* تأملات في كتاب
رسالة بطرس الرسول الأولى: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22
«كذلكن أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن حتى وإن كان البعض لا يطيعون الكلمة يربحون بسيرة النساء بدون كلمة. ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف، ولا تكن زينتكن الزينة الخارجية من ضفر الشعر والتحلي بالذهب ولبس الثياب. بل إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن. فإنه هكذا قديمًا كانت النساء القديسات أيضًا المتوكلات على الله يزين أنفسهن خاضعات لرجالهن، كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سیدها، التي صرتن أولادها صانعات خيرا وغير خائفات خوفا البتة».
«كذلكم أيها الرجال كونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف، معطين إياهن كرامة كالوارث أيضًا معكم نعمة الحياة لكي لا تعاق صلواتكم». (1بط 3: 1-7).
كانت هنالك قديمًا عائلات طاهرة فاضلة في عالم الإغريق والرومان، لا زالت ذكرياتها باقية إلى اليوم. فمن ذا الذي ينسی پانثيا Panthea التي قالت عندما تركها زوجها ليحارب تحت قيادة الملك كورش المعروف: «إن وُجدت امرأة تحترم زوجها وتحبه أكثر من نفسها فإني أنا هذه المرأة»؟ ومن ذا الذي ينسى رفض كورنيليا Cornelia أن تتزوج بأي واحد من الكثيرين الذين تقدموا إليها، وكانوا من الأسرة الملكية، لأنها أصرت على زواجها بالنبيل تيطس جراكوس Titus Gracchus لا يزال قائمًا حتى بعد موته؟ ومن ذا الذي لا يتأثر من ذلك الوصف الرائع الذي كتبه ذلك الرجل العظيم پلاینی Pliny واصفًا به زوجته إذ قال: «إنها تحبني، وهذه أضمن علامة على فضيلتها. وقد أضافت إلى هذا ميلها العجيب للعلم، الأمر الذي اكتسبته من محبتها لي. فهي تقرأ كتبي، وتدرسها، بل تحفظها عن ظهر قلب، وإنك لتعجب بها إذ تری مقدار اهتمامها عندما أطلب منها أي أمر، ومقدار فرحها عندما تتممه. كانت تبذل الجهد لكي تتلقى أول نبأ عن النجاح الذي ألقاه في البلاط الملكي. كانت تقرن أشعاري بآلتها الموسيقية، دون أن يكون لها معلم سوى المحبة، وهي أفضل معلم، ومحبتها ليست مبنية على مقدار ما أستحقه، ولا على شخصي، بل كانت تحب الجزء الخالد في.
لكن هذه أمثلة فريدة، وقد حرص التاريخ على تدوينها لأنها نادرة جدًا. فشعراء الامبراطورية الرومانية ومؤرخوها دونوا أسود الصفحات عن الاستخفاف بالعلاقة الزوجية، وعن الانحطاط الأخلاقي المزري الذي قوض أركان الدولة، وأدى إلى دمارها. هذا الوصف تثبته بالحجة النقوش المدونة على أسوار پومب Pompii. إلى ذلك العالم، الذي سادته ظلمة حالكة، والذي كانت تنير فيه نجوم قليلة، جاءت ديانة ربنا يسوع المسيح. وكانت العائلة المسيحية هي من أول ما خلقته هذه الديانة. من أجل هذه الأسرات، ومن أجل كل ما وهبته كنيسة المسيح لذلك الجيل وكل الأجيال، يجب أن تعترف البشرية أنها مديونة لإنجيل الرب يسوع المسيح.
حتى الشعب اليهودی تراخي في علاقاته الزوجية. فقد كان الربيون يسمحون بالطلاق لأتفه الأسباب. فإن لم يرض الزوج عن تصرفات زوجته، أو إن أفسدت الطعام الذي تطبخه، أو إن أصيبت بمرض جسدی شدید، فإنه يمكنه أن يطلقها. لم يُعط هذا التيسير إلا لشعب إسرائيل كامتیاز خاص، لكنه لم يعط لأية أمة أخرى. إزاء حالة المجتمع هذه، صدرت كلمات الرب يسوع الرائعة، الذي كرر مرارًا بأن الزواج ينبغي أن يعود إلى وضعه الأول: امرأة واحدة لرجل واحد، وأصر على أن الاثنين يجب أن يعيشا معًا في البيت، في علاقة لا تُفصل إلا بالموت أو بالخيانة.
من الضروري جدًا أن تعاد كلمات المسيح وكنيسته هذه في آذان العالم. إن الثورة المتزايدة التي تشنها الطبقات والجماعات على بساطة المسيحية تبعها تفكك الرابطة الزوجية والعلاقات العائلية. وقد تزايدت حالات الطلاق سريعًا جدًا في المحاكم.
وهناك ما يقولونه: يقينًا إننا نحتاج إلى قوانين أسهل للطلاق. ينبغي أن لا نكون متزمتين. ينبغي أن نعترف مع ستروس Strauss أن بالعهد الجديد آراء تقشفية بصدد الزواج، وأن عظة المسيح على الجبل تنقصها معرفة الطبيعة البشرية، وأن العلم يناقض الكتاب المقدس. [وهذه ضلالة صارخة].
وهم يطلبون منا أن نتجاوز عن الأخطاء التي ارتكبها بعض عظماء المفكرين وأشهر الكتاب في عصرنا ضد سر الزواج، كأن ذكاءهم يحررهم من الالتزامات الأدبية، أو يبيح لهم أن يتبعوا نظامًا خاصًا.
من حالة التراخي والانحلال هذه، التي تهدد بزحزحة عظمة بلادنا(20)، وتغاضينا عن دروس الماضي التي تنبیء بتقويض أركانها، ننتقل بارتياح للتأمل في الفكرة الإلهية الطاهرة السامية عن مركز المرأة في البيت المسيحي، وعن زينتها، وعن معاملتها.
كان مقام المرأة قد انحط منذ عدة أجيال، كما هو منحط الآن في الشرق، وفي البلاد التي لم تصل إليها المسيحية. كان ينظر إليها بأنها خالية من الروح، أو أنها أمة، أو اُلعوبة، أو قطعة من الأثاث، ثمينة أو غير ثمينة، حسبما تكون الحال. لكن تعاليم الإنجيل جاءت كأشعة نور الفجر، فأعلنت أن المرأة معينة للرجل نظيره، أخذت لا من رأسه أو قدمه، بل من جنبه، لتكون رفيقة له. وفي المسيح تساوت المرأة مع الرجل. والروح القدس لم يتحيز في عطاياه، بل أعطى مواهبه للمرأة في الكنيسة الأولى بالتساوي مع الرجل. والرب نفسه قرب المرأة إلى شخصه، وقبلها في الدائرة الداخلية من صداقته، وأبرز أنبل صفاتها. والعالم كله يذكر بالتبجيل العذراء مریم، ويذكر النسوة اللاتي خدمنه، واللواتی سكبن عليه الطيب، واللواتی كن آخر من بقي معه عند الصليب، وأول مَنْ أتى إلى القبر. ومعجزة عرس قانا الجليل كانت علامة على بركته لسر الزواج.
وإذ مرت هذه المناظر أمام المرأة، واستوعبتها في قلبها، لبت دعوة يسوع بسرور وفرح. لقد طرحت نفسها عند قدميه صارخة بفرح عظیم قائلة: «ربونی». هرعت إلى كنيسته حيث نالت الترحيب الكامل. وكان هنالك خطر لئلا تكون نشوة الفرح الذي وجدته أخيرًا سببًا في تفكك الالتزامات المقدسة الكائنة منذ القدم، والتي لا يمكن للإنجيل أن يفصلها أو يرخيها. لم يأت المسيح لكي ينقض طقس الزواج القديم، بل ليكمله، ويبين أنه عينة لتلك الرابطة الأبدية التي لا تنفصل، والتي ارتبط بها مع كنيسته.
هذا هو أصل الوصية التي تقضي بالخضوع. لقد قيلت مبدئيًا للذين اعتنقوا المسيحية منذ زواجهم. كان هنالك تفكير طويل لدى الكنيسة الأولى نحو واجبها في تلك الظروف. هل تترك المرأة زوجها؟ هل تغير سلوكها نحوه؟ هل تطلب شيئًا من الرئاسة؟
أما الرسول فقد قال: كلا، البثي أيتها المرأة حيث أنت، مهما كان موقفك أليمًا، ومهما كان الوسط غير متجانس، ومهما كانت تصرفات زوجك مثيرة. كونی عفيفة، رقيقة، محبة، خاضعة، باشة، لكي يلين قلب الزوج الذي لم يسمع قط كلمة الإنجيل، ويربح بجمال وقداسة وكمال حياتك.
طبيعي أنه حيثما توفرت المحبة الصادقة بين الزوج والزوجة، وحيثما كان الاثنان مسيحيين حقيقيين فإن الأمر لا يحتاج لهذه النصيحة. لا مجال للخضوع إن لم توجد هنالك أوامر استبدادية. أو مطالبة كل من الطرفين بحقوقه، أو صراع للاستقلال. إن غرائز المحبة الحساسة تحدد بالضبط ما لا يمكن أن تحدده الكلمات، تحدد مركز كل من الزوج والزوجة. وبغض النظر عن هذه النصيحة، إن طبيعة المرأة المحبة هي أن تخضع، وتعتمد على شخص أقوى منها، وأن تكرس حياتها لأعمال خدمة المحبة.
لو عاشت كل النساء المسيحيات هكذا، لقلت الحاجة لوعظ أزواجهن الذين لم تتجدد حياتهم بعد. «يربحون بسيرة النساء بدون كلمة» (1بط 3: 1). يربحون؟ إن الشخص الذي تتجدد حياته يربح لنفسه، يربح للراعي، أو للصديق، أو للزوجة أو للزوج، الذي أو التي طلبت هذا التجديد، يربح ليسوع المسيح، يضاف إلى خزينته، فإنه لم يحسب دمه أثمن من أن يسفك ليربحه. وأي تعويض أو أجر تناله الزوجة بسيرتها الطيبة وخوفها لله أعظم من أن تعرف أن زوجها سوف يصبح لؤلؤة في تاجها، وأنها قد ربحته للرب.
