياد السمك الذي ينطق ذاته في أعمال حياته الأولى، وعن التلميذ الذي ترك كل شيء ليتبع السيد بغيرة شديدة وحماس قوی. لقد أصقلته المحن والتجارب، وعلمته السنون الطويلة الكثير من الدروس. علمته كيف ينبذ حياة الاعتماد على ذاته ويتعلق بمن هو أقوى منه، أن ينبذ حكمته الخائرة ليتحلى بحكمة أفضل. لقد هذيته الآلام والأحزان، وخلصته من حدة الطبع ومن صفاته الأخرى المعطلة. ويمكن القول أنه قد تجددت حياته أخيرًا لكي يصلح بأن يشدد إخوته (لو 22: 32).

نحن الآن نعجز عن أن ندرك تاريخ حياته في الفترة بين كتابة هذه الرسالة وبين اللحظة التي رأيناه فيها يخرج من السجن في أورشلیم (أع 12: 19)، أو اللحظة التي أثار فيها غضب بولس الرسول في أنطاكية (غل 2: 11). لم يدون لنا الكتاب المقدس أي شيء عن كيف قضى تلك السنوات. ومع ذلك فنظرا لأنه تحدث بدالة قوية مع المتغربين في شتات آسيا الصغرى، الذين ربما يكون الكثيرون منهم قد تأثروا بكلماته التي سمعوها منه يوم الخمسين (قارن الآية الأولى من هذه الرسالة بما ورد في (أع 2: 9)، فيحق لنا أن نستنتج بأنه تجول مع زوجته (1 كو 9: 5) بعض الوقت في تلك الأقاليم، وقضى وقتا أطول في المدينة الجديدة التي أقيمت مكان بابل القديمة (1 بط 5: 13).

كُتبت هذه الرسالة هناك. ولعل الترتيب الذي روعي في ذكر البلاد المدونة أسماؤها هنا يتفق مع وضعها الجغرافي وقتئذ.

 

1- لمن كُتِبَت الرسالة

«إلى المتغربين في الشتات». تبين هذه الكلمات بوضوح أن المقصود بهؤلاء المتغربين هم اليهود. في الوقت الذي كانت فيه الأقاليم التي سوف تحتلها روما فيما بعد تتناثر فيها بعض الأكواخ الحقيرة، كان ملك أشور منشغلا في سبي مملكة إسرائيل (2 مل 17: 6 إلخ). ظل هؤلاء في الأسر جيلًا ونصف قبل أن تُسْبَى مملكة يهوذا إلى بابل. والأرجح جدًا أن أسرى مملكة إسرائيل لم يتمتعوا بالأمر الذي أصدره كورش لإعادة مسبیی بابل إلى بلادهم. بل استمروا في البلاد التي استوطنوها، وارتحل الكثيرون إلى نواح متعددة. وعند كتابة أسفار العهد الجديد، وجد الكثيرون منهم في المدن الرئيسية في العالم.

St-Takla.org Image: Peter's First Epistle: Peter dictates his first epistle to his amanuensis, as an image representing Christ’s redemptive suffering and the Christian’s duty to follow in that suffering appears above - from the book: The Holy Apostles Story and Epistles (Der Heyligen Apostel Geschichte und Episteln), by Johann Christoph Weigel, 1695. صورة في موقع الأنبا تكلا: رسالة بطرس الرسول الأولى، ويظهر الرسول وهو يملي رسالته على الكاتب، ومشهد السيد المسيح المخلص على الصليب، وشخص يحمل صليبه في معاناة تابعًا المسيح - من كتاب: قصة الآباء الرسل والرسائل، يوهان كريستوف فيجيل، 1965 م.

St-Takla.org Image: Peter's First Epistle: Peter dictates his first epistle to his amanuensis, as an image representing Christ’s redemptive suffering and the Christian’s duty to follow in that suffering appears above - from the book: The Holy Apostles Story and Epistles (Der Heyligen Apostel Geschichte und Episteln), by Johann Christoph Weigel, 1695.

صورة في موقع الأنبا تكلا: رسالة بطرس الرسول الأولى، ويظهر الرسول وهو يملي رسالته على الكاتب، ومشهد السيد المسيح المخلص على الصليب، وشخص يحمل صليبه في معاناة تابعًا المسيح - من كتاب: قصة الآباء الرسل والرسائل، يوهان كريستوف فيجيل، 1965 م.

هؤلاء هم «المتغربون في الشتات،. كانت ديانتهم، وملابسهم، وسحنتهم، وطقوسهم الدينية، تميزهم كلية عن الشعوب المحيطين بهم، وتثبت أنهم مواطنوا المدينة المقدسة، وأنهم ينتمون إلى ذلك الشعب الذي يحملون اسمه.

اعتنق الكثيرون منهم المسيحية، ليس فقط بسبب المؤثرات التي تأثروا بها عند زيارتهم لأورشلیم، مدينتهم العظيمة ومدينة أجدادهم، التي سرعان ما تأثر جوها بالأراء المسيحية، بل أيضًا بسبب كرازة الرسول بولس، الذي اعتاد دائمًا توجيه جهوده الأولى إلى شعبه، والذي اقترن اسمه دائمًا بالكنائس التي ليست لهم مدينة باقية، بل يطلبون العتيدة.

ولكن يجب ألا تحصر معنى هذه الكلمات في اليهود الذين اعتنقوا المسيحية. فهناك عبارات تعطي معنى أوسع، فمثلا وردت عبارة «شهواتكم السابقة، التي وجهها لمن كتب إليهم (1بط 14:1) وعبارة «الذين قبلًا لم تكونوا شعبًا» (1 بط 2: 10).

وعلاوة على هذا فإن كلمة «غرباء» استخدمت معنی روحی (1بط 2: 11)، ولذلك فهي تنطبق بالتساوي على كل من يخرجون إلى المسيح خارج المحلة، حاملين عاره، الذين يعترفون بأنهم ليست لهم مدينة باقية، بل يطلبون العتيدة.

هل تستطيع القول أننا نحمل روح الغربة؟ نحن نعرف مقدار ما يعنيه تحولنا من إغراءات مدينة غريبة، مكتظة بفنونها، وكنائسها، ومباهجها، وعماراتها الفخمة، وشوارعها الجميلة، والاتجاه إلى وطننا الريفي المتواضع جدًا. قد لا نبقى طويلًا في المدينة، لأننا، لا بُد أن نعود إلى الوطن. وحتى إذا بقينا طويلًا ففكرة العودة إلى الوطن لا تبرح مخيلتنا. إن الذين يحصرون كل لذتهم في وطنهم، مهما كان متواضعا، ويفضلونه على كل مكان آخر في العالم، لا يجدون أية لذة في مباهج الحياة العابرة.

آه، ليت شعب الله يزدادون تعلقا بالسكين في الخيمة، كما كان يفعل إبراهيم أبو المؤمنين. وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا ثبتوا أنظارهم في «المدينة التي لها الأساسات». عندما يعتقد الناس بأن هذه المدينة هي مجرد أوهام، فإنهم يبدأون بأن يؤسسوا لأنفسهم المباني الدائمة، ویكنزون الثروات الطائلة. أما إذا اقتنعوا بوجودها، وتطلعوا إليها عن بعد، بالإيمان الذي يتحدى كل معطلات الزمان، وحيوها بشغف، فإنهم يسكنون في خيام، ويعترفون بأنهم غرباء ونزلاء

يقال أن الجندي السويسري عندما يكون في أرض غريبة ويسمع الصوت الريفي البسيط الذي يدعو الماشية من مراعيها، يمتلئ حنينا إلى وطنه بين الجبال. ليت الكثيرين مِمَّن يقرأون هذه الكلمات يتممون هذا الاختبار روحیا. ليتهم، ونحن نتحدث عن الميراث، يرتدون ثوب الغربة، ويتجهون نحو أورشليم الجديدة التي لم يطأها متطفل، ولا دنستها الخطية.

 

2- أوصافهم الروحية

«إنهم مشتتون في بلاد مختلفة، لكنهم مختارون من الله. إنهم متغربون، أي غرباء عن الناس الذين يعيشون بينهم، لكنهم معروفون من الله في عمله السابق. إنهم مبعدون عن وطنهم، لكنهم ورثة وطن أفضل».

«المختارين»،. لقد اختارنا الله في المسيح قبل تأسيس العالم (أف 1: 4). لا يوجد هنالك اختيار بعيدًا عن المسيح. هو متحد مع الآب قبل الأزمنة الأزلية، ونحن متحدون به. وكل الذين أعطاهم الآب للمسيح يقبلون إليه (يو 6: 37). فإن كنا قد أقبلنا إلى المسيح وانجذبنا إليه، كانجذاب برادة الحديد إلى المغنطيس، فيمكننا أن نطمئن قلوبنا، ونتجاسر على المطالبة بالبركات التي يمنحها لكل تابعيه.

ثم لاحظوا لأي شيء نحن مختارين. نحن مختارون «للطاعة» إن اختيارنا لم يتم لكي تنجو فقط من قصاص الخطية، أو لكي ننتقل إلى منطقة لا تعصف عليها العواصف، ولا نجرب فيها بالخطية. كلا، بل لقد تم اختيارنا لكی تطبع، ونتألم، فنزداد قوة عن طريق الآلام، لكي نغيث الآخرين بالدم والدموع. لقد تم اختيارنا لنزداد اقترابا من المسيح والتمثل به.

والاختيار لا يتفق مع محبة الذات. إن الذين يوهمون أنفسهم بأنهم على الأقل لا عيب فيهم، ولذلك فلا شأن لهم بالعالم، قد يكونون مخدوعين جدًا، أو العلهم لم يروا سوى صورة باهتة جدًا مما يعنيه الله بدعوته العليا وبالاختيار. فإن اختيارنا يتم لكي نطيع، وتخدم، ونتعلم، ونتألم، ونموت كل يوم - لكی ينال الآخرون البركة والخلاص. إن النجوم المختارة تضيء ظلمة الليل. والأمم المختارة تقود العالم إلى مراقي التقدم والنجاح. والأشخاص المختارون، أمثال أشعيا وأرميا وبولس الرسول، يصيرون آنية يوصل بهم الله نعمته للعالم الذي يعيشون فيه، الأمر الذي يكلفهم الكثير من التضحيات.

«بمقتضی علم الله الآب السابق». لقد عرف منذ الأزل من هم الذين يقبلون الرحمة. هل يمكننا القول أنه سبق فعرف العلاقة بين المسيح وبين الذين يتصلون به بالإيمان؟ وكل هؤلاء الذين سبق نعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه» (رو 8: 29). والذين نالوا الخلاص بالإيمان بالرب يسوع يجدون هنا مصدرا للتعزية غير محدود، إذ يدركون أن هنالك قصدا إلهيا يقودنا نحو الكمال، ونحو الطاعة التي تماثل طاعة المسيح (رو 8: 29).

«في تقديس الروح»،. إن اختيار الأب لأولاده منذ الأزل يتم بعمل الروح القدس فيهم بمرور الزمن. واختيار الآب يظهر كتقديس في عمل الروح القدس. التقديس معناه الفرز. والكلمة تعني فرز الشيء أو الشخص عن الاستعمال العادي وتكريسه لخدمة الله. والقديس هو الشخص الذي فرز نفسه عن الشر بعملية التقديس التي تستمر طيلة حياته، وهو الشخص الذي يهدف نحو الهدف الواحد أن يكون بجملته اليسوع. ونحن لا نقدر أن نتمم هذا بدون الروح القدس. منه نستمد أول اقتناع بأننا مخطئون، وبه ندرك الضعفات أو الثقل أو الشرور التي ينبغي أن نتحرر منها. ومنه أيضًا تأتي النعمة التي بها نتحرر. ومنه يأتي الامتلاء بمحبة الله وبالحياة الإلهية، الأمر الذي يتصل اتصالا وثيقا بكل عملية للتقديس. وهكذا تنشأ أخيرًا الطاعة التي ترضي الله، والتي تتم بتقديس الروح.

سلم ذاتك للروح القدس، تحقق من أنه حال فيك، تم ما يأمر به، وتجنب كل ما ينهى عنه الصوت الهادئ الخفيف. وكل عملية للتقديس لمشيئته لا بُد أن تؤدي إلى المزيد من النور والمحبة والقوة، هذه التي تتم بالقداسة، ومن كل هذه تبزغ حياة الطاعة الجميلة، التي هي الزهرة الكاملة النابعة من الاختيار. الاختيار هو الجذر، ونعمة الروح القدس هي الجو، والطاعة هي الزهرة.

«ورش دم يسوع المسيح»،. هنا نجد الثالوث المقدس: الآب والابن والروح القدس. الجميع ينشغلون في انتشالنا من عبودية الفساد إلى الحياة التي فيها نحب عمل الخير بقدر ما نحب الآن عمل الشر.

وقد لاق جدًا ذكر الدم هنا بعد التحدث عن الطاعة، كأن الروح القدس أراد أن يذكرنا بأن أفضل طاعة لا يمكن أن تخلصنا بدون الدم الثمين، وأن أفضل أعمالنا في حاجة إلى أن ترش بالدم. «ما لم ترش دموع أعمق توبة بهذا الدم فهي غير طاهرة. كل اغتسال بدون هذا باطل» (أر 2: 22؛ أي 9: 30-31).

 

3- التحية

«لتكثر لكم النعمة والسلام». هنا يمزج الرسول معًا التحيتين الشرقية والغربية. فاليونانيون كانوا يستخدمون «النعمة» في تحيتهم، والعبرانيون كانوا يستخدمون «السلام». وهذه التحية تتضمن كل ما نتمناه.

"النعمة" هي محبة الله التي لا نستحقها، التي تنازلت لكي تخلص وتبارك. هي مصدر كل الهبات اللامعة المقدسة التي تأتينا من قلبه المحب. كما تنقسم شعاعة النور الواحدة إلى عدة ألوان، هكذا تتفرع من نعمة الله هبات متعددة لا يقدر ثمنها: «نعمة فوق نعمة».

"السلام" يأتي في أثر النعمة. هنالك أولًا سلام مع الله، ثم يأتي سلام الله. حالما نكف عن تمردتا يرحب بنا الله في أحضانه الأبوية، ولا يكون هنالك أي أثر للخلاف أو النزاع. وعندئذ يمتلئ القلب بسلام الله الكامل الذي يحفظ قلوبنا وأفكارنا.

هذا هو میراث عبید الرب. ولا يمكن أن توجد هنالك أمنية أسمَى من أن تكون فيهم هذه النعمة وهذا السلام، وأن يزدادا ويتكاثرا. «لتكثر لكم النعمة والسلام».

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

2: الميراث

«مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات. الميراث لا يفنی ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ في السماوات لأجلكم» (1 بط 1: 3-4).

 

إن الطفل الراقد في مهده لا يدرك شيئًا مطلقًا عن الميراث الذي ينتظره. فبيت الأجداد، والأملاك الشاسعة، والمراكز الرفيعة - هذه كلها تنتظره. لكن يجب أن تمر السنوات الطويلة لكي يدركها حقًا، أو يقدر قيمتها. وما أقل ما يدركه أقدس القديسين عن الميراث الذي ينتظرنا حالما نصبح أبناء الله بالإيمان بيسوع المسيح.

انظر كيف أن هذا الرسول الغيور، وهو متحمس لكي يجد كلمات يعبر بها عن سمو هذا الميراث، اضطر أن يكتفي بالتحدث عن الوجه السلبي. لقد وجد أنه من الأيسر أن يذكر ما لا يعنيه الميراث عن أن يتحدث عن عناصر مجده. وجد أنه من الأيسر أن يعدد كل مساویء هذه الحياة الفانية، ويقول أنها بعيدة عن هذا الميراث، عن أن يعدد كل البركات التي تنتظر القديسين إذ يدخلون ما وراء الحجاب، واحدًا بعد الآخر، ويجدون أنفسهم في المجد.

لكن لدى التحدث مع الأشرار يجب عدم الاكتفاء بذكر الويلات التي تنتظرهم،

بل يجب الإشارة بشدة إلى الأمجاد التي يفوتونها على أنفسهم إن لم يرجعوا إلى أنفسهم ويتوبوا. آه، ليتنا نعرف كيف نتحدث بلغة مشوقة عن يقينية وسعادة الحياة العتيدة التي نحن ذاهبون إليها، فإننا بذلك نقنع الكثيرين من ساكني مدينة الهلاك لكي يرافقونا في رحلتنا إلى أورشليم السماوية. لكن كيف نتحدث بقوة واقتناع عن أمور لا نعرف عنها إلا القليل؟

 

طبيعة ميراثنا

يمكن وصف طبيعته بأوصاف كثيرة:

«الخلاص»، في مله وكماله، الذي لم تختبر إلا القليل منه، لكن أمجاده الخفية ستعلن في الصيف القريب (ع هو1، مر 13: 28).

 «مدينة الله»، التي إذ رأى البطاركة الأولون أسوارها وقبابها تعلو فوق ضباب الزمن، جذبتهم إليها، وجعلتهم يقتنعون بالسكن في خيام هزيلة.

 «السماء»، بأنوارها المتلألئة، وسكانها القديسين.

 «المجد»، كما سوف نراه في وجه عمانوئيلنا، والذي سوف يغمر أرواحنا السعيده.

