* تأملات في كتاب
رسالة بطرس الرسول الأولى: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
«أطلب إلى الشيوخ(36) الذين بينكم أنا ليست عينة من داشتيد الشيخ(37) رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يعلن ارعوا رعية الله التي بينكم نظارا(38)، لا عن اضطرار، بل بالاختيار، ولا لربح قبيح، بل بنشاط. ولا كمن يسود على الأنصبة، بل صائرين أمثلة للرعية. ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلي» (1 بط 5: 1-4).
المتكلم هنا راع محنك. وإذ أحس بأن قواته الجسدية قد بدأت تضعف، كان قلبه منشغلا بخدمته التي أحبها، وكان يحرص جدًا على أن لا تتأثر بضعف جسده. كانت غيرته قوية حتى الموت
تصور كوخ راع بين جبال الشمال، وفيه رقد الراعي الشيخ وهو قريب من الموت. لقد بدأ المرض يهد في كيانه القوي. ووقف حوله أبناؤه، الذين مرنهم على احتمال الأخطار والمتاعب. قبل أن ينتهي الليل ويأتي الفجر، كانت تلك الروح النبيلة القوية سوف تعود إلى الوطن الذي حنَّت إليه منذ زمن طويل. ليتك تنحني إليه، وتصغي إلى كلماته التي يهمس بها. لاحظ أنها تخص خرافه التي يرعاها، وكيف استودعها لبنيه، قائلًا: يا أبنائی، ارعوا الرعية.
حيثما اجتمع بعض من شعب الله وجد جزء من رعیته. كانت الرعية نفسها مشتتة في كل أرجاء العالم، وكانت «رعية واحدة، حسب طلب المسيح، وكما ترجو أن تكون الآن، لأنه إن كانت هنالك حظا ثر كثيرة فهنالك رعية واحدة (يو 1: 16). إن كانت هناك بعض الخراف قد أخذت إلى ينابيع المياه الحية عبر النهر، وكانت هنالك خراف أخرى تدوس المياه العكرة على هذا الجانب الآخر من النهر، فالرعية واحدة، اشتريت في وقت واحد، وسميت باسم واحد، وهي ملك لمالك واحد. وحيثما اجتمع أية جماعة من المؤمنين فهي جزء من الرعية الواحدة، وكل قادتها الروحيين رعاة.
ومما يلاحظ هنا أن الرسول بطرس، إذ دعا نفسه بأنه «الشيخ [الكاهن]، وضع نفسه في مستوى واحد مع الشيوخ [الكهنة] الذين خاطبهم، مع هذا الفارق الواحد، وهو أنه كان، الشاهد لآلام المسيح، الذي هو «رئيس الرعاة»، الذي اقتنى الرعية بدمه (أع. 28:2)
ألا تسطع هذه الإشارة إلى آلام المسيح بعض النور على أحلك ساعة في تاريخ حياة الرسول بطرس؟ فإنه إذ ركض برفقة يوحنا الحبيب إلى القبر الفارغ، نستنتج أنه كان قد سبق أن غادر دار الولاية إلى بيته مباشرة حزينا مر النفس. لكنه استكثر على نفسه أن يبقى وحده في البيت بينما كانت كل أورشليم في هرج بسبب محاكمة أعز حبيب لديه، وصلبه. ولذا فإنه حالما انفضت الجموع المحتشدة عند الجلجثة، وخلت
الشوارع، يبدو أنه تسلل في الدروب والحارات إلى أن وصل إلى منظر الصليب، ووقف من بعيد شاهدا لآلام المسيح.
هذا هو المؤهل الوحيد لرعاية قطيع الله، ليس أن نتلقى تعليما عاليا، ولا أن نتكلم بفصاحة في المواضيع الروحية، ولا أن يكون لنا مركز رسمی كبیر أو بسيط في الكنيسة. فالخادم قد يحصل على كل هذه المؤهلات لكنه لا يكون جديرا برعاية قطيع الله. لكن يجب أن يكون كل واحد «شاهدا [ناظرا لآلام المسيح، ليس من الضروري أن نتطلع بالعين الجسدية، بل بالبصيرة الروحية، لا بالنظرة الهوائية المتقلبة الرأي، نظرة الجموع العابرة، بل بنظرة المحبة الثاقبة، التي تجد في هذه الآلام تطهيرا للخطايا، وبلسانا للجروح.
ونحن إذ نشهد هذه الآلام ونتطلع إليها، فإننا لا نؤهل للرعاية نقط، بل للمجد، الشاهد لآلام المسيح وشريك المجد العتيد أن يعلن». وعندما يتطلع المرء إلى هذه الآلام بعين العطف والإيمان، فإنه يرى المجد العتيد أن يعلن. فالتطلع إلى الآلام مقدمة الرؤية المجد. وحيث لا صليب فلا إكليل. لكن حيثما وجد الصليب الحقيقي وجد الإكليل. قد يطول بنا الزمن حتى نرى المجد الذي يلمع أمامنا بين الآونة والأخرى، ونحن صاعدون إلى جبل التجلي سوف نراه رؤية واضحة مستديمة عندما يعلن.
«ارعوا». وهذه الكلمة الواحدة تتضمن كل واجبات الراعي: القيادة، تهيئة الطعام وتقديمه، الحراسة، الدفاع. لا يكفي وعظ الرعية، أو قيادتهم في الصلاة، مرة أو مرتين في الأسبوع. بل يجب أن يكون هنالك افتقاد شخصی، والسهر على النفوس التي سوف يعطي الخادم حسابًا عنها، البحث عن الضال، السير وراءه إلى الحفرة التي تردى فيها، على أن لا يستريح الخادم إلا إذا أعاد الخروف الضال إلى الحظيرة. كل هذا تتضمنه هذه الكلمة الواحدة. وعلى الراعي أن يقوم بكل هذا.
ويجب أن تكون المحبة هي الباعِثَة على الخدمة. إن كان الراعی يقوم بهذه الخدمة بسبب أي ضغط عليه، أو من أجل أي أجر يقدم إليه، فإنه لا يتمم المثل الأعلى المبين في هذه العبارة: «لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط،. لا يوجد بين جنود الله جنود مرتزقة، أي مؤجرة، ولا يوجد جنود مضغوط عليهم، بل كلهم متطوعون. يجب أن يكون لنا قلب الراعي إن أردنا أن نعمل عمل الراعي.
كذلك ينبغي أن لا تكون محبة الراعي لرعيته مجرد العاطفة المنبعثة من الجسد، أو من ميل النفس. بل يجب أن تكون هي المحبة التي تماثل محبة «رئیس الرعاة، نفسه. المحبة التي تحتمل دون أن تتطلع إلى رد الجميل أو الشكر، التي تنمو حيث لا تكاد توجد ترية، والتي تتمسك بأقل شيء يدعو إلى المحبة.
هذه المحبة تنسكب في قلوبنا بالروح القدس فقط (رو 5: 5). إن الاهتمام بعلاج النفوس بسبب ثراء الأسرة فقط، أو انتظارا لمنفعة مادية، أو لمركز طيب أو نفوذ قوي، يعتبر تدنيسا للأشياء المقدسة، ويؤدي إلى دينونة مروعة للراعي الأجير.
يجب أن يكون الله هو الذي دعانا للخدمة. ومتي دعانا إليها فهو الذي يعضدها فيها، ويعطينا كل الإرشاد وكل النعمة اللازمين لتأديتها تأدية كاملة فعالة.
«ولا كَمَنْ يسود على الأنصبة» [أو «على ميراث الله»، حسب ترجمة اليسوعيين]. ومع ذلك فالتعبيران يؤديان إلى نفس المعنى، لأن الله لا يمكن أن يعطي نصيبًا إلا مما يملكه. «نحن شعب مرعاه وغنم يده» (مز 95: 7). طالما نادانا الله قائلًا: «رعیتی». وهو الذي يخصص النفوس ليكونوا في رعاية رعاة معينين. ليت الذين أوكل إليهم نصيب قليل وغير مشجع لا يستخفون به، طالما كان الله هو الذي ائتمنهم عليه، وهو الذي يلاحظ دوامًا مقدار الأمانة التي تؤدي بها الخدمة، وهو مستعد أن يجازي الراعي الحقيقي بإعطائه نصيبا أوفر.
إن منطقة الخدمة، والشعب الذي نخدمه، يجب أن يؤخذا مباشرة من يد رئیس الرعاة. فنحن لسنا إلا وكلاء له. وخدمتنا يجب أن تتم لإرضائه، وبإرشاده. يجب أن نستشيره في كل خططنا. يجب أن نطلب إرشاده عن أي جزء من المراعي الخضراء التي تأخذ إليها رعيتنا، وعن المياه التي تستريح فيها. إن حدث أي تعب أو خطأ فلنلجأ إليه في الحال ونعلمه بالأمر، لأنه هو الكفيل بأن يرشدنا في كل صغيرة وكبيرة. إن ارتكبنا أية أخطاء، وتحملت الرعية أية آلام بسبب جهلنا، فإن الخسائر تعود على رئيس الرعاة. لن يهتم أحد با اؤتمن عليه الراعي إلا رئيس الرعاة. فهو يشترك معه في متاعبه ومشاكله وسهره وأخطار الخدمة. يجب أن يكون هدف كل خادم حقيقي للمسيح هو إتمام إرادة رئيس الرعاة، لا إرضاء الرعية، ولا ابتغاء مدح الناس، ولا اكتساب شهرة أو سمعة طيبة.
«ولا كمن يسود على الأنصبة»، وينبغي أن لا يكون هنالك شيء من التسلط أو الغطرسة أو الاستبداد، يجب أن لا نسيء استخدام مراكزنا. يجب أن ينال الراعي الكرامة، لا أن يغتصبها. «وعبد الرب لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفقا بالجميع، مؤدبا بالوداعة المقاومين» (2 تی 2: 24-25).