لا مجال هنا للكلام مع من يريدون أن يتزوجوا بعيدًا عن الرب. فإنهم قد أمروا صراحة بأن لا يكونوا تحت نير مع غير المؤمنين. وسوف يجدون -عندما يدفعون الثمن غاليًا- مرارة مخالفة وصية واضحة كهذه. لا رجاء في أن يربح الواحد شريك أو شريكة حياته طالما كانت كلمة الله قد اُهملت منذ البداية. لكن إن تجددت حياة أحد الطرفين بعد الزواج، فهنالك يكون أمل في ربح الظرف الآخر.
إيه أيتها النساء الكسيرات القلب، البائسات، الحزينات، القريبات من اليأس، اللاتی كدتن تفقدن كل رجاء.. لا تفشلن في عمل الخير، تمسكن بالمحبة التي لا تسقط أبدًا، اذكرن، وأنتن جالسات في الظلمة، أنكن يجب أن تضربن مثلًا للمحبة من أجل الرب العزيز المتطلع إليكن، والذي لا يسمح لكن بأن تجربن فوق ما تقدرن أن تتحملن، اعتمدن عليه من أجل المستقبل، وآمن بأن الله سوف يجعل أزواجكن يسافرون معكن في السفينة وسط الأمواج الهائجة.
يا له من درس هنا للجميع. نحن لا نقدر كلنا أن نعظ بالكلام، لكننا نقدر أن نعظ بسيرتنا.. ومثل هذا الوعظ عظيم في نتائجه، وتأثيره يبقى إلى الأبد.
يبدو أن الرسول لا ينهى عن ضفر الشعر، أو لبس الذهب. وطبيعي أيضًا أنه لا ينهى عن لبس الثياب. فالتقوى لا تقوم بتوفر هذه الأشياء أو انعدامها. إن لبسناها لا تكون حياتنا أحسن، وإن لم نلبسها لا تكون أسوأ. يقينًا أن المخلص لا يبالي إن كنا نلبس الحرير أو البفتة (أبسط قماش)، إن كنا نلبس الثياب الملونة أو غير الملونة. إن الناموس الوحيد هو: أن نلبس ما يتفق مع المركز الذي وضعنا فيه الله، وبكيفية لا تجذب الأنظار إلينا.
طبیعي أنه إن كان أسلوب معين من الملابس لا يستخدمه إلا أهل العالم وغير المتدينين، أو إن كان يُحدث تأثيرًا سيئًا في الذين يراقبوننا عن قرب، فيشنعون فيما ينظرونه فينا، أو إذا كانت ملابسنا تلفت النظر بشكل مثير يخجلنا، فيحسن بنا أن نتجنبها.
لكن إن لم يكن هذا هو الحال، فيجب أن نلتزم الحشمة الحقيقية في عاداتنا لئلا نلفت الأنظار إلى تكلفنا الحشمة أو إلى كبريائنا، وهكذا نجلب على أنفسنا اللعنة بسبب محبة الشذوذ.
ومما يؤسف له جدًا أن يعتل الضمير المسيحي في هذه النواحي. يتساءل البعض باستمرار عما يريده الرب أن يلبسوه، لدرجة أنهم يفقدون الكثير من الشركة معه. طبيعي أننا يجب أن نختار ملابسنا طالبين منه الإرشاد في الاختيار. والسيد له كل الحق في أن يقول لعبيده ما يجب أن يلبسوه، ويخبرهم عن كيفية صرف أمواله. وطبيعي أنه يجب أن يبلغهم إرادته بكل رقة. الق عليه كل المسئولية، ثم انشغل بالتفكير فيه أكثر من التفكير في الملابس.
إن النقطة الجوهرية لكل واحد منا هي: أين هي زینتی؟ إن كانت «خارجية» فنحن في أشر حال، أما إن كانت داخلية «إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد زينة الروح الوديع الهادئ»، فإننا نترك الأمور الخارجية لترتب نفسها بنفسها، وعندئذ لا ننشغل بها ولا نفكر فيها أكثر من اللازم: قال «سنیكا»: «عظيم هو المرء الذي يتمتع بإنائه الفخاری كأنه طبق، ولا يقل عظمة ذلك الذي يرى بأن كل طبق عنده ليس إلا إناء فخاریا».
كثيرون هم الذين يبالغون في تزيين جسدهم الخارجي، أما إنسانهم الداخلي فهو في خرق بالية. بينما نجد غيرهم يرتدون الملابس البسيطة لكنهم من الداخل يرتدون أجمل الثياب، ثياب البر والقداسة. فما هي ملابسنا في نظر الله؟ هل نعرف شيئًا عن هذا الروح الوديع الهادئ، الذي هو قدام الله كثير الثمن. وهو مبارك وسط ضجيج العالم؟
يبدو أن المفتاح للحصول عليه كامن في هذه الكلمات: «هكذا كانت قديمًا النساء القديسات أيضًا المتوكلات على الله» (1 بط 3: 5). حول قلبك إلى الله، تجد أن النتيجة تظهر نفسها في استقامة السيرة، والتلذذ بعمل الخير، والتحرر من الخوف، وهكذا تزين الإنجيل، وتنال رضي الله.
يحسن أن تضاف لهذه الكلمات الموجهة للأزواج تلك التي وجهت إليهم في رسالة أفسس، التي طلب منهم فيها أن يحبوا نساءهم كما أحب المسيح الكنيسة، وأن يهتموا بهن كاهتمامهم بأجسادهم.
وهنا نجد ثلاثة نصائح جميلة، وفيها الكفاية:
1- أكرم الزوجة على أساس أنها هي «الإناء الأضعف» (1بط 3: 7). كل البشر خرجوا من بين يدي الفخاري الأعظم. لكن البعض أقو من غيرهم. وتقضي شريعة المسيح بأن الأقوى ملتزم بالاهتمام بالأضعف. إن الأدب، والتربية العالية، والبطولة، واللطف - هذه كلها نجدها مقلدة في المجتمع. أما أصلها فيوجد حيث تمت المسيحية عملها الكامل. لا يقدر المرء أن يحصل عليها إلا إذا كتبت هذه الوصايا في قلبه. هي تخرج من الداخل إلى الخارج، لكنها لا تدخل من الخارج إلى الداخل. وكثيرون هم أولاد الله اللطفاء الذين لم يعترف بهم المجتمع.
2- اذكر أنكما معًا «وارثین نعمة الحياة». لا توجد رابطة أقوى من رابطة الذين يتزوجون في محبة الله، والذين يجدون أن محبة الله تجعل محبتهم أعمق، لانهائية. ولكي نصف مثل هذه العلاقة، يحسن بنا أن نردد شعار تشارلز كنجزلي Charles Kingsley الذي كتبه على قبره ملخصًا بركة حياته الزوجية: «نحن نحب، وقد أحببنا، وسوف نحب». لیكن تفكيرك في نعمة الحياة التي أعطيت لك بالتساوي مع شريكة حياتك سببًا في أن يجعل علاقتكما سامية ونبيلة.
3- احرص على أن «لا تُعَاق صلواتك». لا يوجد محك أفضل من صلوات الرجل الصالح. فإنه عندما يجثو أمام إلهه، يدرك في لحظة إن كان قد ارتكب خطأ أم لا في الساعات السابقة، وإن كان قد ارتكب، فأين ارتكبه. وهو قد أمر بأن يترك قربانه على المذبح ويذهب ويصطلح أولًا مع أخيه، ثم يرجع ليقدمه. وكل ما يكشفه القلب من أخطاء يجب نبذه. وكل ما يعيق الزوج والزوجة عن الصلاة معًا، أو عن الصلاة العائلية، يجب أن يعالج بدون رأفة كمعوق. وإن كنا أمناء في تصرفاتنا اليومية، فإن صلواتنا لا تكون فقط بعيدة عن أن تعاق، بل يدعمها الله، وندرك محبة الله لنا، وسط تقصيراتنا، تلك التي تعمق المحبة الزوجية في قلوبنا، وعندئذ ندرك ناحية أخرى من محبته «الفائقة المعرفة» (أف 3: 19).
لا يوجد ما يكشف عن حياتنا بقدر طريقة سلوكنا في الحياة العائلية. إن وقوفنا وسط جمع كبير لندعو المسيحيين الحياة التكريس الكامل أيسر من أن نحاول في صباح اليوم التالي تطبيق هذه المباديء السامية ونحن نتناول طعام الإفطار. ليس من العسير أن نعيش كقديسين إن كنا نتحرر من احتكاك ومسئوليات الحياة اليومية، ونحاط بمن يحولون بيننا وبين أي شيء يثير غیظنا. وفي نفس الوقت إن فشل تديننا هنا فقد فشل نهائيًا. إن لم تكن علاقتنا مستقيمة مع أقرب الناس إلينا، تكون علاقتنا مع الله غير مستقيمة. فمحبتنا الله تتطلب محبتنا للناس. وإن كنا لا نحب الذين يعيشون معنا في دائرة الحياة العائلية محبة ملتهبة، لامعة، جذابة، غير أنانية، فلا نكون بعد قد ذقنا محبة الله. ومتى كانت محبتنا كاملة، صرنا أواني تنسكب منها محبة الله لكی تبارك وتخلص.
← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«والنهاية كونوا جميعًا متحدي الرأي، بحس واحد، ذوی محبة أخوية، مشفقين، لطفاء، غیر مجازين عن شر بشر، أو عن شتيمة بشتيمة، بل بالعكس مباركين، عالمين أنكم لهذا دعيتم لكي ترثوا بركة. لأن من أراد أن يحب الحياة ويری ایاما صالحة فليكفف لسانه عن الشر، وشفتيه أن تتكلما بالمكر، ليعرض عن الشر ويصنع الخير، ليطلب السلام ويجد في أثره، لأن عيني الرب على الأبرار وأذنيه إلى طلبتهم. ولكن وجه الرب ضد فاعلى الشر» (1بط 3: 8-12).