لكن هناك منظر أعمق وأكمل من كل هذه، منظر يشملها كلها، كما يشمل المحيط البحار، والخلجان، والبوغازات، هذه التي وإن كانت لها أسماء مستقلة، فإنها تعتبر أجزاء من المحيط الفسيح الشامل للكل. في شريعة الكهنوت اليهودي وقال الرب لهارون "لا تنال نصيبًا في أرضهم، ولا يكون لك قسم في وسطهم. أنا قسمك ونصيبك في وسط بني إسرائيل" (عد 18: 20). كان هذا ترتيبا جميلا جدًا مشجعا لذلك الكاهن التقى. كان يمكنه أن يستغني عن أشجار الزيتون والكروم وحقول الحنطة المتوفرة في فلسطين طالما كان الله هو قوته ونصيبه إلى الأبد. لقد أدرك المرنم هذه الحقيقة، وارتضى أن يتنازل بكل سرور عن كل نصيب في هذه الحياة إذا ما شبع بالله (مز 17: 15). وقال أيضًا في موضع آخر: «الرب نصیب قسمتی وكأسي. أنت قابض قرعتی. حبال وقعت لي في النعماء. فالميراث حسن عندي» (مز 16: 5-6).

میراثنا هو الله نفسه. ليس هو القيثارات الذهبية، ولا البحر الزجاجي المختلط بالنار (رو 10:2). وليس هو الراحة من التعب، ولا الحصانة ضد الحزن. وليس هو رفقة القديسين في السماء. إن أتيح لنا التمتع بكل هذه بعيدًا عن الله لا تجد النفس شبعها. فهذه كلها إنما هي مظاهر لشيء أعمق، هو أن نمتلك الله. «ورثة الله، أي ورثة كل أمجاد الطبيعة الإلهية. لقد عبر الرسول عن هذه الحقيقة حرفيا عندما قال«من لي في السماء(2).ومعك لا أريد شيئًا في الأرض» (مز73: 25)،

«هذا هو میراث عبید الرب" (أش 54: 17) أن نعرفه، أن نتبين شخصه، أن نعيش في ملئه، أن نكتشف طرقا جديدة، وقارات جديدة في «الأرض المجهولة، أي في لاهوته، أن ترى مجده، أن نتغير إلى صورته.

ومیراثنا يبدأ هنا. حالما نولد ثانية ونصبح ضمن شعبه تصبح لنا كل طبيعة الله، كما تصبح للوارث لحظة ميلاده كل ممتلكات البلاد الفسيحة بغاباتها وأنهارها ومعادنها. لكننا في الواقع لن نمتلك كل شيء، لأن المحدود لن يستطيع أن يملك كل غير المحدود امتلاكا كاملًا. ومع ذلك فإننا في لحظة ميلادنا الجديد ندخل میراثنا. فإننا نبدأ بدراسة الكتاب المقدس الذي يحدد لنا میراثنا، ويخبرنا عن ماهية الله، وعما هو مستعد أن يفعله لنا. وبعد ذلك نبدأ بأن نمتلك ونستخدم صفاته وخاصياته اللازمة لنا يومًا فيومًا. وبعد ذلك نمتلك حلول روح الله فينا، الذي يأتي بطبيعته في داخلنا. وهكذا تمتلك الله بالقدر الذي يمتلكنا. نحن نرثه كنصيب لنا بالقدر الذي يرثنا. ونصيبي هو الرب قالت نفسي» (مراثي 3: 24). "إن قسم (نصيب) الرب هو شعبه" (تث 32: 9).

هلموا إلى فوق أيها الأحباء، فإنكم تمتلكون ممتلكات شاسعة. وحولكم من كل جانب محبة الله، ونعمته، وقدرته، وحكمته - هذه كلها تنتظركم لكي تنتفعوا بها. ضعوا في قلوبكم أن تعرفوها، ثم أن تنتفعوا بها، وتتمتعوا بها. ولا زالت هناك أرض فسيحة باقية للامتلاك». لا ترتض بأن تكون كل أملاكك محدودة. بل قم ووسع تخومك من كل جانب، إذ تضم حقلا إلى حقل.

لكن ميراثنا لن يكمل إلا في العالم الآخر. فهو «محفوظ في السماوات لأجلكم». نحن نكل ونعيا وسط أكثر الاختبارًات بهجة وسرورًا. والجسد لا يحتمل ثقل المجد، وينهار أمام ضغط أسمَى الاختبارًات الروحية. «فلما رأيته سقطت عند رجليه كمیت» (رؤ 1: 17).«لا تقدر أن ترى وجهي. لأن الإنسان لا يراني ويعيش» (خر (33: 30). وكما أنه توجد خاصيات في الكون لا نقدر أن ندركها لأنه ليست لنا سوى الحواس الخمس، هكذا توجد في الله خواص لا نعرفها لأن قوة إدراكنا محدودة. لذلك فعندما نلبس مسكننا الذي في السماء، الذي توجد فيه نوافذ كثيرة أكثر من مسكننا الأرضي، فإننا نرى الكثير من النواحی عن الطبيعة الإلهية أكثر مما نعرف اليوم.

«يا له من میراث جميل. إن كانت الأرض والسماء، وهما مجرد رداء له. جميلتين بهذا المقدار، فكم يكون جمال شخصه المجيد».

 

صفات هذا الميراث

«لا يفنى». أي لا تفنى مادته. ليس قابلا للزوال. في أوائل الربيع تبدو الطبيعة في أبهى حلة. فحقول الحنطة تزهو بالسنابل الذهبية، والأشجار تفاخر بأوراقها الجديدة، والزهور تتلألأ بألوانها البديعة. لكن وسط كل هذا يمتزج تمتعنا بالحزن، لأننا نعلم أن الفناء يعمل بقوة وراء هذا الجمال. هكذا أيضًا وسط تمتعنا الشديد بأحبائنا قد تطغى على قلوبنا كآبة مقبضة فتوحي لنا بأن هذا التمتع قد لا يدوم. فالولد الطيب القلب قد يهجر أمه، والشاب قد يهجر خطيبته التي تعلق بها، وتعلقت هي به. أما معرفة الله، فإنها -ككنزنا الذي في السماء- لا يمكن أن تفني، لا يمكن أن يسلبها من أيدينا أي إنسان. لا يمكن أن تبعد عنا، ولا يمكن أن نبعد نحن عنها. لا يمكن أن يكون مصيرها كمصير أي شيء أرضي نملكه. بل إننا عندما نتجرد من كل شيء آخر، ونجلس وسط حطام ثروتنا الضائعة كأيوب، فإننا نبدأ التأمل -أكثر من قبل- في كنزنا الأبدي، وندرك عظمة ميراثنا في الله، فنهتف قائلين: «اعطني ما تريد، إنني بدونك فقير، لكنني بك غني، خذ مني ما تريد».

«ولا يتدنس»،. أي طهارته لا تتلوث.«كل ما نمتلكه هنا يتدنس ويتدنس بسبب النقائص الكثيرة والتقصير الشديد». لا يوجد رخام خال من العيوب. ولا توجد زهرة خالية من النمش. ولا توجد فاكهة خالية من الآفات. ولا يوجد وجه خال من العيوب. ولا يوجد فرح خال من الأكدار. ولا يمر نهار دون أنات، ولا يوجد قلب خال من الخطيئة سوى قلب الله وبرص الخطيئة قد انتشر في كل البشرية حتى لوث كل ثوب وكل بيت كما حدث في إسرائيل قديمًا (لا 13 و14). وحتى في أطهر صداقة بشرية كثيرًا ما رأينا أن المحبة التي تبدأ بريئة وطبيعية تلوثها محبة الذات، والحسد، إن لم يلوثها الدنس.

أما أن نعرف الله فهذا يعني الاتصال بمصدر الطهارة نفسها. قال كاتب قدیم على لسان المسيح:«من يقترب إلى يقترب إلى النار». إذا اقترب الدنس من الله تلاشى في لحظة.. "لا يساكنك الشرير" (مز 5: 4). حاشا أن يتدنس میراثنا، ونحن لا يمكن أن نتمتع به إلا إذا أحببنا الطهارة. فأنقياء القلب هم وحدهم الذين يعانون الله. وكلما ازدادوا تطلعا إليه ازدادوا طهارة ونقاوة قلب

«ولا يضمحل»،. ای لا پذیل جماله. هنا ينمو نبات الديسم(3) والزهرة التي لا تضمحل. المرء لا يمل قط ما هو جميل حقًا. والناس تمتدح الوجه الجميل، والبساتين الجميلة.

ومعرفة الله هي ينبوع من السرور الدائم. ونحن لن نمل من محبته. قال أحدهم: «إن كل سعادة عالمية هي محاولة إرواء العطش بأنية ذهبية فارغة. لكن من ذا الذي يقول هذا القول عن نهر المسرات الإلهية، الذي إذ يروي العطش، يزيدنا رغبة في جرعات أعمق.

 

وثيقة امتلاك هذا الميراث

«ولدنا ثانية». نحن لا نمتلكه لأننا نستحقه، أو نتيجة انتصارنا في أي موقعة حربية، أو بالولادة الطبيعية. قد نكون أبناء أقدس القديسين، ومع ذلك نحرم من ميراث القديسين في النور. قال من لم يخطئ قط: «إن كان أحد لا يولد ثانية لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (1 يو 3:3)

«إن كنا أولادا فإننا ورثة أيضًا». هذا هو الترتيب الحتمي (رو 8: 17)

وهل من العسير أن نقول بأنه ينبغي أن يكون هذا هو الحال؟ فالميراث روحی، يتطلب مواهب روحية تقدر أن تدركه وتتمتع به. وما لم نولد ثانية فإن هذه المواهب تنقصنا. قد يقف الأعمى وسط أبهي المناظر دون أن يحس بها، لأن العضو الوحيد الذي يمكنه من التمتع بها غير متوفر. والمجنون قد يعيش في بيت مكتظ بروائع الفن وكتب الأدب دون أن يتأثر، لأنه مختل العقل. والشرير إذا ما وقف في السماء نفسها فإنه يعجز عن أن يرى الله، لأن قوة الإدراك الروحية معدومة منه.. الخطية تعمي البصر، وتصم الأذن، وتقسي القلب. إن حاجتنا القصوى هي إلى الحياة، والحياة لا تبدأ إلا بالولادة الثانية.

ونحن لا يمكن أن يكون الله لنا إلا إذا كنا نحبه، ولا يمكن أن نحبه إلا إذا توفر التقارب في الطبيعة. وهذه الطبيعة لا يمكن أن تكون لنا بالولادة الأولى. ولا يمكن أن تكون لنا إلا بمنحنا طبيعة جديدة وحياة جديدة، وهذه عطية من الله «بكلمته الحية الباقية إلى الأبد» (ع 23).

 

الصلة بين حاضرنا ومستقبلنا

«رجاء حي»،. نحن نمتلك فعلًا بعض هذا الميراث. ومهما عظم ما نمتلكه فإنه ليس إلا العربون. «فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز» (1 كو 13: 12). فالنظر سرعان ما يعتم، والخطوط الأولية لا تتم، والأقوال الغامضة نعجز عن فهمها.

لكن سوف يأتي الوقت الذي فيه نعرف كما عرفنا، ونرى وجها لوجه (1 كو 12:13)، والذي فيه تكمل شركتنا معه، ونحبه محبة أقوى، ويكمل امتلاكنا له. إن رجاءنا يحن نحو هذا العهد المبارك الذي لا يزال محفوظا لنا. وهذا الرجاء في الوقت نفسه هو الذي يحفزنا ويثير همتنا في كل لحظة من اللحظات حياتنا، إنه في الواقع «رجاء حي».

يقال في بعض الأحيان أن الرجاء يموت. أما هذا الرجاء فإنه لن يموت. في بعض الأحيان يتباطأ، ويكون لا عمل له. لكنه حي دائمًا وقوى. «الرجاء العالمي كثيرًا ما يسخر بالناس ويخيب آمالهم. فلا يمكن القول عنهم إنهم أحياء بل أموات. انها أما هذا الرجاء فإنه يحقق آمالنا إلى التمام، ولن يخدعنا، بل يعطي أكثر مما نرجو».

«وهو مؤسس على قيامة يسوع المسيح من الأموات». هنا نرى أن الشخص الذي لم يقتنع بقيامة المسيح من الأموات (أي بطرس) لما ركض إلى القبر ووجده فارغا، يدرك المعنى الكامل للقيامة. إن أخانا، ومثلنا، وربنا ولم يصر كواحد منا فقط في الحياة والموت، بل جعلنا واحدًا معه في القيامة، التي كانت هي ختم الله على كل ما قال وفعل. ولذلك فهي تأكيد ليس فقط لأقواله، بل لرجائنا الذي تبنيه عليها.

التسبيحة التي تبدأ بها هذه الآيات: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح».

من ذا الذي يستطيع أن يدرك المقياس الكامل لرحمته الغنية؟ الرحمة، لأنه سلم ابنه ليموت ويقوم ثانية. الرحمة، لأنه دعانا له أولادا، ذلك المركز السامی الذي قد تحسدنا عليه الملائكة، فنحن لسنا أبناء فحسب، بل ورثة أيضًا. الرحمة، لأنه ارتضي بأن يكون میراثا لأناس مثلنا. الرحمة، لأنه أعطانا تعزية قوية كهذه، «ومرساة للنفس مؤتمنة وثابتة» (عب 6: 18-19). يا لها من رحمة لانهائية لا يعبر عنها. فلنباركه من أجلها، فهو أبو ربنا يسوع المسيح، وأبونا فيه. سبحوه، سبحوه.

«إن التحدث عن الأمور الروحية لمجرد السمع يصبح كلاما أجوف لا حياة فيه. أما من يتحدثون عنها لأنهم اختبروا حلاوتها، فإنهم يجدون أن قلوبهم الممتلئة بالبهجة تدفعهم للتحدث عنها، وتسبيح الله من أجلها».

«هكذا هو هذا الميراث، الذي تستطيع آمالنا فيه وتفكيرنا عنه أن تعزینا وسط أشد الأحزان. وماذا تكون إذن ثماره الكاملة؟»

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

3: محروسون

«أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان ناله رجال البحر الله لخلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير» (1بط 1: 5).

 

لو كان الرسول قد اقتصر على القول -كما ورد في الآية السابقة- أن ميراثنا «محفوظ في السماوات، دون أن يدعم قوله بهذه الحقيقة أن الورثة أيضًا محروسون ومحفوظون للتمتع به تمتعا كاملًا لكانت التعزية قليلة. لا يهم المسافر بحرا مقدار الترحيب العظيم الذي ينتظره في بيته بقدر ما يهمه كيف ينجو من العواصف التي تهدده بتحطيم سفينته على الصخور. إن أردت أن تطمئن قلبه، فيجب أن تؤكد له سلامة نفسه قبل أن تحدثه عن الترحيب الحار الذي سوف يلقاه. هكذا لم يكن مجديا أن يتحدث الرسول عن الأندية السعيدة التي تنتظرنا لو لم يؤكد لنا أيضًا أننا محروسون من كل الأخطار التي تهدد سفينة حياتنا. يا لها من تعزية قوية تلك التي نجدها في هذه الكلمة «محروسون»

ان الكلمة اليونانية «محروسون، مقتبسة من مخيم المعسكرات. وقد وردت في (2 كو 11: 32، غل 3: 23، في 4: 7)

وفي كل مرة تحمل معنی قوة مسلحة مستخدمة للحراسة، تحيط بحاميتها، وتدعم سورا منيعا. هكذا تحبط القدرة الإلهية بالقديسين حرس أثناء إقامتهم في هذا العالم الذي تكتنفه الأخطار الشديدة.

ليس الله أجرا كثيرًا لنا فقط، بل هو ترس لنا أيضًا (تك 15: 1). إن العين المطهرة ترى الجبال المحيطة بنا مليئة بالخيل والمركبات النارية لحمايتنا (2 مل 6: 17). الرب يسترنا بستر وجهه من مكاید الناس، ويخفينا في مظلة من مخاصمة الألسن (مز 31: 20). وهو يرسل نوره وحقه، ليهدیانا ويأتيا بنا إلى جبل قدسه وإلى مساكنه (مز 43: 3). «لأنكم لا تخرجون بالعجلة، ولا تذهبون هاربين. لأن الرب سائر أمامكم. وإله إسرائيل يجمع ساقتكم» (1 اش 52: 12).

ربما يكون الكثيرون من قارئي هذه الكلمات قد كادوا يصلون إلى حالة اليأس. إنهم يعرفون الخير، ويصادقون عليه، لكنهم يفعلون الشر. رغم الدموع والبكاء والأنين، تراهم دائمًا مستعبدين لخطية محبطة. كثيرًا ما كانت دموعهم خبزا لهم نهارًا وليلًا (مز 42:3) وهم يسكبون نفوسهم مرددين المزمور الحادی والخمسين، أو يصرخون مع الرسول: «ويحي أنا الإنسان الشقی، من ينقذتی» (رو 7: 24).

لكل أمثال هؤلاء توجد تعزية غير محدودة إذ يذكرون بأن جميع أولاد الله يمكن أن يطالبوا بحراسة الله لهم وخلاصة الكامل. آه، ليت كل هؤلاء يتمتعون بقوة الله الحارسة تمتعًا كاملًا.

 

1- ماذا تتضمنه هذه الحراسة؟

إنها لا تعني بأننا نتخلص من طبيعتنا الخاطئة، التي تميل إلى الخطية دوامًا، وتتعرض لها دوامًا. ولا تعني أننا نعصم من الخطية، فلا نحتاج إلى طلب المغفرة كل يوم. فإننا في أفضل حالاتنا لا بُد أن يوجد فينا ما لا يتفق مع قداسة الله ولا تعني أننا نعفي من أن نجرب فهذا لا يمكن أن يكون نصيبنا طالما كنا سائرين في أرض العدو إلى ميراثنا.

