St-Takla.org  >   bible  >   commentary  >   ar  >   nt  >   f-b-meyer  >   peter1
 
St-Takla.org  >   bible  >   commentary  >   ar  >   nt  >   f-b-meyer  >   peter1

شرح الكتاب المقدس - العهد الجديد - ف. ب. ماير (تعريب القمص مرقس داود)

بطرس الأولى 2 - تفسير رسالة بطرس الأولى

 

* تأملات في كتاب رسالة بطرس الرسول الأولى:
تفسير رسالة بطرس الأولى: مقدمة رسالة بطرس الأولى | بطرس الأولى 1 | بطرس الأولى 2 | بطرس الأولى 3 | بطرس الأولى 4 | بطرس الأولى 5

نص رسالة بطرس الأولى: بطرس الأولى 1 | بطرس الأولى 2 | بطرس الأولى 3 | بطرس الأولى 4 | بطرس الأولى 5 | بطرس الأولى كامل

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح

← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

10: أطفال الله وغذاؤهم

«فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة. وكأطفال مولودين الآن اشتهوا اللين العقلي العديم الغش لكي تنموا به، إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح» (1بط 2: 1-3).

 

هذه الآيات مرتبطة بما قبلها ارتباطًا وثيقًا. في الآيات السابقة تعلمنا كيف إننا ولدنا ثانية، ودخلنا بالميلاد الجديد في أسرة الله، وهنا نستأنف نفس الفكرة. فالرسول يخاطبنا كأطفال في الأسرة الإلهية، ويأمرنا بأن نطلب الغذاء الذي يناسب علاقتنا المباركة المقدسة.

 

1- حالتنا كأطفال الله

«كأطفال مولودين الآن». إن الاستعارة مؤثرة للغاية. فالعالم ليس إلا دار حضانة يقضي فيها ورثة الله أيام طفولتهم الأولى استعدادًا لحياة النضوج الكامل هناك في نور الله، إن أعظم المتقدمين فينا في المعرفة وفي المواهب ليسوا إلا أطفالًا بالمقارنة مع ما سوف يكونون، وإن أبعد ما يصل إليه النظر، وأوسع المدارك الكاملة، وأعمق التعبيرات عن الحق، ليست إلا أفكار أطفال لم ينالوا أي قسط من التعليم، بالمقارنة مع ما سوف يكون في الحياة الناضجة الكاملة التي تشير إلينا من هناك.

نفس هذه الفكرة ينقلها إلينا الرسول بولس في قصيدته الرائعة عن المحبة المسيحية. فقد حاول أن يبين أن هذه المحبة، التي هي أفضل كل النعم المسيحية، أبدية في طبيعتها، وأنها تبدأ في النمو هنا، متحدية شتاء وصقيع الموت، ثم تزهر في صيف السماء الأبدي. ولكي يزيد فكرته وضوحًا بين الفرق الشاسع بين المحبة والمعرفة. وأكد بأن أعمق معرفة لا بُد أن تزول، لأننا في هذا العالم لسنا إلا أطفالًا.

«لما كنت طفلًا كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن، وكطفل كنت أفتكر، ولكن لما صرت رجلًا أبطلت ما للطفل» (1 كو 13: 11).

وهكذا أيضًا، في الحياة العتيدة، عندما نحتفظ بالمحبة التي كانت لنا في هذه الحياة، فإننا نبطل المعرفة لأنها جزئية وغير ناضجة، فإننا سنكون رجالًا في المسيح بعد أن كنا أطفالًا. لا داعي لنا لكي نربك أنفسنا الآن بالأفكار العميقة التي تحملها هذه الكلمات. لكن يكفينا أن ندرك هذه الفكرة، أن الرسول بولس اعتبر نفسه طفلًا بالمقارنة مع نضوجه في الأبدية.

هذه الكلمة تعلمنا التواضع. «إن أعظم سرعة لنا في السير هنا في طريق الطاعة إنما يشبه أولى خطوات الطفل عندما يبدأ يتعلم المشي، وذلك بالمقارنة مع طاعة المجد الكاملة، حينما نتبع الحمل حيثما ذهب» (رؤ 14: 4). كل معرفتنا هنا ليست إلا كجهل الأطفال، وكل تعبيراتنا عن الله وعن تسبيحه ليست إلا لعثمة الأطفال عندما يبدأون الكلام، وذلك بالمقارنة مع المعرفة التي سوف تعرفه بها فيما بعد، عندما نعرف كما عرفنا، ومع التسابيح التي سوف نقدمها إليه عندما نتعلم «الترنيمة الجديدة» فيما بعد (رؤ 5: 9).

لهذا يليق بنا أن لا نتعب أنفسنا بالأمور العظيمة، أو الأمور التي هي فوقنا، بل لنهدئ ونسكت أنفسنا كفطيم نحو أمه، وهكذا تكون نفسنا كفطيم (مز 131:2). يجب أن لا نتعجب إن كان لا يوجد من يبالی بنا أو يعرفنا. يجب أن لا نغضب إن كان الناس يعاملوننا بشيء من الاحتقار، ويجب أن لا نیأس إن واجهتنا أسرار غامضة لا تدرك، إن إدراكنا لا زال في بدايته، ومقدرتنا لا زالت ناقصة، ومواهبنا العقلية محدودة. فليبعد عنا القلب المتكبر، والنظرات المتغطرسة، وروح الغرور، والاكتفاء بما نحن فيه. وما نحن إلا أطفال صغار بدأنا نتعلم الكلام.

وهذه الكلمة تعلمنا أيضًا الرجاء. لا يوجد شيء صغير أضعف من الطفل، الذي يظل مدة طويلة يعتمد على عناية والديه. لكن الله الذي حدد شهور الطفولية الطويلة قد أمد الأم والأب بالمحبة والصبر اللذين يمكنانهما من استقبال ذلك المولود الجديد وتربيته. يندر أن تنسى الأم رضيعها، ويندر أن لا ترحم ابن بطنها (أش 49: 15). أثناء المرض والضعف، وأيام الانزعاج والاضطراب، وليالي السهر، يكون الملاكان الحارسان (الوالدان) مهتمين بالطفل. أقل صرخة منه يتنبه لها والداه. وهل يمكن أن يضع الله في البشر صفات غير متوفرة فيه؟ هل يرتب كل هذه العناية بنا في ولادتنا الأولى ولا يرتب شيئًا لولادتنا الثانية؟ ألا تعتبر محبة الوالدين عينة ضئيلة من المحبة الإلهية؟ أليس هو الأب والأم معًا؟

يقينًا أن هذا هو كذلك. طالما كان هو قد ولدنا في أسرته فلا بد أن تتوفر فيه محبة الوالدين للطفل، ولا بد أن تكون لنا حقوق عليه كما أن للطفل حقوقًا على والديه. بقدر ما يزداد ضعف الطفل، وجهله، واعتماده على والديه، تزداد حقوقه عليهما. نعم، وبقدر ما يزداد ضعفه ومرضه، تزداد مطالبه نحو سرعة العناية به إلى أن يشتد عوده ويشفي من مرضه. من ذا الذي يغضب على الطفل لأنه ضعيف البنية، أو مريض، أو غبي؟ من ذا الذي لا يتخذ من هذه الظروف أسبابًا لزيادة العناية بالطفل، لدرجة أنه يقال إن الأمهات تزداد محبتهن للأطفال الذين كلفوهن تعبًا أكثر.

أليس هذا هو الحال مع الله ؛ فإن ضعفك، وأمراضك، وإرهاق أعصابك، والخطية المحيطة بك، والعادات الردية الموروثة، وقصر النظر - هذه لا تبعد الله عنك، بل تزيده اقترابًا منك، وتزيده محبة لشخصك الضعيف. فيجلس بجوارك كما تجلس الممرضة بجوار المريض، ويراقب كل ما يطرأ عليك، ويعني بك دون أن ينعس أو ينام، ويسد كل أعوازك، ويعلمك أشياء تخفى على الحكماء والفهماء، لكنها معلنة للأطفال، بكلمات لا يقدرون أن يفهموها. هو لن يهدأ حتى تكون قد صرت كاملًا في المسيح.