عجيب جدًا أن نجد أية جماعة تحت السماء تمثلت فيها هذه الوصايا العجيبة، بحيث يكون الجميع متحدى الرأي، مرتبطين معًا في وحدة مقدسة بعطف مشترك، يخدمون القديسين، يعطفون على الضعيف، والخاطيء، والمسكين، لطفاء نحو نظرائهم، هادئين ومسامحين عند الإساءة إليهم، طالبين السلام، نائلين رضا الله. أين نجد في كل العالم جماعة من المسيحيين كهؤلاء؟ هذه رؤيا جميلة تستحق أن نذهب إليها بعيدًا لكي نراها. هذا هيكل للمحبة، مسكن للسعادة السماوية. هذه واحة في صحراء، موسیقی سماوية متناسقة النغمات وسط حياة الذات البشرية الصاخبة المتنافرة النغمات. هذه أورشليم الجديدة نازلة من عند الله من السماء.
ومع ذلك فالمثل الأعلى المسيحي لا يمكن أن يقل عن هذا، فإنه أيضًا هو الذي مات المسيح لكي يضمنه لنا. وخلیق بنا إن كان كل واحد، دون أن ينتظر غيره، يطبق الوصايا التي تضمنتها هذه الآيات، كقانون يلتزم به في حياته اليومية. هذا أفضل نصیب نشترك فيه لإقناع العالم ليجيء إلى ملكوت الله. وعندئذ لا بُد أن ينتشر.
ألا تعلمنا كلمة الرسول هنا «النهاية» (21) أن كل التعاليم المسيحية قُصد بها أن تؤدي إلى حياة المحبة، التي لُخصت في هذه الآيات؟ فلنتأمل في هذا الضياء الكامل إلى أن يسطع نوره على وجوهنا، فنعكسه على العالم.
«كونوا جميعًا متحدى الرأي بحس واحد» (22). إن وحدة الرأي هذه لا تتطلب المماثلة في كل شيء، بل الوحدة مع التنوع. لا تتطلب أن يعتنق الجميع فكرًا واحدًا، لكننا يمكننا أن نكون متحدى الرأي مع اختلاف التفكير والتعبير ووجهات النظر، على أن يكون الباعث واحدًا هر محبة المسيح، والولاء واحدًا نحو حقائق الفداء، والمحبة واحدة لكل من يؤمنون بالمسيح، ولو كانوا يختلفون معنا في أمور بسيطة. وحدة الرأي لا تعني المماثلة في كل شيء، فالحياة تكره هذه المماثلة.
هنالك تنوع في جسم الإنسان. هنالك تنوع من هدب العين إلى القدم، من القلب إلى الدم، من المخ إلى أنسجة الأعصاب. ورغم كل هذا التنوع فكل عضو يدرك الوحدة الكائنة بين الأعضاء، ويدرك أن هذه الوحدة لا تتجزأ.
هنالك تنوع في الشجرة. فيها تجد فروعها القوية التي تصارع العواصف، ثم نجد جذورها التي تمتد إلى مسافات عميقة في بطن الأرض، وهي التي تربطها بالأرض، ثم تجد ربوات الأوراق التي إذا هزتها الريح خلقت منها موسيقى جميلة، ثم تجد الثمار الحلوة التي تغذينا. ومع كل هذا فهي شجرة واحدة.
هنالك تنوع في الكتاب المقدس. فيه نجد أشخاصًا كثيرين اشتركوا في الكتابة، ونجد تنوعًا في الأسلوب، وفي السنين المتنوعة التي كُتب فيها، وحديثه يمتد من بناء الفلك إلى جزيرة بطمس. ومع ذلك فإن الأسفار الستة والستين جُمعت في كتاب واحد، هو الكتاب المقدس.
هنالك تنوع في المسيحيين. قد تجد، بل لا بُد أن تجد، كنائس مختلفة يجب أن تكون كلها واحدة، فالروح القدس يخاطب الجميع «مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام» (أف 4:3). هنالك حظائر كثيرة، لكن يجب أن يكون هنالك قطيع واحد. هنالك أمزجة مختلفة، لكن يجب أن يكون هنالك أسرة واحدة. هنالك عقول كثيرة، لكن يجب أن يكون هنالك اتحاد في الرأي.
إن المناقشات الكثيرة بين الكنائس المختلفة في الوقت الحاضر، ناشئة من عجزنا عن أن ندرك بأنه يوجد تنوع لانهائي في طريقة تفكير البشر. لا يوجد اثنان ينظران إلى شيء واحد بطريقة واحدة. ولا يوجد اثنان يرویان حادثة واحدة بأسلوب واحد، فكل منهما يصورها حسب مزاجه الخاص ؛ كما أن كل شيء في الطبيعة يستمد من الشمس لونه الخاص. إن اجتمع اثنا عشر من الأتقياء المتعلمين لكی يتفقوا على وضع تعاليم واحدة للكنيسة، فإن كل واحد يعتقد بأنه لن يتفق اثنان في كل كلمة يضعانها. قد يختلف الناس في التفكير، لكن يجب أن يكونوا متحدی الرأي.
إن أردنا أن نطيع هذه الوصية، الخاصة باتحاد الرأي، فلنفكر في الأشياء التي نتفق فيها أكثر من تفكيرنا في الأشياء التي تختلف فيها. لقد أحب المسيح الجميع بمحبة واحدة، واشتراهم بدم واحد، والجميع ولدهم الروح الواحد، ويجب أن يكونوا أعضاء في جسد واحد، أحياء بحياة واحدة، راجين رجاءً واحدًا، خاضعين لمتاعب واحدة، مستقين أعوازنا من مصدر واحد، هادفين إلى وطن واحد. ما أكثر ربط علاقاتنا وما أوثقها.
يقينًا إنه يليق بنا أن نعطف بعضنا على بعض، وأن يصحح الواحد أخطاء الآخر -إن لزم الأمر- وحدهما، دون أن تكون هناك رغبة في تعالي الواحد على الآخر، بل يكون الهدف كله هو مجد الله. ولنحسن تفسیر نقط الاختلاف، متطلعين إلى كل شيء في نور مجد الله، ولنطلب الامتلاء بروح المحبة والعطف الذي احتمل به الرب طويلًا غباوة وضعفات أولئك الذين اختارهم ليكونوا أخلص أخصائه.
1- واجبنا نحو زملائنا المسيحيين. يجب أن نحبهم كأخوة. «ذوی محبة أخوية»، نحبهم بغض النظر عن ميولنا السابقة، أو أمزجتنا. قد تقول إن هذا مستحيل. لكن اذكر بأنه ليس من الضروري أن تنشأ المحبة من العواطف، بل من الإرادة، لا تقوم بما نحس به، بل مما نفعله، لا بميولنا، بل بتصرفاتنا، لا بكلمات ناعمة، بل بأعمال نبيلة بعيدة عن محبة الذات.
المحبة تغير الهدف من الذات إلى الآخرين. عندما نحصر المحبة في ذواتنا فإننا نبذل كل الجهود لنعظم ذواتنا، ولا يكون لنا تفكير إلا في أنفسنا. لكن عندما تتجه المحبة اتجاهها الصحيح يحدث لنا تحول عجيب. فإننا نفكر فيمن نحبهم أكثر من تفكيرنا في أنفسنا. ونجد أن خططنا وجهودنا ونواحی نشاطنا قد صارت نبيلة ومجيدة بتفكيرنا فيما يرضي ويساعد ويبارك من أحببناهم. مثل هذه المحبة يجب أن نحب زملاءنا المسيحيين.
لا تبدأ بأن تحاول أن تحب كل إنسان دفعة واحدة.. فنحن لا نحسن صنعًا أن ننزل من التعميم إلى التخصيص، بل أن نصعد من التخصيص إلى التعميم. ابدأ بأقرب الناس إليك في الكنيسة، وفي الأسرة، أو بالجماعة الصغيرة التي اعتدت الاختلاط بها. وعندما نحب الأفراد فإننا نأتي إلى محبة المجموع.
قد تقول إن هذا أمر شاق، وأن هناك بعض المسيحيين القريبين جدًا منك لا تستريح معهم. وهاك نصيحتي: لا تجتهد بأن تحس أنك تحبهم، بل تريد أن تحبهم. قل لربك إنك تريد أن تحب، أو تريد أن تكون راغبا في أن تحب، وتريده أن يخلق في قلبك نعمة المحبة. اطلب منه أن يسكب في قلبك من ينابيع محبته، لكي يُحب هو عن طريقك، وعندئذ تجد أخيرًا أنك قد استنرت بنور محبته. سلم له شفتيك لكي يتكلم بهما الكلمات التي لا تقدر أنت أن تنطق بها. سلم له يدك لكي يعمل بها أعمالًا لا تقدر أنت أن تتممها. وإن اعترافك بعجزك سوف يؤكد لك أن فيه كل الكفاية، وأن ما لا تقدر أنت أن تتممه يقدر هو أن يتممه بك. كل شيء مستطاع عنده، ومستطاع عندك إن آمنت به. فابدأ إذن بأن تعمل ما يجب أن تعمله، تجد أنك قد عملته. تممه لأن ذلك حق، تممه من أجل المسيح. تممه متوقعًا أن يعمل الرب فيك وبك، تجد أن ينابيع من الفيض الإلهي قد تدفقت فيك، بعد أن ظللت طويلًا عاجزًا عن أن تعمل أي شيء. وإذ تبدأ هكذا بأن تحب زميلًا لك في المسيحية فإن قلبك ينفتح لمحبة الجميع.