وطالما كان الراعی -حسب العادة في الشرق- يسير أمام خرافه، فيجب أن يكون مثالا حسنا. «بل صائرين أمثلة للرعية»، قال بولس الرسول للشاب تيموثاوس: (كن قدوة للمؤمنين في الكلام، في التصرف، في المحبة، في الروح، في الإيمان، وفي الطهارة» (1 تی 4: 12). إن الذين يريدون أن يقودوا الآخرين ينبغي أن يدققوا في تصرفاتهم لكي لا يكونوا عثرة لأحد، بل لكي يتشجع ويتشدد الآخرون بجمال واستقامة سلوكهم.
يقينًا إن الرعية تجد تعزية كبيرة فيما قيل هنا عن رئيس الرعاة. عندما يفشل الراعي فإن رئيس الرعاة يتدخل ليتمم العمل الذي أهمله أو ليعين غيره. لا تتذمر لأي إنسان، بل قدم شكواك للرئاسة العليا. وإن لم يستبدل الراعي التانه براع آخر فإنه سوف يعني بك بنفسه، وعندئذ تهتف قائلًا «الرب راعي فلا يعوزنی شیء». إنه سوف يحرص على أن يتم كل شيء على أحسن وجه.
إن كان يوجد بين القراء من هو ليس تحت رئاسة أي راع -وهذا نادر- فليعلم أنه تحت رئاسة رئيس الرعاة نفسه. وهل هنالك أفضل من هذا؟ إن أحسن وصف لعنايته بنا نجده في كلماته التي تستحق منا كل اهتمام. ويساعدنا كثيرًا أن نقرأ ما ورد في (حز 24: 12-16).
← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
جزاء الإكليل، لا إكليل العالم الذي يذیل سریعا، بل «إكليل المجد الذي لا يبلی» جزاء الخدمة الأمينة الذي لا يشيخ، ولا يتعفن. وهكذا تبقى إلى الأبد ذكرى الخدمة المتواضعة التي نقدمها. وليس هذا هو كل ما في الأمر، لكی تضاف إلى الخلود بعض طاقات من المجد - إكليل المجد الذي لا يبلَی».
ويا له من جزاء سخي. يا له من تنازل عجیب. یا لفرط الفرح والسرور، إن العمل نفسه جزاء كان بغض النظر عن جزاء كهذا. لكن ينبغي أن نجاهد للحصول على
كل من الأكاليل الثلاثة المقدمة إلينا: «إكليل الحياة، الذي يقدم، للرجل الذي يحتمل التجربة» (يع 1: 12).. إكليل البر، المقدم ر لجميع الذين يحبون ظهوره (2 تی 4: 8) «إكليل المجد» للذين يرعون رعيته.
وفي نفس الوقت، لنطلب أن يظهر الرب سریعا، ويزيح الحجاب الذي يحجبه،
ويعلن ذاته للأعين التي تشتاق لرؤيته، والقلوب التي تنتظر ظهوره.
«آمين، تعال أيها الرب يسوع».
«كذلك أيها الأحداث اخضعوا للشيوخ، وكونوا جميعًا خاضعين بعضكم لبعض، وتسربلوا بالتواضع، لأن الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القوية، لكي يرفعكم في حينه» (1 بط 5: 5-6).
من أبرز علامات الشخص غير المتجدد روح الكبرياء والغطرسة والاعتداد بالذات. إن الاستياء من الإهانة، والإصرار على المطالبة بالحقوق المزعومة، والافتخار بالعظمة، وعرض «الفضة والذهب والأطياب والزيت الطيب، بحب التظاهر والمجد الباطل كما فعل حزقيا (2 مل 20: 13) - هذه هي روح العالم.
وهذه الخطية المخادعة، خطية الكبرياء، يعسر أن تموت في أولاد الله، بل يحق لنا أن نتساءل عما إذا كان من الممكن أن نهجرها هجرا كاملًا طالما كنا في هذا العالم. إنها متقلبة في شكلها وتتغير حسب كل مزاج، تتلون على كل لون، تنشب أظافرها حتى في الشخص المتجدد.. يفتخر المسيحيون ببيوتهم، وسياراتهم، وثروتهم، وملابسهم، ومراكزهم. وتفتخر المسيحيات بشخصيًّاتهم، وملابسهن، ومراكزهن، وأولادهن. ويفتخر خدام المسيح بنفوذهم، وعظاتهم، وبإعجاب شعبهم بهم. وإن كلمات التملق، والإعلان في الصحف، والإحساس بالنجاح، هذه كلها تغذی روح الكبرياء، حتى ليخيل للخادم أن العالم كله يتحدث عنه، وأن أعظم كلمات المديح تقصر عن أن تعبر عن الحقيقة.
وإنني أرجو قرائي الأعزاء، وألح في الرجاء، حاثا كل واحد بأن يتأمل في صفاته وسلوكه في ضوء هذه الكلمات. ينبغي أن نقتنع بأنا متكبرون، قبل أن نطلب نعمة التواضع الحقيقية. الكبرياء خطية من أقبح الخطايا، ومع ذلك فإنها تجد لنفسها مكانا في نفوس الأتقياء، رغم إننا كثيرًا ما نطلق عليها أسماء خفيفة. قد ندعوها: الاستقلال، أو الاعتماد على الذات. كثيرًا ما لا نحس بها في إساءة الناس إلينا، وفي اعتقادنا بأنها جرح للكرامة. نحن لا ندرك وجودها عندما تنسحب من مراكزنا إذ نحس بأن شخصا ما قد تفوق علينا، وترفض بأن نقارن أنفسنا به، معتقدین بأننا لسنا أقل منه. ليس من السهل مطلقًا أن نلتزم الصمت، أو نتخذ المكان الأخير، أو نتعلم، حيث نحسب أنفسنا بأننا جديرون أن نعلم.
وفي بعض الأحيان عندما يكون الأمر واضحا أننا قد هزمنا، وأننا ملتزمون بأن نتراجع إلى الوراء، فإننا نبدأ بأن تنفخ أنفسنا، ونفتخر بأننا قد تحملنا الإساءة بسرور. قد نفتخر بتواضعنا ووداعتنا، وإذ نتظاهر بالقداسة، قد نتخيل بأن كل الذين حولنا يعجبون بتواضعنا. أعتقد بأن الولد الراعي، الذي أشير إليه في كتاب
سياحة المسيحي»، بأنه كان جالسا يغني في غابة واطية، كان ممكنا له أن يتفاخر بمركزه الوضيع لو عرف بأن تواضعه يجعله خالدا. أعرف على الأقل واعظا واحدًا كان يفتخر بعظاته عن التواضع، ويتظاهر بأنه يبذل مجهودا كبيرا ليكون ودیعا. وهكذا ترى أنه حتى إذا ارتدت النفس ثوب التواضع، مهما كان بسيطا وواضحا، فهنالك خطر شديد في أن يصير هذا الثوب باطل الأباطيل.
بين كل شرور طبيعتنا الفاسدة ليس هنالك ما هو أشر وأكثر انتشارًا من رذيلة الكبرياء، ذلك الشر المستطير، الذي ينفخنا في نظر أنفسنا ونظر الآخرين. قال القديس أوغسطينوس: إن أول خطية غلبت الإنسان هي آخر خطية يغلبها. قد تموت بعض الخطايا -نسبيا- أمامنا، أما خطية الكبرياء ففيها شيء من الحياة، نسبيا أيضًا. هي أساس كل الخطايا، هي أول ما يعيش فينا، وآخر ما يموت فينا. ولها هذا الامتياز أنه بينما تثير الخطايا الأخرى وتهيج بعضها بعضا، فإن خطية الكبرياء تتغذى حتى على الفضائل والنعم، وتفقس عليها كالعثة، وتلاشيها، بل تلاشی أفضلها، إن كنا لا نحترس منها أشد الاحتراس. يقال عن أحد أنواع الأفعوان المُسَمَّى Hydra هيدرا (39) أنه إذا قطعت أحد رؤوسه نبتت رأس أخرى. هكذا الحال مع خطية الكبرياء، فإنها بطريقة خفية تتشبث بأفضل الأفعال، وتفترسها. ولذلك فنحن في أشد الحاجة إلى أن نسهر ونحاربها، ونصلي للتخلص منها، وتجاهد جهادًا متواصلًا الطلب التواضع الحقيقي العميق، ونسعى كل يوم لنتقدم فيه إلى الأمام.
إن التشبيه المستخدم في هاتين الآيتين مقتبس يقينًا ما حدث قبيل الصليب حين اتخذ ربنا شكل العيد، وهو عالم من أين أتي، وإلى أين كان مزمعًا أن يذهب.
«يسوع وهو عالم أن الأب قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضي، قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة واتزر بها. ثم صب ماء في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنشفة التي كان متزرًا بها» (يو 13: 3-5). یا لجمال ذلك الرداء الذي ارتداه، كم كان جميلا إذ خلع ثيابه، واتزر بمنشفة، واتخذ ذلك الموقف المتواضع. كان منظره أبهى وأمجد حتى من منظره يوم كان على جبل التجلي. يقينًا أن سليمان في كل مجده لم يلبس ثيابا أَبْهَى ما ارتداه المسيح. وهكذا تقدم إلينا أجمعين هذه الوصية إننا يجب أن نتسربل بهذا الرداء. «كونوا جميعًا خاضعين بعضكم لبعض وتسربلوا بالتواضع».
وكيف يمكن أن نتواضع؟
«كذلك أيها الأحداث اخضعوا للشيوخ». كان يعتبر أمرًا جوهريًّا في أثينا أن الأصفر ينبغي أن يحترم الأكبر. ونحن لا نجد حتى في وصايا العهد الجديد ما يماثل تلك الوصية التي وردت في العهد القديم: «من أمام الأشيب تقوم، وتحترم وجه الشيخ، وتخشى إلهك، أنا الرب» (لا 19: 32).