وهذه الكلمة تعلمنا أيضًا كيف يكون موقفنا الصحيح نحو الله. اطرح نفسك على يديه كطفل. الق عليه مسئولية إرشادك، وحمايتك، وإنقاذك إن كنت لا تقدر أن تدرك مشيئته فتوقع أن يعلنها لك. إن لم تكن عواطفك كما ينبغي فآمن أن عواطفه من نحوك لا تتغير. إن كنت مغلوبًا من الخطية، فتأكد بأنها أن تحرمك من محبته، كما أن الطفل المصاب بالجدري لن يحرم من قبلة أمه لشفتيه الذابلتين. أيها الرجال والنساء الأقوياء، لا تشامخوا ولا تكفوا عن أن تذكروا بأنكم أطفال الله: استمعوا إلى ما صرح به: «ربيت بنين ونشأتهم» (أش 1: 12).

 

2- طعامنا

«اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش». في الأصحاح السابق شُبهت كلمة الله بالزرع، وهنا شُبهت باللبن. لكن المبدأ واحد تحت أشكال مختلفة. فالحياة الجديدة تغذى بما غُرست به أولًا. هنالك أوجه للشبه عميقة بين عالم الطبيعة وعالم النعمة، وهذه تشهد لوحدة القصد الذي يتحكم في المسكونة، جاعلًا المنظور وغير المنظور وحدة واحدة عظيمة.

 لا يوجد ما يبرهن حقيقة الوحي في الكتاب المقدس بقدر ملاءمته لتغذية حياة النفس الجديدة. طالما كانت هذه الحياة غير متوفرة فإن كلمة الله لا تكون لها جاذبية، ويبقى الكتاب المقدس على الرف دون أن يسترعي الانتباه. لكن حالما تبدأ الحياة الجديدة، وتكون في أدوار تكوينها الأولى، فإنها تطلب كلمة الله، كما يطلب الطفل لبن أمه، وفي الحال تبدأ في النمو. إن هذه القرابة بين الحياة الإلهية في النفس والكتاب المقدس تثبت أنهما صادران من مصدر واحد، هو الذي أنشأهما. إن الحياة البشرية في الطفولة تتغذى في معظم الحالات من منتجات الحياة التي ولدتها. وبما أن الحياة الإلهية في الإنسان تتغذى بكلام الكتاب المقدس، فيقينًا أن هذا يبرهن بأن مصدره إلهي، وأنه سامٍ في صفاته، وسماوي في تكوينه، ولم يتدخل فيه أي شيء أرضي أو بشري، كما هو الحال مع الحياة التي يخدمها.

آه، ليتنا نستطيع أن نقدم للأشخاص المتجددین حدیثًا حولنا المزيد من كلمة الله الطاهرة الحقة. هذا هو ما يحتاجون إليه حقًا، ربما يكونون قد جذبتهم وقتیًا الأقوال البراقة وفصاحة اللغة، لكن هذه لا يمكن أن تشبع نفوسهم. فتحت كل مظاهرهم يوجد جوع شديد للبن الصافي الذي للكلمة. وعندما تقدم إليهم هذه الكلمة في ملئها وبساطتها فإنهم -بشهيتهم المتعطشة- يلتفون حولها كانجذاب النحل نحو الزهور. «قبل تجديد الحياة قد تجذب المرء إلى كلمة الله فصاحة اللغة أو ذكاء الواعظ، وقد يكون هذا سببًا في تجديد حياته.. لكنه بعد التجديد يكون محتاجا إلى اللبن نفسه».

وهنا ندرك حقًا السبب في ضعف نمو الكثيرين من المسيحيين في حياتهم الروحية. إنهم يحتاجون إلى العناية المستمرة، والتغذية الدائمة، والافتقاد، لأن معلميهم لم يزودوهم بالغذاء الذي هم في حاجة حقيقية إليه، لما يكون الغذاء غير مناسب، فإنه -مهما كان كثيرًا- يظهر على وجه الطفل الشاحب، هكذا تبين حالة الخور والضعف في حياة الكثيرين من المسيحيين عدم ملائمة الطعام الذي يزودوا به. إنهم لم يقدم لهم حتى اللبن، وبالتالي لم يقدم لهم الطعام القوي. من هنا يمكن القول أن كنيسة الله تشبه كثيرًا عنابر الأطفال في المستشفى.

 

3- كيف تُخلق الشهية للكلمة

«اشتهوا». من أخطر الأعراض الصحية فقد الشهية. إنها علامة الخطر التي تنذر بأن الشر كامن في الداخل. ولا يوجد دليل على انهيار الحياة الروحية، وعلى اعتلال الصحة، أقوى من انعدام الشهية لكلمة الله. وكيف يمكن خلق هذه الشهية في حالة انعدامها، أو إنعاشها في حالة ركودها؟ الإجابة نجدها في الآيات موضوع تأملنا.

1- «اطرحوا» الشر اللَّاصِق بكم. وكلمة «اطرحوا» نجدها أيضًا في (كو 3: 8). والفكرة التي تحملها هذه الكلمة هي تغيير الملابس، وطالما استعمل هذا التشبيه في الكتاب المقدس للتعبير عن تغيير عادات النفس. في هذه الآيات نجد قائمة -ويا لها من قائمة مروعة- بالملابس التي يجب أن نطرحها عنا. إنه لما يؤسف له جدًا أن يحتاج الأمر لتقديم النصيحة للمسيحيين ليطرحوا عنهم هذه الشرور، بل مما يؤسف له أكثر وجودها فيهم.

الخبث، وهو الحقد الكامن في الداخل، الذي يفرح في مصائب الآخرين. المكر، الذي تشتم منه رائحة الدهاء والاختيال. الرياء، كتصرف يهوذا الذي أخفى الخيانة تحت ثوب الصداقة. الحسد، الذي يتضجر لما يأتي الخير للآخرين. هذا وأن الخبث والحسد يظهران نفسيهما في «المذمة» (10).

هذه الشرور تعطل الشهية لكلمة الله، كما تعطل الحلوى الشهية الجسدية. كثيرون لا يتلذذون بكلمة الله لأن ذهنهم منصرف إلى تلك الأطايب السامة، أو إلى الكتب التي تثير الشهوة البغيضة، أو إلى المسرات العالمية، أو إلى الأفكار الشريرة. كل هذه يجب طرحها في الحال، وإلى الأبد. يجب أن تختار الصليب، يجب نبذ أعمال الظلمة المخجلة، وبهذا فقط توجد وتشتد الشهية لكلمة الله. أزل الأقذار فيتفجر الينبوع طبيعيًّا من الأرض.

2- اذكر بان نموك يتوقف على التغذية بالكلمة. من منا لا يتوق إلى أن ينمو، ويتمثل بالمسيح، ويكون مقدسًا، وتقيًا، وأن ينمو في المعرفة وفي النعمة؟ لكننا كثيرًا ما نتوهم بأننا ننمو عندما نحضر الاجتماعات الروحية ونقوم بالخدمات المسيحية. هذا خطأ فاحش. وما لم ندرك بأن النمو يتناسب مع درس الكتاب المقدس، فمن المستحيل أن نصل إلى كمال وجمال قامة المسيح، بل نظل دوامًا أطفالًا، محمولين بكل ريح تعليم.

لا تقرأ الكتاب المقدس لأنك تريد أن تفعل هكذا، بل لأن هذا حق، ولأنه لازم لحياتك. ادرس الكلمات تحت إرشاد الروح القدس. وعندئذ تعود الشهية تدريجيًا، فيزداد تقديرك لكلمة الله أكثر من طعامك الضروري.

3- أنعش رغبتك بتذكر البركات الماضية. «إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح». نحن نطلب الطعام ليس فقط لأن الجسد يتطلبه، بل أيضًا لأننا نتذكر حلاوته لحلقنا في الماضي. ونحن كثيرًا ما نأكل أكثر مما يلزم لإشباع الجوع لأن الطعام شهی.

ما أحلى الرب العزيز للحنك (مز 119: 103). ليس بين بني البشر من يشبهه. لقد ملأت محبته نفوسنا أحيانا بفرح وسعادة لا يُعبر عنهما. وكل من تذوق تلك المحبة وجدت فيه شهوة لا تنمو إلا بالتغذية. لأنهم ذاقوا فإنهم لا بُد أن يأتوا مرارًا لإشباع الشهية التي تزداد تعطشًا ولو كانت تأكل دوامًا.