2- واجبنا نحو الخطاة والضعفاء. «مشفقين». یا لعظمة شفقة ربنا المبارك. كثيرًا ما رأيناها في الإنجيل تمد يديها إلى الغنم التي بلا راع، إلى الجياع والعطاش. إلى المنكوبين الذين طلبوا مساعدته. من الأيسر جدًا أن التي تضرب بالجلدات، وتوبخ، وتنتقد، وتدين، عن أن تشفق وتشفي. يجب. أن لا نغمض عيوننا عن الخطية، أو نستخف بما كلف الله ثمنًا غاليًا جدًا، ويما يجلب غضبه، لكن يجب أن نميز بين الخطية والخاطي، بين المرض والمريض، وكما أننا يجب أن لا نشفق على الخطية، كذلك يجب أن نرحم الخاطئ جدًا.
فكر في خطاياك. كم مرة كنت قريبًا جدًا من الهاوية، وكم أنت مدين لنعمة الله التي حفظتك منها. قدر الدين الذي كان العبد مدینًا به بعشرة آلاف وزنة، لكن سيده ترك له كل هذا الدين (مت 18: 24 إلخ.). وقد تكون إساءة أخيك أقل جدًا من دين هذا العبد. ومن ذا الذي يستطيع أن يقدر مقدار الظلمة التي تحيط به، واليأس الذي كاد يقتله، والأخطار التي تهدده. فكن مشفقًا. وكن «ناظرا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضًا» (غل 6: 1). امتنع عن الكلام، وعن أي تصرف، إلى أن تعرف كل شيء.
3- واجبنا نحو المساوين لنا. «لطفاء»، يجب أن يكون اللطف المسيحي من الداخل، وثابتًا، أكثر من لطف العالم. كن مستعدًا للجلوس على أقل مقعد مريح، وأن تفسح مكانك لأخيك، وأن تقدم أخاك عنك في الكرامة. لا تجلس في آخر مكان في الكنيسة أو في صالة الاجتماعات لئلا يضطر المتأخرون في الحضور للتقدم إلى الأمام، فيخجلوا أمام الجميع، ولئلا يرتبك الكاهن أو الخادم. قف أنت ودع الآخرين يجلسون. لا تزاحم ولا تدفع غيرك عند الدخول أو عند الخروج. سهل عملية دخول أو خروج النساء والأطفال والمرضى. أظهر في سلوكك صفات أبيك السماوي، لكي يدرك الناس أنك تنتمي إلى مصدر النبل واللطف، ويعرفوا أن المسيحية لا تقدم للعالم فقط أبطالًا في المناسبات العظيمة، بل آلافا من أعمال اللطف في كل دقيقة في الحياة اليومية.
4- واجبنا نحو الأعداء. لا تقابل المثل بالمثل. «غير مجازين عن شر بشر، أو عن شتيمة بشتيمة، بل بالعكس مباركين» (1بط 3: 9). لقد بطل الناموس القديم «عين بعين»، من أجل التشريع السامي الذي يأمرنا بأن نحسن إلى مبغضينا، ونصلي لأجل الذين يسيئون إلينا ويضطهدوننا. لنكن كالصخرة التي كانت في البرية، والتي عندما ضُربت قدمت مياههًا للجموع العطشانة.
نحن نستطيع أن نفعل هذا، «لأننا دعينا لكي ترثوا بركة» (1بط 3: 9). البركة التي عندما نعطي منها بكلتا يدينا، وبسخاء عظيم، فإنها لن تنقص. وعلاوة على ذلك فإن هذه هي السياسة التي بها نحيا حياة هادئة صالحة مباركة. «لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أياما صالحة فليكنف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر» (1بط 3: 10). إن المرء الذي يبرر نفسه دوامًا، ويصر على المطالبة بحقوقه، يصبح في حالة غليان واضطراب باستمرار، ويخسر بركة الحياة الهادئة. والأفضل من كل هذا أن الله يتطلع إلينا، ويحمينا، وينجينا. «لأن عيني الرب على الأبرار وأذنيه إلى طلبتهم» (1بط 3: 12). كل لطمة تأتينا لا يمكن أن لا يلاحظها. ولا يأتينا أي تهديد لا يسمعه. لا يدعنا نجرب فوق ما نستطيع أن نحتمل. عندما يتم قصد العدو يلقى الله القبض عليه. ومن بين السحاب يتطلع إلى جيوش أعدائنا، ويزعجهم، ويطرحهم في قلب البحر. «ولكن وجه الرب ضد فاعلى الشر» (1بط 3: 12).
«فمن يؤذيكم إن كنتم متمثلين بالخير. ولكن وإن تألمتم من أجل البر فطوباكم. وأما خوفهم فلا تخافوه ولا تضطربوا. بل قدسوا الرب الإله في قلوبكم مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف. ولكم ضمير صالح لكي يكون الذين يشتمون سيرتكم الصالحة في المسيح يخزون فيما يفترون عليكم كفاعلی شر. لأن تألمكم إن شاءت مشيئة الله وأنتم صانعون خيرا أفضل منه وأنتم صانعون شرًّا» (1بط 3: 13-17).
في هذه الآيات نلتقي مرتين بكلمة «تألم». وفي كل منهما نجد ذلك النوع الخاص من الآلام التي يلقاها الأبرياء والقديسون من مبغضي النور الذي يسطع على ظلمتهم، والذين يريدون أن يطفئوه إن أمكنهم.
كان لا بُد أن يؤدي التجسد إلى الصليب. لو كان أي ذكی علیم بالطبيعة البشرية قد وقف مع يسوع في بداية حياته، وسمعه يتكلم، أو رآه يعمل، لحكم بأنه لا ينتظره سوى مصير واحد. ورغم أن أعمال المحبة والقدرة التي شغلت كل أيامه قد أبعدت عنه الصليب بضعة شهور، إلا أن اليوم أتی أخيرًا، وكان واضحًا منذ البداية أنه لا بُد آت. اقتيد حمل الله إلى الموت وسط كل علامات البغضة العنيفة، وانتزعت حياته من العالم بسرعة، كما حل نفس المصير بالملايين من أتباعه منذ ذلك الوقت إلى الآن. لقد كان الطريق مسرعًا من بيت لحم إلى الجلجثة.
وإن ما حدث لابن الله أيام تجسده يحدث لكل من يتجسد في قلوبهم وحياتهم. فإنه عندما يدخل بالروح القدس في طبيعة أولئك الذين كرسوا حياتهم له تكريسًا كليًا، يبدأ يعمل فيهم بقوة، فإنه لا يظهر فقط الكثير من نعمته وقوته، لكنه أيضًا يصطدم بأحقاد الناس الأشرار ومصالحهم وبغضتهم الشنيعة، وربما بمقاومتهم العنيفة بديلة.
← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
لا نستطيع أن نعلل بالتدقيق كل أسباب البغضة التي يحس بها العالم نحو المسيحيين. فهي كثيرة، وواضحة. فمثلًا ينبغي أن يكون أولاد الله ذوي ضمير حي. والمسعى الوحيد الذي يحاوله الأشرار هو أن يقضوا على توبيخات الضمير. من أجل هذا فإنهم ينغمسون في المسرات، أو ينشغلون بالأعمال التجارية، أو الاكتشافات، وينتقلون من منظر إلى منظر، ويتجنبون كل ما يتصل بالله أو مطالبه. لكنهم إذا ما التقوا بإنسان تقي، فإنهم يجدون فيه اعترافًا وتمسكا بهذه المطالب، مع السعي لإتمامها بأمانة. وهنا يجدون البر مجسمًا، ويرون أنهم محرومون منه، الأمر الذي يذكرهم في الحال بواجباتهم التي بذلوا كل ما في وسعهم الكی يهربوا منها.
فيهم تجد كبرياء القلب التي لا تحتمل تفوق الآخرين عليهم، وتجد الحسد الذي يحقد على النفوذ الذي يجذب به الصلاح الناس دوامًا، وتجد الخبث الذي يتأذى إذ يرى الفرق الشاسع بين الطهارة والنجاسة. كل هذه الشهوات القوية في القلب غير المتجدد
تتحاب معًا -كما اصطلح هيرودس مع بیلاطس قديمًا- وتتحد في عدائها للقداسة التي تتدخل في أعمق أسرارهم، وتقضي على سلامهم.
وفضلًا عن هذا، فإنه يوجد دوامًا حالة هجوم في المسيحية الحقيقية، وهذه تبعث في الآخرين مقاومة عنيفة. إننا نعترف صراحة بأن المسيحية، من إحدى النواحی، لا تخاصم، ولا تصيح، ولا ترفع صوتها، ولا يسمع أحد في الشوارع صوتها. هي رقيقة كالنسيم، هادئة كوقع أقدام الصباح، لطيفة كسقوط قطرات الندى. هكذا سادت المسيحية كل أرجاء العالم.
ومع ذلك فهي تهدد بالخطر الصناعات الكثيرة، وتقضي على العديد من التجارب المربحة الشريرة، وتقوض أركان مملكة الشيطان، وتهاجم المصالح الثابتة، وتقلب العالم من فوق إلى أسفل. حقًا إن هذه الديانة الطاهرة التي بلا عيب متعبة ومزعجة للكثيرين، وأعوان الشيطان ينزعجون عندما تنتعش المسيحية. «إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا» (یو 11: 48).
ألا نرى هنا مفتاح توقف الاضطهاد في أيامنا؟ صحيح أن كل عصر له سیاسته الخاصة. أما عصرنا فقد لُعن بمحبة العالم، ومحبة الشر، وروح التراخي وعدم المبالاة، وهذه تعيق ظهور المبادئ القوية الشجاعة. لكن ألا يوجد أيضًا فرق شاسع بين حياتنا وحياة آبائنا الأوائل؟ أين قداسة السيرة، والغيرة على النفوس، وتوبيخ الشر بعنف، والتمسك بالمبادئ مهما كلف ذلك من تضحية، إذ كلف القديسين حياتهم بذبحهم أو حرقهم؟ لو كانت هذه الفضائل تظهر في الحياة العملية اليومية لأغلب البشر، كما هي ظاهرة في أقلية ضئيلة من المسيحيين الحقيقيين، فهل يوجد هناك أقل شك في ماذا تكون النتيجة؟ قد لا يتخذ الناس وسائل الأيام السابقة الوحشية، لكنهم حتى بهذا يكرمون يسوع الناصري وهم لا يدرون. لكنهم يبحثون عن طريقة أخرى يخلصون أنفسهم بها من الاحتجاج البغيض على حياة الأتقياء دفاعًا عن شرورهم وأنانيتهم.