نحن نحتاج إلى ترديد هذه الحكم الغالية في آذان كل جيل جديد. قد لا نلاحظ ذلك التراخي الشديد في مثل تلك الأمور، الذي يزداد انتشارًا في المجتمع الحديث، ويقوض أركانه. ولعله يرجع إلى أن الأولاد يتدربون منذ حداثتهم على الاعتماد على أنفسهم، أو يتعلمون أن ينضجوا قبل الأوان. ولذلك فإنهم يميلون إلى إملاء إرادتهم لا إلى الخضوع. إن الأحداث ينفرون من وضع النير على أعناقهم، وهم لا يعلمون مقدار الحسرات المريرة التي تنتظرهم في الأيام القادمة. وقف مرة رجل متقدم في السن عاري الرأس وقت المطر الشديد في أحد الأسواق العامة متذكرا في حسرة وأنين أنه في أيامه الأولى خرج عن طاعته لأبيه الذي كان قد توفي: «أيها الأحداث، أخضعوا».
طبیعي إنه توجد بعض الظروف التي يمنعنا فيها الضمير عن النضوج. وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن نبين أسباب الرفض بأي ثمن. لكن هذه الظروف نادرة. وفي كل الظروف الغامضة، في كل الحالات التي لا يحتج فيها الضمير الصالح احتجاجا واضحا، يجب أن نخضع.
عندما كان الأحداث يستشيرونني عن كيفية تصرفهم إذا ما طلب منهم الوالدون الذهاب إلى أمكنة لا يوافقون عليها، كنت دوامًا أجيبهم بأنهم إذا كانت ضمائرهم لا تسمح لهم مطلقًا بالذهاب إليها، مثل دور التمثيل، أو صالات الرقص، فليس أمامهم إلا الرفض. أما إذا كانت الأمكنة بريئة فيجب عليهم أن يخضعوا، طالما كانوا تحت رعاية والديهم، إذا ما أصر الوالدين على طلبهم، وذلك بعد أن يبين الشبان شكوكهم أو اعتراضاتهم.
وعلى أي حال، فإنه توجد علاقات أخرى في الحياة غير علاقة الآباء بالأبناء. فنحن باستمرار نوجد مع أشخاص خبروا الحياة أكثر منا، أكبر منا سنًا، أو أكثر منا اختبارًا، ولهم علينا التزامات. جميع هؤلاء ينبغي أن نخدمهم دون خنوع، وأن نكون معهم ودعاء دون خسة، ونحترمهم دون تملق، وأن تكون متأدبين دون رياء أو تظاهر، وذلك على شرط أن لا تكون صفاتهم تمنعنا منعا باتا من أن نقدم إليهم أي احترام.
أما غرس هذه العادة، عادة احترام من هم أكبر وأفضل منا، بقصد اكتساب لون جديد من التواضع، فهذا يعتبر خطوة كبيرة في هذا السبيل.
«خاضعين بعضكم لبعض». طبیعي إنه لا بُد أن توجد دوامًا وظائف متنوعة في المجتمع. لكن المراكز التي فيه والتي ورثناها أو حصلنا عليها، تقدم لنا الفرص الممارسة فضيلة إنكار الذات مع كل من حولنا.
لنخضع لمضايقات الآخرين لكی نزیدهم راحة. لنخضع لمتاعبهم لكي نجعل الحياة أكثر يسرا لهم. لنخضع لاضطهاداتهم لكي نخلصهم، ولو كلفنا الأمر إراقة دمائنا. هذا يتفق مع الوصية السابقة التي قدمها إلينا الرسول: اخضعوا لكل ترتيب بشری من أجل الرب (1 بط 2: 13).
اخضعوا أمام الإساءات. كمموا أفواهكم في خضوع، كابحين جماح كلمات الكبرياء والغضب المتحفزة للكلام. تنازلوا حتى عن حقوقكم، فهذا أفضل من الذهاب إلى المحاكم المحاولة الاحتفاظ بها. «من أراد أن يخاصمك(40) ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا» (مت 5: 4)، وأنت إذ تخضع في مثل هذه الظروف، فليس ذلك عن استكانة أو جبن، لكن لأنك تنتهز كل فرصة تعرض لك لتحصل على نعمة التواضع.
ليقبل الخادم توبیخ مخدومه بروح الوداعة، دون تفكير في تبرئة نفسه، إلا إذا كان خطأه يهين مجد الله، ليقبل الموظف توبيخ رئيسة بهدوء، مستعدا لتنفيذ كل طلب عادل، وللتعلم في صمت. ليعترف المؤمن بكل إساعة قالها أو فعلها للمؤمن زميله، ليعترف إليه بها بخجل، وليكن مستعدا لتحمل أي توبيخ منه پوداعة.. ينبغي أن لا تحجم عن الاتضاع أمام خدمنا أو أولادنا إن كنا قد أخطأنا إليهم.
مع أننا ينبغي أن نكون أقوياء كالصخر في الدفاع عن الحق كما هو في يسوع، لكن ينبغي أن نتساهل جدًا إن كان الأمر يمس سمعتنا، أو كرامتنا، أو مصلحتنا. وليكن هدفنا في كل أمر هو أن نتعلم نعمة التواضع، وتمارسها في كل المناسبات التي يقدمها الله لنا في طريقنا.
«تواضعوا تحت يد الله القوية». آه ما أمر الآلام التي يكدسها الناس لأنفسهم بمقاومة الإرادة الإلهية. إن كنت تتبرم وتتذمر مما يرتبه لك الله، وتخطئه لأنه لم يعطك نصيبا آخر، أو شريكة أخرى لحياتك أو شریكا آخر، أو وظيفة أكثر ملاءمة، فلا يمكن إلا أن تعيش تعسا لأن أمثال كل هذه النزعات، التي تغلی وتثور، وترغی وتزيد كأمواج البحر، يكمن تحتها شعور بالكبرياء الفاشل، الذي يعتقد صاحبه بأنه يستحق من الله معاملة أفضل، ويعتبر أنه مظلوم.
لكن ماذا نكون نحن الذين نطلب نصيبا أفضل؟ ألم يكن أبونا الأول بستانیا سرق فاكهة سيده، وخلق من التراب، وارتكب الكثير جدًا من الخطايا؟ فلنقبل كل ما يرسله لنا الله إن أشر ما يعطي أفضل عشرة آلاف مرة مما تستحق. وأقسى ما يعطي أوضح دليل على المحبة التي لا تريد مطلقًا هلاكنا. وكل ما يعطي مرتب بحكمة لن تخطئ قط في مناسبة واحدة.
إن ظل تلك اليد القوية كثيف ومظلم، وضغطه ساحق. وإذ أحس به داود صرخ قائلًا: «يدك ثقلت على نهارًا وليلًا، تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ» (مز 32: 4). لكن طأطئ رأسك تحتها. قد تحس بضغطها في آلامك الشخصية، في التوبيخ أو التعيير أو الاضطهاد، أو الخسائر المادية، أو في أي نوع من أنواع التأديب.. لكن في كل وضع اعتبر أنه فرصة للتدريب على هذه النصيحة نحو التواضع.
«انتظري یا نفسی، فإن كل ما يرتبه الله جيد وصالح، وأنت لا تستحقين شيئًا أفضل. أي حق لك في الجلوس على المائدة الملكية بعد أن خسرت هذا الحق وارتميت مع الخنازير؟ لو كنت تنالین حقوقك لكنت الآن في الظلمة الخارجية».
← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ينبغي أن ندرك قيمة أنفسنا الحقيقية. ينبغي أن نحكم على أنفسنا الآن لكی لا يحكم علينا أخيرًا.
1-مَنْ أنت يا مَنْ تغتر بنفسك؟ «إن نظرة حقيقية لنفسك تجعلك تنزل عن كبريائك. يتطلع الإنسان بكلتا عينيه لأي خير فيه. لكنه يغمض عينيه عن أي عيب أو نقص فيه. وكل إنسان يتملق نفسه. ليت كل إنسان يعرف جهله، ويقارن، ما لا يعرفه عن نفسه بما يعرفه، ورجاسات قلبه بأية حركة طيبة فيه، وحماقته الدفينة بتصرفاته الظاهرة التي بلا لوم. وعندئذ لا يمكن إلا أن يتواضع ويقدر نفسه حق قدرها.
2-عَوِّد نفسك على التطلع إلى الخير الذي في الآخرين. يقارن الكثيرون منا أفضل ما فيهم بأسوأ ما في الآخرين. وطبيعي أن نستنتج بأننا أفضل منهم، على الأقل في تقديرنا لأنفسنا. فنحن نحرص جدًا على التطلع إلى نقائص الآخرين لا إلى فضائلهم. نحن نتطلع إلى نقائصهم بمنظار مكبر، لكننا ننظر إلى فضائلهم بمنظار معكوس. لكن إن دققنا النظر في فضائلهم كما ندقق النظر في نقائصهم، ومجدنا كل ما هو جميل فيهم وما صيته حسن، وتأملنا في هذه الأمور، فإننا عندئذ نتبين تفاهة أنفسنا.
3-تقبل كل خير من أي مصدر كأنه من يد الله، واشكره. جمیل جدًا أن ننال الشكر والتقدير من الناس، أن يحيط بنا أصدقاء محبون يتحدثون عنا حسنا، وينبغي أن نشكر الله عندما تشرق علينا ساعات كهذه، فإنها من المستحيل أن تدوم إن كنا غير مخلصين لله. وطالما بقيت فهي لا يمكن أن تؤذينا، إن كنا نحول كل مديح لمجد الله، شاكرین ذاك الذي يعطي كل عطية صالحة وكل موهبة تامة. عندئذ تخرج من كل محنة دون ارتكاب أي إثم.
4-تمثل بتواضع المسيح. إذ تسير في العالم لا تكتف بمقاومة الكبرياء، بل اتخذ من كل تجربة بالكبرياء فرصة لرفع قلبك إلى المسيح لكي تنال منه المزيد من تواضعه. ردد دوامًا هذه العبارة: «هبنی تواضعك يا رب»
وهنالك الكثير من البواعث نحو هذه الغاية:
«يقاوم الله المستكبرين»، كأن الله يشهر الحرب. من المستحيل أن ننجح في مقاومة الله. فإن هلاك فرعون في البحر الأحمر دلیل قوي دائم على فشل الإنسان في مقاومة الله. قد يبدو النجاح وقتيا، لكن الفشل محقق، ونهائي.