لكنها تعني أنه بالرغم مما يوجد فينا من ميل شديد للخطية، وبعض هذا الميل موروث، وبعضه مكتسب بسبب طول الانغماس في العادات الردية، وبالرغم من أنه يوجد في الخارج جهنم مليئة بالأرواح الشريرة، وكل منها مطالب بأن يبذل جهده لكي يجعلنا نسقط - فإننا مع هذا يمكن أن تحفظ من الخطايا الجسيمة التي ترتكب بإصرار، وننجو من البحار الهائجة، فنقف أخيرًا مع العالمين على شاطئ البحر الزجاجي، وفي أيدينا قيثارات الله (رؤ 15: 2)

لا يريد المسيح أن نؤخذ من العالم، بل أن تحفظ من الشرير (یو 17: 15).

كثيرة هي الصور التي تبرز لنا قوة الله الحارسة الحافظة. وقوة الله التي تحفظ وتحرس قدیسیه، نراها مصغرة في حراسة العين بواسطة الحجاب العظمى المحيط بها وجفن العين، وفي حراسة الراعي لخرافة التي تسكن آمنة في البرية، وتنام في الغابات رغم الوحوش المفترسة الكامنة حولها منتظرة ابتلاعها، وفي الأسوار العالية التي تحيط بالكروم فتحفظها من المغتصبين ومن الثعالب الصغيرة، وفي الطير الذي يحرس صغاره من الصقر الذي يحوم حولها، وفي جبابرة إسرائيل الذين كانوا يحرسون تخت سلیمان (نش 3: 7)، وفي الخزانة الحديدية التي تحفظ ما بداخلها من عبث اللصوص، ومن السنة النار المندلعة. إن أحاطت بنا كلاب، واكتنفتنا جماعة من الأشرار (مز 22: 16)، فإنه توجد دائرة داخلية للدفاع، لا يجرأون على الاقتراب منها، ولا يستطيعون اقتحامها.

وواضح مما تقدم أنه لا بُد أن تكون هنالك حروب وكفاح وتجارب من الخارج، وضعف من الداخل. لأنه ما الحاجة إلى الحراسة إلا إذا كانت هنالك أخطار من الخارج وضعف من الداخل؟ لكن الأمر واضح أننا وسط كل هذه نحفظ من السقوط. «لتحفظ روحكم وجسدكم ونفسكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح. أمين هو الذي يدعوكم، الذي سيفعل أيضًا» (1 تس 5: 23-24).

هذه الحراسة تمتد إلى «مخارج الحياة»، وإلى خطوات وتصرفات القديسين. وهي تمس هذه لأنها تتصل بالكلية بالإنسان الداخل. هنالك تعمل قوة الله في النفس والقلب والأفكار، وهي تعمل بقوة فعالة وإن كانت غير منظورة، وقادرة على قمع أعنف الشهوات التي تطغى على الطبيعة الداخلية (أم 4: 23، 1 صم 2: 9ا، في 4: 9، 1 بط 4: 19).

 

2- لماذا نتوقع هذه الحراسة؟

لأن قصد الله يقتضيها. فنحن «مختارون للطاعة»، كما تخبرنا الآيتان الأولى والثانية من هذا الأصحاح. لكن يقينًا أن الذي دعانا دعوة سامية كهذه لن يعجز عن أن يمنع كل ما يعطل تحقيقها

وذبيحة المسيح تقتضيها. لقد تحمل مخلصنا پسرور آلام الصليب ليس فقط لينجينا من جهنم، بل «ليطهر لنفسه شعبا خاصا غيورا في أعمال حسنة» (تی 2: 14). ولو كان ذاك الذي استطاع أن يشتري غير قادر على حفظ من اشتراهم لكانت عملية الفداء بلا جدوى. لكنه في حياته على الأرض حفظ الذين أعطاهم إياه الآب «ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب» (1یو 17: 12). ويقينا أنه الآن -وفي يده كل سلطان- يحفظ من يحملون اسمه.

والروح الساكن فينا يقتضيها. يقينًا إنه حال في قلب كل مؤمن. وإن كان غير منظور، كما كان يحل داخل الحجاب، إلا أنه لا يزال مُشتعلًا كبصيص النار في قدس الأقداس. إنه يريد فوق كل شيء أن يحفظ كل كيان المؤمن -الذي هو هيكله- طاهرًا ونقيا. وإذا ما سمح له المرء بأن يتمم عمله، فإنه يحفظ الإنسان من الداخل من كل شر وشبه شر.. مما يتفق مع طبيعته المقدسة أن يخلق في قلوب الجميع رغبة نحو القداسة. وهذه الرغبة التي يخلقها نحو القداسة هي عربون، بل بشیر، بإكمال عمله إلى التمام.

وسمعة الله تقتضيها. لو كانت الخطية تنتصر علينا دراما طالما كنا في هذا العالم، لبدا كأن الدواء لا يكفي لعلاج الداء.

لو كان الله غير قادر على تحطيم كل المحاولات الجهنمية على نفوس البشر لتهللت جهنم، وقالت: أنت لا تستطيع أن تحفظ قديسيك من التجارب التي نوجهها إليهم.

أيها المؤمنون المجربون، تشجعوا، وثقوا بأنكم يمكن أن تكونوا محفوظين إن اعتمدتم على مخلصكم.

 

3- كيف تتم هذه الحراسة؟

بقوة الله. «انتم الذين بقوة الله محروسون».

تأملوا في فعل هذه القوة في الخليقة. قفوا مع أسري بابل، وارفعوا عيونكم إلى العلاء الكواكب السماء المنتشرة كتطبع يستريح في ظلمة الليل: «ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه. من الذي يخرج بعدد جندها. يدعو كلها بأسماء. لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد (أش 4: 26). وإن كان يستطيع أن يحفظ الأجرام السماوية، فتدور في مداراتها ذات الاتساع غير المحدود بدقة تامة، لدرجة أن الفلكيين يقدرون أن يحددوا عودتها إلى مكانها دون أن يخطئوا، فيقينا أنه يقدر أن يحفظ النفس المسكينة في مكانها المحدود، سيما عندما تكون هذه النفس راغبة في أن تحفظ.

تأملات في هذه القوة في التاريخ: رغم حرية التصرف للإرادة البشرية، الملتوية المتمردة، فقد استطاع أن يتمم مقاصده، ويحصل على النتائج التي وضع عليها قلبه منذ الأزل. وكمثل مذهل ؛ لقد بقيت كنيسة المسيح إلى الآن رغم ما لقيت من الاضطهادات العنيفة منذ تأسيسها.. ويقينا أنه يستطيع -بنفس السهولة- أن يدعم رعايته لكنيسته التي تضم أولئك الذين يريدون أن يعرفوا إرادته ويتمموها (أر 33: 25-26).

تأملوا في هذه القوة في قيامة ربنا: لقد «أقامته من الأموات»» رغم كل القوة البشرية، «فوق كل ریاسة وسلطان وقوة وسيادة»، إلى أن ارتفع جسده الممجد الذي لم يدخله إنسان قبله (أف1: 20-21).

والأكثر من هذا أن الرسول بولس حدثنا بأن نفس القوة التي أقامت المسيح من القبر إلى العرش تمتد إلى أضعف مؤمن فتقيمه أيضًا من الموت إلى مجد القيامة (أف 1: 19-20).

تأمل هذه القوة في حياة الرب يسوع المسيح على الأرض: فإنه بقوته الإلهية واجه التجرية في البرية وفي چثیمانی. ورئيس هذا العالم دحر في هجومه على ابن الله، لا مرة واحدة، بل في كل مرة، وقواته الشيطانية أخرجت من النفوس البشرية التي سكنتها وهو نفسه سقط مثل البرق من السماء، وحقت رأسه. واندحر العالم، الذي هو أول إغراءاته وخاب مسعاه في أن يمسك المخلص في القبر بمنتهى السهولة التي بها يكتسح الإنسان نسيج العنكبوت من طريقه. وما فعله المسيح لنفسه هو مستعد أن يفعله لكل واحد من خاصته، ويكرر في حياة كل واحد منا نفس الانتصارات التي انتصرها هو إذ كان على الأرض

ومن الضروري أن نقول بأن الروح القدس يعمل بنفس قوته الإلهية: فهو يعمل في داخلنا بقوته العجيبة.. هو بقى نفسه غیر منظور، ويوجه أنظارنا إلى الرب يسوع المسيح، كما يسطع النور بعض الأحيان على وجه جميل فيلفت كل أنظار الشخص الذي يتطلع إليه. وهكذا إذ تكون المعركة كلها في يد الروح القدس (غل 5: 17). فإن المؤمن يلجأ إلى المسيح طالبا منه النصرة. لكن لا داعي للتفريق بين المسيح والروح القدس، فإنهما واحد

وقوة الروح القدس تعمل بإيماننا: «أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان».. الله مستعد أن يتمم كل ما تأتمنه عليه. لكنه لا يعمل بدون إيماننا، عندما يكون الإيمان قويا فإنه لا توجد حدود الإمكانياته. فإنه يستطيع أن يفتح أبواب السماء فتبدأ قوة القدير أن تنسكب على النفس. إن إيماننا هو الوسيلة التي بها نتقبل بركات الله هو البوغاز الذي تنتقل به مياه المحيطات الإلهية.

أما إن كان إيماننا ضعيفا فإننا لا نتوقع قوة عظيمة.

إن ضربت الأرض ثلاث مرات استمرت آرام في أن تتحداك (2 مل 13: 18-19). إن كنت لا تؤمن بأن الله قادر أن يحرسك ويحفظك فلا تتعجب إن كنت تحرم من حراسته. حسب إيمانك أو عدم إيمانك، يكون لك.

أتريد أن تدرك نعمة الله الحارسة؟ سلم له ذاتك، وكف عن كل اعتماد على الذات، واقطع كل علاقة بالشر والشرير، اختر نصیب صليب يسوع بصفة قاطعة نهائية. ثم اعتمد على يسوع ليحرسك. كلما اقتربت منك التجربة تطلع إلى يسوع وقل له: «يا يسوع إنني أثق في قوتك الحافظة الحارسة». اطلب من الروح القدس أن يحفظك في هذا الوضع بصفة مستمرة، إلى أن تصبح عادة نفسك التطلع إلى يسوع كلما هاجمتك التجربة. اعتمد عليه لكي يحفظك في ثقة دائمة به. غَذِّ إيمانك بالتأملات الروحية في مواعيد الله. لا تتطلع إلى ضعفك، أو إلى أعدائك، بل إلى الحصن الإلهي. «الرب حافظك» (مز 121: 5). استمع إلى كلماته المباركة، وخبئها في قلبك: «أنا الرب حارسها. أسقيها كل لحظة، لئلا يوقع بها. أحرسها ليلًا ونهارًا» (أش 27: 3)..يقينًا إنه لتجديف شنيع أن يظن المرء بأن القدير لا يقدر، أو لا يريد أن يحفظ ويحرس النفس التي تعتمد عليه.

فائتظر الخلاص الكامل الذي تناله عند مجيء الرب. لقد سبق أن أكمل، وهو الآن معد، لكنه ينتظر لكي يعلن. «أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان خلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير». وعندما تحصل على الخلاص الكامل بغبطة وابتهاج، وتتأمل في الطريق الذي سلكته، فإنك عندئذ تدرك كم كنت مديونا لنعمة الله العجيبة، الذي استطاع أن يحفظ وديعتك إلى ذلك اليوم (2 تی 1: 12).

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

4: تحزنون يسيرًا

«الذي به تبتهجون مع أنكم الآن إن كان يجب تحزنون يسيرًا بتجارب متنوعة لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفانی، مع أنه يمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح» (1 بط 1: 6-7).

 

«تحزنون». «وابتدأ يحزن ويكتئب» (1مت 26: 37). من ظلمة ذلك البستان صعد الرب إلى مجد القيامة، ومن المستحيل أن نصور حالة آلام النفس البشرية بدقة أكثر من هذه الكلمة «تحزنون» والتجارب المتنوعة هي التي تحزن النفس «تحزنون يسيرًا بتجارب متنوعة»

والتجارب هنا تعني الامتحان. وقد استخدمت نفس الكلمة في مواضع أخرى لتعني الاختبار الذي يُخْتَبَر به القديسون، إما من قبل الله، أو من قبل الشيطان. فالله يختبرنا لكي تعرف أنفسنا كما يعرفنا هو، ولكي تنضج إلى كمالها بداية الخير الصغيرة التي غرسها هو فينا.. والشيطان يختبرنا لكي يظهر الشر الكامن فينا، ويخرج من التصرفات التي تطرح بآمالنا، وتغرس بذور الرذيلة. إن البواعث التي تجعل الله يختبرنا صالحة، لكي تزداد نبلًا وصلاحًا ونضوجًا. أما البواعث التي تجعل الشيطان يختبرنا فهی فاسدة، لكي تنزلق أقدامنا في طريق الخطية وهكذا قيل في الكتاب المقدس أن الله يمتحن البشر، ومع ذلك فهو لا يجربهم (تك 22: 1، يع 1: 13). هو يمتحنهم ويجربهم، لكنه لا يغريهم لارتكاب الشر.

ولكي نميز بين هاتين الطريقتين من الاختبار، يحسن بنا أن نستخدم كلمتين: «الاختبار» عندما يريد الله أن يمتحننا، «التجربة» عندما يهجم علينا عدو نفوسنا الألد، ولذلك يحسن بنا أن تستخدم هذا التعبير الذي هو أقرب إلى المعنى: «تحزنون يسيرًا باختبارًات (أو امتحانات متنوعة». انظر أيضًا (1 يع: 2-3).

«تجارب متنوعة». في هذه الرسالة نرى -كما في مرآة- الظلال المظلمة التي كانت تتجمع فوق أولئك القديسين المشتتين. لقد كانوا يلطمون عاملين الخير، يحتملون أحزانا متألمين بالظلم، يتألمون من أجل البر، فترى عليهم، يجتازون البلوى المحرقة، يشتركون في آلام المسيح، يعبرون من أجل اسم المسيح، والقضاء بدأ من بيت الله (1 بط 4: 17)، وكابدوا نفس الآلام التي كانت تجرى على إخوتهم الذين في العالم. هذه إشارة بسيطة في هذه الرسالة عن التجارب المتنوعة التي حلت بهم.

وإذ تألموا كمسيحيين (1 بط 4: 16) فكان هذا يعني أنهم خسروا أرزاقهم، وسمعتهم، وعائلاتهم. فهجرهم آباؤهم، وأبناؤهم، وأصدقاؤهم، وأسيء الظن بهم، وصاروا مكروهين، بل وصلوا إلى الموت. كان كل من ينضم حديثا إلى كنيسة المسيح يصبح هدفا لكل سهام، وينبذ من كل مجتمع.

أما نحن، فالتجارب تأتينا عادة من ثلاث مصادر: تلك التي تأتينا من الآخرين، وتلك التي تأتينا بسبب خطايانا أو أخطائنا أو سوء تصرفاتنا، وتلك التي تأتينا من الله أبينا. ولا عجب إن كان القلب لا ينحني تحت هذا الضغط. وكم كانت جميلة تلك الدعوة التي وجهها يسوع للثقيلي الأحمال. ويا له من موكب مستديم من عابری وادي الدموع، الذي ينتصب الصليب في نهايته، وخلف الصليب يشرق نور الصباح.

والرسول لا يلوم هذا الحزن: يخزى الرواقي من أن يذرف دمعة. أما المسيحي فلم يؤمر بأن لا يبكي. ولكنه إذ يذرف الدموع، فإنه إنما يتبع أسمَى الأمثلة. «يا بني لا تحتقر تأدیب الرب، ولا تخز إذا وبخك» (عب 12: 5). الصراخ الشديد والدموع تليق بالأبناء الذين يريدون أن يتعلموا الطاعة مما يتألمون به (عب 5: 7و8). عندما يشتد الحزن قد تصمت النفس، كما يحدث للخروف أمام من يجزه. أو عندما يكاد القلب يتحطم أمام هول التجربة، فإن المتألم قد يلتمس الراحة بأن يصرخ بصوت مرتفع.

لكن هنالك ما هو أفضل. فيقال أن ينابيع المياه العذبة تنبع وسط مياه البحار المالحة، وأن أجمل زهور جبال الألب تزهر في أشد معابر الجبال وعورة وخشونة، وأن أعمق وأجمل المزامير كانت خلاصة أشد الأحزان. ونحن نسلم بهذا. وهكذا تجد النفوس المحبة الله -وسط التجارب المتنوعة- أسبابا للفرح الشديد: «الذي به تبتهجون». إن كان «غمر ينادی غمرا» فإن أغنية الرب سمع في الليل (مز 42: 7و8).. وفي أشد الساعات ظلمة، تستطيع النفس البشرية أن تبارك الله أبا ربنا يسوع المسيح

هل تعلمت هذا الدرس؟ ليس المطلوب فقط أن تحتمل إرادة الله، أو تفضلها، أو تثق فيها، بل أيضًا أن تفرح بها «بفرح لا ينطق به ومجید» (ع: 8).

لهذا الفرح مصدران: الأول معرفة طبيعة ومعنى التجربة، والثاني محبة النفس لربها غير المنظور، وإيمانها به. في هذين المصدرين نجد فرحًا يفوق الإدراك. والواقع أنه إن انعدمت كل مصادر الفرح الأخرى بسبب الأحزان الأرضية، واتجهنا لطلب البركة المفرحة التي لا تستطيع أية عوامل أرضية أن تلاشيها، فإننا وقتئذ نستطيع أن نتمتع بفرح المسيح (حب 3: 17-19).