من أقسى أنواع التوبيخ الذي يستطيع المسيح أن يستخدمه هو أن يقول لأي واحد الآن، كما سبق أن قال في أيام تجسده «لا يقدر العالم أن يبغضك» (یو 7: 7). من أشنع المواقف التي يجد المسيحي نفسه فيها أن لا يبغضه العالم، بل يحبه ويتملقه ويلاطفه. قال أحد الحكماء قديمًا: «أي شر عملته حتى يتحدث عني الناس حسنًا». إن عدم بغضة العالم لنا يبرهن على أننا لا نشهد بأن أعماله شريرة. وشدة محبة العالم لنا تبرهن على أننا أصبحنا من العالم. إن صداقة العالم عداوة لله. ومن أراد أن يكون صديقًا للعالم صار عدوًا لله (يو 7: 7، 15: 9، يع 4: 4).
«طوباكم». هذا التطويب مقتبس مما نطقت به شفتا يسوع، وكرر ثانية في الفصل التالي (مت 5: 10، 1بط 4: 14). التطويب (أو الغبطة) درجة أسمي من السعادة، وهو مرتبط بالظروف القاسية جدًا. لكن الجميع شهدوا لتلك الغبطة التي لمعت على وجوه الذين قد تألموا من أجل البر، ظهرت على شفاههم.
دوَّن أحد الكتاب الحديثين الشهادات التي تفوه بها بعض الشهداء وقت موتهم. قال أحدهم عندما حكم عليه بالموت: «فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب نذهب».
ترنم يوحنا بنیان، وهو في سجن بدفورد، بالترنيمة التالية، بعد أن بهرت عيناه بالصور التي رسمها له الملاك على الحائط:
هذا السجن حلو لي جدًا
منذ أتيت إليه
وهكذا يكون أيضًا الموت شنقًا
إذا ما ظهرت لي وقتئذ یا ربی
وقال آخر عندما اُشعل الحطب حوله: «أعتقد أنهم نثروا الورود عند قدمي».
وكيف تأتي هذه الغبطة؟ إنها تأتي إلى القلب بواسطة ذلك الطبع السماوي الذي يبعثه روح الله، وهو في حد ذاته غبطة. إنها تأتي عن طريق الضغط على النفس لتطلب لذتها وسعادتها في محبة المسيح وصداقته، فإنه هو صديق المضطهدين، وهو قريب جدًا مِمَّن يتشبهون به في الآلام، لأنهم يشبهونه في صفاتهم وفي حياتهم. إنها تأتي عند التأكد من أننا سائرون في الطريق الذي وطأه الأنبياء والأبرار، الذين جازوا الماء والنار، لكنهم غلبوا، وجلسوا مع المسيح على عرشه. إنها تأتي لأن «روح المجد والله» يستقر في القلب (1بط 4: 14). إنها تأتي لأن الجزاء الجزيل السامی يهل من السماء.
هنالك أبواب كثيرة للدخول إلى الغبطة، بحيث لا يوجد إنسان، مهما كان بعيدًا، أو مجهولًا، لا يقدر أن يدخل ويقيم فيها. فاختر لنفسك الباب الذي تبتغيه، وإن كنت تعجز عن أن تبين بأنك من أولئك المساكين بالروح، أو الرحماء، أو أنقياء القلب، فتجاسر على عمل الخير بأي ثمن، اسلك صابرًا طريق النزاهة السامية والطهارة التي بلا لوم، احتمل الآلام، التي يتحتم أن تكون من نصيبك، بالصبر، والشجاعة، وبدون تذمر أو شكوی. وعندئذ يفتح لك الباب للدخول إلى ملكوت السعادة الذي أسس على الأرض، وبأسواره التي من الياقوت الأزرق (رؤ 19:21)، وبأبوابه، وسط مباني البشر، دون أن يلوث بنجاساتهم، حيث لا تراه إلا العيون الطاهرة. «إن تألمتم من أجل البر فطوباكم» (1بط 3: 14).
1- لا تخافوا. «وأما خوفهم فلا تخافوه» (1بط 3: 14). يبدو أن بطرس الرسول تذكر هنا الكلمات التي كان قد سمعها منذ مدة طويلة. «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر» (لو 12: 4، مت 1: 28).«لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب» (یو 14: 27) لا تكن وجوهكم شاحبة اللون، ولا يظهر العرق على جباهكم، ولا ترتعش أجسادكم.
وكيف يكون لنا قلب الأسد هذا الذي لا يعرف الخوف أمام أعدائنا؟ هنالك رد واحد هو: اطرد الخوف بالخوف. اطرد الخوف من الناس بالخوف من الله. «قدسوا الرب الإله في قلوبكم» (1بط 3: 15). لقد جاءت إلينا هذه الكلمات من عصر عاصف في تاريخ اليهود: «وأخبر بیت داود وقیل له قد حلت آرام في أفرايم (23). فرجف قلبه وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدام الريح». وكلم الرب إشعياء عبده قائلًا: لا تشترك في هذا الخوف وهذا الصراخ، ولا تقابلوا محالفة بمحالفة «ولا تخافوا خوفه ولا ترهبوا، قدسوا رب الجنود ولیكن هو خوفكم وهو رهبتكم، فيكون مقدسا» (أش 7 و8).
كثيرًا ما رأينا الخوف يطرد الخوف. عندما تخاف المرأة من أن تشتعل فيها النيران تثور أعصابها، وتنزل إلى أسفل من الأدوار العليا المشتعلة بالنار، وذلك عن طريق مواسير المياه. وعندما يخاف الطائر الجبان من أن يفقد صغاره، فإن هذا الخوف يدفعه إلى أن يطرح نفسه عند قدمي الرجل الواقف قبالته لكي يلفت نظره إلى الخطر المحدق به. والخوف من الكرباج يطرد خوف الحصان مما بعث فيه الخوف. ليت كل نفس، إذ تدرك عظمة الله وقدرته ومحبته، لا تتجاسر على أن تخطئ إليه، بل بالحري تفضل أن تضحي حتى بالعالم كله عن أن ترتكب أصغر خطية. قال شخص مخلص نبیل: «لم أفعل هذا بسبب الخوف من الله».
وعندما يخاف الإنسان الله هكذا بحيث يخاف أن يخطئ إليه، فإنه يجد أن الله حصن منيع له، يلجأ إليه «إن نزل على جيش لا يخاف قلبي. لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر، والآن يرتفع رأسي على أعدائي حولي» (مز 27: 3-6).
2- كونوا «مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم» (1بط 3: 15). ليس مطلوبًا منا أن نتكلم دوامًا عن إيماننا، بل أن نقيم البرهان عليه بأعمالنا الصالحة. وعندما يرى الناس ثمار إيماننا، ويبدأون بالسؤال عن أساسه وسببه، فيجب أن تكون مستعدين دوامًا بأن نعطيهم إجابة كافية.
كم هو جميل -إزاء الكثير من اعتراضات هذا العصر- أن نجيب هؤلاء المعترضين، ونبين لهم معقولية الرجاء المسيحي. لا يطلب منا الكتاب المقدس أن نصدقه تصديقًا أعمى. صحيح أن كثيرًا من أقواله تفوق العقل، لكن ليس فيها شيء ضد العقل. والله ينادينا باستمرار «هلم نتحاجج يقول الرب» (أش 18:1). إن مناقشات الكبرياء عديمة الجدوى، أما مناقشات الوداعة فإنها تصل يقينًا إلى الاقتناع، وإلى أعماق فكر الله.
أيها الشبان، ليس في الكتاب المقدس ما يخشی مناقشاتكم. لا يمكن أن الله الذي خلق مخكم، وكلله بموهبة العقل الجميلة العجيبة، يسيء إلى موهبة من أسمَى مواهبه. كانت المناقشة من أحب الأشياء إلى الرسول بولس، أعظم الرسل.
لكن العقل ينبغي أن يمسك دراما مشعل الإيمان. ينبغي أن يجمع الأدلة ليحكم حكمًا سليمًا. هو بمثابة العالم الذي يقوم بعملية التحليل في معمله الكيماوي، ولذلك ينبغي أن يحلل، ويختبر، ويفرز، ويجمع، ويطيل البحث إلى أن يصل إلى فكر الله، كما قال كبلر. عندما يخضع العقل للروح القدس، كما كان في نيوتن، وفارادای، والمجوس الذين سجدوا للطفل يسوع، فإنه يصير مجد وفخر الإنسان. ليست المشكلة مع الكثيرين هي استخدام العقل، بل هي وضعه في مكانه الخطأ. إن كان عقلك هو المتحكم فيك فإنك قد تدعي بأنك مبصر، مع أنك تكون أعمى. أما إن جلس على عرش قلبك الإيمان والرجاء، على أن يتلقى العقل أوامرهما، ويطيع وصاياهما، فإنك عندئذ تصير «أحكم من أعدائك»، «وأكثر فطنة من الشيوخ» (مز 119: 98-100).
فليكن لدينا سبب لإيماننا، مؤسسًا على اختبارًاتنا الشخصية، أو ملاحظاتنا، أو على درس الأدلة، أو على إتمام النبوات، أو فوق كل شيء مؤسسًا على عمل الروح القدس في قلوبنا. ورغم أنه لا مبرر لكی نتطفل على غيرنا بشرح إيماننا، فيجب أن لا نحجم عن شرحه كلما طلب منا ذلك.