ألا تذكر أيامًا كهذه، أيام الولائم والأغاني، حينما كنت تؤخذ إلى بيت وليمته، أو تجلس تحت ظله بسرور عظیم؟ إن كان الأمر كذلك فإن تذكرك لها لا بُد أن يُنهض الشهية المتعبة، إلى أن تصرخ مع العروس: «اسندوني بأقراص الزبيب انعشوني بالتفاح، فإني مريضة حبًا» (نش 2: 5). عندما تذوق النفس أن الرب صالح فإنها تدرك أن أفراح العالم تافهة. «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبی للرجل المتوكل عليه» (مز 34: 8).

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

11- حجر الزاوية الكريم

«الذي إذا تأتون إليه حجرا حيا مرفوضا من الناس ولكن مختار من الله كريم. كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حية بیتا روحيا كهنوتیا مقدسا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح. لذلك يتضمن أيضًا في الكتاب ها أنذا أضع في صهيون حجر زاوية مختارا كريما، والذي يؤمن به لن يخزي. فلكم أنتم الذين تؤمنون الكرامة، وأما الذين لا يطيعون فالحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية وحجر صدمة، وصخرة عثرة، الذين يعثرون غير طائعين للكلمة، الأمر الذي جعلوا له. وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكی، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكی تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. الذين قبلا لم تكونوا شعبا، وأما الآن فأنتم شعب الله الذين كنتم غير مرحومین، وأما الآن فمرحومون» (1بط 2: 4-10).

 

بطرس، «أنت تدعى صفا الذي تفسيره بطرس» (11)) (1يو 1: 42)، لقد تحدث كثيرًا عن سيده بأنه هو«الحجر»، ورسم في صورة رائعة الجمال تلك الإشارات الكثيرة التي تعبر عن صفاته وعمله، والتي تعتبر لآلئ متلألئة على صفحات الكتاب المقدس.

لما رقد يعقوب على سرير الموت في مصر تذكر الحجارة الضخمة المتناثرة في أرض میلاده، والتي كان لها شأن عظيم في إحدى المناسبات في أحلامه، ثم قال عن «الراعي الأعظم»، الذي كان مزمعًا أن يأتي، بأنه هو «صخر إسرائيل» (تك 49: 24). وموسى، في نشيده الرائع عند تودیعه للشعب، وعندما أراد التحدث عن عظمة الله، قال: «هو الصخر» (تث 32: 4). وداود، في كلماته الأخيرة، رسم صورة رائعة عن الملك الحقيقي، وقال: «إلى تكلم صخرة إسرائيل» (2 صم 23: 3).

أعطيت لهذه الفكرة أهمية خاصة من حادث قيل إنه حدث عند بناء هيكل سليمان. كانت الأحجار تهيأ وتصقل في مكان بعيد عن موقع الهيكل، لكي لا يُسمع صوت أزميل عند بناء بيت الله.

كما ينمو نخيل الصحراء، أو شجر البلوط في الغابة، بهدوء وبدون جلبة، هكذا أقيم ذلك الصرح المقدس بدون جلبة على قمة جبل صهيون. وفي إحدى المناسبات قُدم للبنائين حجر لم يوجد له مكان في أي حائط من الحوائط الجاري بناؤها. وبعد محاولات كثيرة فاشلة لإيجاد مكانه المناسب وُضع وحده في مكان منعزل، وسرعان ما نُسی، وربما تكون قد نمت فوقه الأعشاب. وأخيرًا عندما قارب البناء على أن يكمل، وُجد أن حجرًا ذا شكل معين مطلوب لكي يربط حائطين معًا، ويشغل زاوية معينة. فاقتضى الأمر الرجوع إلى الحجر الذي كان قد رُفض واُخذ من المكان الذي كان مهجورًا فيه. «فالحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية» (1بط 2: 7). وقد قيل أن هذا الحادث هو الذي أوحی بتلك الإشارة في المزمور الخالد (مز 118: 22)، التي اقتبسها الرب وطبقها على نفسه، وأشير إليها في مواضع مختلفة من العهد الجديد غير هذا الموضع من رسالة بطرس الأولى: (مت 21: 2، مر 12: 10، لو 17:2، أع 4: 11، أف 2: 20).

وترى الفكرة ثانية، مع اختلاف بسيط، في نبوة أشعيا. كان الناس في عصره متشبعين بفكرة عقد معاهدة خارجية كأفضل وسيلة لتدعيم المملكة، التي كانت وقتئذ في خطر شديد للانهيار بسبب الانقسامات والفتن من الداخل، والتهديد بالغزو من الخارج. وعندئذ تكلم الله على لسان نبيه، وشبه هذه المحاولة، والسلام المزعوم، بعقد معاهدة مع الموت، وملجأ الكذب، وتنبأ عن هبوب عاصفة، تعجز أمامها كل هذه التدبيرات عن أن تحمي الذين فكروا فيها. وردًا على مخاوف الشعب من ذلك البرد، وتلك المياه الجارفة، قال: «هاأنذا أؤسس في صهيون حجرًا، حجر امتحان، حجر زاوية، كريمًا، أساسًا مؤسسًا. من آمن لا يهرب» (أش 28: 14- 18).

ودانيال يضيف حلقة أخرى لسلسلة تلك الأفكار المقدسة عندما شبه ملكوت الله بحجر عظیم قُطع بغير يدین من شق أحد الجبال. ومع أنه لم تمتد إليه أية يد بشرية فقد شكل نفسه، وانتزع نفسه من مكانه الصخري، وبدأ يتدحرج فوق سفح الجبل، ساحقًا كل ما يعترض طريقه. إذا ما توقف هذا الحجر لحظة وسقط عليه إنسان ترضض، هو «حجر صدمة وصخرة عثرة» (1بط 2: 8)، وإذا ما سقط هذا الحجر على أي إنسان مار بجواره سحقه. في كثير من الأودية التي ترعى فيها الغنم صيفًا توجد صخور كبيرة انسلخت من الجبال المشرفة على هذه الأودية. وویل لذلك الرجل الواقف بجوارها ساعة سقوطها. لا شك في أنه يتحطم في لحظة وينسحق سحقًا. هذه كلمات رهيبة.. لكن الرب يسوع المسيح نفسه قد اقتبسها من نبوات دانیال (دا 2: 34، مت 21: 44).

 

1- فلنحاول فهم الفكرة التي تحملها هذه الآيات

إنها مليئة بالتشابيه والاستعارات المختلفة، فيها ترى صورة فرق صورة وفكرة تضاف إلى فكرة. هنا نرى حجرًا، يليق بأن يكون رابطة الاتحاد، يربط كل البناء، جاعلًا الاثنين واحدًا. إنه ليس مجرد حجر، لكنه هو «حجر الزاوية» (أف 2:2).

انظروا ذلك الحجر إن الله العالم بكل شيء يتطلع إليه، ونقشت عليه يداه رموزًا في غاية الروعة والجمال، تعجز عن نقشها أيدي أمهر البشر (زك 3: 9).يا لجمال هذا الحجر الذي هو «مختار» وأيضًا «كریم». لقد اختير يسوع قبل كل الدهور لتخلق به كل الخليقة، وليتمم عملية الفداء، وليكون رأسًا للجنس البشري الجديد، وحجر الأساس للكنيسة. أما من جهة كرامته وقيمته فإنه لا يمكن أن يثمن، هو اللؤلؤة التي لا تقدر قيمتها، هو تاج السماء. «معلم بين ربوة» (نش 5: 10)، «كله مشتهيات» (نش 5: 16). هو لؤلؤة قلب الله.

ولعله قد قامت مشاجرة بين البنائين، مع أن الحجر، كان بين أيديهم فإنهم تعمدوا رفض الأساس المعد من الله. لقد أعجب البعض بالنقش الذي عليه، أو بالموضع الذي اختير له، أما الأكثرية فقد انتقدوه، أو احتقروه، أو حسبوه لا يصلح إلا لعمليات بسيطة. وبعد عدة مناقشات بين البنائين المغرورين بأنفسهم اختفوا به، وهكذا صار «مرفوضًا من الناس» (1بط 2: 4). وبعد ذلك بدأوا يشيدون بناء أساسات على طبقة من الرمل، فصار مصيره أن يبقى أثرًا على حماقتهم دون أن يكمل.

لكن قصد الله لا يمكن أن يفشل إن لم يرد الناس أن يبنوا على أساسه، فإنه لا بُد أن يُبْنَى عليه بناء شامخ لمجده. هنا أمر عجيب حقًا، فإن الحجر لا يزال حیا. «حجرًا حيًا».«مملوء عيونًا». والأكثر من هذا أنه جذاب كحدید المغنطيس. إنه يجذب لشخصه حجارة أخرى ميتة، وثقيلة، وصلبة، متناثرة حوله.