 

طبيعة ومعنى التجربة

شُبِّهَت التجربة هنا بالنار: «مع أنه يمتحن بالنار»، ذلك العنصر القوي، القادر على إيلام جسدنا الرقيق وعلى تطهير كل ما يقدم إليه مهما اشتدت درجة تلوثه، الذي لا يبالي بأية آلام يسببها طالما كان قد أتم مهمته، الذي إذا ما سلط على الأشياء المادية أذابها وأخلاها من كل ما علق بها من شوائب. أي شيء أفضل يمكن أن يشبه به الله، ويمكن أن تشبه به تلك التجارب التي يسمح بها الله، أو التي يرسلها هو، والتي يمكن أن يوجد في قلبها: آه، إن وطأة الآلام أعنف من أن تحتمل، عندما يهجرنا الأصدقاء، ويعيرنا الأعداء، ويفشل عمل السنوات الطويلة فجأة، وتنسحق النفس تحت الألم الممض، والخزي، والجحود، والفشل، والحرمان. إن فعل هذه الآلام في النفس البشرية يشبه فعل النار في الجسد.

1. لكن هذه النار مطهرة. إن الإشارة واضحة. وهي تذكرنا بنبوة قديمة ا شاهد نتعلم منها أنه عندما يأتي الرب إلى هيكله فإنه يجلس بجانب البوتقة ممحصًا وَمُنَقبًا» (ملا 3:3). خلیق بنا أن تخلع أحذيتنا من أقدامنا عندما ندخل غرفة أي مؤمن مجرب، لأن الرب موجود بها يقينًا.

وهو الذي يسمح بالتجربة. إن الشر يصدر من خبث يهوذا الأسخریوطي يهوذا، لكنه عندما يصل إلى أيدينا يصبح هو الكأس التي أعطانا إياها الآب لنشربها (یو 18: 11). قد يدبر المخرب مقاصده الهدامة، لكنه لن يتعدى قط «مشورة الله المحترمة وعلمه السابق» (أع 2: 23).

والشيطان نفسه يجب أن يطلب الإذن قبل أن يمس شعرة من رأس أحد أولاد الله (1 ي 8: 12). والحد الذي ينبغي أن لا يتعداه تجاربنا قد حددته حكمة الله اللانهائية قد يجرح السلاح، والنار قد تلذع، لكنهما في يدي من فدانا ولن يصيبا شیء بدون إذن الله، وهو لا يأذن إلا بما حدده. لا يمكن أن نترك في يد الفرصة العمياء، لأننا لا نكون في التجربة نكون لا نزال في يد مخلصنا الحي.

وهو الذي يهيمن على التجربة. لا يمكن أن يقترب إلينا أي صديق بشری. لكننا في كل أتون محمي نجد بجوارنا ذاك «الشبيه بابن الآلهة» (دا 3: 25). وفي كل فيضان مياه جارفة يقف بجانبنا، مهدئا القلب بالمواعيد، وواضعا فينا كلمات الإيمان والرجاء، ومذكرا إيانا بالماضي السعيد، ومشيرا إلى المستقبل المشرق، ومسكنا الخوف، كما سكن مخاوف تلاميذه لما كانوا في البحيرة. هذا هو عمل يسوع. وعندما يتطلع المتألم إلى الوراء، إلى التجربة، فإنه يقول: «لم أدرك قط من قبل أنه قريب مني بهذا المقدار، ولولاه لما كنت قد احتملت التجربة».

وهو الذي يراقب تقدم التجربة. لا يمكن أن يرق قلب أم على ولدها المتألم بقدر ما يرق قلب يسوع علينا في آلامنا. هو يتحكم في التجربة لتناسب قوتنا، وهو يضع أصبعه على أيدينا ليجس النبض، حتى إذا ما بدأ القلب يتعب يرفع الآلام، وكل ما يحرص عليه هو أن تكون النيران قد طهرت القلب من كل زغل.

طوبى لنا إذا ما تطلعنا إلى وجهه، بدلا من التطلع إلى تجاربنا، على أن نحرص على فهم ما يقصده منها، ونتعلم الدرس الذي قصده لنا، حتى إذا ما فني الإنسان الخارجي، تجدد الإنسان الداخلي يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). كلما تخلص الرخام من قشرته الخارجية تحت يد النحات ظهر رونق الرخام وجماله. وهكذا بقدر ما نفقد نحن من ممتلكاتنا ومن ظروفنا، تنمو في تمثلنا بالمسيح.

 

2. والتجربة إنما هي وقتية. وتحزنون يسيرًا، (ع 6). إن صاحب الحقل لا يقوم بعملية درس القمح بصفة مستمرة، والأمطار سرعان ما تبطل. والبكاء لا يستمر سوى بضع ساعات من ليل الصيف القصير، ثم يتوقف عند الفجر. وخفة ضيقتنا إنما هي وقتية.

هنا نجد فرقا بين أصلب المعادن وأثمنها وبين إيمان المؤمن «الذهب الفانی» (ع 7). الذهب أطول عمرًا من الخشب، ومن الأواني الفخارية، ومن كل مادة أخرى. ومع ذلك فإنه يفنى بمرور الزمن. لكن يوجد في كل منا ما لا يفنی. حتى الموت لا يؤثر عليه، ولا مرور الزمن، ولا تزول كل المخلوقات إلى بحر النسيان. فهو أبدي مثل الله الذي أودعه فينا. وإن أعنف وأطول التجارب لا تقارن مطلقًا بأبديته. إذا قورنت التجارب بأبديته غير المحدودة وجدت أنها وقتية، وسوف تزول من الذاكرة كما تزول سحابة الصيف.

3. والتجربة لها قصد معين. «كان يجب تحزنون». إن الحزن الذي ليس له هدف، يتعذر على النفس جدًا أن تحتمله. وحالما يحس المسجونون أن التأديب قد أتى بنتيجة إيجابية، فإنهم يحسون بشيء من الراحة وسط متاعب السجن. ونحن عندما نحس بأن آلامنا وجهودنا عديمة الجدوى، فإن الرجاء يموت فينا.

أما المؤمن فإنه لا يخاف شيئًا من هذا. ففي كل تجربة منفعة. وهي قد قُصِدَ بها أن تعلن سرائر قلوبنا، وأن تذلنا وتختبرنا، وأن تنقينا كما تنقی الحنطة إذ تُغَرْبَل، وأن تعزل عنا الأرضيات والأشياء المنظورة، وتخلق فينا رغبة قوية نحو الحقائق التي تستطيع وحدها أن تروي عطشنا وتبقى إلى الأبد.

ينبغي أن لا نظن بأن التجربة قصاص عن الماضي، فإن كل قصاص تحمله عنا فادينا. لكن كل تجربة تشير إلى المستقبل، وقد قصد بها أن تجعلنا شركاء في قداسته، وتخلق فينا «ثمر بر للسلام» (عب 12: 11). وحقيقية الأمر في التجربة يبرهن على أن هنالك فينا شيئًا ثمينا جدًا في نظر ربنا.. وإلا فلم يكن هنالك مبرر لكي يبذل معنا مثل تلك الجهود، ويصرف معنا مثل ذلك الوقت. «نحن لا نشذب العوسج، ولا نقذف الأحجار على البوتقة، ولا نحرث رمال البحر». والمسيح لا يمتحننا إن كان لا يرى معدن الإيمان النفيس مختلطا بمعدن طبیعتنا. ولكي يعيد إلى طبيعتنا هذه نقاءها وجمالها فإنه يضعنا في البوتقة.

عليك بالصبر أيها المتألم، فلا بد أن الله يحبك، وإلا لما كان قد أديك (عب 12: 6).لا بُد أنك من ضمن خاصته، وإلا لما كان قد تحمل معك مثل تلك الآلام. لا بُد أنك قادر على القيام بخدمة سامية معينة تحصل عليها عن طريق الآلام، وإلا لما كان قد طرحك في النيران المطهرة. لا بُد أنك تحتمل النار، وإلا لما كان قد أجازك فيها (عد 31: 23).

وأجر التجربة أجزل من أن يُعَبَّر عنه: توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح». سوف يعوض الذهب عن آلام النيران التي جازها عندما يحبط معصم الملك. ويعوض الماس عن آلة الصقل عندما يتلألأ في رقبة المرأة الجميلة. ونحن سوف نعوض عن كل تجاربنا عندما نرى ثقل المجد الأبدی (2 كو 4: 17). سوف نعوض عن كل شيء عندما نسمع كلمة مدح واحدة من الله، عندما تكرم أمام الملائكة القديسين، عندما تمجد في المسيح فتزداد قدرة على أن نعكس مجده على الآخرين

فعلينا أن نعيش دوامًا في ذلك المستقبل تحت قوات العالم الآتي، كما يعزی الجنود أنفسهم في ساعة الحرب الحامية الوطيس بالتحدث عن الترحيب والأكاليل التي تنتظرهم لدى عودتهم. «أما أولئك فلكی يأخذوا إكليلا يفنى، وأما نحن فإكليلا لا يفنی» (1 كو 9: 25). كل البركات الناشئة عن التجربة ميسورة لنا عندما يتقبلها القلب بوداعة من يد الله، وينفتح لعمل الروح القدس. التجربة وحدها قد تقسي القلب، كما تقسي النار الطين وتجعله طوبا أحمر، مع أنه هي التي تلين الشمع. لكن عندما تكون التجربة مقترنة بمؤثرات الروح القدس المباركة فإنها تكون زیتا ثمينا للرأس لا تؤذيها (مز 141: 5).

انظر كيف يهتم الله بالإيمان. إن ثمنه لا يقدر في نظره وقيمته في تقدير الله كقيمة الذهب في نظر البخيل. هو مصدر كل النعم الأخرى، وبداية حياة القديسين، والمفتاح للمخازن الإلهية، وقاعدة السلم السماوي، ودعامة القنطرة التي توصل بين المنظور وغير المنظور. وتقوية الإيمان في قلب شخص مسكين أمر له قيمته العظمى في نظر الله

وطالما كان الإيمان لا يقوي إلا بالتدريب والجهود العنيفة، فلا تتعجب إن كان الله يعرضك للتأديب الذي يتنق من قوتك، ولكنه يزداد عنفا إلى أن يصبح الإيمان قادرا على ملاطمة الأمواج الهائجة في المحيطات العميقة، بعد أن كان يرتجف إذا رأى المياه الضحلة.

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

5: المسيح غیر منظور لكنه محبوب

«الذي وإن لم تروه تحبونه بذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد "نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس" (1بط 1: 8-9).

 

تبدأ الآية السادسة، وتنتهي الثامنة بكلمة «تبتهجون»، وهي في الأصل اليوناني تعبر عن شدة الفرح. غریب أن تستخدم كلمة كهذه تعبر عن مشاعر حقنة من القديسين المشتتين بدأت سحب الاضطهاد تتجمع حولهم بعنف. ومع ذلك فإننا لا نجد غرابة عندما تبحث عن مصادر ذلك الفرح التي تتضمنها هذه الآيات الذهبية. وقد تأملنا في الآية الأولى في الفصل السابق، ألا تمتلئ نفوسنا فرحًا عندما تدرك أن التجربة هي نار المُمَحِّص، فهي نافعة وإن كانت ثقيلة على النفس، وهي إعداد للبركات التي يعجز عن إدراكها العقل، وثم ألا يوجد باعِث أعمق للفرح الشديد جدًا عندما ندرك العلاقة التي اتحدتنا بربنا يسوع المسيح.

صحيح إن التجارب قد تكون مرة على النفس، والنار قد تلذع، والأصدقاء قد يهجروننا، والأعداء يهددوننا، وظلال وادي ظل الموت تحجب عنا نور الشمس. ومع ذلك فمهما كان عنف التجارب المتنوعة، فيكفينا أن ندرك بأنها تؤدي إلى نتائج مجيدة جدًا، وأنه لا شيء يستطيع أن يفصلنا عن حبيبنا يسوع.

إذن فیسوع هو لب الكلمات اللامعة الواردة في هاتين الآيتين (1 ع 8 و9)، هذه الكلمات التي تذكرنا بالسؤال الذي وجهه الرب ثلاث مرات لبطرس عند بحيرة الجليل «أتحبني؟»، وتذكرنا بالتطويب الذي لن ينسي الذي نطق به الرب في العلية «طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (1 یو 20: 29). أو ليست هذه الآية الصغيرة هي خلاصة المسيحية؟ فما الذي يجعلنا مسيحيين إلا أننا نؤمن بذاك الذي تحبه وإن كنا لا نراه؟ قد نقبل كلمات الكثيرين من عظماء المفكرين في العالم ونقدرها حق قدرها، لكننا لا نبالي كثيرًا بالأشخاص أنفسهم. أما كلمات المسيح فإننا لا يمكن أن نقبلها ونتجاهله هو، فالمسيحية هي العلاقة الشخصية بين النفس وبين المسيح. فابدأ، لا بكلماته، بل بشخصه. وعندما تصبح له، وهو لك، فإنك لا بُد أن تعرف كل ما قاله، وفعله، بل تعرف شخصه المعرفة اليقينية.

 

1- المسيح غير المنظور

قد يعوقنا عن الفرح والابتهاج أن لا نراه. «وإن لم تروه»، «وإن كنتم لا ترونه». قد يبدو للشخص العادي أن هذا الحرمان من رؤية المسيح شخصيًّا يكفي لكي يضع كل الأجيال التي جاءت بعد المسيح في مستوى أدنى من مستوى أولئك الذين رأوا وجهه، ذلك الوجه الذي كانت تشع منه علامات الهدوء والرزانة والقداسة، والذي كان يبعث الرجاء في البيوت المليئة بالأحزان واليأس القاتل، وینیرها، والذي كان يجذب إلى حضنه الأولاد الصغار، والذي طالما كان يتلألأ نورا لدى اتصاله بالسماء. يقينًا أن الحرمان من رؤيته قد يعتبر خسارة لا تعوض.

قال أحد الأتقياء قديمًا أنه كان يتمنى أن يرى ثلاثة أشياء: روما في مجدها، وبولس يَعِظ في أثينا، والمسيح في الجسد. وإن كان عظماء المصورين المسيحيين قد غطوا جدران المعارض بالصور التي تخيلوا فيها وجه المسيح، فإنما ذلك لإشباع شهوتهم في رؤية وجهه. إذ تطلع الكثيرون إلى تلك الصور، الرائعة الجمال التي تعتبر تحفة فنية نادرة، وقفوا منذهلين ومشدوهين. لكن من ذا الذي رأی أروعها ولم يعد إلى پیته بحسرة وألم، وباقتناع داخلي بأن لو أمكن جمع الجمال الرائع في تلك الصور في صورة واحدة لكان وجه تلك الصورة أبعد جدًا جدًا بما لا يحد عن وجه ذاك الذي اتحد فيه اللاهوت بالناسوت، والذي كان يتلألأ منه النور السماوي، والذي بكى، والذي أحب. إننا لن يتاح لنا أن نرى ما يمثل ذلك الوجه حتى نراه كما هو. «وهم سينظرون وجهه» (1 رؤ 22: 4). «لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح» (2 كو 4: 6).

لكن لا نجد في هذا صعوية، بل خسارة لن تعوض؟ كلا. فهو يمكنه أن يكون أقرب إلينا الآن من تلك الأيام السعيدة السحيقة التي كان يمشي فيها مع تلاميذه على جبال الجليل. ففي تلك الأيام لم يكن ممكنا أن نبقیه معنا كل الأيام. فالأعباء المنزلية، وحاجياتنا الضرورية في العالم، ومطالب إعداد الطعام، والأعمال العالمية، والنوم - هذه كلها كان لا بُد أن تبعدنا عنه، أو على الأقل إننا لم يكن ممكنا لنا أن نعرفه سوی كأفراد في جمهور عظيم يتمنى كل واحد منهم أن يمتلكه النفسيه. وعند ازدحام الجماهير والرسل حوله، كان لا بُد أن نقف في الدائرة الخارجية، ونقنع بأن تلقى عليه نظرة عابرة من بعيد. ووسط كل هذا، كان لا بُد أن نجرب بأن نحبه محبة أرضية، مثل تلك التي جعلت المرأة تصيح قائلة: «طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما»، مما اضطر المسيح إلى تصحيح الوضع في الحال، ولفت نظر الجماهير إلى التطويب الأعظم، فقال: «بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه» (لو 11: 27-28).

لو كنا قد رأيناه مرة واحدة، أو مرارًا، لكان فرحنا برؤيته قد زال حالما ابتعدنا عنه، أو بسبب رؤيتنا المتقطعة له، أو بسبب اشتراكنا مع غيرنا في رؤيته، ولكانت رؤيتنا له مجرد الرؤية الجسدية، بل لكانت قد ضاع أثرها بسبب تراكم هموم الحياة علينا. لو كنا قد رأيناه بالجسد لما كانت لهذه الرؤية تلك القوة، وعدم الاعتماد على الظروف، وتلك القدرة على تحدي السجون والوحشة وهجر الناس لنا، وتلك الغيرة المتأججة السماوية.

ولذلك، فحاشا لعدم رؤيتنا ليسوع بالعين الجسدية أن يكون معطلا لفرحنا بل هو بالحري يبعث الفرح في النفس. ولذلك فإن وجود ربنا العزيز معنا روحيا يمكن أن يكون أفضل مما لو كان قد بقى معنا على الأرض. ألم يقل هو نفسه: «خیر لكم أن أنطلق؟ إن حلول المسيح في قلوبنا بالروح القدس، ووجوده معنا، وحولنا. أفضل جدًا مما لو كان قد بقي معنا بالجسد، حتى ولو كان ضمن أعز خاصته، بطرس ويعقوب ويوحنا.