«أما المتواضعون فيعطيهم نعمة». «إن الندى الجميل الذي يسكبه الله من السماء، والنعم الوفيرة التي تهطل علينا كالمطر، تزحزح جبال الكبرياء، وتهبط على الأودية الواطئة للقلوب المتواضعة، فتجعلها جميلة مخصبة. القلب المنتفخ التخيل بأنه قد امتلا، لا مجال فيه للنعمة. والقلب المتواضع متسع جدًا، لأنه أخلى من كل معطل، ولذلك يتسع للمزيد من النعمة».
إن السفن الكثيرة الحمولة تغطس في الماء إلى مدى أبعد، والتي تغطس إلى مدى أبعد، دون أن تتعرض للخطر، هي الأكثر حمولة.. آه، ليت لنا القلب المتواضع الذي يتسع للكثير من النعمة، وإذ يزداد امتلاء، فإنه يزداد احتقارا لنفسه.
«يرفعكم في حينه». «العرج نهبوا نهبًا» (أش 33: 23). «طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض» (مت 5: 5) ورئيس المتكأ يأمر الذين اتخذوا الأماكن الأخيرة بالارتفاع إلى أسماها. وموسى أكثر الناس حِلْمًا ووداعة علم العالم مبادئ علم التشريع. وأماكن الاستشهاد صارت عروشا يجلس عليها الشهداء الدينونة العالم في كل الأجيال التالية. والودعاء هم أصحاب السلطان الحقيقي في المدينة أو القرية. والذين يموتون على الصليب يجتازون من القبر إلى جبل الصعود.
أيها القارئ العزيز، تواضع، ليس في الشكل الخارجي فقط، بل في روحك في الداخل، «يرفعك -لا اليوم، ولا غدا- بل في حينه، لترث الأرض.
«مُلقين كل همكم عليه، لأنه هو يعتني بكم» (1 بط 5: 7).
كل كلمة في هذه الآية النفيسة ذهبية. وقيام هذه الآية هنا كوصية إلهية بُرهان ليس فقط على ما يمكننا أن نتممه، بل على مقدار استعداد الله على أن يعيننا لنعمله. وهو يعيننا على إتمام ما يأمرنا به. وكل كلمة من كلامه مقترنة بالقوة. ونوره حياة. إن كنت فقط تريد بأن تحيا هذه الحياة السعيدة، الحرة، الخالية من الهم، وتتجاسر على أن تطأ على الأمواج تحرسك عنايته، وتعتزم أن تطيع، فإنك تجد أن قوة عجيبة تأتيك من لدنه، لتجعل الطاعة ممكنة.
إن إطاعة هذه الوصية أمر ضروري جدًا. پهذا فقط تنال السلام والقوة. نحن لا نقدر أن نحتمل ضغط العمل والقلق والاضطراب. هنالك أمران يحولان بين النفس وبين الله: الخطية وهموم الحياة. ويجب أن تكون مستعدين لإلقاء همومنا على الرب يقدر استعدادنا للاعتراف بخطايانا له، وذلك إن أردنا أن نسلك في النور كما أنه هو في النور. إن نباح كلب واحد قد يوقظنا من نومنا في الليل الهادئ. وذرة تراب واحدة في العين تجعلها عاجزة عن التمتع بالرؤية الكاملة. وهم واحد قد ينزع سلامنا، ويخبئ عنا وجه الله، ويجعل النفس كثيية حزينة. فلنلق كل همنا عليه إن أردنا أن ندرك بركة الشركة المستديمة.
وعلاوة على البركة التي نخسرها باستسلامنا للهموم، يجب أن نذكر أن مثل هذا التصرف يحزن الله ويهينه. إنه يحزنه، لأن المحبة تحزن عند الشك في إخلاصها. وهو أيضًا يهينه جدًا. نحن ندين الأب مما نسمعه من كلمات بنیه، وتراه في سلوكهم. إن رأيناهم يكادون يموتون جوعا، أو بؤساء. أو يتطلعون إلينا بتلهف طالبين أقل مساعدة، أو يشكون بمرارة من ضآلة نصيبهم في الحياة، فإننا نستنتج بأن أبا هم قاسي القلب، مهما كانت ثروتها، ثم إننا نبتعد عنه على قدر ما تستطيع. وإن كان العالم يحكم على الله من نظرات وكلمات الكثيرين من أولاده، فهل نتعجب إن رأيناه ينفر من الله بدلا من أن يزداد اقترابا منه؟ لأن أهل العالم يظنون وقتئذ أنه إما أن يكون الله لا وجود له، أو أنه يعجز عن مساعدة أولاده، أو أن محبته غیر يقينية، أو أنه لا يبالي باحتياجات أولاده. لا بُد أن تكون هذه هي استنتاجات الكثيرين عندما ينظرون إلى شعب الله المتعبين، والثقيلي الأحمال، الذين أحنت الهموم ظهورهم، ويلاحظون نفوسهم الكئيبة.
نحن إما أن نكون مؤمنين حقيقيين أو مزيفين، إما أن تجذب الآخرين إلى المسيح أو ننفرهم منه. وهذا يتوقف كثيرًا على موقفنا بإزاء هموم الحياة.
طبيعي أن الحياة لا يمكن أن تخلو من التأديب. فأبونا السماوي يعاملنا كبنين. وأي ابن لا يؤدبه أبوه (عب 12: 6-7)؟ وهذه الضربات من قضيبه، هذه الكؤوس التي مزجتها يده، يجب أن تكون مرة على الجسد. لكن هذا كله يختلف عن «الهم». قد تتوفر الآلام، لكن لا يوجد أي مجال للشك في محبة الآب، لا خوف من جهة نتيجة الآلام، لا تشاؤم من جهة المستقبل البعيد الذي تراه عين الإيمان مشرقا بأبهى أمجاده مهما تكاثفت الغيوم القائمة.
«الهم»، بحسب منطوق الكلمة اليونانية، هو ما يحول النفس عن واجبها الحالي إلى التفكير المضني في كيف تقابل الحالات التي قد لا تأتي مطلقًا. «الهم» هو القلق، والاضطراب، والانزعاج، هو التعود على انتظار الشر مقدما، هو عبور قناطر لم تصل إليها بعد، هو التشاؤم من جهة المستقبل، هو انشغال البال بأخطاء الماضي، وحصر التفكير في الظلمات التي قد تأتي بها الحوادث القادمة، بدلا من التفكير في محبة الله وإرادته.
«مُلْقِين كل همكم عليه»،. لا يدل الفعل في اللغة اليونانية على أننا ستمر في إلقاء الهم، بل تلقيه مرة واحدة.
من ذا الذي لم يختبر، عند الاستيقاظ في الصباح، الشعور بالضيق، والاستماع إلى الصوت يهمس بقصة طويلة عن الأثقال التي يجب تحملها، والمشاكل التي يجب مواجهتها إذ تمر الساعات.
- يقول ذلك الصوت: «آه، یا له من يوم تعس ذلك الذي بدأ الآن»
- فنتساءل في خوف وفزع: «وكيف يكون هذا؟».
- «اذكر بأنك يجب أن تقابل ذلك الدائن الذي يطالب بدينه، وتلك المشاكل التي يجب حلها، وتلك الثورة التي يجب تهدئتها، وتلك الأمزجة العنيفة التي يجب مواجهتها. لا فائدة من الصلاة، لكن من الأفضل أن تلبث حيث أنت، وتنتظر الترى ماذا يحدث. لا مفر من الكارثة القادمة».
وكثيرا ما استسلمنا لهذه الإيحاءات. وإذا ما صلينا تكون صلاتنا صلاة اليائس، نلتمس معونة الله، لكننا لا نجسر على الاعتقاد بأنه سوف ينجي. لا تتوفر الثقة أو اليقين في الداخل، ولا الهدوء في الخارج. وتصير الحالة تعسة للبعض. فإنهم يقضون حياتهم هكذا دوامًا، في انزعاج مستمر، يجاهدون ضد العواصف والأمواج بدلا من أن يمشوا فوق المياه الثائرة، ويمشون في الممرات الصخرية بدلا من أن يحملوا بمركبات الله.
كم هو أفضل جدًا جدًا أن نلقي همنا على كتفي المسيح القويين. عالج الهموم كما تعالج الخطايا. سلمها ليسوع، الهم بعد الآخر. ألقها عليه. قل له وأنت تتطلع إليه بروح الإيمان: «یا رب، لا يمكنني أن أحتمل هذا الهم، وذاك. أنت قد حملت خطایای، فاحمل همومی. إنني ألقيها عليك، واثقا أنك سوف تعمل لي كل ما أحتاج، وأكثر ما أحتاج»، وهو ذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب» (أش 2:12). قال أحدهم: «ضع الهم على كاهل المسيح».
ليس هنالك طريق أكثر ضمانا للراحة من أن نحول إلى يسوع كل هموم الحياة، واثقين من أنه يستلم ما نسلمه إليه في نفس اللحظة، وأنه يفعل لنا الأفضل. ويقينا إنه يعتبر سرقة إن كنا نسترد ما سلمناه لیده. مبارك الرب يومًا فيومًا. يحملنا إله خلاصنا(41) (مز 68: 19).
هنالك تمهیدان أو ثلاثة قبل أن نتمكن من إلقاء هذا الهم على الله.. ينبغی أن نلقي خطايانا عليه قبل أن نلقي همنا عليه. وبتعبير آخر، ينبغي أن نكون أبناء في بيت الآب. ثم ينبغي أيضًا أن نحيا في دائرة خطة الله، واثقين من أننا موجودون في المكان الذي يريدنا أن نكون فيه، حالين حيث يحل عمود السحاب. وعلاوة على هذا ينبغي أن تسلم له حياتنا، ومكرسينها له ليعمل فيها كما يشاء. كذلك ينبغي أن لا نتغافل عن تغذية إيماننا بمواعيده، لأن الإيمان إن لم يجد غذاءه الطبيعي يصير هزيلا.
أما إذا تممت هذه الشروط، فإننا لا نجده عسيرا أن نجثو عند قدميه ونطرح عليه كل أثقالنا، وعندما تنتهي من الصلاة نقوم ممتلئة قلوبنا فرحًا وسلاما.