وإذ يقتربون إليه ببطء، الواحد بعد الآخر، فإنهم هم أيضًا يبدأون بأن يحيوا، «الذي إذ تأتون إليه حجرا حيا... كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حية» (1بط 2: 4-5).

ولكن العجب لا يقف عند هذا الحد. فإنه كما حدث في رؤيا النبي (حزقيال) إذ انتزعت العظام نفسها من أكداس القتلى، وبنت نفسها في وضعها الصحيح في الجسم البشري، هكذا ترى أن حجرًا یأتی بعد حجر، كأن يدًا غير منظورة تجمعها، وتبني بيتًا غیر مادی، بل روحيًا، لأن الحجارة إذ انتقلت إلى الحياة طرحت عنها جزءها الثقيل فصارت روحية، لكي تليق بأن تكون أجزاء في «بیت روحی».

إن بیت الله ليس في السماويات فحسب، وليس في أي بيت يبنيه البشر، بل هو البناء المكون من أرواح القديسين المخلصين، الذين كانوا سابقًا ماديين وأمواتًا كالحجارة، أما الآن فإنهم، باتصالهم بيسوع المسيح، قد تطهروا، وتقدسوا، وصاروا «يهتمون بالروح». «هذه هي راحتي إلى الأبد. ههنا أسكن، لأني أشتهيها» (مز 132: 14).

وفي هيكل كهذا لا بُد أن يوجد كهنة(12). وهنا أيضًا لا يمكن أن يفشل القصد الإلهي. فإن أولئك الذين كانوا يومًا ما حجارة صغيرة متناثرة على سفح الجبل، لا يكونون الآن فقط جزءًا من البناء الروحي، بل بتغيير سريع في الفكر، صُوروا الآن كأنهم يؤدون مهام الكهنوت. «كهنوتًا مقدسًا»، يرتدون الثياب الرسمية للقداسة والجمال.

ونظرًا لأن الكاهن ينبغي أن يكون لديه ما يقدمه، ونظرًا لأن هؤلاء الذين يحتلون الهيكل الحقيقي لا يقدرون أن يظهروا أمام الهيكل، أو يدخلوا قدس الأقداس، بأید فارغة، فقد أعدت «ذبائح روحية». ومع ذلك (وهنا تتغير الفكرة مرة أخرى) فإن هذه الذبائح ليست مادية، وليست أيضًا كفارية، لكنها ذبائح روحية، متضمنة في الحياة المكرسة وتسبيحات الفرح والتهليل التي لأولئك الذين رُفعوا من المزبلة «لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح».

وليس هذا هو كل ما في الأمر، فإن الذين يعاشرون المسيح ينالون منه تقدیر ومحبة الله. ففي إحدى الآيات يقول الرسول إن ربنا «كریم» في تقدير الآب، فهو ابنه الحبيب، العزيز، الوحيد، وفي الآية التالية تنسب إلينا هذه الكرامة: «فلكم أنتم الذين تؤمنون الكرامة». ليس يسوع كريمًا في أعيننا فقط، كحبیبنا وصديقنا، بل إن قدره وجماله في نظر الله قد انتقلا إلينا نحن المؤمنين، حتى أن طبيعتنا الغبية أصبحت تلمع في سمو جماله. نعم، ونحن «نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد» (2 كو 3: 18).

هكذا صار صيادو الجليل حجارة كريمة في أساسات أورشليم الجديدة. وما بصدق عنهم يصدق عن جميعنا إلى حد محدود. عندما يلمس الحديد حديدًا ممغطسًا يصبح ممغطسًا. وعندما تلمس الحجارة ذلك الحجر الكريم تصبح لآلئ. هكذا يصنع الله حجارته الكريمة، فإن وجهها متى صقل هنا بالألم لمع إلى الأبد بنور مجده هناك.

وقبل أن ننتقل من هذه النقطة لنتأمل مرة أخرى في البنائين العصاة غير المؤمنين. لقد سقط البعض فوق ما أعده الله فترضضوا دون أمل في الشفاء. والبعض يهيمون على وجوههم في الجبال المظلمة، فتحل عليهم الدواهي، إذ يسقطون في هاوية سحيقة، أو يقضون نحبهم. ويبقی بناؤهم، الذي افتخروا به، قائمًا كبرج بابل، ليهزأ بهم العالم. وعندئذ «یخزون» حقًا، وهذا لن يكون مصير الذين يبنون على أساس الله المختار. إنه لما يؤسف له أن الناس يسيئون إلى نفس الوسائط التي أعدها الله لخلاصهم وسعادتهم.

 

2- التطبيق الشخصي

«وأما أنتم فجنسٌ مختار». هنالك أجناس مختارة في العالم، وصلوا إلى قمة المدنية، ليس لأنفسهم فقط، بل للآخرين. وكلما عظم الامتياز عظمت المسئولية. هذه طريقة الله في إدارته لاختيار الأمم أو الأجناس الموهوبين بصفة خاصة، لكي يؤهلوا المساعدة وخلاص أخوتهم. أما مركز أمة إسرائيل، الذين كان «لهم التبني والمجد والعهود» (رؤ 9: 4)، فقد اؤتمنوا عليه قديمًا لكي يبارك الله عن طريقهم كل أمم الأرض. أما في العصر الحالي، عصر رفض اليهود للمسيح، فقد دُعيت الكنيسة المسيحية لهذه الخدمة المجيدة أن تصير إناء يبارك به الله البشرية.

«وكهنوت ملوكي». كانت كل من هاتين الوظيفتين وقفًا على شاغليهما في إسرائيل. ولما أراد عزيا الملك أن يشغل كليهما معًا، طُرد من الهيكل. «وخرج برص في جبهته» (2 أخ 26: 16-19). أما في المسيح فقد اجتمعا معًا: «ويكون كاهنًا على كرسيه» (13) (زك 6: 13). وكل أتباعه يكونون ملوكا وكهنة (رؤ 1: 6) ككهنة نحن نعبد الله عن قرب، وكملوك نحن نتسلط على الناس بسلطان المحبة التي تبارك وتخلص.

«أمة مقدسة». هذا التعبير، كسابقيه، نشأ من العهد القديم الذي قطعه الله مع إسرائيل في جبل سينا (خر 19: 6). لم يحفظ إسرائيل هذا العهد فنبذوا كأمة. أما الأفراد، يهودًا كانوا أم يونانيين، الذين قبلوا المسيح، فقد كونوا أمة أخرى لا يُحصى لها عدد، تعيش في كل العالم، تخضع لناموس أدبي أسمَى، وهم مواطنو المدينة التي لن تزول.

«شعب اقتناء». المحبة تحن إلى الاقتناء. وقلب الله لا يمكن أن يشبع إلا إذا وجد له شعبًا خاصًا اقتناه لنفسه. آه، طوبی للذين لبوا دعوته، وخضعوا له خضوعًا كاملًا. فإنه قد اقتناهم لنفسه. لقد سیج حولهم كما يُسيج البستان، وفلحهم كحقل، وسكن في وسطهم كبيت، حرسهم وحفظهم وأحبهم بكيفية سامية جدًا لا يعرفها أحد. كل ما لله تحت تصرف أولئك الذين لا يحجزون عنه شيئًا.

ماذا نرد له من أجل كل ما صنعه معنا عندما نقارن ما نحن عليه الآن بما كنا عليه سابقًا؟ كنا قبلًا في الظلمة، أما الآن فنحن في النور العجيب. لم نكن قبلًا من شعب الله، أما الآن فإننا نعتبر جزءًا منه. كنا قبلًا بلا رجاء في الرحمة، أما الآن فإننا نتقبل الرحمة التي لا يُعبر عنها. فماذا نقول؟ واجبنا أن نشكره، لا بأفواهنا فقط بل بحياتنا، ونطرح أكاليلنا عند قدميه، ونتخذ نصيبنا في تسبيحة الحمد التي تقدمها كل الخليقة حول عرشه. فلنقدم له الحمد والثناء والتسبيح.

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

12: الحياة التي بلا لوم

«ایها الأحياء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس. وان تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا فيما يفترون عليكم كفاعلي شر يمجدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها» (1بط 2: 11-12).