ثم يجب أن نقدم أسبابنا، أو نرتب حججنا، بطريقة تبرهن على صحة إيماننا، يجب أن نتكلم «بوداعة وخوف» (1بط 3: 15)، بوداعة أمام وجه الناس، وبخوف أمام وجه الله، معترفين بأننا مهما تقدمنا في الحكمة فنحن لسنا إلا أطفالًا، نجمع بضعة أصداف من شاطئ محيط الحق اللانهائی.
3- «ولكم ضمير صالح" (1بط 3: 16). تحدث أيضًا الرسول بولس كثيرًا عن الضمير، وعن ضرورة تدريب أنفسنا ليكون لنا دائمًا ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس (أع 24: 16). خلیق بنا أن نطيع هذه الوصايا المتكررة. فالمؤمن الذي يتبع بأمانة ذلك الصوت الداخلي، ويطيع وصاياه في كل شيء، يعيش دائمًا بعيدًا عن الزلل. إن «الضمير الصالح» یعنی «السلوك الصالح» في المسيح.
تحدث الكتاب المقدس عن أنواع كثيرة من الضمير. لكن هذه التسمية «الصالح» كثيرة المعاني. هل يعرف القارئ ما هو الضمير الصالح؟ هو الضمير المطهر من الأعمال الميتة (عب 9: 14)، والمرشوش بدم المسيح (عب 10: 22)، والمشهود له بالروح القدس (رو 9: 1). وهو الذي يحل فيه الفرح المملوء مجدًا «لأن فخرنا(24) هو هذا شهادة ضميرنا أننا في بساطة وإخلاص الله... تصرفنا في العالم» (2 كو ا: 12). وهو يعكس سماء مسرة الله من فوق كبحيرة هادئة ساكنة.
إن ضميرًا كهذا يكون لنا رفيقًا صالحًا في النهار، وملازمًا لنا في فراشنا في الليل. يجب بذل كل الجهد للاحتفاظ بنزاهته. وعندما تكون الحياة تحت هذا المؤثر الداخلي، فإنها لا تبالي بكل الافتراءات والأكاذيب، وتكتسح كل ضباب الحسد والخبث الذي حجب أشعتها الأولى، وتكذب كل الأنباء الكاذبة.
أما المفترون فإنهم سيخزون عندما يتلقون الرد الحاسم على تهمهم من جمال حياة المؤمن الحقيقية النقية التي بلا لوم «ولكم ضمير صالح لكي يكون الذين يشتمون سيرتكم الصالحة في المسيح يخزون فيما يفترون عليكم كفاعلی شر» (1بط 3: 16). أما محبو الله فإنهم يتشجعون ويتشددون. «يرى ذلك المستقيمون فيفرحون، وكل إثم يسد فاه» (مز 107: 42).
ليت كل المضطهدين يتجملون بالصبر. الآلام تأتي لجميع البشر. وإن كان لا بُد من أن نتألم، فإن «تألمتم وأنتم صانعون خيرًا أفضل منه وأنتم صانعون شرًّا» (1بط 3: 17). وحتى هنا نرى الآلام مفعمة بالغبطة. ومن ذا الذي يستطيع أن يقدر قيمة ثقل المجد الذي ينتظر كل واحد من جيش الشهداء النبلاء، والمقدم إليهم من يسوع المسيح، الذي اعترف الاعتراف الحسن أمام بیلاطس البنطي، والمقدم أيضًا لأصفر واحد في ملكوته، على أن يكون قد وقف ثابتًا أمام هزء زملائه في الدراسة أو زملائه في العمل.
← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقربنا إلى الله» (1بط 3: 18).
«المسيح تألم» هذا هو قرار الترنيمة. كان أولئك المؤمنون يتألمون من أجل فعل الخير، ومن أجل الضمير. وكانوا مثقلين بتجارب كثيرة. «مع أنكم الآن إن كان يجب تحزنون يسيرًا بتجارب متنوعة (25)» (1بط 1: 6). هكذا ذكرهم الرسول بأن «المسيح أيضًا تألم». وكم هي حلوة هذه الكلمة الصغيرة «أيضًا» اعتاد قیصر أن يشجع جنوده بقوله لهم «أيها الزملاء الجنود». هذه هي قوة هذه الكلمة. هل أنت لا تملك بيتًا؟ هكذا أيضًا المسيح لم يكن له أين يسند رأسه. هل أنت فقير؟ هكذا أيضًا المسيح افتقر من أجلنا. هل أنت مُجرب؟ هكذا أيضًا المسيح تألم مجربًا.
لكن آلام المسيح فريدة. مع أنه هو «البار» فقد كابد آلامًا لم يكابدها أحد غيره من أجل الخطايا. لأنه واضح هنا أنه تألم كنائب عنا. «(البار من أجل الأثمة».
إنه لصحيح جدًا -كما قيل لنا مرارًا- أن موت الرب يسوع كان له تأثير أدبی كبير على البشر، إذ بین محبة الله، وعلمنا ناموس تضحية الذات، وبين مقدار حساسية المحبة الأبدية من نحو الخطية. وعلاوة على هذه الناحية السلبية لموت مخلصنا، فهنالك أيضًا ناحية إيجابية. فإنه لم يعمل فقط شيئًا من نحو البشر، إذ لين قلوبهم، ووجههم ليفكروا في حياة البذل والتضحية، وفي أعمال البطولة، الأمور التي لولا ذلك لجهلوها إلى الأبد، لكنه عمل أيضًا شيئًا نحو إتمام نواميس الطبيعة الإلهية، التي تؤدي إلى البر. ولو لم يكن قد تم هذا الأمر الأخير لكان الأمر الأول بلا جدوى، فلم يكن كافيًا أن يعمل في البشر، الأمر الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس والضمير. وبهذا فقط يمكن قبول الخطاة التائبين.
ليس ضروريًا أن يفهم الناس فلسفة الكفارة لكي يخلصوا بها. لا شك في أن هناك آلافًا خلصوا بها مع أنهم كانت لهم أفكار خاطئة عن معناها الصحيح، في إحدى النواحي أو حتى في كثير من النواحي. يقينًا أننا نزداد تعزية ونزداد تأكيدًا بنسبة ازدياد فهمنا لموت مخلصنا، وفهمنا للكتاب المقدس في هذا الصدد. إن خلاصنا لا يتوقف على دقة آرائنا العقلية، بل على ثقتنا في الرب يسوع المسيح كمخلص، ذاك الذي بموته وقيامته «يخلص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله» (عب 7: 25).
إن صفة الموت النيابي [الكفاری] للمسيح منسوجة في نسيج الكتاب المقدس. يمكن للناس أن يحرفوا كلام الكتاب الواضح، لكنهم لن ينجحوا في استئصال حقيقة موت المسيح الكفاری من صفحاته المقدسة.
لما ندرس ناموس موسی، نجد الموت النيابي في كل ذبيحة. فماذا كان يتضمنه أكثر من هذا حرصهم على أن تكون الذبيحة بلا عيب، ووضع أيديهم عليها، والاعتراف بالذنب على رأس الذبيحة البريئة، وموت البري وانصراف المذنب إلى بيته حرًا؟ وأية حقيقة كان يعلنها الترديد المستمر لتلك العبارات التي نطقت بها شفتا المخلص إذ تحدث عن نفسه بأنها «فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مت 20: 28). أي شیء آخر يمكن أن يفسر الحجج الرائعة والمناقشات البليغة الواردة في رسالتی رومية وغلاطية؟ إن كانت جماهير الشعب المسيحی تقرأ فقط الكتاب المقدس بتمعن، بدلًا من قراءة كتب كثيرة عنه لاضطروا للاعتراف بأن كل أسفار الكتاب المقدس اتحدت برأي واحد في الشهادة بأن آلام المسيح كانت نيابية، فإنه مات من أجلنا، أي نيابة عنا. لقد حمل إثمنا، ولعنتنا، والقصاص الذي كنا نستحقه. لقد قبل على نفسه القصاص الناتج عن خطية البشر، ورفعه عنا إلى الأبد.
وإذ نصرح بهذه التعاليم، فلنتجنب بعض الأخطاء:
1- لنحذر من أن نصور الله بأنه لا يحب البشر إلا من أجل موت المسيح. هذا كلام غير منطقي، كما أنه غير كتابي: لأنه من الأمور المسلم بها في كل تفكير سليم أن الله كائن، وأنه لم يتغير، وأنه هو الكائن اللانهائی، وأنه هو أمسًا، أي في الماضي، وغدًا، أي في المستقبل، واليوم، أي في الحاضر. أما لو صُور موت المسيح بأنه سكن غضب إله منتقم، وجعله يحب الذين كانوا بغير هذا يجب أن يموتوا تحت بغضته التي لا ترحم، فإن هذا يجعله إلهًا آخر، وتكون الطبيعة الإلهية قد تغيرت، وهذا أمر لا يقبله العقل ولا المنطق.
إن موت المسيح يرجع إلى محبة الله. فالله بذل ابنه لأنه أحب العالم. والصليب إنما يعبر عن محبة أقدم من أقدم النجوم، أقدم من أقدم ما في الكون، طويلة كالأبدية، متسعة كاللانهائية، عميقة مثل كيان الله. بهذا ظهرت محبة الله أن الآب أرسل الابن ليكون مخلص العالم.
2- لنحذر أيضًا من أن نفرق بين بر الله ومحبته. فالله لا يتعارض مع نفسه، وطبيعة الله لا توصف بأنها بر، بل محبة. لو وُصفت بأنها بر ما وُجد مجال للمحبة، أما وقد وُصفت بأنها محبة فالبر يكون متضمنًا بطبيعة الحال. ولا يوجد أي تعارض بين الاثنين في الله، لأن بره ثمرة من ثمار محبته. كان ينبغي أن يكون بارًا لأنه محبة. هو يحب، ولذلك فإنه ينبغي أن يضع عدلًا [برًا] لأنه هو ديان كل الأرض.