ربما يكون الكأس لا زال مهيأ لنشربه، والتأديب معدا لنتحمله، لكن ألم الهم المضني ينبغي تسليمه لمن لا يخيب رجانا.
هنالك هَم نمونا في النعمة. هذا أمر غير معقول بالمرة، لكنه لا يزال متفشيا جدًا. نحن نضطرب خوفا من أن لا نكون سائرين بالسرعة الواجبة، ونتجول هنا وهنالك متلهفين على أن نلتقط شيئًا من الآخرين، ومثلنا في هذا كمثل ولد في الفصول الأولية ينزعج لأنه لا يقدر دخول الفصول العالية في المدرسة. لكن يقينًا إن واجبه الوحيد هو أن يتقبل الدروس التي يقدمها إليه المدرس. وعندما يتعلمها يكون واجب المدرس أن يقدم إليه دروسا أعلى، وينمي معلوماته أكثر فأكثر.
فواجبنا إذن هو أن نتعلم كل يوم الدروس التي يقدمها لنا الرب يسوع، ونترك له مسئولية تقدمنا في معرفة الله ومحبته، ألق على قائد النفوس الأعظم هم تقدمك ونموك، وارتض أن تجلس عند قدميه لتتعلم الدروس التي يحددها هو.
وهنالك هم خدمتنا الروحية. كيف نحتفظ بشعبنا وسط منافسات الخدام المجاورين لنا؟ كيف نحتفظ بمقدرتنا وقوتنا؟ كيف نسوي الخلافات بين زملائنا في الخدمة، أو بين المرؤوسين لنا؟ كيف نجد مادة تكفي لإعداد العظات والدروس التي لا تنقطع؟ كيف نرعي تطبعا كبيرا من النفوس؟ ما هي عناصر الهم المستترة وراء كل هذه النواحي؟ وما هي الهموم التي لا يحصى لها عدد، المرتسمة على الوجوه، والتي تنم عن وجع القلب في الداخل؟
والمرء يميل إلى توجيه هذا السؤال أحيانا: من هو المسئول عن كل هذا؟
لو كانت المسئولية ملقاة على كتفيك وحدك لحق لك أن تحمل الهم. أما إن كانت الخدمة هي خدمة الرب، فيجب أن تكون المسئولية هي مسئولية الرب أيضًا. لست أنت العامل الرئيسي، بل المسيح. فهو الذي يعمل بك. وأنت لست إلا عبده. كل مسئوليتك هي أن تتمم بكل قدرتك كل ما يأمرك به، وهو الذي يتحمل كل المسئولية. إن كانت الأمور لا تسير بسهولة فاذهب وحدثه، وألق عليه همك، تاركًا له أن يعفيك من هذا النوع من الخدمة، أو أن يعضدك للقيام بها.
هنالك هم جزر ومد الحواس. إن حواسنا متغيرة جدًا. فهي تتأثر بتغيرات الجو أو الحرارة، بحالة الهضم أو صحة الكبد، بالإجهاد الكثير، أو عدم كفاية ساعات النوم، أو بأسباب كثيرة جدًا أخرى. لا توجد آلة وترية تتأثر بالتغيرات الدقيقة مثلنا، ونحن نميل إلى الارتباك عندما تجهد فوق طاقتنا. لكن إن كنا لا نشعر بأية خطية أو إهمال يعزى إليه هذا الإجهاد، فيجب أن تلقى هذا الهم على مخلصنا. هو يعرف جبلتنا، وعندما تكون منحدرين في السلم المظلم فلتمسك بدرابزين مشيئته، معتزمين على الاستمرار في إتمام مشيئته، حتى ولو كنا في الظلام، مرددين هذه الكلمات: «لا زلت ملكًا لي، مكرسا لك، ولو كنت في الظلام، كما كنت في أسعد أوقاتی».
وهنالك هم المسئوليات العائلية والأعمال التجارية. مسئولية الخدم، مع تغيراتهم المستمرة، أصحاب الأعمال، مع أوامرهم غير المعقولة، الزبائن والمستخدمين، المديونين والدائنين، الأبناء الصغار بأمراضهم، والشبان بتمرداتهم. كل من هذه المسئوليات يحني ظهر المرء بالهم المرير.
هنالك بعض الأشخاص لا هم لهم إلا خلق الأفكار المربكة المضنية. يتخيل الكثيرون من المسيحيين دوامًا أنهم سوف يصلون إلى حالة الفقر الشديد، ويرفضون التمتع بالخبرات التي في مقدورهم، بسبب بعض العوامل المخيفة التي يتوهمونها. أسفا على ذلك العمل من الأوهام الذي يعرقل الكثيرين في مسيرهم. لكن كل مصدر من مصادر الارتباك هذه قد يصبح واسطة من وسائط النعمة، رابطة بين يسوع والنفس، إن كان يوضع عند قدميه، ويسلم تسليما كليا لعنايته.
لا تكتف بأن تلقي بنفسك على الله، بل الق عليه همك أيضًا. فإن الذي يقدر أن يحمل الواحد يحمل الآخر أيضًا. أراد واد صغير أن يعاون والده في نقل كتبه. فتعثر على السلم وهو يحمل مجلدا ضخما. وعندئذ ركض إليه أبوه وحمله وحمل المجلد أيضًا وأعاده إلى غرفته. وهل يعاملنا الله بأقل من هذا؟ إنه لا يهملنا ولا يتركنا. يستطيع أن يحطم الصخور، ويشق طريقًا في البحر، ويفتح خزائن الريح (مز 135:7). إذا ما أمر الغربان أتت «بخبز ولحم صباحًا وبخبز ولحم مساءً» لأولاده (1 مل 17: 6)، وإذا ما أمر السمكة فتحت فاها وقدمت القطعة المالية اللازمة لعبيده وقت حاجتهم إليها (مت 17: 27). «هو ذا الجزائر يرفعها كدقة» (أش.4: 15)، فكم بالحري يقدر أن يحمل أثقل أحمالك، ولذلك لا يوجد شيء أتفه من أن تجعله مادة للصلاة والإيمان.
كلما أردت أن تعمل أي شيء، أو كلما حلت بك الآلام، أو عند الشروع في أية مهمة، اذهب وحدث الله عنها، وأعلمه بها، أبقها عليه، وعندئذ تستريح، ولا يبقى أي مجال للهم، بل تجد نشاطا حلوا في تأدية واجباتك، وسرورًا في الاعتماد عليه لتسيير أمورك. «سلم للرب طريقك، واتكل عليه وهو يُجري» (مز 37: 5).
← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«لأنه هو يعتني بكم». طبیعي إننا إذا ما أصرينا على العمل من أجل أنفسنا فقط، فيجب أن نبذل كل ما في وسعنا من أجل أنفسنا. لكن إن استطعنا أن نسلم كل الأمور لله، فإننا لا بُد أن نجد بأنه عمل أفضل جدًا مما كنا ننتظر. وهكذا تقتضي محبة الله لنا أنه دوامًا يتخطى كل حدود تفكيرنا. فهو «القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر» (أف 3: 20).
إن كان الأب يدبر احتياجات الغد فلماذا يترك ولده الصغير لعبته، ويستند إلى الحائط مفكرا بارتباك فيما كان يجب عمله؟ إن كان مرشد السفن في البوغاز والأماكن الخطرة قد ركب السفينة فلماذا ينزعج ربان السفينة؟ إن كان هناك صديق حكیم، قوی، مقتدر جدًا، قد تعهد بتسوية مشكلة تربكنی، وأنا أثق فيه ثقة كاملة، وهو أكد لي بأنه قادر على تسويتها، فلماذا أستمر في الانزعاج؟ ينبغي أن أعتبر بأن المهمة قد تمت طالما كان هو قد استلمها.
هل هنالك هوة عميقة بينك وبين الله؟ هناك أيضًا قنطرة فضية أقيمت فرقها، هي العناية الإلهية. فالله يعتني بك عناية شديدة جدًا لدرجة أنه هو بنفسه أتى إليك في شخص ابنه الوحيد لكي يفديك. لم يكن هنالك قط وقت لم يحبك فيه، ويرفرف فوقك بجناحيه، ويعتني بك. هو يعتني بك جدًا لدرجة أنه يصغي لأقل تنهداتك وسط أصوات الموسيقى السماوية، وتسبيحات القديسين. وقلب الله نفسه ملی بالاهتمام بكل ما يعنيك. لا توجد أم تهتم بطفلها المريض كما یعنی هر بك. هو بری كل احتياجاتك قبل أن تصرح أنت بها بوقت طويل، أو حتى قبل أن تشعر بها. فلنثق فيه. اللسان يعجز عن التعبير عن مقدار اهتمامه بأن يجمعنا حوله، ويظللنا بجناحيه، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها.«أريد أن تكونوا بلا هم» (1 كو 7: 32).
«اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الإيمان عالمين أن نفس هذه الآلام تجری على إخوتكم الذين في العالم» (1بط 5: 8-9).
يبدو أن صورة القطيع كانت لا تزال في فكر الرسول، وأنه قد استعاد من ذاكرته حادثة كالتي رواها داود النبي والملك، حينما وقف أمام شاول الملك وهو شاب صغير، وروي كيف أنه حفظ غنم أبيه إذ أتى أسد وخطف شاة من القطيع، فخرج وراء وقتله، وأنقذ الشاة من فيه، ثم أمسكه من ذقنه وضربه فقتله (1 صم 17: 34-35). مهما كانت الحظيرة أمينة، والحراسة فيها قوية، فلا يمكن أن يوجد قطيع في مأمن من الوحوش المفترسة التي تكتظ بها الصحراء. وهذه في الليل بصفة خاصة تهيم على وجهها باحثة عن النقطة الخالية من الحراسة، أو عن الخراف المتغافلة، ومالية الليل بزئيرها المزعج.