 

والآن ننتقل من التعاليم النظرية إلى العملية. جميع الرسل يبدأون رسائلهم بوضع أساسات متينة لحق الإنجيل، وعلى هذه الأساسات يشيدون مبانی فاخرة من النصائح المؤدية إلى التقوى العملية. لعل هذا التقسيم لا يُلاحَظ كثيرًا في كتابات الرسول بطرس بقدر ما يُرَاعَى في كتابات أخيه المحبوب بولس. ومع ذلك فهنا نرى انتقالًا واضحًا عند هذه النقطة. إن العظة التي يلاحظ فيها تطبيق شخصی عظة فاشلة. والتعاليم العقائدية بدون النصائح تؤدي إلى جفاف الحياة الروحية. والنصائح بدون التعاليم العقائدية تؤدي إلى شكليات جافة عديمة القوة.

هذه النصائح تقدم إلينا بكل رقة. ليس أمرًا هينًا أن نصدق بأن بطرس، الرجل الصخري القوي، هو الذي يتكلم هنا لكن سني الحزن عملت عملها نحو صقل صفاته الخشنة. وهنالك رقة في صوته عندما يتوسل إلى أعزائه ويقول: «أيها الأحباء». ولا بد أن هذه اللهجة كان لها تأثير قوي مقنع للتحلي بالحياة التي طلبها.

لا بُد أن هذه الحجة، نحو الحياة التي بلا لوم، كان لها تأثير قوي، لأنها كانت مشبعة بالمحبة ومعززة بها. وقوة التعبير أعظم لأننا قلما نجد الرسول بطرس يتوسل هكذا. لا تتطلب الحياة المسيحية دوامًا استخدام تعبیرات رقيقة متدفقة. فهذه تكون دراما مقترنة بخطر فقد معانيها وقوتها بسبب التكرار المستمر. لكن هنالك مناسبات، سيما حينما نشتاق إلى خير الآخرين، نتوسل إليهم فيها بالحري من أجل المحبة، حتى وإن تجاسرنا على أن نوصيهم الوصايا اللائقة.

الشهوات الجسدية. في (غل 5: 19-21)، وفي مواضع أخرى كثيرة من الكتاب المقدس، نجد بالتفصيل قائمة بهذه الشهوات. الشهوة رغبة مفرطة، رغبة نحو خير جزیل، أو نحو شر مستطير. والشهوات الجسدية هي تلك التي تطلب إشباعها عن طريق مسالك الطبيعة الجسدية التي وهبها لنا الله. كلنا زُودنا بغرائز ورغبات طبيعية، وُضعت فينا للأغراض النافعة المستقيمة، وهي تكون بريئة وصالحة عندما نسترشد بإرادة الله.

لكن هذه الشهوات الطبيعية تحاول دوامًا أن تتخطى الحدود، وتتوق إلى إشباعها بالطرق غير المشروعة. فتغلى وترغی وتزيد كموج البحر عندما يندفع نحو حاجز الميناء. إن كنت تستسلم لها، إن كنت تحب أي شيء خارجًا عن دائرة مشيئة الله، إن كنت تتبع غرائزك الجامحة دون مراعاة لضبط النفس الذي يتطلبه الضمير، إن كنت تنساق وراء ناحية واحدة من طبيعتك دون مراعاة النواحي الأخرى، إن كنت تنحرف في تفكيرك أو في ملذاتك في أية ناحية، فحينئذ كن على حذر، لأنك تحتاج بصفة خاصة إلى الحذر من «الشهوات الجسدية» التي يتحدث عنها الرسول بطرس هنا.

إنها «تحارب النفس». كلمة «تحارب» تعطي فكرة زحف جيش لمهاجمة مدينة، كما زحف اليونانيون قديمًا لمحاصرة «طروادة» واقتحامها. بدأ هذا الهجوم بحرب علنية، وانتهى بخدعة، إذ أتى المحاربون بخيول خشبية نزلوا منها إلى قلب المدينة في ظلام الليل. طبیعي أننا جميعًا يجب أن نعترف بأن التطرف في أية شهية يضر الجسد، سيما الأعضاء التي عن طريقها ارتكبت الخطية ضد كل الجسد.

لكن لعلنا كلنا لا ندرك كيف أن الشهوات الجسدية تهدم الحياة الداخلية. فهي تهجم عليها، وتغلبها، وتستعبدها، وتضعف نشاطها، وتلوث طهارتها، وتخفض صوتها، وتهد قوتها الأدبية. فاذكر إذن، عندما تجرب بالخضوع لأي فكر دنس، حتى بمجرد التفكير أو الرغبة، أنك تعرض نفسك لإضعاف قوتك الروحية، هذا يعرقل مساعيك، فيكون مصيرك الفشل والهزيمة. كل سقطة في الشهوات الجنسية تؤذي أنفسنا حتمًا. قد يغفر الله الخطية، ويرفعها عنا، بدم المسيح. لكن النفس لا تصير إلى ما كان ممكنًا أن تصل إليه لو كانت التجربة قد انتُصر عليها، وتمت نعمة ضبط النفس.

يوجد حولنا كثيرون جدًا موهوبون بمواهب ممتازة تمكنهم من قيادة شعب الله، لكنهم يطحنون في بيت السجن، مثل شمشون، لتسلية أعدائهم، وذلك لأن شهواتهم تسلطت عليهم، مع أنهم كان يمكنهم كبحها، كما يكبح الخيال حصانه الجامح. إن انغمست في شهوات الجسد صرت ضعيفًا، وإن كبحت جماحه صرت قويًا.

نحن نحتاج إلى أن ندرك كيف يتحقق الامتناع عن الانغماس في الشهوات الدنسة. وقد يساعدنا أن نذكر النقط التالية:

1- يجب أن ندرك بأن كبح جماح النفس أمر ممكن. صحيح أننا أبناء جنس خاطئ، وأننا دخلنا العالم وفينا دنس الخطية. لا تحتاج هذه الحقيقة إلى برهان، فهذا هو اختبار كل فرد. لو لم يكن الأصحاح الثالث من سفر التكوين والأصحاح الأول من رسالة رومية قد كتبا لشعرنا بأن هنالك ثغرة في تاريخ الجنس البشري، أو أن مصيرًا أسيفًا قد كتب على هذا الجنس البشري. منذ البداية يوجد فينا أجمعین میل وراثي لإشباع إيحاءات الشهوات الطبيعية بإفراط.

وعلاوة على هذا فإننا بتعدياتنا الفعلية نعمل على تقوية هذه الميول الموروثة. واستسلامنا المتكرر لها يزيدها قوة. ونحن نشبه المصارع الذي سمح للناس بأن يربطوه بخيوط قطنية. هو يستطيع في لحظة أن يقطع كل خيط على حدة. لكنه يعجز عن أن يقطعها متجمعة.

ورغم هذا، فصحيح أنه لا يمكن أن تصيبنا تجربة لا تصيب عامة البشر، أو لا يقدر الله أن ينجينا منها. إنه من الكفر أن نقول بأن الله سمح للشر بأن يصل إلى حد لا يقدر هو أن يعالجه، أو بأنه توجد بعض الخطايا التي تهدد عرشه في قلوبنا بحيث لا يقدر أن يقمعها.

ليس أمرًا ذا بال إن كانت ميولك الموروثة نحو الشر قوية، أو إن كانت العادات التي كونتها بتكرار التصرفات الخاطئة قوية. فالله قادر أن يخلصك، ويحفظك من الهزيمة. من الميسور لك أن تمتنع عن الشهوات الجسدية المتسلطة عليك، كما تسلط الموآبيون والفلسطينيون على أرض إسرائيل الجميلة أيام القضاة. إن كل وصية تقترن بوعد. وهذا التوسل، المملوء محبة، لكي تحيا حياة أفضل وأطهر، ينطوي تحته وعد بأن الله يتعهد بأن تكون أعظم من منتصر [أي «يعظم انتصارك»]، وتطأ على الجسد وعلى الذات، وتملك بعد أن كنت تئن من العبودية. تشجع، فإنه من الميسور حتى لك أنت بأن تمتنع عن الشهوات الجسدية، فالله قادر أن يحفظك.