 

2- حلقتان تتحدنا بالرب غير المنظور امتیاز

 «تحبونه» «تؤمنون به» (ع 8) من العسير أن نقول أيهما تسبق الأخرى، أو أيهما أكثر أهمية. نحن لا نستطيع أن نحب دون أن نؤمن، كذلك لا تقدر أن نؤمن دون أن نحب. الإيمان هو النور، والمحبة هي الحرارة، إن دخل أحدهما تبعه الآخر. إنهما ممتزجان معًا في كل شعاعة من الشمس، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما. ومقدار فرحنا يكون بنسبة وجود هذين التوأمين السماويين في نفوسنا.

1. المحبة. من لا يحب الرب يسوع لا يمكن أن يسمَّى مسيحيًّا. «إن كان أحد ما لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أثاثیما» (1 كو16: 22). هذا هو محك الاختبار لكل واحد منا: ليس ما نعترف به أو نقوله، بل هل نحن نحبه، وما هو مقدار محبتنا؟

لكن لنذكر أن المحبة تكشف نفسها على قد ما نتطلع إلى شخص المسيح أو العمله. فإنها تتخذ شكل الاعتراف بالجميل في الذين ينقذون غيرهم من بعض الضيقات، وتتخذ شكل الغبطة والسرور في الذين يجذبهم جمال صفاته، وتتخذ شكل تكریس الحياة لخدمته في شكل الذين انشغل بالهم بمطالبه.

وعلامات توفر المحبة كثيرة. في بعض الأحيان تكون العلامة الصمت والرهبة. وفي أحيان أخرى تكون الدموع التي لا يمكن حبسها، أو احمرار الوجه فجأة، أو أعمال الرحمة دون الرغبة في التظاهر، أو العزم على الاعتراف بالمسيح رغم كل تضحية. والمحبة تكشف عن نفسها، سواء في إحضار المياه من بئر بیت لحم رغم تعريض الحياة للخطر (2 صم 23: 15-17)، أو في المجيء بالحنوط لدهن جسد الرب بعد موته..

إن أكثر الناس محبة ليسوع كثيرًا ما اتهموا أنفسهم بأنهم لا يحبونه المحبة اللائقة به. فمحبتهم له ترى فيه أنه يستحق أكثر جدًا مما يمكنهم أن يقدموه. إنهم يحبونه محبة شديدة جدًا، لدرجة أنهم يفسحون الطريق لمن يحبونه أكثر منهم، ومع ذلك فإنه يحزنهم أن يبتعدوا عنه

فليتشجع أمثال هؤلاء، لأن ذلك الذي يعرف كل شيء يعرف مقدار محبتهم له. وعلى كل حال إن المحبة لا تقاس بالإحساسات، أو التنهدات، أو الدموع، بل بالأعمال. فأنت تحب المسيح بقدر ما أنت مستعد أن تفعله لأجله، أو تتألم أو تضحي من أجله.

كيف تحب المسيح محبة أوفر؟ اصرف وقتًا طويلًا وحدك، متأملًا فيما قد عمله من أجلك، وفي شخصه، وكيف أنه «معلم بين ربوة... وكله مشتهيات» (نش 5: 10، 16). حَرِّك النار الداخلية باستعادة ما في ذاكرتك، وألهبها بالمواعيد إلى أن تشتعل. تَعَوَّد أن تكلمه بصوت مرتفع في غرفة خالية، أو وأنت تتمشى وحيدًا، إلى أن تجده قد تغلغل في كيانك. افتح قلبك لدخول الروح القدس الذي يسكب محبة الله في القلب (رو5: 5)، وذلك لكي تحب الله بالمحبة التي جاءت إلى قلبك من قلبه، وَعَوِّد نفسك بصفة خاصة على أن تتمم -من أجل محبته العزيزة- أعمالًا كثيرة تكلفك الكثير من التضحيات والجهود. وإذ نظهر محبتنا للآخرين، ندرك محبته لأنفسنا. «كل مَنْ يحب فقد ولد من الله ويعرف الله. ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة» (1يو4: 7-8).

ليس مفتاح معرفة محبة يسوع هو الترتم بترانيم مثيرة، بل هو أن نتمم بهدوء كل يوم من أجله أعمالا تنم عن روح إنكار الذات. ويقينا أن هذه هي الطريقة التي بها نغرس أنفسنا كحبة الحنطة في الأرض (یو 12: 24). وفي نفس الوقت هو يقيس أقل عمل من أعمال المحبة، لا بمقدار عظمة العمل نفسه، بل بمقدار قوة المحبة التي تدفعنا إليه. عندما نبدأ باستخدام كل ما نعرفه فإننا ندهش إذ ترى بأننا ننمو سريعا في مدرسة المحبة.

2. الإيمان. من ذا الذي لا يصرخ مع التلاميذ قائلًا: «یا رب، زد إيماننا» (لو 17: 5). يقينًا أن زيادة الإيمان تعني زيادة الفرح. لكن هل نحن كلنا مستعدون لاستخدام الوسائط التي في متناول أيدينا، والتي بها يزداد إيماننا؟ إن بداية الإيمان هي هبة من الله، لكن نموه موكل إلينا بنعمة الروح القدس.

وهاك شروط نموه:

[أولًا] يجب أن ينتزع من القلب ومن الحياة كل شر نعرفه، وكل ما لا يتفق مع محبة الله وقداسته. إن سبب ضعف الإيمان هو تساهلنا مع الأشياء المحرمة التي تغلق منافذ النفس. هذه هي التي تعرقل النفس، وتعمی البصيرة

[ثانيًا] يجب توفير الوقت الذي يصرف في التأملات الهادئة في كلمة الله، وفي المواعيد الإلهية إلى أن تتبين لنا بأنها حقائق أبدية

[ثالثا] يجب أن نتعود الطاعة لكل واجب نعرفه، بحيث يتحول في الحال إلى العمل، حسبما تعلنه مشيئة الله، وذلك رغم أية صعوبة تعترضنا في طريقنا.

إذا ما اتبعت هذه القواعد فلا بد أن ينمو الإيمان جدًا، ويظهر المخلص حقيقته حية منيرة للنفس التي تحن لليد التي لن تخزي، والقلب الذي لن يكف عن أن يعطف.

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

3- الفرح الناشئ من هنا

ألا يوجد فرح في المحبة عندما يتحطم السياج الذي عطلنا سنوات طويلة، عندما يقدم الاعتراف بالخطية وتمنح المغفرة، عندما يمتلئ القلب سلاما، عندما يفتح مفتاح المحبة الذهبي أفخر الكنوز؟ إن كنا نعرف بأننا طالما كنا قد أحببنا المسيح فلا بد أن يكون قد أحينا، وأنه أحبنا محبة لن تتخلى عنا، بل تتشبث بنا في الحياة أو الموت وإلى الأبد، لا لشيء صالح فينا أو استحقاق، بل لأنه هكذا سرت مشيئته، وإن كنا مقتنعين بأنه لا شيء يفصلنا عن محبة المسيح مهما كانت سقطاتنا وضعفاتنا - فإن هذا كله يجب أن يملأنا فرحًا، مهما اشتدت وتعددت التجارب التي دعينا لنجتازها.

ألا يوجد فرح في الإيمان؟ «تأمل في مقدار الفرح العظيم الذي يحس به المديون الذي طال سجنه، الغارق في ديونه، عندما يطلق سراحه وتعود إليه حريته، أو الأثيم المحكوم عليه بالموت عندما يسمع أنباء الصفح عنه. هذا أبعد جدًا من أن يمثل لنا الفرح الذي ينشئه الإيمان بأن المسيح قد غفر لنا خطايانا. على أن الأمر لا يقتصر عند هذا الحد، فالنفس التي تؤمن لا تشبه فقط المديون الذي أعفى عنه، لكنها علاوة على هذا تنال ثروة جديدة جزيلة جدًا، إذ يكون لها نصيب في غنى المسيح الذي لا يستقصي، وفي رضا الله، وفي شرف البنين».

"وهذا الفرح لا يُنْطَق به". توجد أوقات في حياة المؤمن يشتد فيها الفرح بحيث لا يتجاسر على أن يتكلم. فالكلمات تبدو ناقصة، وتقصر عن أن تعبر.

وهو "مجید"(4). هو بنفس مقدار المجد الذي ينتظرنا في العالم الآخر.

هنالك لحظات نحس فيها بأننا نعيش في السماء ونحن على الأرض، نتلذذ فيها مقدما بنهر الحياة، تردد نغمات تسبيح الملائكة، نتناول فيها عناقيد العنب من كروم أرض الموعد، نقتطف فيها الزهور من رياض الفردوس.

آه، ليت لنا المزيد من أيام السماء على الأرض أن تكون في الطريق إلى السماء. ليتنا نرفع الصلاة دوما طالبين المزيد من ذاك الذي هو نفسه أسماء السماء، وهكذا يكون لنا شعار ذاك الذي كان يقول: «المسيح في القلب، والسماء في القلب، فالقلب في السماء».

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

6: آلام المسيح وأمجاده

«الخلاص الذي فتش وبحث عنه، أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة لأجلكم. باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها. الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أخبرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشروكم في الروح القدس ولذلك فلندرس المرسل من السماء. التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها» (1 بط 1: 10-12).

 

كانت قد مضت على بطرس ثلاثون سنة، مليئة بالتأملات العميقة، منذ وقف في ظلمة جثسیماني، أي منذ وقف مع حفنة من الخدم في دار رئيس الكهنة، أو منذ وقف كمتفرج محطم القلب في الدائرة الخارجية للجماهير المزدحمة، حيث شهد الام المسيح، تلك الآلام التي حاول بكل جهده أن يقنع المسيح بتفاديها. لكن هذه الآلام كانت لا تزال جديدة في ذاكرته كأنها حدثت بالأمس.

في كل هذه الرسالة تتجدد الإشارة إلى تلك الآلام التي بلغت درجتها القصوى في الجلجثة. لكن يا له من تغيير عظيم ذلك الذي حدث في نغمة صوت الرسول عند الإشارة إليها. لقد حدث تغيير شديد عن نغمته يوم قال قبيل التجلی: «حاشاك یا رب. لا يكون لك هذا». فإن العوامل التي جعلت بطرس يحتج بشدة على قبول المسيح للآلام قد فهمت الآن جيدا، وصارت موضوع أرق محبته. قارن ما ورد في (مت 22:16) بما ورد في (1بط 1: 11؛ 2: 21، 23؛ 3: 18؛ 4: 1، 13؛ 5: 1).

بهذه الآلام تم خلاصنا.. الخلاص» كلمة عظيمة. وفي الآيات الثلاث هنا (ع 5 و9 و10) يعطينا الرسول لمحة عن عمق ما تتضمنه. إنها عظيمة جدًا ومجيدة جدًا لدرجة أن أقدس القديسين لا يستطيعون في هذا العالم أن يدركوا تمامًا كل البركات التي يتضمنها هذا الخلاص. إنه سوف «يعلن في الزمان الأخير» فقط (ع 5). لأنه يتضمن تحرر أجسادنا من عبودية الفساد (رو 8: 21)، ونقلها إلى شبه جسد المسيح الجيد، تلك النتائج التي لا يمكن أن تتم قبل مجيء الرب ثانية.

وعلاوة على هذا فإن «الخلاص» يشمل ما هو أكثر من الخلاص من قصاص الخطية. ونحن كثيرًا ما حصرنا «الخلاص، في هذا المعنى فقط. فالخلاص هو أيضًا «خلاص النفوس» (ع 9)، وهذا لا يعني فقط جعل النفوس أمينة، بل أيضًا جعلها سليمة، وفي صحة كاملة، وجعلها كاملة. ويعني أيضًا غرس الطبيعة الإلهية فيها، واستبدال الفساد بالحياة الأبدية. وحسنا وجد الرسول بديلا لكلمة الخلاص فوضع بدلا عنها تلك الكلمة الحلوة القديمة والنعمة، التي تشمل كل طبيعتنا. ومن ذا الذي يستطيع أن يقدر «النعمة» التي أتتنا بمجيء خلاص عظیم كهذا إلينا؟(ع 10)

يجب أن لا نطيل التأمل الآن في هذا «الخلاص» رغم أن هذا الموضوع يلفت بشدة نظر كل الذين يرون أنهم مدیونون له بكل شيء، سواء في الحياة الحاضرة أو العتيدة. لكننا إذ نتقل منه، نطلب من قرائنا الأعزاء أن يسألوا أنفسهم عما إذا كانوا قد اختبروه، ليس فقط في الماضي على أساس أنه خلصهم من قصاص الخطية، وليس فقط في المستقبل على أساس أنه يقدم نفوسهم طاهرة وأجسادهم بلا لوم في حضرة الملك، بل أيضًا في الحاضر على أساس أنه يجب أن يكون موضوع تمتع مستديم لهم، ويضمن لهم النصرة كل يوم وكل ساعة على الخطايا المعروفة، سواء أتتهم من الداخل أو من عدو النفوس الألد.

إذن يجب أن تكون آلام المسيح موضوع تفكيرنا، ومن زاوية خاصة. رسم مصور ماهر صورة للصليب، وفيها صورنا واقفين خلف الصليب، لا نتطلع إلى المصلوب، بل إلى ظلال ثلاثة صلبان تسقط على منحدر الجبل. والصليب الذي في الوسط هو أضخمها. لكن وجوه المجتازين أو الواقفين بجوار الصليب متجهة نحونا، ومليئة بالنظرات التي تعبر عن المأساة بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أدق تصویر

لذلك فلندرس آلام المسيح من جهة تأثيرها على شهادة الروح القدس، وشهادة الأنبياء، وكرازة الرسل، وتطلع الملائكة إليها بفرح.

 

1- شهاده الروح القدس

«إذ سبق فشهد پالآلام التي للمسيح» (ع 11)، والاسم الذي أعطى للروح القدس له معنی جلیل، إذ قيل عنه أنه هو «روح المسيح»، على أساس أنه واحد مع الآب والابن، في سر الثالوث القدس، ومتمم تأثيره المبارك من نفس العرش الواحد، لكنه يوجه تأثيره ليعلن ربنا المبارك ويمجده. هو قدوس ومحب ومقتدر بكيفية لا يمكن وصفها، ومعرفته تؤدي إلى سعادة أبدية، ومع ذلك فإنه بكيفية عجيبة لا يشعرنا بشخصه، ويحاول فقط أن يوجه أنظارنا إلى المسيح (يو 16: 13-15).

لم يعط الروح القدس في ملئه قبل أن يتمجد المسيح (يو 7: 29)، ولم يسكب على الجميع إلا يوم الخمسين (يو 2: 17). أما في العهد القديم فكان يعطي بقدر معين، وفي أوقات معينة. انظر (قض 13: 25). وحتى قبل التجسد كان يشهد المجيء المخلص. وعند معمودية يسوع في مياه الأردن شهد له.

ولا عجب إن كانت شهادة الروح القدس قد اتجهت نحو آلام المسيح. وقد قيل في (عب 9: 14) إن المسيح قدم نفسه لله وقت الموت «بروح أزلی». لقد اشترك الثالوث في هذه العملية، التي تمت بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وقصده الأزلي (أع 2: 23). وكانت أخطر وأرهب عملية تمت أمامه. فكيف نعجب إذن إن كان الروح القدس قد سبق الزمن وأعطى إشارات وعلامات عن آلام الصليب، وشهد عنها؟ إذن فيقينا إننا نخطئ عندما لا نطيل التأمل في عمل المخلص في عالمنا، ذلك العمل الذي يعلق عليه الروح القدس أهمية قصوى. وإن التأكيد الذي يضعه على آلام المسيح يوحي إلينا بمقدار الكنوز التي لا يمكن تقديرها التي تنطوي عليها هذه الآلام.

وإن كان الروح القدس يضع أهمية كبيرة على آلام المسيح، فكم يكون اهتمامه بأمجاده. لقد بين الرسول هذه الأهمية عندما قال: «المسيح هو الذي مات پل بالحري قام أيضًا» (رو 8: 34). وكان هذا حقًا، لأن الأمجاد هي تاج الآلام وثمارها، والشهادة اللاهوت، والختم الإلهي على عمله، والأجر على تعب نفسه (أش 11:53). انتظری یا نفسی لكی تعددی أمجاد قیامته واحدًا فواحدا، وأمجاد جبل الصعود، وأمجاد موكب الظافرين من كل جنس، وأمجاد الجلوس عن يمين الله، وأمجاد مجيئه الثاني.

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

2- شهادة الأنبياء

ظهر هؤلاء الأنبياء منذ عصر صموئيل. غاروا غيرة لرب الجنود، وامتلأوا جدًا بروح حب الوطن، وقاموا بخدمات جليلة لأجيالهم، كانوا يقفون أمام الملوك من أجل حقوق الشعب، ويقفون أمام الشعب من أجل حقوق الله. وقف ناثان أمام داود، وإيليا أمام أخاب، وأشعيا أمام آحاز، وأرميا أمام صدقيا، ويوحنا المعمدان أمام هيرودس.