إن صورة الأسد الزائر حول الخراف تذكرنا بالتحذير الذي وجه قديمًا لقائين قائلًا إن الخطية رابضة -كوحش مفترس- عند باب قلبه، متحفزة للهجوم (تك 4: 7). ونحن لا ننسى كيف أن ربنا تحدث عن مجيء الذئب إلى الخراف التي اؤتمن عليها الراعی الأجير، فيملأه خوفا، الأمر الذي يسبب تبديد الخراف. إن الأمر واضح بأن الشيطان لم يكن شخصية خرافية أو وهمية لدى كتبة العهد الجديد. فمنذ الإشارات الواضحة التي فيها أشار إليه ربنا، إلى الحرب الأخيرة التي وصفها الرائي في سفر الرؤيا، والتي فيها يتلاشى نهائيا، توجد أدلة كثيرة وقوية أن الشيطان من وراء المنظور يقوم بثورة عارمة ضد ملكوت الله، وأنه بذكائه ودهائه يأتي بأسوأ ما لديه ضد قدیسی الله. ومن ضمن دهائه أنه يدفع الناس إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد شيطان على الإطلاق. إن عصابة اللصوص لا يشتد خطرهم إلا عندما تذاع الإشاعات بأنهم قد غادروا الجهات المجاورة. وكل خدعة تدفعنا إلى عدم السهر والاحتراس لا بُد أن تنجح.
لا داعي للافتراض أن الشیطان نفسه يراقب كل أولاد الله ويهاجمهم، لأن هذا يعني أنه عليم بكل شيء، وحاضر في كل مكان. لكن الواقع أن ربوات من الأرواح الشريرة تعينه وتعضده، وكل روح مستعد لإتمام إرادته وتنفيذ خططه. وكل هذه الأرواح -باختبارًاتها الطويلة عن ضعفات الطبيعة البشرية، وما فيها من خبث ضد الله، وبسهرها الذي لا يكِل، وتحفزها للإساءة- لا تهدأ نهارًا أو ليلًا، بل تتجول كأسد زائر ملتمسة من تبتلعه، كما قال الرسول. والواقع إننا قد تفقد كل رجاء في إمكانية مقاومة هجماته لو لم نعرف بأن كل هجماته قد صدها نيابة عنا قائدنا العظيم، المستعد أن يغلبه ثانية في كل، وبكل، ومن أجل كل من يضعون فيه كل ثقتهم.
آه، یا من انتصرت في بستان جثسیماني، وعلى الصليب، وفي صباح يوم القيامة، وهزمت الشيطان أثناء إقامتك على الأرض، تفضل واهزمه ثانية في كل واحد منا، لكي يعظم انتصارنا، «لأن الذي فينا أعظم من الذي في العالم» (يو 4: 4).
هو خصمنا. لم يخطئ زكریا النبي عندما قال إنه رأى الشيطان قائما -كخصم- عن يمين الكاهن العظيم المتشع بثيابه الفاخرة ليقاومه (زك 3: 1). لأنه عندما أزيح الستار، في المحادثة الرهيبة، في افتتاحية سفر أيوب، تبين الشيطان وهو يتهم أيوب بأن الباعث على استقامته مغنم مادی «هل مجانا يتقی أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية. باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض. ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه في وجهك يجدف عليك (أي 1: 9-11). وهكذا عندما طرح من السماويات، تمهيدا لطرحه إلى أسفل، للهاوية التي لا قرار لها، فليس عجيبا إن كان قد سمع صوت عظیم شامت لأنه قد طرح المشتكی علی إخوتنا الذي كان يشتكی علیهم أمام إلهنا نهارًا وليلًا (رؤ 12: 10). لكن الهزائم التي مني بها لم تفعل شيئًا سوى أنها زادت حقده، فصار الآن يجول في الأرض بغضب متزايد لأنه يعلم أن قدرته قد وضع لها حد، ويعلم «أن له زمانًا قليلًا» (رؤ 12:12)
وهو «كاسد زائر يجول». إن تهدیداته مرعبة، تبعث الخوف في قلوب الجبناء. لكن يجب أن نذكر أن ثورته عديمة التأثير. فإن ما فقده من قوة يعرضه في الزئير. هو يبغض راعينا العظيم، مع أنه يعجز عن أن يمسه بأي ضرر الآن. لقد فعل به أسوأ ما لديه، لكنه فشل. إنه يكتفي بالزئير، ومع ذلك فهذا أيضًا عديم الجدوى. قال أحد القديسين إنه يفضل أن يتعامل مع إبليس يزأر. إنه ليملا الشيطان حزنا مضاعفا وخبنا أن يدرك بأن أضعف قديس أقوى منه إن كان يقاومه راسخا في الإيمان، ومسلحا بسلاح الله الكامل (ع). قال رئيس الرعاة: خرافي لن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي» (یو 10: 28).
وهو يجول ملتمسًا مَنْ يبتلعه. لا توجد حظيرة [كنيسة لا يتلهف على زيارتها، قاصدا تعطیل خدمتها الناجحة، أو محاولا أن يختطف أعضاءها المتكاسلين. لا يوجد أسقف نشيط في أبروشيته بقدر نشاط الشيطان. إنه يمتلی فرحًا وسرورًا إن كان فقط يفسد التعاليم المسيحية بالآراء الخاطئة، بحيث تحمل كل عظة ضلالات تعطل حقها وقوة مفعولها، إن كان يدفع قادة الكنيسة إلى ما يعرقل تأثیر شهادتهم، إن كان يدفع الضعفاء إلى خطايا الكبرياء، أو الغيرة أو الحسد، أو الملذات الجسدية، أو الارتداد، إن كان يبدد القطيع بالاضطهادات، أو يدفنه بعاصفة ثلجية في التمسك بمجرد الشكليات، أو يغرقه في طوفان الماديات. وهو دوامًا يسهر مترقبا أية فرصة كهذه. هو دائم «الجولان في الأرض والتمشي فيها» (أي 1: 7)
الشيطان يجعل قلبه دوامًا على القديسين «هل جعلت قلبك على عبدی أيوب؟ (أي 8:1). لن يتغافل قط عن أي إهمال في تأملات الصباح الباكر، أو عن أية مرة نسمح فيها لأقل فكر شرير، أو عن عدم السهر، أو عن أية مداعبة مع الخطية. لن تفلت من يده أية فرصة دون أن ينتهزها ضد أولاد الله. نحن نصارع مع خصم قوي وعنيد وعديم الرحمة، يسرع في إشهار سلاحه، سيما عندما نعطيه الفرصة. فما أشد حاجتنا إلى دوام السهر لكی نقاوم هجماته. «فاصحوا واسهروا (ع 8).
وما أشد حاجتنا أيضًا إلى دوام التضرع للذي يرى التجربة قادمة فيسبقها بشفاعته. وسمعان سمعان، هو ذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك» (لو 22: 31-32).
عندما أراد الشيطان أن يجرب مخلصنا استطاع المخلص أن يقول بحق: «رئیس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو 14: 30). لكنه هو وحده الذي استطاع أن يقول هذا. أما في سائر البشر فيوجد ميل للخطأ، وهذا هو الذي يلجأ إليه خصمنا العنيد. وقبل أن نرجو بأن نهزم هجماته التي من الخارج، يجب أن نحرص على أن تكون قد اتخذنا عدتنا الداخلية نحو تقوية شركتنا مع الله. لا يمكن أن ننجح في مقاومة الهجمات التي من الخارج طالما كان هنالك تمرد في الداخل.
ومن أجل هذا حرص الرسول -في بداية الأصحاح السابق- على معالجة موضوع الجسد، لأننا إذا ما اختبرنا حقًا ما يريد الله أن يعمله نحو الجسد، فعندئذ فقط نستطيع بنعمته أن نقف أمام خصمنا العنيد، أو ندارم السهر والحذر. ولعلنا نجد هنا إشارة للنصيحة التي قدمها الرسول «اصحوا واسهروا»
عندما خرج الإنسان الأول من يد الخالق فإن كل غرائزه الطبيعية ورغباته، التي كانت في حد ذاتها طاهرة وضرورية، كانت تحت قيادة الإرادة، التي كانت هي نفسها مخلصة لله، تريد ما يريده الله، وتطيع كل إيحاءات روحه القدوس، لكن الإنسان انحرف عن هذه الحالة المباركة، وأحل الذات محل الله، وأحل ملذاته الشخصية محل ناموس الله وإرادته. ومنذ ارتكاب تلك الخطية الواحدة المميتة، انتقل إلى كل الأجيال التالية ميل للشر، ورغبة في تكرار تلك الخطية الأولى في صور مجسمة، واستعداد طبيعي لإشباع الغرائز الطبيعية دون أي اعتبار للمطالب الإلهية. وهذا الميل الموروث يعزي لفعل ذلك المبدأ العظيم، الذي يلقبه العلماء بأنه هو ناموس الوراثة، والذي يعمل في كل أجناس المخلوقات، والذي أصبح معروفا في كل العالم.
أما المجال الذي يظهر فيه هذا الميل الموروث فهو يتناسب مع شهوات ورغبات الجسد، الذي تدخلت في أعماله الطبيعية عوامل كثيرة في كل الأجيال المتعاقبة، وإذ تصل إلينا أعماله الطبيعية هذه، فإنها تحمل الدليل على مقدار ما خضعت إليه من إساءة تصرف أجدادنا. ورغم أن هذه البواعث الطبيعية قد فسدت في تصرفاتها، فإنها لا يمكن أن تدبر الخطية إلا بعد أن تلهب التفكير، وتأسر القلب، وتغلب الإرادة. والواقع إنه لا يوجد بيننا من لم تؤثر فيه هذه البواعث مرارًا وتكرارا، وإذ تفعل هذا فإنها تضاعف ميولنا للشراء وهذا الميل المعكوس لشهواتنا، المقترن بالتأثير الحتمی على الحياة الداخلية، هو ما تسميه كلمة الله «الجسد»، «الجسد مع الأهواء والشهوات» (غل 5: 24). «نحن أيضًا جميعًا تصرفنا قبلا بينهم في شهوات جسدنا عاملين مشيئات الجسد والأفكار» (أف 2: 3).