2- اختر الموت. هنالك معنی قوي في أننا كلنا متنا في يسوع المسيح ربنا، عندما أسلم الروح في يدي الأب إذ كان على الصليب. وهنالك أيضًا معنی قوي أننا يجب أن نموت كل يوم بإنكارنا لذواتنا كل يوم. لكننا يجب أن نختار الموت نهائيًا ونفضله عن الذات، وعن العالم، وعن الجسد، وعن إبليس. هذا ما يعنيه الرسول عندما قال بصيغة الماضي: «قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات» (غل 5: 24).

كثيرون جدًا منا لم يصلوا بعد إلى هذا الحد. فنحن نقبل تسلط الشر علينا كأمر محتم يجب أن نتعرض له في هذا العالم، فنستسلم، ثم نتوب، ونجلب اللعنة على أنفسنا، ونستسلم ثانية. كثيرًا ما تحدث المسيحيون عن الخطية المحيطة بهم كضعفات طبيعية لا يقوون عليها، ويجب أن يتحملوها كالأمراض التي تطرأ على الأطفال، وقليلًا ما يتحدثون عن عزمهم على التحرر منها لكي يعيشوا حياة طاهرة.

وإن وجدت عزيمة كهذه فكثيرًا ما كانت ناقصة. إنها تغلق الباب الأمامي للطبيعة، وتترك الباب الخلفي، على أساس أنه لا بُد من الاستسلام لهذه الضعفات. إنها تترك خيطًا، يكاد يكون غير منظور، لتوصيل النفس بالشرور التي تشتاق أن تتخلص منها، وعن طريق هذا الخيط تنتقل العدوَى بسهولة. وطالما أنه توجد أقل ثغرة في نزاهة قصد النفس، فلا يوجد أي أمل في النجاة. يجب أن نقطع كل علاقة، ونغلق كل نافذة، ونكف عن كل تفكير في الشهوات الجسدية بكل صورها وأشكالها. وبالإيجاز، يجب أن نختار الموت.

أليس هذا هو سر سقطاتك المتكررة؟ لقد سمعت عن قوة الله الحافظة، وطلبتها. لكنك لم تُحفظ. لقد غلبتك الخطية رغم أنك صرخت طالبًا الإغاثة وأنت لا يمكن أن تحيا الحياة المشتهاة إلا إذا قبلت الموت. وعندما تحسب كل شیء نفاية من أجل المسيح فإنك تريحه. وعن طريق الموت سوف تأتي إلى فجر القيامة. فالموت هو باب الحياة. وعندما تُصلب مع المسيح فإنك تجد أن حياته قد دبت فيك، فتحيا الحياة المنتصرة. «مع المسيح صُلبت فأحيا» (غل 2: 20).

يوصينا العهد الجديد بإلحاح شديد لكي تكون لنا هذه العزيمة القوية. وهي بصفة خاصة المفتاح للأصحاح السادس الرائع من رسالة رومية، الذي يؤكد لنا بأننا إذ متنا مع المسيح فقد تحررنا من الخطية، فيه نجد تعبیرات، قد نخاف منها لأنها عنيفة جدًا أو متطرفة، تبين كيف تكون النجاة كاملة لمن اشتركوا مع المسيح في شبه موته. لا يوجد أقل شك في أن نجاتنا من سلطان كل الشهوات الجسدية يكون بنسبة اعتقادنا في قطع كل علاقة معها، الأمر الذي تحمله هذه الكلمة الواحدة «الموت»، الذي يقطع كل علاقة.

3- «اسلكوا بالروح» (غل 5: 16). هنالك مسيحيون يعيشون بالروح لكنهم لا يسلكون بالروح. «إن كنا نعيش بالروح فلنسلك أيضًا بحسب الروح» (غل 5: 25). إن الفرق واضح. فنحن نعيش بالروح، لأننا بالروح تشترك في حياة المسيح، الحياة التي هي أبدية وإلهية. لكن قليلون هم الذين يسلكون بالروح من ساعة إلى ساعة، ويتوقفون في كل خطوة لعل الروح يعمل أو يتكلم، طالبين منه الإرشاد في كل خطوة، وسالكين في الطريق الذي يرشدهم إليه، كما كانت السحابة قديمًا ترشد بتحركها في الصحراء.

اولا يمكن أن يكفي شيء أقل من هذا. فالرسول يقول: «اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد» (غل 5: 16). لا يكفي أن نعزم على الامتناع، فمجرد العزيمة لا تكفي لإبقاء الباب مغلقًا أمام ضغط التجربة. يجب أن يكون هنالك شيء إيجابي، لا سلبي. فإن حلول الروح بملئه فينا هو وحده الذي يكفي لسد أعوازنا. وهذا لا يمكن أن يتم إلا بالشركة المستمرة بين النفس والروح القدس.

وعندما تكون النفس ممتلئة دوامًا بشخص الروح القدس وقوته، فإنه يسهل عليها الامتناع عن الشهوات الجسدية، وتفقد شهيتها للأشياء التي كانت تتلذذ بها قبلًا، وتتبينها وهي لا تزال بعيدة، وترتعد عند اقترابها. وإذ تشبع بخيرات بیت الآب، فإنها تهجر خرنوب الخنازير مشمئزة منه.

أما البواعث على هذا الامتناع فهي كثيرة.

1- «نحن غرباء ونزلاء» (1بط 2: 11): «تأمل في حالتك التي أنت عليها. إن كنت مواطنًا لهذا العالم فاسلك كما يسلكون، واتبع نفس الشهوات. أما وقد دعيت للخروج من هذا العالم، واُدرجت ضمن جماعة جديدة، وتحررت، ونُقلت إلى مملكة أخرى، فيجب أن يكون هنالك فرق بينك وبين أهل العالم، يجب أن تسلك كغریب وإن كنت في العالم، لا تتلذذ بملذات أهل العالم، ولا تشنه أطايبه، بل عش بحذر وانتباه وبوقار وصحو».

مهما كانت دار الضيافة مبهجة ومريحة، فإن السائح يسرع إلى وطنه. لا يليق به أن يربك نفسه بإغراءات البلاد التي يمر بها. فإنه في الواقع ليس لديه وقت لهذه الإغراءات، وقبل أن ُيصطاد في الفخ يكون قد انصرف ومضى إلى حال سبيله. أما إغراءات أسرته العزيزة التي تنتظره فإنها تشغل قلبه وتفكيره بحيث لا يلتفت إلى الإغراءات الدنسة التي تُقدم إليه في غربته. فماذا يحببنا إذن في الشهوات الجسدية إن كنا مواطني السماء، التي منها ننتظر المخلص؟

2- يجب أن نفكر في تأثيرنا على العالم. «يجب أن تكون سیرتكم بین الأمم حسنة»، أو جميلة، ليس من أجلنا فقط، بل من أجلهم. يجب أن لا يدهش أتباع المسيح إذا ما «افترى عليهم كفاعلی شر». إن كان العالم قد قال عن الرب إنه «بعلزبول»، فكم يُفترى على عبید بیت المسيح؟ لقد انتشرت أشر الأنباء في كل الامبراطورية الرومانية عن الطقوس التي قيل بأن المسيحيين كانوا يمارسونها سرًا في اجتماعاتهم. ومن أجل هذه الأنباء حُكم عليهم بالتعذيب والقتل.

لا زالت توجه مثل هذه التهم التي لا أساس لها. وينبغي أن نحرص على أن لا نعطي لها فرصة في سلوكنا وتصرفاتنا. بل يجب أن نعيش بكيفية تُلزم الناس على الاعتراف بقيمة ديانتنا، ويُمجدوا الله الذي أعاننا على احتمال الآلام، وذلك إذا ما حان وقت التجربة.

هنالك حجج تبرز من نيران التجارب التي يُدعى المسيحيون لاجتيازها. وهذه الحجج تُخرس المفترين، وتلزمهم على الاعتراف بتوفر قوة وصبر وشجاعة لا يدرك سرها فلاسفتهم. وفي كثير من الحالات يتحول التجديف إلى إعجاب، والشتيمة إلى مديح.

وإذ لنا هذه البواعث التي تبعث فينا الهمة، ليتنا نلبي هذا النداء الذي يدعونا إلى حياة بلا لوم ولا دنس.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

13- عبيد الله

«فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب. إن كان للملك فكمن هو فوق الكل.أو للولاة فكمرسلين للانتقام من فاعلى الشر وللمدح لفاعلی الخير.. لأن هكذا هي مشيئة الله أن تفعلوا الخير فتسكتوا جهالة الناس الأغبياء. كأحرار وليس كالذین الحرية عندهم سترة للشر بل كعبید لله أكرموا الجميع. أحبوا الأخوة. خافوا الله. أكرموا الملك» (1 بط 2: 13-17).