كما قد تبدو كلمة «نبی» في نظرنا بأنها تعني التنبؤ عن المستقبل. لكنها في أصلها تعني «يغلی»، كما أشار إليها المرنم عندما قال «فاض قلبی بكلام صالح» (مز 45:1)، وكما تدفع ينابيع المياه إلى الأراضي الجرداء فتجعلها تزهر. ومع ذلك ففي نبواتهم التي وجهوها بصفة مبدئية إلى أبناء عصرهم كانت توجد معان عميقة وإشارات إلى المستقبل، تتطلب تحقيقها بشكل أكمل مما كانت تتطلبه الأحداث الوطنية مهما كانت خطيرة الشأن.

كانت العلامة المميزة لليهود أنهم، بعكس باقي الأمم، كان عصرهم الذهبي مكشوفًا أمامهم كهدف مشرق، وأن بطلهم الأعظم لم يكن أباهم الأرضي، بل أباهم السماوي، كانوا يتوقعون دوامًا أول وطأة قدم المجيء ملكهم الأعظم الذي يحقق أسمَى آمالهم. وكان الأنبياء هم أهم من بين لهم هذه الآمال. لكن هذا لا يكفي لإيضاح دقة وكمال التفاصيل، تلك الدقة التي تميز كلماتهم. كان هنالك عنصر لا يمكن تعليله بأية عوامل عالمية أو بأي ذكاء بشري. بل «تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (2 بط 1: 21). 

«روح المسيح الذي فيهم». 

 [أولًا] كان فيهم على أساس أنه روح الإعلان، معلنا لهم حقائق عجزوا عن أن يروها مقدما أو يكشفوها، تلك الحقائق التي حيرت عقولهم حتى بعد الحصول عليها.

[ثانيًا] كان فيهم على أساس أنه روح الإلهام والوحي، مقدما معونة روحية في إذاعة الحق. وهكذا يتضمن الكتاب المقدس حق الله، معبرا عنه بكلمات بشرية تقدم إلينا -رغم هذا- تقريرا سديدا كافيا عن المقاصد الإلهية.

لذلك فمن السهل أن نفهم أن ثقل كلماتهم لا يقل عن ثقل كلمات الروح القدس. فعن طريقهم شهد للآلام والمجد. إن «حبل القرمز» (یش 2: 21) الذي ربط في الجلجثة يحيط بكل كوة في الكتاب المقدس. في كل كلمة نسمع أصوات بكاء الصليب، وأصوات تهليل القيامة. هنالك «موسى وإيليا اللذان تكلما معه عن خروجه الذي كان عتيدًا أن يكمله في أورشليم» (لو 9: 30-31). وهكذا عندما تكلم السيد مع تلميذی عمواس فسر لهما من جميع الكتب «أن المسيح كان ينبغي أن يتألم ويدخل إلى مجده» (لو 24: 26-27، 46). هكذا أيضًا خاطب بولس الرسول أهل تسالونیكی "موضحًا ومبينًا أنه كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات" (أع 17: 3).

ومع أن الأنبياء تحدثوا عن هذه الأمور، فإنهم لم يفهموا كل معناها. فقد كانوا يحصرون تفكيرهم في مجرد النواحي التي يخدمون فيها. كانوا -كدانیال- يسمعون ولا يفهمون (دا 12:8). لقد عجزوا عن تفسير غوامِض التواریخ، وعن أن يروا من بعيد أسرار وأمجاد الأيام القادمة. وكثيرا ما ارتبك أقدس قدیسی اليهود أمام علاقة الموت بالحياة، وعلاقة التعب بالانتصار، وعلاقة الظلام بالنور، فبدا هنا الارتباك على صفحات أسفارهم النبوية.

لقد أقنعوا أنفسهم بأنهم يكفيهم أن يكونوا قد خدمونا. وكانت خدمتهم لنا خدمة جليلة جدًا. فإن أبسط مؤمن الآن يجد شهادة لا تذخر عن صدق الكتاب المقدس، إذ يستطيع مقارنة نبوات العهد القديم بإتمامها في العهد الجديد، ويوفق بينها كتوفيق المفتاح مع القفل. ولا يوجد برهان أقوى من هذا على سلامة الكتاب المقدس وسلطانه.

 

3- كرازة الرسل

كانت كرازتهم مليئة بالحديث عن نفس الموضوع (ع 12). كان الإنجيل الذي أذاعوه هو أنباء موت وقيامة ربهم. لقد بشروا بيسوع المسيح وإياه مصلوبا. وافتخروا قبل كل شيء بالصليب. لم يزعجهم قط بأن الصليب كان عثرة لليهود وجهالة لليونانيين. وقد تمسك الرسل بأن يعلنوا أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبه الناس - ربًا ومسيحًا (أع 2: 36؛ 4: 10).

وقد تعاون الروح القدس مع كرازة كهذه. فالرسل «بشروا في الروح القدس، أو بقوة الروح القدس. وقد قيل في هذه الآية أن الروح القدس أعلن هذه الأمور عن طريقهم. إذ كان موضوعا شغل كل اهتمامه. فإن من تكلم في الأنبياء تكلم في الرسل ومعهم، وعمل بقوة في قلوب البشر عن طريق خدمتهم، وهكذا لم تكن كرازتهم «بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة» (1 كو 2: 4). وإذا ما كرز الناس بعقيدة الصليب وجدوا مصادقة الروح القدس على كرازتهم.

 

4- موضوع اهتمام الملائكة

هو نفس الموضوع المبارك. لقد كانوا يشتهون أن يطلعوا عليه. «التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها». إنها تنحني عليه، كما كانت الكروبيم تنحنی فوق الغطاء حيث وضعت هذه الحقائق، ورش عليها الدم، لعلها تناقشت طويلًا حول المعنى الكامل لموت المسيح. ومع أنها لا تقدر أن تدرك كل معناه، فإنها تكتفي بأن تترنم بكل ما تعرفه، صارخة: «مستحق هو الخروف المذبوح» (1 رؤ 5: 12)

لعل هذه الآلام قد زادت الملائكة اقترابا من الله، وعلى أي حال فقد أعطتهم فكرة عميقة عما في قلب الله، لم يكن ممكنا أن يصلوا إليها بطريقة أخرى. وإذ ذاك زاد إعجابهم وزاد تسبيحهم لله.

وإن كان الملائكة، مع ما لديهم من المعرفة، يجدون دوامًا معانی جديدة الآلام المسيح والأمجاد التي بعدها، فما أقل معرفة أحكم الناس فينا لها. نحن لا تعرف إلا القدر الضئيل من هذا المحيط الذي لا يحد اتساعه. فنحن لا زلنا في بداية المعرفة.

لكن يقينًا إنه قد قبل ما يكفي لكي يكشف عن معانی جديدة لآلام المخلص. وإذ نرجع إليها، نجد الارتفاع والعمق والطول والعرض في هذه المعانی، التي شغلت أذهان الأنبياء والملوك، والملائكة والقديسين، وحيَّرتهم.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

7: كونوا قديسين

«لذلك منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين، فألقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح. كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم. بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضًا قديسين في كل سيرة، لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس. وإن كنتم تدعون أبا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم بخوف» (1بط 1: 13-17).

 

كلمة «لذلك» التي تبدأ بها هذه الآيات تلخص الآيات السابقة، ويجعلها الرسول قاعدة متينة يبني عليها كلامه التالي لها. لأن مصيرنا هو ما وصلنا إليه، ولأن يسوع المسيح هو هو، ولأن خلاصنا كان موضوع اهتمام الأنبياء والرسل والشهداء والملائكة، «لذلك»...

وموضوع بحثه هو القداسة. «كونوا أنتم أيضًا قديسين في كل سيرة». إن النداء للقداسة يرن صوته في كل الكتاب المقدس، هي النغمة التي يرددها دوامًا سفر اللاويين، الذي اقتبست منه هذه العبارة. قارن (1بط 1: 16) بما ورد في (لا 11: 44، 19: 2، 20: 7، 26 إلخ.). وهي أيضًا المطلب الرئيسي في العهد الجديد. والواقع أن كلمة عملية الفداء العجيبة، منذ المشورة الأزلية إلى حلول الروح القدس في يوم الخمسين، كان هذا هو هدفها: أننا نحن أبناء النعمة ينبغي أن نتمثل بالله في القداسة التي هي الترنيمة الدائمة لجوقة ملائكة السماء، تلك الترنيمة التي سمعها النبي الإنجيلي أشعيا في الهيكل في سنة وفاة عزيا الملك، والتي سمعها فيما بعد أيضًا يوحنا الحبيب إذ كان في منفاه في جزيرة بطمس، والتي لن تنتهي إلى الأبد: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود» (أش 6: 3، رؤ 4: 8).

القداسة يختص بها الله وحده. هي مجموع الصفات الإلهية، خلاصة اللاهوت، الوتر الذي يخرج نغمة متناسقة من الصفات الإلهية، الشعاع الذي يجمع الألوان الكثيرة في الكمالات الإلهية. هي اللفظ الواحد الذي يعبر عن طبيعة الله. أبعادها لا تُحد. مجدها يبهر عين أي مخلوق خلقه الله. «من مثلك بين الآلهة یا رب. مَنْ مثلك معتزًا في القداسة. مخوفًا بالتسابيح. صانعاُ عجائب»؟ (خر 15: 11). لن يستطيع لسان أن يتحدی حق الله في أن يعلن بأنه هو «قدوس إسرائيل» (أش 43: 3)، أو يقول في الكلمات التي أمامنا «لأني أنا قدوس» (1 بط 1: 16).

وواضح أن هذه القداسة ميسورة لنا. فالله القدوس دعانا إليها (1بط 1: 15). «لأن الله لم يدعُنا للنجاسة بل في القداسة(5)» (1 تس 4: 7). وهو قد «دعانا دعوة مقدسة» (2 تي 1: 9). وكل الذين صاروا «شركاء الدعوة السماوية» دعوا «إخوة قديسين» (عب 3: 1).

لكن الله لا يدعونا إلى قمم عالية نعجز عن أن نتسلقها، ولا إلى مهام لا نقدر أن نتممها. ودعوته تتضمن حقیقتين [الأولى] إن قداسته في متناول أيدينا [الثانية] إنه مستعد أن يمدنا بكل ما يلزم لكی يتمم فينا ما يدعونا له. الله يريد بأن يجعلنا قديسين، وهو قادر أن يكمل ما وضع أثاثه عند أعماق الجلجثة (لو 14: 29، 30).

وليست هذه القداسة وقفًا على القديسين والرسل وحدهم، ولا على الأيام الذهبية الخاصة التي يختبرها الكثيرون. فالمثل الأعلى الذي وضعه الله شامل جدًا «في كل سيرة» (1بط 1: 15). لقد تنبأ زكريا عن العصر الذي تكتب فيه حتى على أجراس الخيل تلك العبارة التي كانت تكتب على عمامة رئيس الكهنة، وهي: «قدس للرب». والله يريد أن تكتب هذه العبارة على أجراس البيوت، وأجراس المكاتب، وأجراس الحوانيت، وأجراس المصانع. وهكذا تكون في كل ناحية من نواحي حياتنا نغمات موسيقية حلوة تُرفع لربنا العظيم الأبدي. ينبغي أن تتوفر القداسة في كل ركن، وفي كل ناحية من حياتنا اليومية، مثل الجلاجل الذهبية التي كانت تبين كل حركات رئيس كهنة إسرائيل (خر 28: 33-35؛ زك 14: 20-21).

هنالك طريقة وحيدة نكون بها قديسين كما أن الله قدوس: هي الطريقة الواضحة أن نفتح كل كياننا ليسكن فينا الله القدوس. لا يستطيع أي واحد منا أن ينال القداسة بعيدًا عن الله. ليست القداسة ممكنة إلا إذا امتلكت النفس الله، أو بالأحرى، إذا امتلك الله النفس. لا يمكن قط أن تكون غريزة موروثة، ولا يمكن أن ننالها بعيدًا عن ملء اللاهوت، كما أن النهر لا يمكن أن يفيض إن قُطع عن منبعه. ونحن نكون مقدسين بنسبة ما يمتلكنا الله. والذي يتمتع بقدر ضئيل من القداسة هو الذي لا يسمح لله إلا بقدر ضئيل من كيانه، وبعده عن حياته اليومية بستائر سميكة من الإهمال والتكاسل. والأكثر قداسة هو من يحرص بأكثر تدقيق على إنكار نفسه، ويطلب زيادة الامتلاء من الله. الأكثر قداسة هو من يسلم نفسه تسليمًا كليًا لتأثير وتملك وتحرك الروح القدس، الذي يتوق أن يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية لأقصى حد.

أتريد أن تكون أكثر قداسة؟ هنالك طريقة واحدة فقط: هي أنك يجب أن تفسح لله مجالًا أوسع في قلبك، القداسة هي جمال رب الجنود.. وأنت لا تقدر أن تفصل القداسة عن الله، أو الله عن القداسة. لكي تكون لنا القداسة ينبغي أن يكون لنا الله. كما أنه ليس من العسير الحصول على كليهما، فهو يتوق إلى أن يحل في داخلك. وأشواقك هي استجابة قلبك الضئيلة لدعوته. والقوة التي تعمل في الداخل تعادل النعمة «القادرة أن تفعل كل شيء أكثر جدًا مما نطلب أو نفكر» (أف 3: 20). لم يشته الإنسان قط من الله أكثر مما اشتهاه الله من الإنسان. وقداسة الله أعلنت نفسها في هيئة بشرية في شخص يسوع المسيح ربنا. ولذلك فهي قادرة كما هي مشتاقة إلى دخول حياة البشر عن طريق روح الله القدوس الذي به نمتلئ إلى كل ملء الله (أف 3: 19). فاطلب من أبيك السماوی لیملأك بذلك الروح القدس. هو يتوق أن يعطينا الروح القدس أكثر مما يتوق أي أب أرضي أن يعطي خبزًا لابنه الجائع. وإذ تطلب، تجاسر على أن تؤمن بأنك قد أخذت، «واذهب بقوتك هذه» (قض 6: 14).

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

وهذه القداسة تعلن عن نفسها بطرق كثيرة.

1- روح التغرب والارتحال

اعتاد أهل الشرق أن «ينمطقوا أحقاءهم». فهم يلبسون الملابس الفضفاضة التي تساعدهم على سرعة التحرك، والتي تناسب جو بلادهم. لكنها تعطل كثيرًا الشخص المسافر، أو المصارع، أو المحارب. عندما كان الإسرائيليون ينتظرون كل لحظة الدعوة للخروج كانوا يقفون، وأحقاؤهم ممنطقة، حول المائدة التي عليها خروف الفصح. هكذا منطق النبي الناري نفسه لكي يركض أمام مركبة آخاب، من الكرمل إلى يزرعیل (1مل 18: 46).

إن نفوسنا مرتدية ملابس واسعة من الشهوات المختلفة، والعواطف والنزوات، وهذه الملابس غير ملتصقة بأجسامنا، بل هي حرة طليقة فضفاضة، غير أنها تمسك بأشياء كثيرة من العالم، وتعرقلنا في ميدان الجهاد المسيحي. فينبغي أن لا ندعها تهفهف حيثما شاءت، وإلا تعرضنا لخطر شديد. لقد تحسر أبشالوم على اليوم الذي طالت فيه خصل شعره وتموجت خلفه مع الريح. فيجب أن نمنطق عادات نفوسنا، ونهندم ذواتنا، لكی نجتاز -بسرعة وسهولة على قدر استطاعتنا- وسط غابة هذا العالم الشائكة.

منطق ذاتك، واكبح جماح شهواتك. قاوم محبة التلذذ بالعالم. اقتصد في نفقاتك على نفسك، دون إسراف. راقب عينيك وشفتيك، أفكارك ورغباتك، لئلا يفلت منك زمام ضبط النفس. «فوق كل تحفظ احفظ قلبك» (أم 4: 23). لا تنشغل كثيرًا «بسوق الأباطيل» [العالم]، بل اعبره بسرعة.

كونوا «صاحين». الصحو صفة عظيمة، طالما أوصِىَ بها في العهد الجديد الأساقفة، والشمامسة، والنسوة، والمتقدمون في السن، والشبان، والشابات. وهي تعني الاعتدال، وضبط النفس، وتقدير المرء لنفسه بالحق والعدل، هنالك بعض مِمَّن يفقدونها باتخاذ موقف عبوس صارم، يمتنعون عما هو برىء وطبیعي، وينظرون باحتقار إلى من لا يستسلمون لوساوسهم. أما الشخص الصاحي حقًا، المتعقل، فإنه بالعكس يتحرك بحرية في العالم المليء بالأشياء الجميلة البريئة، ويحسن استخدامها، وبفرح بكل شيء صالح يعطيه الرب، لكنه لن يسمح لأي شيء منها بأن يسيء إلى عواطفه، أو يطغى على إرادته.

عندما ينشغل القلب بكليته بالرب، وبخدمته، ومحبته، فإنه لا يمكن أن يفتن بأية مناظر خلابة، بل يعطي ظهره لكل إغراءات العالم. إن القلب الطاهر، الذي احتله كله الله، يشبه رجلًا دُعي إلى وليمة فاخرة، فخرج منها وهو يحتقر الأطعمة التافهة التي يتهافت عليها الفقراء المعدمون.

رجاء تام. «فالقوا رجاءكم بالتمام». سیروا بلا خوف حسبما يرشدكم الرجاء. لیكن للرجاء عمله الكامل، فالرجاء لا يُخزي. عندما تنقشع الغيوم، ويستعلن الرب يسوع من السماء، فإنكم سوف تجدون أن «النعمة التي يؤتي بها إليكم» تفوق كل تصورات الرجاء. الرجاء هو سراج النفس. وفي بعض الترجمات يتبين أن النعمة «آتية» إلينا، أي أنها في طريقها إلينا.