لقد دان الله هذا الجسد في شخص يسوع المسيح، الذي جاء في شبه جسد الخطية، وسمره على الصليب. هنالك، في الجلجثة، تری حكم الله على الجسد. وفي فكر الله وقصده صلب جسدنا هناك. «عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية» (رو 6: 6). «ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد» (غل 5: 24).. وهذه الحقائق لم يختبرها شخص واحد أو اثنان، بل جميع القديسين، الذين يمثلهم الرب يسوع المسيح. آه، ليت تقصيرنا في الإيمان والطاعة لا يسبب مثل هذه الثغرة المتسعة بين ما ينبغي أن يكون عليه كل القديسين في قصد الله وفكره، وبين ما هم عليه الآن في حياتهم العملية.
لكن الله قد فعل أكثر من صلب الجسد. لقد منحنا روحه القدوس، الذي يعمل بصفة رئيسية على أن يعيد للحياة الداخلية، وللجسد أيضًا، كيانها الطبيعي المستقيم، يعتقد البعض أن الله ينتزع كلية ذلك الميل الشرير، بحيث يصيرون مثل آدم قبل السقوط. ونحن نعتقد أن هذا يخالف تعاليم الكتاب المقدس، الذي يعترف بوجود الجسد في المؤمنين، مع أنه ينادی صراحة بأنهم «ليسوا في الجسد». لكن الروح القدس يتوق إلى أن يحل في كل مؤمن بقوة، كعامل مضاد ومقاوم، لكی يشتهي ضد الجسد، ويكبح جماحه، ويميت كل شهواته. وهذا يعمل بهدوء وسكون، بحيث يشعر الخاضع لنعمته أن الجسد قد استؤصل نهائيا، مع أنه في حقيقة الأمر الواقع يكون لا يزال موجودا، ومتحفزا لإظهار ذاته إذا ما عطلنا عمل الروح القدس لحظة واحدة (غل 5: 17).
ليس الأمر الذي يعنينا هو ماذا يستطيع المسيح أن يعمله، بل ماذا تعهد بأن يعمله، طبیعي إنه سوف تأتي لحظة نخلع فيها هذا الجسد ويكمل فيها فداء كل كياتنا، وذلك باتخاذنا جسدا على صورة جسد ربنا. لكن إلى أن يتم هذا ينبغي أن تحمل جسدا يميل إلى أن يدفعنا إلى الخطية، وذلك عن طريق الميول التي يثيرها الذهن (1 كو 9: 27).
ومع ذلك فيقينا إنه من الأفضل جدًا أن تحمل فينا باستمرار نعمة الروح القدس الحافظة المقدسة، كمصدر لخلاصنا من الجسد، عن أن ترجع إلينا طبيعة آدم قبل سقوطه، التي على الأقل قد تسقط ثانية أمام هجمات المجرب.
كنا سابقا تسكن في بيت مطبخه رطب جدًا، بحيث كان الخادم في بعض الأحيان يكاد ينزع البياض عن الحائط. لكننا كنا نشعل النار دوامًا فتمتنع الرطوبة، ويبقى المطبخ دافئا وجميلا. وإذا ما دخله أي شخص غريب كان لا يدرك مقدار میل المطبخ إلى الرطوبة. لكن إذا توقفت النيران مدة بضعة أسابيع، أو حتى بضعة أيام، ظهرت الرطوبة. هكذا عندما يعمل الروح القدس بقوة في النفس فإنه يشعلها بحرارته، وتصبح الميول الشريرة كأنها لم تكن.
قيل لنا بأن العمال الذين كانوا يحفرون النفق السفلي المخترق لندن عثروا على طبقة رملية تنفذ منها المياه بصفة مستمرة. لكن النفق كان يحفظ جافا تمامًا طالما كان الجزء الذي يحفر يملأ بهواء مضغوط. هكذا يحفظ القلب طاهرا وحلوا طالما كان الروح القدس حالا فيه بقوة. إذن فمن ألزم الأمور أن نحيا في الروح، ونسلك بالروح، لكی لا نكمل شهوات الجسد (غل 5: 16).
التجارب لا تأتي من الخارج فقط كما يزعم البعض. قد تأتي الشرارة من الخارج، لكن مخزن البارود في الداخل. وكل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته» (يع 14:1). والشيطان ساهر ومتيقظ دوامًا بسبب وجود هذه الميول الشريرة في الداخل.
← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
طالما كنا محفوظين بقوة الله المقتدرة فنحن في أمان، ولا يبقى الصراع في الداخل بل في الخارج. وكل قوات الجحيم لا تقوى على المؤمن الذي يتمتع بحلول روح الله فيه، هذا الذي يعتقنا من ناموس الخطية والموت. سلموا أنفسكم لله، اقبلوا بالإيمان الامتلاء بالروح القدس، ثم تقدموا إلى النصرة الأكيدة بقوة ابن الله.
1-لیست تجاربكم غير عادية. كلنا لنا نفس التكوين الجسدي، وكلنا نفس التجارب. «لم تصبكم تجربة إلا بشرية (42) (1 كو 1: 13). «نفس هذه الآلام تجري على إخوتكم الانين في العالم (ع 9).
2-الله يتحكم في كل تجربة. لا يمكن أن يجربنا الشيطان دون أن يعرف الله مقاصده أولًا، كما حدث مع أيوب، ويبدو أن الشيطان يطلب السماح ليجرب قبل أن يهجم، كما حدث مع بطرس، وعلى أي حال لن تصيبنا تجربة أقوى مما نقدر على مقاومتها وغلبتها. ونحن يسمح لنا بأن نجرب لكي نتعلم الالتجاء إلى المصادر التي قد تكون متغافلين عنها لولا هذه التجارب.
3- الشيطان عدو مقهور.. اسهروا وصلوا. «اصحوا، في أمزجتكم وعاداتكم، في أقوالكم وأفعالكم. لا تهملوا قط البقاء في حصنكم الحصين، أي المسيح. استمروا في ملازمة قطيع الله. غذوا أرواحكم بكلمة الله، لكی تكونوا أصحاء وأقوياء. البسوا سلاح الله الكامل.. قاوموا أول هجوم للعدو، مهما كان الهجوم ضعيفا. كونوا راسخين في الإيمان. تطلعوا في الحال إلى الرب ربنا يسوع المسيح لكی يسیِّج حولكم بسلاحه الكامل، ولكي يقف بينكم وبين العدو المهاجم، كترس واق. قاوموا إبليس فيهرب منكم.. ادخلوا الحرب واثقين من النجاح، ليكن هذا هو شعاركم «وهم غلبوه بدم الخروف» (رؤ 12: 11). وليكن هذا هو هتافكم أثناء الحرب:
"يسوع يخلِّص.. يسوع يخلِّص".
«وإله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع بعدما تألمتم يسيرًا هو يكلمكم ويثبتكم ويقويكم ويمكنكم» (1 بط 5: 10).
يا له من فرق شاسع بين الهجمات المشار إليها في الآيتين السابقتين وبين النعمة الغنية التي تبرزها لنا هذه الآية.
لماذا نخاف من هجمات عدو النفوس اللدود طالما كان «إله كل نعمة، هو إلهنا؟ فيه يتوفر كل نوع من النعمة نحتاجها، فيه نجد نعمة فوق نعمة، بحيث إذا استخدمت نعمة كانت هنالك نعم أخرى متوفرة. ولعل هجمات الشيطان يسمح بها لكي نضطر إلى الالتجاء لمخازن النعمة المكتنزة في يسوع المسيح ربنا.. "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا، وأنتم مملوءون فيه" (كو 2: 9-10).
لم تسقط قلعة أدنبرة، الجاثمة فوق صخور شاهقة، في يد العدو سوى مرة واحدة، وذلك عن طريق راعي غنم كان يقود غنمه بجوار الصخور الغربية الشديدة الانحدار، التي كانت قد تركت بلا حراسة باعتبار أنه من المستحيل الوصول إليها. ومع ذلك فقد كانت هذه الكارثة نافعة لكل الأجيال التالية، لأنها كشفت عن نقطة ضعيفة في الدفاع، فوضعت فيها حراسة مضاعفة. لذلك فلنشكر الله إذا ما هاجمتنا التجربة، لأنها تكشف عن بعض نواحي الضعف في أخلاقنا تحتاج إلى الاهتمام السريع، وتدعونا للتطلع إلى المصادر الإلهية لطلب نعمة خاصة كنا نجهلها، فصرنا تطلبها بالإيمان منذ تلك اللحظة.
يا له من تعبير رائع «إله كل نعمة». نعمة تنير من يطلب الله، نعمة تبرر المؤمن، نعمة تعزي الحزين، نعمة تقوي الضعيف، نعمة تقدس الشخص الدنس، نعمة حية محيية. قدموا إلى هنا جراركم لتملأوها وتأخذوا كل ما تحتاجون إليه. إن نعمة الله، المقدمة إلينا بمحبته التي لا نستحقها، سوف تسد كل أعوازنا. المحيط تطلق عليه أسماء مختلفة حسب الشواطئ التي تحف به. وألوانه تختلف باختلاف الصخور التي في قاعه. لكنه هو محیط واحد، ومياهه تتلون باختلاف الأمكنة. هكذا الحال مع محبة الله، رغم أن كل محتاج يكتشف فيها كل ما يلائم حالته. «إله كل نعمة».
قد يبدو أمرًا غريبا غير قابل للتصديق أنه ودعانا إلى مجده الأبدی، لكن هذه هي حقيقة الأمر الواقع. هو يعطي كل نعمة، وهو يدعونا إلى كل مجده. إذن فنحن نقف في نعمته، ونفتخر على رجاء مجد الله» (رو 5: 2).
سوف نرى عن قريب ذلك المجد في كل جماله، مجد صفات الله المبارك إلى الأبد. كانت هذه هي طلبة مخلصنا: «أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي» (يو 17: 24). نحن لا ننظر إلى ظهره فقط، كما حدث مع موسى، لما كان في نقرة من الصخرة (خر 33: 18-23)، ولا ننظر نظرة عابرة، كما حدث مع التلاميذ لما رأوا مجده إذ كانوا معه على الجبل المقدس، بل نراه وجها لوجه في شركة مستديمة. لما قارنت ملكة سبأ زيارتها القصيرة للملك سليمان في قصره بما يتمتع به من خدامه المقيمون معه هناك، صرخت صرخة الحسد على نصيبهم، وقالت: «طوبی لرجالك، وطوبى لعبيدك هؤلاء الواقفين أمامك دائمًا» (1 مل 10: 8). تأمل إذن في عظمة نصيبنا في كل الأجيال.