كان أمرًا لا يتفق مع محبته لو كان قد أغمض عينيه عن الخطية، أو عن توقيع القصاص عليها، أو لو كان قد سمح بأن يبطل استعمال الناموس الأدبي، أو سمح لنا بأن نتحدى إيحاءات ضمیرنا، التي نوافق عليها حتى نحن. هل تعتبر محبة تلك التي تجعلنا نتساهل مع أبنائنا فنتركهم يتصرفون كما يحلو لهم دون أن نوبخهم أو نوقفهم عند حدهم؟ هل تعتبر محبة تلك التي تسمح للقتل والشهرة والنهب بأن تكون لعنة لأمة، فيها رعايا أبرار، دون أية محاولة لتقديم الأثمة إلى المحاكمة؟ هل تعتبر محبة لأي إنسان أن يسمح له بالسير على هواه في طريق الشرور التي لا تنتهي دون صده؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة واضحة، فالمحبة تتضمن البر، والإصرار على التمسك بالحق. وفي صليب المسيح لا يوجد أي تعارض بين صفات الله. «الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما» (مز 85: 10).
لكن إذا طلب منا الناس أن لا نؤمن بموت المسيح الكفاری، لأن الله محبة، ولذلك لا يتطلب إيفاء لمطالب عدله. فإننا نجيب بأنه يجب أن يكون عادلًا لأنه هو محبة، يجب أن يحافظ على ناموسه، يجب أن يوقع القصاص بسبب كسر مطالب بره، يجب أن يعمل في دائرة الحياة الأبدية مثلما يعمل باستمرار في دائرة الحياة الطبيعية.
3- لنحذر من التفريق بين أقانيم الثالوث الأقدس في عملية الفداء. في بعض الأحيان يتحدث البعض عن موت المسيح كأنه وقف بين الله والإنسان، وتمم أمرًا من إيحاء ضميره، دون أي تدخل قط من الآب. وعندئذ ينشأ الاعتراض بطبيعة الحال: ولماذا جعل الله البريء يتألم، أو سمح بهذا؟
لكن يجب ألا يُنسی مطلقًا أن موت الصليب كان عمل كل اللاهوت. «إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه بيسوع المسيح» (2 كو 5: 19). «المسيح بروح أزلی قدم نفسه لله» (عب 9: 14). «الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال» (یو 14: 10). «لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل» (يو 5: 19). وبالأولى جدًا، لم يكن ممكنًا أن يُتمم أعظم عمل بمعزل عن الآب، فقد كان، وهو مستتر في الجسد، يعمل الأعمال التي رأى الآب يعملها.
وهكذا في الصليب نرى الله الأبدي الأزلي يتحمل نتائج خطية الإنسان، ويصير كفارة عن خطية العالم.
لا يمكن أن يكون هذا ظلمًا. إنه يُعتبر ظلمًا أن يُؤخذ ولد صالح ليتألم نيابة عن ولد شریر. لا يمكن أن يعتبر ظلمًا إن كان أحد يضع حباته نيابة عن شخص آخر، وإلا وجب أن تُمحَى من تاريخ البشر أجل الأعمال وأنبلها.
نعم أيها القارئ العزيز، يجب أن تصدق هذه الحقيقة، وتردد هذا القول بالشكر: لقد تألم الله من أجلي في شخص الرب يسوع المسيح، البار من أجل الأئمة. لعلك لم تشكره قط، ولم تنتفع ببركات موته، كما يترك المرء رصيده يتراكم في البنك دون المطالبة به. بل ربما تذخر لنفسك دينونة أبدية برفض محبة الله ونوره. وأنت في نفس الوقت تختار أن تعيش في ظلمة محبة الذات والإلحاد، ومع ذلك فحقًا أن الله الأبدي -من أجل محبته العظيمة- فعل لك ما لم يفعله قط للملائكة، وما يسعد حياتك إلى الأبد.
4- ولنحذر من أن نظن بأن المسيح لد كف عن أن يتألم. صحیح بطبيعة الحال أن هنالك معنى في القول أن مخلصنا «تألم مرة واحدة من أجل الخطايا» (1بط 3: 18). إن عمل المسيح النيابي تم على الصليب، وأكمل نهائيًا عندما قال المسيح: «قد أكمل». والقيامة تبرهن أن عمل الكفارة كامل.
لكن ينبغي أن لا نظن بأن آلام المسيح قد كفت عندما صعد إلى السماء. فهو لا يزال يتألم في كل عضو من أعضاء كنيسته. وعندما نعود لارتكاب الخطية عن عمد وإصرار فإننا نصلبه ثانية، وهو يتمخض إلى أن يأتي ملكوته. هو رقیق الإحساس بضعفاتنا. كيف يستريح إذ يرى أحباءه تعصف بهم العواصف، وأن أعضاء جسده ليسوا كاملين بعد؟ وعن طريق آلامه تحل علينا البركات، لأن هذه الآلام لا يمكن أن تكون عديمة الجدوى. سوف نرى كل شيء سریعًا. وفي نفس الوقت ينبغي أن نشترك معه في آلامه، ونشرب كأسه، لكی نشترك معه أيضًا في مجده.
نحن نقف الآن على عتبة فقرة غامضة وعسرة الفهم، لكن الأمر صادق وواضح
أن المسيح تألم من أجلنا «لكي يقربنا إلى الله». ينبغي أن ندرك بأننا بالإيمان به صرنا واحدًا معه، ونقف معه في حضرة الله. «صرتم قريبين بدم المسيح» (أف 2: 13). فلنتذكر في صلواتنا الشخصية، أو وقت الاشتراك في المائدة الربانية، أنه لا شيء يقربنا إلى الله مثل تلك الآلام المباركة. وكلما أحسسنا بأننا غرباء عن الله، أو بعيدون عنه، فلنتقدم إلى الصليب. وإذ نجلس هناك، فلنتأمل في تلك الجروح إلى أن تعود إلينا تلك الشركة المفرحة مع الله، نورنا، ومحبتنا، وفرحنا الجزيل، ولله المجد إلى الأبد.
«مماتًا في الجسد ولكن محيي في الروح. الذي فيه أيضًا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن، إذ عصت قديمًا حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح إذ كان الفلك يبني الذي فيه خلص قليلون أي ثماني أنفس بالماء. الذي مثاله يخلصنا نحن الآن أي المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح. الذي هو في يمين الله إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له» (1 بط 3: 18-22).
ليس حسنًا أن نتعب القراء بالآراء المختلفة المتناقضة عن هذه الآيات العسرة الفهم، والتي طال فيها النقاش. وقد يبدو، بعد دراسة مستفيضة لها، أن نأخذ الكلام كما هو، ونحاول إظهار فكرة واضحة عن الرأي الذي يبدو أنه كان في فكر الرسول، على الأقل على قدر ما يراه كاتب هذه السطور.
إن الفكرة الرئيسية، بطبيعة الحال، هي مقارنة بين اختبارًات ربنا يسوع المسيح واختبارًات أتباعه المتألمين. لقد حاول الرسول على قدر استطاعته أن يعضدهم ويعزيهم أثناء ضغط الاضطهاد القاسي الذي كانوا يجوزونه، وكأنه قال لهم: «تشجعوا، لأن آلامكم ليست استثنائية، فكل أعضاء أسرة الله يجوزونها، ولم يُعف منها حتى ربنا المبارك. هو أيضًا تألم بالجسد، لكن آلامه لم تعطل خدمته المباركة، بل بالحري ضاعفت دائرة انتفاعنا بها، فأنه «محيي في الروح»، الذي فيه أيضًا ذهب فكرز بعمله الكامل في الأرجاء التي وصل إليها بموته. هكذا سيكون الحال معكم، فإن آلامكم سوف لا تقص أجنحتكم، بل تزيدكم قوة للطيران. إن الأمور الحادثة معكم الآن سوف «تؤول أكثر إلى تقدم الإنجيل» (في 1: 12)، وبالموت سوف تصعدون إلى فوق لتشتركوا في قيامته المجيدة وقدرته المنيعة.
← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«مماتا في الجسد ولكن محيي في الروح. الذي فيه أيضًا ذهب نكرز للأرواح التي في السجن. إذ عصت قديمًا حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أیام نوح».
في أحد الأصحاحات الرائعة من نبوة إشعياء نرى بأن ملك بابل، إذ سقط أخيرًا أمام ذلك الملك الأقوى منه الذي هجم عليه، صوره النبي كشخص نحيف شاحب الوجه، دخل مساكن الأموات. وعندما دخل، تحرك ملوك الأمم ورؤساء الشعب، وبأصوات منخفضة بادروه بالكلام بسخرية لاذعة: «أأنت أيضًا قد ضعفت نظیرنا، وصرت مثلنا؟ أهذا هو الرجل الذي زلزل الأرض وزعزع الممالك؟» (أش 14: 10، 16).
ويقينًا أن مساكن الموتى قد تحركت بصورة أخرى عندما رفض ابن الله -إذ رحب باللص إلى الفردوس- أن يستريح بعد صراعه الطويل وآلامه المريرة. لكنه تقدم في الفترة الوجيزة قبيل القيامة ليذيع الأنباء العجيبة عن عمل الفداء الذي تممه.
هذا يقينًا هو التعليم القوي الذي تحمله لنا، ليس فقط هذه الآيات، بل أيضًا ذلك التصريح العجيب الذي نادی به بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس «إنه نزل إلى أقسام الأرض السفلى» (أف 4: 9). هذا تعبير كان يستخدمه اليهود باستمرار عن الهاوية السفلية، مسكن نفوس الموتی. بناء على هذه الشهادة، أكدت الكنيسة في كل الأجيال «أنه نزل إلى الجحيم». وكلمة «الجحيم» طالما ذُكرت في الكتاب المقدس لتعبر عن «الهاوية». نحن لا نعلم كل ما تضمنته رسالة المسيح هناك. فالكتاب لم يعلنها، وكل تخمين لنا يقصر عن الحقيقة، وكل الذي نحتاج أن نلاحظه هو أن الكلمة التي استخدمت لتعبر عن خدمته قد اختيرت بدقة، وتعبر عنه كرسول، لا كمبشر [إنجیلی].