 

2- أولاد الطاعة (1بط 1: 14)

كنا سابقا أولادًا عصاة، لكننا إذ تجددت حياتنا، صرنا أولاد الطاعة، أولادًا مطيعين، وصار للأم الجميلة ذرية نبيلة. هذا ما يوحي به النص الحرفي في الأصل اليونانی. ويا له من تغيير عجيب يحدث في حياة الذين يجوزون هذا الاختبار. إنهم لا يعودون بعد يشاكلون شهواتهم السابقة. «لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم» (1بط 1: 14).

الشهوة عاطفة طبيعية، ولما تنحرف تتخطى كل الحواجز، لتنفذ إرادتها المستبدة. عندما نكون لا نزال في ظلام الطبيعة، غیر مستنيرين بنعمة الله، فإن هذه الشهوات تتحكم فينا، فنشاكلها، بل هي تشكلنا كما يشكل الفخاری الآنية. إن الجهل بشناعة الخطية، وعواقبها الوخيمة، وطبيعتها الماكرة المخادعة، يؤدی بنا إلى الاستسلام لها إلى أن تتحكم فينا وتهلكنا. وعندما نستيقظ، فإننا نفزع عندما نرى الهاوية السحيقة المروعة التي تحتنا المؤدية إلى جهنم. لكن عندما لا نشاكل شهواتنا السابقة، بل نسلك حسب إرادة الله، فهذه هي الطاعة.

من المستحيل أن نعبر عن أهمية هذه الحقيقة. فالطاعة ليست هي القداسة، لأن القداسة هي امتلاك الله للنفس. لكن القداسة تؤدي دوامًا إلى الطاعة. وفي كل مرة نطيع نكتسب في طبيعتنا قدرًا أوفر من طبيعة الله. «إن سمعتم لصوتي (6) وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة» (خر 19: 5). إذن فافعلوا الصالح، وانبذوا كل ما يتجه نحو خدمة الذات. لا تكتفوا بالصلاة والتمنيات الطيبة، بل اعطوا. وعندئذ يتبين على وجوهكم وفي حياتكم أنكم ازددتم تمثلًا بأبي الأرواح، وتكونون قديسين.

قليلون من المسيحيين هم الذين يدركون أن الطاعة لإرادة يسوع وناموسه، حتى في الأمور التافهة، وفي كل شيء، هي الشرط، الذي لا غنى عنه، للحياة وللفرح وللقوة. النفس المطيعة هي النفس المقدسة، التي يسكنها الله ويملأها، ويشع منها النور والمحبة. أيها القارئ العزيز، اعتزم من هذه اللحظة على أن تعيش وفق ما لديك من نور. ليكن شعارك هو هذا: «كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له (7)» (خر 34: 7). لقد قال إسرائيل هذا، لكنهم فشلوا فشلًا ذريعًا. فقولوه أنتم بقوة الروح القدس، وعندئذ يجعله أمرًا يسيرًا جدًا.

 

3- مجازاة الآب السماوي

«وإن كنتم تدعون أبا الذي يحكم (8) بغیر محاباة حسب عمل كل واحد فسيروا زمان غربتكم بخوف» (1بط 1: 17). سوف يدان أولاد الله أمام كرسی دینونة المسيح (2كو 5: 10)، وهذه الدينونة سوف تحدد جزاء أمانتنا أو العكس (مت 25: 19، 1 كو 3: 14).

هذه الدينونة متخذة مجراها الآن، ونحن الآن واقفون أمام كرس الدينونة. «الذي يدين» في الحاضر، علاوة على المستقبل. إن الحكم الإلهي يصدر تباعًا على كل تصرف من تصرفاتنا، ويظهر نفسه في كل ساعة، خيرًا كان أم شرًّا.

وهذه الدينونة هي دينونة الآب. فنحن ندعوه أبًا. لاحظ أن هذه الدعوة متبادلة. فهو دعانا، ونحن ندعوه. ودعوته لنا كأبناء تنتج عنها دعوتنا له كآب. ولا داعي لكي نخاف من فحصه لنا، فهو فحص رقيق. «كما يتراءف الأب على البنين يتراءف الرب على خائفيه. لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن» (مز 103: 13-14).

وهذه الدينونة «بغیر محاباة». لقد أعلنت هذه الحقيقة للرسول بطرس قبل ذلك بسنوات طويلة برؤيا مجيدة في السماء، فأثرت على خدمته التالية (أع 10: 35). نحن لا ندان حسبما نتظاهر به في أقوالنا، أو حسب المظهر، بل «حسب عمل كل واحد».

النفس التقية تدرك هذا بقدر كبير من الرهبة، لا رهبة الخوف الذي له عذاب (1يو 4: 18)، بل رهبة المحبة، التي تجعلنا «نسير زمان غربتنا بخوف».

لا خوف العواقب الشريرة، بل خوف إحزان الأب وإغضابه، أو فقد علامات محبته والقرب منه التي تُمنح للأبناء المطبعين. «المحبة تطرح الخوف إلى خارج» (1 يو 4: 18)، لكنها أيضًا تنشئ الخوف. لا خوف الجبن، بل رقة الضمير الذي يخشى أقل أثر يعكر جو الحياة الداخلية، فيحجب عنا نور وجه الآب إلى لحظة. وهكذا تمر أيام الغربة سريعًا، فنرى الوطن السماوي يحيينا، ويأمرنا بأن نسرع الخطى إليه.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

8: مفديون بالدم

«عالمين أنكم افتدیتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب او دنس دم المسيح، معروفا سابقا قبل تأسیس العالم، ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم، أنتم الذين به تؤمنون بالله الذي أقامه من الأموات وأعطاه مجدا حتى أن إيمانكم ورجاءكم هما في الله» (1بط 1: 18-21).

 

نحن ننتمي لجماعة المفديين (1تی 2: 6). وأغلب البشر لا يدركون هذه الحقيقة. وبعض الذين يعرفونها لا يسمحون لمعرفتهم بأن تؤثر على حياتهم أو سلوكهم، بل يبيعون بكوريتهم من أجل أكلة عدس. وسعداء هم الذين لا يتواكلون على حقيقة الفداء على أساس أنهم قد حصلوا عليه فعلًا، لكنهم أيضًا يسمحون له بأن يكون هو الرئيسي في كل حياتهم، لأمثال هؤلاء يوجه الرسول هذه الكلمات بقوة عجيبة «عالمين انكم افتدیتم».

لعل أخطر حقيقة بصددنا هي أننا افتدينا. إنها حقيقة خطيرة أننا خُلقنا، دُعينا إلى الوجود بمقتضى الأمر الإلهي الذي صدر بإرادة الخالق. وإنها لحقيقة خطيرة أننا وُهبنا الحياة في عالم مليء بالإمكانيات العجيبة التي نتمتع بها. وإنها لحقيقة خطيرة أن تكون لنا نفس، تستطيع أن تذكر الماضي، أو تتساءل عن الحاضر، أو تنظر المستقبل. لكن أخطر الكل هي أننا افتُدینا. افتُدينا كما افتُدى شعب الله من عبودية مصر، أو كما يُفتدى العبد من العبودية ويطلق حرًا، أو كما يُفتدي عبد الخطية والعادات الشريرة ويوهَب الحرية. افتُدينا أو اشتُرینا. ليس معنى هذا أن السماء اشتُريت لنا، بل أننا اشتُرينا للسماء. هذا يميزنا إلى الأبد من كل المخلوقات الأخرى.

 

1- ثمن فدائنا غال جدًا

1- من الناحية السلبية: «لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب». إن الرجل الغني، الذي تعود أن ينظر إلى ثروته كمفتاح لكل سعادة، يذهل في بعض الأحيان إذ يجد أنها ليست كذلك. فهي لا تمس إلا هامش الحياة، لكنها تفشل فشلًا مطلقًا في النواحي التي تؤثر على جوهر وجودنا كبشر. فالمال لا يعوض عن النذر الذي نقضناه، ولا يسترد الكلمات التي تحطم النفس، ولا يسترد حياة الابن العزيز الذي مات، ولا يكفر عن نقص المحبة. «إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقارًا» (نش 8: 7).

يستطيع المال أن يشتري فقط الأشياء التي تفني مثله. أما إذا دخل، أو حاول دخول منطقة النفس الأبدية الخالدة، فإنه يجد الباب موصدًا، ويجد أن عملته لا يمكن تداولها، وأن طلباته لا تستجاب.

أنت لا يمكنك أن تشرح الحجة المقنعة بالسكين، أو تقیس المحبة بالمتر، أو تزن النفوس بالأوقية. وعلى هذا القياس يمكن القول إنه من المستحيل فداء النفس «بأشياء تفنى بفضة أو ذهب». لا توجد علاقة بين الذهب والفضة، اللذين لا بُد أن يفنيا أخيرًا مهما طال بقاؤهما، وبين النفس الخالدة، غير القابلة للفساد أو الفناء، والتي سوف تتحدى المادة، بل تتحدى انقضاء الدهور.

كان يمكن أن يعطي الله شموسًا من ذهب، أو كواكب من فضة، أو مجموعات نجوم متلألئة ذات معادن ثمينة. لكن لا شيء من هذه يكفي لتحرير نفس واحدة من لعنة الخطية وقصاصها، أو تغيير صاحبها ليصير ضمن رعاياه الأمناء المخلصين. لو وُضعت في إحدى كفتي ميزان المسكونة أكوام من كنوز السماء، وجواهر حوائطها، وذهب أرضيتها، ووُضعت في الكفة الأخرى نفس واحدة، فإنها تُرجحها كلها. ليست للمادة قيمة في غرفة ميزان الأبدية. ولذلك كان لا بُد لله لكي يفدي أن لا يعطي أشياء بل حياة، لا يعطي عطاياه بل يعطي نفسه.

2- من الناحية الإيجابية: «بل بدم كریم... دم المسيح». الدم هو حياة كل جسد. الحياة هي أسمَى ما يمتلكه الإنسان، وأسمَى عطايا الله. إن بذل الإنسان شيئًا أقل من الحياة من أجل غيره، فقد فشل في تقديم أكمل صورة من حياة البذل. أما إن قدم حياته، فقد فعل كل ما يمكن عمله. وعلاوة على هذا فإنه عندما يذكر الدم مقترنًا ببذل الحياة فإن هذا يتضمن الموت الفجائي، والآلام المبرحة، والعنف والقسوة. والأكثر من هذا أن كل من درس سفر اللاويين، وأدرك كل ذلك النظام الذي تعلمه بطرس الرسول منذ الطفولية لا بُد أن يتذكر في الحال نظام الذبائح، الذي بمقتضاه كانت تقدم الغنم يومًا فيومًا من أجل خطايا الشعب.

عندما يتحدث الرسول عن أننا افتدينا بدم المسيح «كما من حمل بلا عيب أو دنس»، فإنه لا يشير فقط إلى الآلام والقسوة والظروف التي اقترنت بموته، بل يردد تلك الفكرة الأولى عن الرب التي سمعتها أذناه من شفتي المعمدان العظيم، الذي تتلمذ له بطرس في بداية حياته الدينية (يو 1: 35-42). ولا شك في أنه أراد أن يبين بوضوح العلاقة بين مصلوب الجلجثة وبين الحملان التي كانت تقدم في عبادة الهيكل الصباحية والمسائية، وتلك التي كانت تذبح كل سنة في عيد الفصح العظيم، وغيرها التي كانت تسفك دماؤها بصفة مستمرة للتكفير عن الخطية، بل عن الخطايا.

وعندما نتأمل في عدد الحملان التي كانت تذبح في الهيكل قديمًا، يجب أن نذكر دوامًا أن كمية كبيرة من لحومها كان يأكلها الكهنة أو مقدموها، وكانت كل طريقة تتبع بحيث تحفظ الطقس المقدس طاهرًا وجميلًا. وعندما نذكر بأن وظيفة المخلوقات الدنيا هي أن تخدم مصالح الإنسان الضرورية، ندرك أنه لا يوجد فرق كبير بين أن تموت لتقدم لنا عن طريق الرمز - حقائق روحية عظيمة، التي هي الحياة والنفس، وبين أن تقدم غذاءً مناسبًا لإعالة الجسد، ودعني أكرر بأن هذين الغرضين كانا يتوفران في الذبائح اليهودية.

إنه لأمر جوهری جدًا أن نضع أهمية كبيرة على القصد من هذا الفصل، الذي يؤيده الكتاب المقدس في أصحاحات مماثلة كثيرة، وهو أن موت المسيح لم یكن فكرة طارئة نشأت عن سقوط الإنسان، بل كان قد دُبر قبل إنشاء العالم، لقد رُتب في فكر الله وقصده أن يكون ربنا هو الحمل المذبوح، وذلك قبل أن تظهر الجبال، وقبل أن تدور الكواكب في مداراتها، وقبل أن تشرق أول شعاعة من النور في الظلام «معروفًا سابقًا (أو معينًا من قبل) قبل تأسيس العالم» (1بط 1: 20، رؤ 13: 8)..

 والواقع أن ذبائح الطقوس اليهودية كانت «أمثلة الأشياء التي في السماوات» (عب 9: 23). لعل موسى، عندما صعد إلى الجبل، سُمح له بأن يطلع على قصد الله وخطته نحو فداء الإنسان. وهذه إذ مثلت أمام عينيه تجسمت في رموز الكهنوت، والذبائح، والطقوس، الأمر الذي استخدمه الله كطريقة لتعليم الشعب بصورة مادية عن الحقائق الأبدية.

ينبغي أن لا نظن بأن فكرة الصليب نشأت من سفر اللاويين بل لندرك بأن سفر اللاويين نشأ من الصليب الذي كان مرسومًا في فكر الله منذ الأزل. ومع ذلك نحن لا نخطئ إذ نقول أن سفر اللاويين هو المفتاح الحقيقي لكی نفهم معنى الصليب. في أسفار الكتاب الأولى يقدم لنا الروح القدس الاصطلاحات التي كان سوف يستخدمها فيما بعد، وعبثًا نحاول فهم أعاجيب الصليب دون الدخول إلى عمق معني طقوس وذبائح اليهود القديمة.

إن وُجد ما هو أكثر وضوحًا في الذبائح اليهودية فهو إنابة البرىء عن الأثيم. وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفهم معنی موت فادینا. بهذا المعنى بذل نفسه من أجلنا. وهذا هو السبب الذي لأجله يضع الرسول بطرس تشديده على أن ذبيحة المسيح ثمينة جدًا. لم يكن ممكنًا تقديم أي شيء أقل من دم المسيح الثمين. لأنه كان يجب أن لا يُقدم دم مجرد شخص عادي يتألم، بل دم شخص يقدر أن يتألم من أجل كل الخطاة.

إن دم المسيح ثمين بسبب سمو طبيعته، وبسبب كمال صفاته. فهو «بلا عيب» أي بدون خطية شخصية، وهو «بلا دنس» أي لم يتدنس باحتكاكه بالخطاة (1بط 1: 19). هو مثل الحمل في الوداعة، والرقة، والطهارة، وعدم الشكوى من التألم. ولذلك كان يليق بعملية تطهير كل الخطايا. آه، یا له من دم ثمين، ويا لقلب يسوع المقدس الذي تفجر منه هذا الدم، إنه قلب مقدس، محب، رقیق، سُحق بالحزن. يا لنقاء تلك الثياب التي تُغسل في ذلك الينبوع، فهي أنقَى من الثلج.

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

2- غاية فدائنا

«من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء». هل تدرك تمامًا المركز الذي نَقلنا إليه -نحن المؤمنين- سفك دم يسوع؟ هو ثمن فدائنا، الثمن الذي اشتُرینا به لنكون بكليتنا ملكًا للمسيح. كان الرسل يعيشون في زمن عبودية قاسية، ولذلك لم يترددوا عن أن يقتبسوا منها الصورة التي تبين علاقتنا بمخلصنا. «إنكم لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشتُريتم بثمن» (1 كو 6: 19-20؛ 7: 23).

كان من يشتري عبدًا يعتبره متاعًا له، أو قطعة من أثاث البيت. كان يمكنه -إن أراد- أن يطوح به ليكون طعامًا لأسماكه، دون أن يجد من يحتج عليه أو يعاقبه. كان يعتبر بأنه حر التصرف في كل ممتلكاته وإيراداته ومواهبه، وأن كلمته قانون مطلق. هذه هي حقوق مخلصنا الصالح علينا. فقد اشترانا من لعنة الخطية وقصاصها، لنكون له شعبًا خاصًا، ملكًا له.

من ذا الذي يقدر أن يعيش كما تعود أن يعيش، سائرًا في سيرته الباطلة، التي تقلدها من الآباء، مكتفيًا بأن يفعل كما يفعل غيره الذين هم أمامه؟ لقد وُضعت علينا مطالب جديدة. وفادينا هو الرب. وكما أنه حررنا من لعنة الخطية وقصاصها، هكذا يطلب منا أن نخرج ونكرس أنفسنا له، ونترك الخرنوب لنأكل الخبز، ونهجر الأوهام لنتمسك بالحقيقة، ونترك السيرة الباطلة التي تقلدناها من الآباء لنتمسك بالطهارة والقداسة ونكرس انفسنا له.

يا للتغيير العجيب المقدم لنا في يسوع المسيح، فسيرتنا الباطلة تستبدل بالقداسة في كل سيرة (1بط 1: 15)، وتقليدات الآباء تستبدل بالسمو إلى فوق لاتباع ذاك الذي قام من الأموات إلى المجد، واتكالنا على السيرة الباطلة التي تقلدناها من الآباء يستبدل بالمسيح نفسه.