 

مما يلاحظ باهتمام شديد أن الذين كتبوا العهد الجديد أكثروا من استعمال كلمة «عبد» لكي يصفوا علاقتهم الحقيقية بالله. وقد كان اللقب المحبوب الذي استعمله الرسول بولس عن نفسه «رسول وعبد»، بل كان يفتخر بأنه لابس سمات عبد يسوع. أما بطرس الرسول فلم يقل عن نفسه هنا فقط بأنه عبد، بل أيضًا في افتتاحية رسالته الثانية. وفي سفر الرؤيا استعملت هذه الكلمة كثيرًا مقترنة بنور سماوی. وممجدة. لقد كُتب هذا السفر العجيب للعبيد، الذين قيل عنهم إنهم مختومون، وإنهم ينالون أجرهم، ويرون وجه الله، ويحملون اسمه على جباههم. السماء تأخذ أشنع ألقابنا، وتجعلها تنير بنورها، إلى أن يصير رمز الرعب هدفنا لأنبل مقاصدنا. إن عبید بیت الملك أشراف.

كل هذا غريب جدًا. لأن العبودية التي انتشرت في جو العالم الوثني المسمم كانت من أقسى وأشر ما رآه المجتمع. كانت العبودية في الامبراطورية الرومانية شريرة جدًا. فكان العبد ملكًا لسيده، يُستخدم في أعنف الأعمال، وفي التعذيب المرير، وفي الجرائم المخلة بالشرف. لم يكن هنالك مجال لأي ملجأ يلجأون إليه، ولا رجاء في الإنصاف، ولا مجال للهرب أو النجاة إلا بالموت. ومع ذلك فإن الذين كتبوا العهد الجديد، لم يملوا من تطبيق هذه العبودية على علاقتنا بيسوع المسيح. إنها تقدم إليهم المثل الأعلى الذي يثير فيهم الغيرة المتقدة.

لعل البعض كانوا يتوقعون أن الرسل كان ينبغي أن يهاجموا هذا النظام ويحاربوه ويشجبوه، ويستأصلوا هذه الشركة من حقل العالم. لكن ليست هذه هي طريقة الله. فالله لا يعالج المجتمع كوحدة كاملة، بل يعالج الأفراد، فردًا فردًا، لا يعالج المساويء، بل الروح التي تصدر منها، لا يعالج السياسة، بل المباديء. كان الرسل بهدوء يُبلغون رسالة محبة الله، مذكرين الناس أنه في المسيح لا عبد ولا سید، ومؤكدين أن موقفهم الحقيقي لا تحدده ظروفهم الخارجية، بل صفاتهم الداخلية. وإذ فعلوا هذا، خلقوا عالمًا لا يمكن أن تعيش فيه العبودية. ولعل البعض منا الذين لا يشتركون في إخراج نفوس الأفراد من الظلمة إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، هم في الواقع يطهرون المجتمع ككل، ويرفعون مستواه. إن أحسن طريقة لخلاص العالم هي خلاص الأفراد الذين يتكون منهم العالم.

وبدلًا من أن يشجبوا العبودية استخدموا اسمها للتعبير عن موقف حياتهم، واستعملوه في صُلب عظاتهم. وبينوا أننا في الواقع عبيد الله. وهكذا وجد الرسول بطرس مادة لنصائحه في هذه الآيات موضوع تأملنا الآن.

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

 1- سلطان الله المطلقًات

قد يبدو أن هذا التعبير شديد الوقع على نفوسنا. لكنه تعبیر كتابی تمامًا. وفي الرسالة الثانية نجد ما يؤيده (2بط 2: 1)(14). ونجد ما يؤيده أيضًا عندما نذكر سلطان المسيح المطلق على خاصته.

نحن نتهاون كثيرًا في معاملاتنا مع ربنا يسوع المسيح. نحن «ندعوه معلما وسیدا. وحسنا نقول ذلك لأنه هو كذلك» (يو 13: 13). لكننا لا ندرك كل ما ينطوي عليه هذا التعبير، كذلك نحن لا نفعل كل ما يقول. هو قائدنا الأعلى، ونحن يجب أن نذهب، أو نأتي، أو نفعل كما يأمر، ليس لأننا نرى أنه من الصواب أن نتمم أوامره، بل لأنه هو الذي يصدرها. هو مالكنا، ونحن ملك له، فهو قد اشترانا لقصد معين، ولا يمكن أن تتم مقاصده إلا إن أطعناه طاعة كاملة، مطلقة. هو مؤسس الكون، ويقينًا أنه له الحق علينا في أن نطيعه طاعة عمياء.

لقد «رفعه الله بيمينه رئيسًا (15) ومخلصًا» (أع 5: 31). ونحن نميل كثيرًا إلى أن نعكس الوضع، فنجعله مخلصًا ورئيسًا، ونميل إلى التفكير في أننا خلصنا به أكثر من التفكير في إتمام ما يأمر به. ولأننا لا نعرف إلا قليلًا عن يسوع كملك، لذلك لا نختبر إلا قليلًا عن يسوع كمخلص.

إنه نافع لنا أن نأخذ الأناجيل ثانية في أيدينا، وندرسها دراسة وافية، وأمامنا هذا الغرض الواحد، وهو أن نلاحظ مطالبتها المستمرة لنا بالطاعة. كل شيء في الحياة المسيحية يتوقف على أن تعمل ما نؤمر به.

ليس لنا أن نتساءل عن السبب

ليس لنا أن نتحاجج فيما طلب

بل علينا أن نفعل ما نؤمر به

إن حقوق الرب يسوع في ممارسة هذه السلطة المطلقة مؤسسة على اعتبارات كثيرة، وقد لا يكون هذا هو الوقت المناسب لشرحها بالتفصيل، لقد بذل نفسه عنا. وعطيته العظمى لنا، إذ أعطانا نفسه، تتطلب أن نسلم أنفسنا له تسليمًا كليًا. ودمه الذي سفكه على الجلجثة هو الثمن الذي اشتُرینا به، ونحن لا يمكن إلا أن نكون ملكًا لمن اشترانا. وحقوقه علينا مؤسسة أيضًا على العطية التي أعطاها الآب للإبن(16) قبل كل الدهور، وهم الذين سوف يأتون إليه بمرور الزمن.

وعلاوة على كل هذا فنحن أنفسنا جثونا على ركبنا معترفين برغبتنا في أن تكون له وحده إلى الأبد، بكليتنا، نفسًا وروحًا وجسدًا،. فمن ذا الذي يجرؤ على الاعتراض على حقه في أن يكون له السلطان المطلق؟ نظرًا لما هو عليه من كرامة وسؤدد، نظرًا لصفاته، ونعمته اللانهائية، نظرًا لأنه عليم بكل شيء، فإننا بسرور واطمئنان نستودع حياتنا بين يديه، لنكون تحت سلطانه المطلق، مقدمين له طاعة لا نجرؤ على تقديمها لأي كائن حي، طاعة مطلقة عمياء.

 

2- تأثير هذه الفكرة

«فاخضعوا». انظر كيف يطلب الرسول من أولئك القديسين المغتربين في الشتات أن يطيعوا. ربما كانوا يميلون إلى التردد في الخضوع «لكل ترتیب بشري». أما هو فقد سكت احتجاجهم، وسهل عليهم نیرهم، إذ همس في آذانهم قائلًا: «اخضعوا من أجل الرب». لعلهم قد تساءلوا لماذا يجب أن يستمروا في عمل الخير، صابرین وسط افتراءات ومقاومة «جهالة الناس الأغبياء». أما هو فقد سكت كل اعتراض بالقول: «لأن هكذا هي مشيئة الله».

قد يفتخرون بحريتهم إذ دخلوا في العهد الجديد الذي بدأت أنباؤه وقتئذ أن تتسلل إلى كل العالم. أما الرسول فقد قابل حجتهم بتذكيرهم بأنهم وإن كانوا قد صاروا أحرارًا فيجب أن لا يستخدموا حريتهم «سترة للشر»، فإنهم «عبيد الله».