قد يوجه السؤال: لماذا كرز فقط للذين عصوا في أيام نوح؟ لماذا حصر رسالته في هؤلاء؟ ألم يكن هناك عدد أوفر جدًا مِمَّن عصوا في حقبات أخرى في العالم؟ إن الرب لم يستثن أي واحد من هؤلاء. فالرسول لم يقل إن الرب لم یكرز لأحد آخر، بل إنه بالتأكيد كرز لأولئك. ولقد لفت نظرنا لهم لأنه قصد أن يوجه تفكيرنا إلى مقارنة كانت في فكره، وهي تعكس ظلالها على كلماته، وتستمد دروسًا من أيام نوح وتنقلها إلى أيامنا.
كل الذي يعنينا هو التأمل في هذه الكلمات التي نقلها إلينا الرسول بطرس من أقوال المسيح الباقية بعد موته، عندما علمهم أربعين يومًا «وهو يتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله» (أع 1: 3). يجب أن نفهم بوضوح أن خدمة المسيح لم تتوقف عند موته، لكنه ظل يخدم، كما أن يوسف عندما توقف عن تأدية واجباته في بیت فوطيفار ظل يخدم زملاء في السجن، فأعلن للواحد نبأ نجاته من السجن، وأعلن للآخر المصير المحتوم الذي كان ينتظره.
يبدو أن قصة الطوفان كان لها تأثير قوي على عقل وقلب الرسول بطرس، فقد كررها مرارًا (2بط 2: 5، 3: 5-6). وهنا نراه يقتفى آثار معلمه الذي قارن بين أیام نوح وأيام ابن الإنسان.
لا داعي لإطالة التأمل بالتفصيل في الأيام السابقة للطوفان، أو في حالة العالم القديم. فحالته تشبه تمامًا حالة العالم في أيامنا. «كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون» (لو 17: 27). وصلت الفنون والعلوم والهندسة والعمارة إلى درجة سامية جدًا، وإلا لكان مستحيلًا بناء فلك عجيب كالذي بُني. ازدادت المدنية جدًا، وفي نفس الوقت ازدادت الجرائم البشعة غير العادية. اشتد التلهف على الملذات، والسعي وراء الثروة، والتمادي في الشر، وعدم المبالاة بمطالب الله، وارتفع التيار الجارف، تيار الدنس والنجاسة، رغم احتجاجات وتوسلات نوح مدة مائة سنة. وهذا كله هو ما نراه حولنا اليوم بكيفية مفزعة.
كذلك لا داعي لإطالة التأمل في العالم الجديد الذي خرج إليه نوح وبنوه من الفلك. كان الهواء منعشًا، والأرض اكتست بحلة سندسية خضراء، والنباتات نمت بكيفية مفرحة، لأن الأرض صارت غنية بالطمي الذي ترسب بعد أن نشفت المياه. كان عالمًا تطهر من الخطية والجرائم والشر، وبدت الخليقة كأنها رأت مقدمًا ما رآه الرائی: «ثم رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحر لا يوجد في ما بعد» (رؤ 21: 1).
ويقينًا أن ذلك العالم القديم يرمز إلى الحياة القديمة التي ولدنا فيها ولادة طبيعية، والعالم الجديد يرمز إلى الحياة الجديدة التي دخلناها بعد الولادة الجديدة. ومياه الطوفان التي اجتاز بها نوح من العالم القديم إلى العالم الجديدة رافعة إياه إلى فوق، في أحضانها المتسعة المنتفخة، لتنقله من الشر والمناظر القبيحة إلى عالم جديد مبهج، ترمز إلى الاختبارًات المباركة التي طالما تحدثت عنها الرسائل، عندما ينتقل المؤمنون بالإيمان بيسوع المسيح من حياة محبة الذات والموت إلى حياة القيامة المجيدة المباركة، عندما يجلسون مع المسيح في السماويات، عندما يحسبون أنفسهم أمواتًا عن الخطية ولكن أحياء مع الله، مشتركين مع المسيح في موته وقيامته. عندئذ يمكن أن يقال عنهم إنهم يكررون اختبارًات نوح عندما اجتاز من العالم القديم إلى العالم الجديد.
وعلى مثال هذا الاختبار الروحي تقيم الكنيسة طقس المعمودية بالتغطيس في الماء. وإذ يعترف المعمدون بأنهم انتقلوا من حياة الخطية القديمة إلى حياة جديدة، حياة الشركة مع المسيح المقام، فإنهم قد دفنوا تحت الماء على مثال موته، ورُفعوا فوق الماء على مثال قیامته. وماء المعمودية يشبه مياه الطوفان، ففي كليهما تم الانتقال من الحياة القديمة إلى الحياة الجديدة، كما كان قبر المسيح مكان انتقال من حياة الجسد إلى حياة القيامة. «إن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد. إذن إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هو ذا الكل قد صار جديدا» (2 كو 5: 16-17).
رأينا الآن ثلاث حقائق، [أولًا] أن آلام المسيح لم تعطل مناداته بعمله الذي أكمله، [ثانيًا] وأذاعه للأرواح التي عصت أیام نوح، [ثالثًا] أننا نشبه نوح، ونشبه المسيح إذ جزنا مياه الموت، لا موت الجسد، بل موت الروح، إلى سعادتها الأولى، لأنها دخلت بالتمام إلى معنى موت المسيح، وإلى الشركة معه في الحياة الجديدة.
ثم ماذا؟ طالما كنا قد دخلنا إلى هذه الحياة الجديدة المباركة، أيليق بأن لا نبالي بالذين لا يزالون يعيشون في العالم القديم الذي تركناه وراء ظهورنا؟ كلا، هذا لا يمكن أن يكون. إن الأمثلة التي تأملنا فيها الآن تستبعد فكرة كهذه، وتبعدها عن تأملاتنا الهادئة. في نور هذه الأمثلة لا يمكن احتمال فكرة كهذه لحظة واحدة.
طبیعي انه كان يمكن أن يكون هذا التشبيه كاملًا لو أمكن أن يقال ان نوح بعد الطوفان استمر في الكرازة لإخوته السابقين. لكن هذا لم يكن ممكنًا أن يحدث. ومع ذلك فقد تم تفس القصد، ولو مع تغيير الشخص الكارز. لأن يسوع، الذي كان الطوفان يرمز إلى موته ودفنه، والذي كان نوح يرمز إليه، والذي تمثلنا نحن بموته، ذهب إلى نفس هذه الأرواح، وتكلم إليهم. كان هذا يماثل ذهاب نوح إليهم، بل كان أفضل. يقينًا إن روح خدمة نوح تحققت بالكامل في ذاك الذي كان يرمز إليه.
إذن فإنني أعتقد بأن فحوى هذه الآيات هو أن يتبين بأنه يليق بنا أن نذیع أنباء الصليب لأصدقائنا القدماء، وزملائنا في حياتنا الأولى، كأننا نرجع إليهم عابرین مياه فيضان الموت، لا لنعيش ثانية في العالم الذي هجرناه، بل لننادى بأخبار الخلاص السارة.
نعم، حتى اضطهادهم لنا ينبغي أن لا يعطل جهودنا التي يجب أن نبذلها لخلاصهم. والواقع إننا قد نكتشف بأن نفس آلامنا ستفك عقال ألسنتنا، وتوسع الفرص التي نبذلها معهم. إذا ما طُرحنا في السجن، وضُبطت أرجلنا في المقطرة، فإننا نقدر أن نترنم فيسمع المسجونون (أع 16: 24-25). وإذا ما وُجدنا في بيت قيصر فإن وُثقنا من أجل المسيح تكون ظاهرة في كل دار الولاية (في 1: 13). وفي استشهادنا تكون النار التي نُحرق فيها منيرة للعالم، ولن تُطفأ.
إن طوفان نوح يدفعنا لكي نتأمل ليس فقط في ذلك الموت الرمزی، وهو الموضوع الذي يدور حوله الأصحاح السادس من رسالة رومية، وهذه الآيات أيضًا، بل في الموت الجسدي الذي كان ينبغي أن يواجهه أولئك المؤمنون كشهداء، والذي ينبغي أن نواجهه نحن أيضًا إن لم يأت الرب أولًا. ومهما أتى الموت إلى المؤمن في أية صورة، سواء في تصرفات إنكار الذات كل يوم، أو في نبذ بعض أنواع الشر، أو في انحلال هذا الجسد الطبيعي، فإنه يجب أن يقابل بهدوء وبفرح، لأنه تعقبه القيامة.
بالموت نحن نتبع خطوات ربنا المبارك التي تقودنا إلى المراعي الخضراء العلوية عن طريق وادي ظل الموت. فلنثبت أنظارنا دوامًا في قيامته، التي ترمز لقيامتنا نحن أيضًا، حيث يجلس عن يمين الله. «إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له» (1بط 3: 22). ونحن سوف نشترك في قدرته بقدر ما نكون راغبين في الاشتراك في موته.
_____
(20) بريطانيا العظمى.
(21) «أخيرًا» حسب ترجمة اليسوعيين والترجمة الإنجليزية.
(22) «مشفقين بعضكم على بعض» حسب ترجمة اليسوعيين والترجمة الإنجليزية.
(23) قد تحالفت آرام [أي سوريا] مع أفرايم، حسب الترجمة الإنجليزية.
(24) «فرحنا» حسب الترجمة الإنجليزية.
(25) «تثقلون يسيرًا بتجارب متنوعة» حسب الترجمة الإنجليزية.
← تفاسير أصحاحات بطرس الأولى: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير بطرس الأولى 4 |
قسم
تفاسير العهد الجديد ف. ب. ماير (تعريب القمص مرقس داود) |
تفسير بطرس الأولى 2 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/f-b-meyer/peter1/chapter-03.html
تقصير الرابط:
tak.la/zza2n5x