هل اتخذت وجهة النظر هذه؟ إن لم تكن قد اتخذتها فاعترف بالدموع بلا إبطاء أنك قد سلبت سيدك. اعترف بمطالبه. كرس ذاتك بكليتك لخدمته. ويكفيك الزمان الماضي أنك قد سلكت في السيرة الباطلة التي تقلدتها من الآباء، بما فيها من أباطيل وخطايا. ودم يسوع المسيح الذي سُفك عنا يعطلنا عن السير وراء الأباطيل، ويغير تفكيرنا.

 

3- مميزات الفادي

«أنتم الذين به تؤمنون». إن إيماننا ورجاءنا اللذين انشغلا بصفة خاصة بالمسيح منذ بداية حياتنا المسيحية، لدرجة أننا كثيرًا ما نجد أنفسنا لا نخاطب إلا شخصه في الصلاة، يقدمان إلى الله الأزلي الأبدی بیسوع المسيح الذي هو الله. الابن يعلن الآب كما وعد (يو 14: 7-9). والآب يُعرف ويُحب عن طريق الابن. والله يصير الكل في الكل. والنفس ترتضي بأن تركز تفكيرها في من أقام ومجد ربنا المبارك.

خلیق بنا أن نتأمل جيدًا في هذه الكلمات الجوهرية التي تعلن حقيقة جوهرية. يجب أن لا ننسى بأن غاية إيماننا ينبغي أن تكون إله القيامة، أبا ربنا ومخلصنا يسوع، الرب الذي آمن به الآباء. ولنذكر أيضًا بأن من ضمن غايات إعلان الأب في شخص يسوع المسيح وأعماله هو أن يجعل نفوسنا الخائرة تؤمن به. «تؤمنون بالله الذي أقامه من الأموات وأعطاه مجدًا حتى أن إيمانكم ورجاءكم هما في الله.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

9: المحبة المسيحية

«طهروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء. فأحبوا بعضكم بعضا من قلب طاهر بشدة. مولودین ثانية لا من زرع يفنی بل مما لا يفني بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد» (1بط 1: 22-23).

 

نحن نحب الرب الذي لم نره (1بط 1: 8)، فيجب أن نحب أيضًا أخوتنا الذين نراهم. فالمحبة الأخيرة هي برهان الأولى. «لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كیف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره» (1 يو 4: 20).«فأحبوا بعضكم بعضًا».

لكن مثل هذه المحبة ليست بالأمر الهين. نحن نميل إلى أن نقرأ وصية كهذه ثم ننصرف قائلين: «نعم، هذا كل ما نحتاج إلى أن نعمله، يجب أن نحب كل واحد، سيما الذين ينتمون إلى نفس الكنيسة التي ننتمي إليها نحن -أي أخوتنا- وما هي هذه المحبة التي نفكر فيها؟ أليست هي مجرد التظاهر بالحنو ورقة الإحساس؟ كثيرًا ما كانت الحياة التي نرسمها لأنفسنا، كاتباع لوصايا المحبة الجامعة الشاملة، هي أن نسلك حسب رغباتنا وأهوائنا، أن نجعل كل شيء حولنا سهلًا ولينًا، أن نتظاهر بالابتسامة الحلوة. هذه أسهل حياة ممكنة لبعض الأمزجة. هم بالطبيعة لطفاء، وظرفاء، وبشوشون، وكرماء. لكن أهذا يتمم وصية العهد الجديد المتكررة، القائلة بأننا يجب أن يحب بعضنا بعضا «كما أحبنا المسيح»؟ فكثيرًا ما كان هنالك شيء من محبة الذات البراقة في لطفنا الذي نتظاهر به، الذي يحاول أن يلاطف الجميع، ويتجنب أن يُغضب أحدًا.

وما هي هذه المحبة التي تحدث عنها ربنا ورسله؟ ليست هي فقط العواطف الطيبة، أو البواعث الكريمة. ليست هي قطعًا التظاهر بالحنو ورقة الإحساس الذي يظهر ذاته في التنهدات أو فرط السرور. ليست هي التودد للآخرين. لكن هي، قبل كل شيء، خدمة للآخرين، وإنكار الذات، وبذل النفس. هي تقديم مصالح الآخرين على مصلحتنا، ليس لأنه حسن أن نفعل هكذا، بل لأنه حق أن نفعل هكذا، أن يتجه نشاطنا حول الآخرين، أن نموت كل يوم مائة مرة في إنكار الذات بغیر تطفل. أن نتجنب التسرع في الكلام، والكلمات الجارحة، والانتقاد الهدام. أن نخلي المكان المريح في قطار السكة الحديدية من أجل محبة الله. أن نقود طفلا ًضالًا في الطريق ونوصله إلى بيته، لكي نسمع هذه الكلمة المفرحة «بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبی فعلتم» (مت 25: 40). أن نُظهر للمقيمين معنا في البيت، في أتفه الأمور، نفس العواطف التي يظهرها أهل العالم لمجرد الأدب والاحتشام، وأن نفعل هذا من أجل المسيح. هذه كلها من مميزات المحبة التي ليس لها وجود أصلًا في القلوب البشرية، لكنها تنبعث من الله، وتنزل في قلوب أتباعه، وترجع منهم إليه ثانية. وهذا هو ما يطلبه منا الله.

ولنتأمل الآن في علامات هذه المحبة، ومسبباتها، ومصدرها الإلهي. ليت الروح القدس، الذي من أول ثماره «المحبة» (غل 5: 22)، يسكبها في قلوبنا (رو 5: 5).

 

1- علامات المحبة

1- «عديمة الرياء»: الرياء مرض يقاوم المحبة المسيحية بشدة. وقد حذرنا منه الرسول بولس في رسائله أكثر من مرة (رو 12: 9، 2 كو 6: 6).كلنا مجریون بأن نتظاهر بأكثر مما نشعر، أن نقبل من نفكر في خيانته، أن نداری بالكلمات الناعمة الثغرات التي تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم. في كثير من الأحيان نبدى لأصدقائنا عواطف لا نضمرها لهم في قلوبنا. وفي كثير من الأحيان نتكلم أمامهم بغير ما نتكلم به وراء ظهرهم. ووفي كثير من الأحيان نجرب بالاحتفاظ بالمظهر الخلاب طمعًا في ربح خفي.

كثيرًا ما كان لطفنا مجرد تظاهر، وكثيرا ما كانت ابتسامتنا مغرضة، وكثيرًا ما كانت كلمتنا أنعم من الزبدة، وقلوبنا سيوفًا مسلولة (مز 55: 21). كثيرًا ما كان قبولنا لأعذار إخوتنا سطحيًا كما ظن أخوة يوسف أن قبوله لأعذارهم سطحي وسيتغير الحال بعد موت أبيهم. يجب أن تكون محبتنا «عديمة الرياء».

2- طاهرة: «قد تكون القلوب غارقة في النجاسة، منساقة وراء الخطية والدعارة والمسكرات. أما محبة المسيحيين المتبادلة فيجب أن تكون طاهرة، منبعثة من بواعث طاهرة وروحية، وصادرة من وصايا المخلص أو من مثاله». يجب أن تكون عين القلب بسيطة، وتصرفاته بلا دنس، وبواعثه «بيضاء كالنور». يجب أن لا يكون هنالك تفكير في الشهوات الجسدية.

إن محبة العالم طالما انتهت بالشهوة، فتتحطم المثل العليا، ويصير الجو الصافی معتمًا. وهنا نجد التجربة. من الخطأ أن نظن بأنه لا يوجد أي خطر من تدنيس أرواحنا الرقيقة الحساسة طالما كنا نحضر الاجتماعات الروحية، ونتحدث عن الترانيم، والعظات، والمواضيع الروحية. إن محبتنا كثيرًا ما كانت غير طاهرة.

3- ملتهبة: «من قلب طاهر بشدة» (9) لا بقوس مرتخي الوتر، بل بكمنجة مشدودة الأوتار لأقصى حدودها. هذا مثال يبدو أمامنا بأنه مستحيل التحقيق. إنه أيسر لنا أن نكون ملتهبين من أجل أنفسنا عن أن نسعى لخير الآخرين بنفس الغيرة الملتهبة. يندر أن تتعدى محبتنا حد المتوسط، وهي لن تصل إلى درجة الغليان. لم نتعلم سر القلب الذي يغلي. ومحبتنا ليست ملتهبة، لا نبكي على سقطات إخوتنا، ولا تفرح لنجاحهم كما نفرح لنجاح أنفسنا، ولا نحبهم المحبة التي تنتزع الشر منهم.

 كانت صلاة ربنا الأخيرة أن تكون محبتنا هكذا. لقد قصد أن نطرح عنا «الغضب، السخط، التجديف، الكلام القبيح» (كو 3: 8)، وأن نلبس، وأحشاء رأفات ولطفًا وتواضعًا ووداعة وطول أناة» (كو 3: 12). وبهذا يمكن للعالم أن يؤمن (یو 17: 31).

 

2- مسببات هذه المحبة

إنها تأتي عن طريق «طاعة الحق». هذا أمر عجيب جدًا. كنا نظن أن محبتنا بعضنا للبعض تنمو باجتماعاتنا للتمتع بالنواحي الاجتماعية، وبازدياد معرفتنا بعضنا للبعض، وبالاشتراك المستمر في الخدمة الروحية. لكن ليست هذه هي طريقة الله. فالوسيلة الوحيدة التي بها تصفو القلوب هي «الحق».

1- يجب أن تعرف الحق. إذا وضعت مرآتين، الواحدة تجاه الأخرى، فلا يمكن أن تعكس الواحدة أي نور على الأخرى: أما إذا وضعت بينهما شمعة، فإن أشعة النور تنعكس عليهما بكيفية لا يمكن لإحداهما أن تفعلها بمفردها. هكذا لا يمكن لاحتكاك المؤمن بالمؤمن أن يحدث بالضرورة قلب ملتهب، إلا إذا وجد بينهما الحق الإلهي.

إذا درست حياة أقدس القديسين وجدت انهم اختبروا يقينًا بان محبتهم لله وللناس كانت تنمو بنسبة اكتشافهم لكنوز الحق الإلهي. عندما كانت مواهبهم تنصرف إلى اكتشاف أعماق غني حكمة الله وعلمه كانت قلوبهم ترقص طربًا، وتمتلئ فرحًا لا يُعبر عنه. «ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب» (لو 24: 32).

2- يجب أن نطيع الحق. عندما تعمل تتعلم، وعندما تطيع تحب. يحاول البعض أن ينموا المحبة باستخدام الألقاب الرفيعة، أو بتكرار اختبارًاتهم التي لا تنتهي، أو بقراءة العبارات التي تثير السرور. لكن كل هذه المحاولات لا تجدی.

إنه لألف مرة أفضل أن ننمي المحبة بطاعة الحق. يجب أن لا نتغافل عن أية وصية. يجب أن نطيع كلمة الله بكل تدقيق. يجب أن نطبق كل الوصایا على حياتنا اليومية، وعندئذ يزداد فهمنا لكلمات ربنا: «الذي عنده وصایای ويحفظها فهو الذي يحبني» (یو 14: 21).

 3- وعندما نطيع الحق نَتَطَهَّر به: «طهروا نفوسكم في طاعة الحق». یزكي الشاب طريقه ويطهره يحفظه إياه حسب الكلمة الإلهية (مز 119: 9). والعريس يطهر العروس «بغسل الماء بالكلمة» (أف 5: 26). یا جميع الذين تئنون تحت الشعور بالقلب الملوث، هاكم أحد أسرار التطهير: أطيعوا الحق.

سوف يقرأ هذه الكلمات الكثيرون مِمَّن يتعطشون للطهارة والمحبة. إن البراءة المطلقة لن يمكن أن تكون من نصيبهم، البراءة التي لا تعرف الشر، ولا توجه إليها التجربة. لكنهم يشتاقون لتلك الطهارة التي تجتاز وسط الشر دون أن تتلوث، كأشعة الشمس التي تجتاز وسط الأجواء الموبوءة دون أن تتلوث، ويشتاقون إلى تلك المحبة التي لا تستطيع المياه الكثيرة أن تطفئها، والسيول لا تغمرها (نش 8: 7).

يعتقد الملحد أن هذه أمور مستحيلة، فإنه ليس له رجاء في الله، ولا ثقة في الناس. هو ينظر نظرة سوداء لكل مهنة، ويشك في كل حركة. أيها الحبيب، لا تسمح بأن تكون آراؤه سببًا في تحطيم رجائك، أو تثبيط همتك. تشجع، واستمر في طلب القلب الطاهر الملتهب. ولا بد أن يجاب طلبك أخيرًا.

لست في حاجة إلى أن تصعد إلى السماء لطلب هذا القلب، أو أن تهبط إلى الهاوية، «فالكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك» (رو 10: 8).طهر قلبك في طاعة الحق للمحبة الأخوية عديمة الرياء.

وعندما نتعمق في فهم الحقيقة التالية، نجده میسورًا أن نفهم كيف أن مثل هذه الطريقة البسيطة تقدر أن تأتي بمثل تلك النتيجة العظيمة.

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

 3- المصدر الإلهي للحياة الداخلية

«مولودون ثانية» (1بط 1: 23). إن حياتنا الروحية «ليست من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله» (یو 1: 13). نحن قد ولدنا مرتين، في المرة الأولى ولدنا بالطبيعة من أصل آدم الأول، وفي المرة الثانية ولدنا بالنعمة من أصل آدم الثاني، الرب من السماء. «شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه» (يع 1: 18). والدليل الجوهري على هذه الحياة هو الثقة في المخلص. «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون بإسمه، الذين ولدوا...» (یو 1: 12-13).

 أما الحياة التي غُرست فينا نهی -كالميراث الذي ينتظرنا- لا تفنى ولا تتدنس (1بط 1: 4)، وهي بلا عيب ولا دنس كالدم الذي اشترانا (1بط 1: 19). ولذلك لا يمكن أن تحدد بالحدود الضيقة، حدود الزمن، أو الحواس، أو حدود هذا العالم الزائل. فهي تتخطاها كلها، وتتحداها. هي تشترك في طبيعة الله غير المحدود، الأزلي الأبدی. ینتج من هذا أن التقوى التي تبعثها تكون لها طبيعة سماوية، والمحبة التي تظهرها تكون هي المحبة الحقيقية الإلهية التي بلا رياء. إن أفضل ضمان لدوام ويقينية الحياة المسيحية والمحبة المسيحية هو التطلع إلى الحياة التي انبعثت منها، والتي غُرست بالميلاد الثاني. وأفضل طريقة للتأمل في هذه الحياة هي أن نتطلع إليها في «الزرع» الذي نبتت منه، وغُرست في قلب المؤمن.

هذا «الزرع»، يختلف عن حياة البشر الخارجية. «لأن كل جسد كعشب». كل البشر يزولون مثل عشب المراعي الذي يزول باستمرار، «وكل مجد إنسان كزهر عشب» (1بط 1: 24). إن مصير الزهور الجميلة كمصير الأوراق التي تحيط بها. وهذا يدل على أن الثروة أو القوة أو الجمال أضعف من أن تقاوم فعل الزمان. وبعكس هذا يقف الحق الإلهي الأبدي، الذي تحمله كلمة الله. «العشب يبس، وزهره سقط، وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد» (1بط 1: 24). هي الكلمة الحية، المحيية. وهي «تثبت إلى الأبد».

إن بقاء الكتاب المقدس إلى الآن، رغم كل ما بُذل لإبادته، بالنار، وبالبحث والتفتيش عنه، وبالسيف، يشهد على أن فيه خواص تميزه، بما لا يُعبر عنه، عن سائر الكتب. إنها لحقيقة واضحة أن كل أقوال الكتاب المقدس «روح وحياة» (يو 6: 63)، لن يزول منه «حرف واحد أو نقطة واحدة» (مت 5: 18).

وإن بقاء الكتاب المقدس إلى الآن، رغم كل المقاومات التي وجهت ضده، يبرهن على أن فيه شيئًا من حياة الله الأبدي الأزلي غير المحدود. واضح جدًا أن الله في هذا الكتاب، فبقاؤه يبرهن على أن الله فيه. ولذلك فإن حياة الله هي التي تدخل في نفوس البشر الميتة بكلمة الله فتحييها، والحياة التي تولد فيهم هكذا هي أبدية مثله. ولهذا فإنها ترفعهم إلى السماء، وتمكنهم من أن يحبوا، لا بالمحبة البشرية الفاترة، بل بالمحبة الإلهية الطاهرة بلا رياء.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(2) من لي في السماء غيرك حسب الترجمة الإنجليزية.

(3) (Amaranth) زهره خياليه يزعم إنها لا تضمحل.

(4) مملوء مجدا حسب الترجمة الإنجليزية.

(5)  «لم يدعنا إلى النجاسة بل في القداسة»، حسب ترجمة اليسوعيين والترجمة الإنجليزية.

(6) . أطعتم صوتی، حسب الترجمة الإنجليزية.  

(7)  «ونطيع» حسب الترجمة الإنجليزية.

(8)  «يدین» حسب الترجمة الإنجليزية.

(9)  «محبة حارة» حسب الترجمة البولسية، أو «محبة ملتهبة» حسب الترجمة الإنجليزية.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

← تفاسير أصحاحات بطرس الأولى: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/f-b-meyer/peter1/chapter-01.html

تقصير الرابط:
tak.la/c3f9avz