سوف لا نرى هذا المجد فقط، بل نشترك فيه. «أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (یو 17: 22). لقد صرنا شركاء مع المسيح في مجده، في «غنى المسيح الذي لا يستقصی» (أف 3: 8)، في فرحه الظافر الذي لا يعبر عنه. صرنا واحدًا معه في وحدة تامة.. "ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد" (17: 22-23).
وهذا المجد أبدي.. ليس بالنسبة إلى طوله، بل إلى صفته. لأنه من العسير أن نتحدث عن تتابع الزمن، يقينًا إن الكلمة تعني أكثر من ديمومة هذا المجد وعدم انتهائه. إنها تعني عدم فنائه، وعدم تلوثه، تعني أنه إلهي، وأن فيه كل الكفاية. هو الخبز الذي إذا أكله الإنسان شبعت روحه مهما كانت شهيته متسعة جدًا. هو الفرح الذي لا يتعب منه الإنسان ولا يكِل أبدًا. هو المعرفة التي لا تحدها أية ألغاز. هو الحياة التي تصل إلى الطول والعرض والعمق والارتفاع لتلك الروح التي خلقها الله على مثاله. هو المجد الذي يحقق، بل يفوق جدًا، أسمَى الرغبات والتمنيات التي بعثت من أقدس شخصیات جنسنا تلك الصرخة «أرني مجدك» (خر 33: 18).
لا تحدثونا إذن عن الأسوار التي من يشب، أو الشوارع التي من ذهب، أو اللآلئ البراقة. فهذه لا تشبع نفوسنا كما أن اللآلئ لن تعرض العروس عن غياب ربها. إن مهمتنا هي الحصول على ذلك المجد الذي دعانا إليه الله في المسيح يسوع. وبنعمته الغنية سوف تحصل عليه، لأننا قد حصلنا فعلًا على نعمته، التي هي بداية المجد. والله لن يعطينا العربون إلا إذا كان مستعدا أن يعطينا كل نعمته مع كل مجده.
آه، من ذا الذي يلبي هذه الدعوة، التي تدور في كل العالم، والتي قد تكف سريعا عن أن تنادي؟ يقينًا إن بني البشر لا يقدرون أن يدركوا ما تتطلبه إطاعتها. إنهم يفكرون فيما يجب أن يتركوه أكثر من تفكيرهم فيما يجب أن يتقبلوه. أما إذا عكسوا الوضع، وفكروا فيما يتقبلونه يقينًا من يسوع المسيح، فأعتقد إنهم يرتضون أن يتركوا كل شيء.
"بعدما تألمتم يسيرًا". الآلام حتمية. بضيقات كثيرة يجب أن ترتقي إلى فوق لننال أجرنا. لا إكليل بدون الصليب. وبدون جثسيماني لا يوجد قبر فارغ. وبدون كأس الآلام لا توجد كأس الفرح. وبدون تلك الصرخة الأليمة «إلهي إلهي لماذا تركتني، لم يكن ممكنا أن يقال «لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة» (اش 53: 12). ليس من الضروري أن يتمجد كل من يتألمون، لكن لا يتمجد أحد دون أن يكابد أي قدر من الآلام. يجب أن نشرب كأسه، ونصطبغ بصبغته، إن أردنا الجلوس عن يمين ويسار الملك.
فليتشجع ويتشدد المتألمون. وإن لم يكونوا هم الذين جلبوا الآلام على أنفسهم، إن كانت آلامهم غير ناشئة عن أخطائهم أو خطاياهم، بل من عداوتهم للخطية وللعالم الحاضر التي لا بُد أن يسبها أتباعنا للمصلوب، إن كنا لا نحتملها خاضعين فقط، بل بسرور، كالذين يسرون بإتمام مشيئة الله - فعندئذ تؤدی بنا الأنات إلى الطريق نحو هدف النور والمجد.
والآلام لأزمة لِبُنيان أخلاقنا. لم يشته الرسول لحظة واحدة أن يعفی منتصروه من الآلام. لا يلجأ الله -إلا الضرورة القصوَى- ليعرضنا للآلام، ولا يمكن أن تتم سعادتنا الحقيقة بغير هذا الطريق. ولن نتعلم دروس الطاعة إلا في مدرسة الآلام. والرب نفسه تتلمذ في هذه المدرسة، إذ قيل عنه إنه «تعلم الطاعة مما تألم به» (عب 5: 8). لا يمكن أن نتنقی من الأدران الكثيرة، أو نتخلص من التين الكثير، أو ندرك مقدار تفاهتنا، أو نزداد تعمقا في شركته، أو نعرف قيمة الأشياء الحقيقية بمقارنة الحاضر بالمستقبل، إلا حينما ندرك أنها «لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن» (رو 8: 18).
والآلام محدودة. إن وصلت إلى أسوأ ما يمكن فهي ليست إلا يسيرة، أي الفترة قصيرة: «بعدما تألمتم يسيرًا، تذكروا كيف كرر الرب يسوع هذه العبارة مرارًا كثيرة: «بعد قليل» (یو 16: 16-19). كانت نغمة محببة له. إذا ما قورنت أطول الأيام بالأبدية فهي ليست إلا برهة وجيزة. وإذا ما قورنت أثقل التجارب بثقل المجد وجدت خفيفة (2 كو 4: 17). وينبغي أن «لا ننظر إلى الأشياء التي ترى بل التي لا ترى» (2 كو 4: 18). والجبال التي تثبط عزيمة السائح ترى ضئيلة إذا قورنت بجبال الألب. والبكاء لا يبقى إلا فترة المساء القصيرة، وعند نور الفجر ينقشع، لأن الترنم يأتي مع الصباح «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنم» (مز 30: 5).
عندما يهل علينا ذلك المجد، فإن آلام الزمان الحاضر لا تذكر بقدر ما يذكر الجندي بوخز الشركة يوم الترحيب العظيم به، وتتويجه بإكليل الظفر.
حينما يدنو الختام وأری شط السلام
تفتح الصدر الرحيب وتقبلني يا حبیب
وإلى تلك الربوع تهدي نفسي يا يسوع
ينبغي أن يكون كل رجائنا في الله. ينبغي أن لا نهتم بمقاومة صعوبات نمونا في النعمة، كذلك ينبغي أن لا نضطرب بسبب ما يبدو بأن نمونا بطيء. إن كنا فقط مستعدين، وواثقين، ومطيعين، فإن الله لا بُد أن يتمم الباقي. «الله نفسه هو يكلمكم، ويثبتكم، ويقويكم»
«يكلمكم». يضعكم في الوضع الصحيح بحيث تعمل فيكم مشيئته دون أي عائق، كما تعمل مشيئة كل كائن بشری في كل عضو من أعضاء الجسم البشري العجيب التركيب.
«يثبتكم». يؤسسكم على صخور الدهور، الرب يسوع المسيح، حتى إذا ما «نزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، ووقعت» عليكم لا تسقطون (مت 7: 25)، لأنكم مؤسسون عليه ومتأصلون فيه.
«يقويكم». إنه لا يرفع عنكم الألم أو التجارب، لكنه يعطيكم نعمة أعظم، ويمنحكم قوته. وعندئذ تمجد النفس الله من أجل الضعف والتجربة، قائلة پسرور: «الرب نوری وخلاصی مِمَّن أخاف. الرب حصن حیاتی مِمَّن أرتعب» (مز 1:27).
كم نكون آمنين وأقوياء إن كنا فقط تذهب من وقت لآخر لإله كل نعمة، طالبين، بجرأة مقدسة، نعمة تعيننا في وقت الضيق، وواثقين بأنه سيكون لنا حسب إيماننا، لا حسب إحساسنا. العل أليشع لم يحس بأي تغيير بعد عودته من توديع إيليا الذي اختطفته المركبة النارية. فقد كان منظره وإحساسه وقنئذ كما كان في صباح ذلك اليوم.. لكن تغييرا عجيبا حدث فيه، وكان هذا التغيير ينتظر أن يظهر ذاته عند نهر الأردن. هكذا نحن أيضًا قد لا نحس دوامًا بالتغييرات العظيمة التي تتم في داخلنا تدريجيا استجابة لإيماننا. لكن عندما نقترب من شاطئ أية صعوبة أو تجربة، فإن تصرفاتنا وانتصاراتنا تفتح شفاه المتطلعين إلينا، فيهتفون قائلين: «هو ذا الله هنا».
فلنمجده. لا تتردد عن أن تخبره بما تعتقده فيه. وسط كل أحقاد أعدائه، وتجديفاتهم عليه، وإساءاتهم له، ينبغي أن نسبحه بالفم والقلب، قائلين: "له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين". لترتفع أصوات التسبيح أكثر فأكثر طالما بقيت الحياة. وهكذا نسبحه. إلى أبد الآبدين. آمين.
_____
(36) الكهنة حسبما جاء في ترجمة اليسوعيين.
(37) الكاهن حسبما جاء في ترجمة اليسوعيين.
(38) متعاهدين لها كما جاء في ترجمة اليسوعيين.
(39) أفعوان خرافي ذو رؤوس كثيرة.
(40) يقاضيك حسب الترجمة القبطية والترجمة الإنجليزية.
(41) مبارك الرب الذي يحمل أثقالنا يومًا فيومًا حسب الترجمة الإنجليزية المنقحة.
(42) "ما أصابكم من التجارب إلا ما هو بشري" حسب ترجمة اليسوعيين "لم يصبكم من التجارب إلا ما هو عادي عند البشر" حسب الترجمة الإنجليزية.
← تفاسير أصحاحات بطرس الأولى: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
الفهرس |
قسم
تفاسير العهد الجديد ف. ب. ماير (تعريب القمص مرقس داود) |
تفسير بطرس الأولى 4 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/f-b-meyer/peter1/chapter-05.html
تقصير الرابط:
tak.la/gb84zka