هنالك تباین عجيب في هذه الكلمات. فالذين يقفون مستقيمين في حضرة الله كأخوة المسيح يؤمرون بالخضوع لكل ترتيب بشري. والذين يعتزمون على أن يعيشوا وفق مشيئة الله فقط تبينوا بأن هذه المشيئة تعمل عن طريق أناس جهلاء وأغبياء. وأحرار الله عبيد له، ولذلك فهم خدام الناس، عظيمة حقًا، وكاملة، وغنية، هي تلك الحياة الحقيقية التي نحياها في شركة مع الله، حتى إننا نستطيع أن نكون أحرار الفكر عند إطاعة مطالب الهيئات التي تحيط بنا طالما كانت لا تتعارض مع ولائنا لربنا.

وهنالك عون كبير في هذه الكلمات.. عندما يُطلب منا الخضوع لأمر تعسفي فإننا في غالب الأحيان نستاء منه. وتظهر آثار هذا الاستياء على الوجه، وفي العينين، وقد نثور ونحتد قائلين: «لماذا أقوم بهذا العمل؟» عندئذ يقترب منا الرب ويقول: «اخضع من أجلي. تممه لأنني أريد هذا، إن كنت ترى بأن احتجاجك يفيد فاحتج بمنتهى الرقة واللطف. أما إن كنت لا تقدر أن تغير الوضع أو تصلحه، فارتض بأن تخضع. فإنني أريد هذا» هذا يجعل الحديد البارد يطفو على وجه الماء (2 مل 6: 6)، يبدل مارة إلى ايليم (خر 15: 23-27)، ويملأ جثة الأسد بالعسل (قض 14: 7- 9).

آه، ليتك تكف عن أن تشكو، أو تتبرم، أو تحتد على الناس. اخبر ملكك بأحزانك، انتظره بالصبر، فيحررك. وإلا فثق بأن هذا الذي سمح به هو من ترتيبه. وثق بأنك عندما ترتضي ذلك النير الثقيل، أو ذلك الترتيب البشري، فإنك تتمم مسرة الله الصالحة. إن سر النصرة في كل هذه الحالات، ومفتاح سلام الأرض كما هو في السماء، يوجد في هذه العبارة البسيطة «من أجل الرب».

وهذه الكلمات معقولة جدًا. لقد أبغض العالم ديانة يسوع منذ البداية، واعتقد أنها عدوة لنفسها، واتُهم المسيحيون الأوائل بأنهم يتآمرون لقلب الامبراطورية الرومانية، وخلع قیصر عن عرشه، إرضاء لواحد اسمه يسوع. قيل عن اجتماعاتهم السرية بأنها تُعقد لمقاصد سیاسية غير شرعية. لذلك كان من الضروري أن يزال من عقول الناس ذلك الفكر بأن هناك مؤامرة لهدم أي مجتمع قائم.

من أجل هذا كان المسيحيون الأولون يحثون بصفة خاصة بأن يمتثلوا -على قدر ما يستطيعون- لمطالب وعادات الشعب الذي يعيشون بينه كغرباء ونزلاء. كان يجب أن يعطوا ما لقيصر لقيصر. طالما كانوا قد ارتضوا بالحياة الوطنية بما فيها من امتیازات، ونظام، وأمن، فيجب أن يساهموا في نفقاتها، ويخضعوا لنظام الحكم الذي وجدوه قائمًا، على أن لا يحاولوا تعديله أو تغييره إلا بالطرق القانونية. لذلك كان يطلب منهم أن «يعطوا الجميع حقوقهم. الجزية لمن له الجزية. الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف.. والإكرام لمن له الإكرام» (رو 13: 7). كان يجب أن يعيشوا حياة هادئة مسالمة، خاضعين للقانون، ويكون هدفهم فعل الخير. وهكذا يستطيعون بمرور الزمن أن ينتزعوا الأحقاد، ويصطلحوا مع أعدائهم، بإظهار نعم الحياة المسالمة، الرقيقة، الخيرة.

جميل جدًا أن نلاحظ كيف أن هذه النصائح تمت حرفيًا. فترتولیانوس بین الفرق بين المسيحيين والوثنيين. فهؤلاء الأخيرون كانوا يتلذذون بالمعارض التي تسفك فيها الدماء في المصارعات، أما المسيحي فكان يقطع من عضوية الكنيسة إذا ما ذهب إلى تلك المعارض. وبينما كان الوثنيون يهجرون أقرب أقاربهم لدى انتشار وباء الطاعون، كان المسيحيون يخدمون المرضى. بينما كان الوثنيون يتركون أمواتهم بغير دفن في ساحات الحرب، ويطرحون الجرحى في الشوارع، كان التلاميذ يسرعون لإسعافهم. وهكذا «سكتوا جهالة الناس الأغبياء» وعندئذ انعكس الوضع. فإنه بقدر ما دقق العالم في البحث عنهم بقدر ما اتضح له أن صفات جديدة بلا لوم ازدادت انتشارًا. قال «پلاینی» Pliny في خطابه للامپراطور تُراچان Trajan أنه لا يوجد أي عيب في اتباع الديانة الجديدة سوى اعتقادهم بخرافات شاذة. وقال میریفال Merivale أن سيرة المؤمنين الأوائل كانت أحد أسباب أربعة أدت إلى تغيير حياة الإمبراطورية الرومانية.

وطبيعي إنه توجد حدود لتطبيق هذه الكلمات. فخدمتنا الأولى ينبغي أن تتجه دائمًا إلى الله. وعندما تتعارض أوامر الملوك مع وصايا ملك الملوك فلا يبقى هنالك مجال للخضوع، بل يجب أن تُرفض. وللحال تدرك النفس أنه لا يوجد مجال للتردد أو التذبذب، أو الحيرة. فالرسل كانوا أول من نادى بإطاعة السلطات القائمة، كانوا أيضًا أول من صرح بأنه إذا تعارضت تلك السلطات مع الضمير، وجب أن يطاع الله أكثر من الناس. وكانوا يتحملون النتائج المريرة التي تترتب على هذا.

ينبغي أن لا تتعارض الحكومات المدنية مع ملكوت الله. فنحن نقدر أن نطيع الله بالخضوع لكل ترتيب بشري، يمكننا أن نحتفظ بولائنا لأمبراطورية قيصر دون أي نقص في ولائنا للمسيح. والأكثر من هذا إننا نكون مواطنين صالحين لقيصر لأننا مواطنون لملكوت السماء، ولكن إذا ما تعدى قيصر حدود الماديات والأمور المنظورة، وتدخل في الروحيات والأمور الأبدية، وجب عدم الخضوع له، ولو أدى بنا الأمر إلى السجن. وحتى في هذه الحالة نكون نحن أحرار الله، لأننا عبيده.

 

3- التطبيق في أربع نواح

1- «اكرموا الجميع»، أو «اعرفوا قدر الجميع» حسبما ورد في النص اليونانی. كان يجب أن يُظهروا اهتمامًا كريمًا بجميع الناس، ناشئًا من معرفة قدر وكل واحد. في أتفه إنسان توجد فضائل. في كل إنسان يرى الله أشياء لها قيمتها اللانهائية. الدرهم الذي يُفقد، ويتدحرج إلى التراب، يستحق كنس البيت للعثور عليه (لو 15: 8-9). إن وضعت أشر إنسان في كفة، وكل ذهب العالم في كفة أخرى، وجدت أن كفة الإنسان ترجح. إن الذي يعرف قدره هو المسيح وحده. فلنجتهد بأن ننظر إلى الناس كما ينظر إليهم الله، وبهذا نتمم هذه الوصية.

2- «أحبوا الأخوة». ليست المحبة مجرد عواطف، لكنها تضحية الذات. ليس مطلوبًا أن نحب كل إنسان فحسب، بل أن نجعل الآخرين الهدف الرئيسي من حياتنا دون محبة الذات. هذه هي الروح التي ينبغي أن نظهرها لكل الذين لم يعترفون بأبوة الله، ولذلك فهم أخوة لنا.

3-«خافوا الله». «المحبة الحقيقية الكاملة تطرد الخوف إلى خارج لأن الخوف له عذاب» (1یو 4: 18)، وتنشيء خوفًا مقدسًا يرهب أن يغضب الله. وكل خطوة في سبيل النمو في القداسة تقاس بمقدار ازدیاد هذا الخوف. قال أحدهم: «المحبة تقنع الناس بصلاح الله وجوده، لكي يخافوا أن يغضبوه».

3- «أكرموا الملك». احترموا المنظمات البشرية. ذُكر هذا الدرس في مقدمة ان هذه الآيات، ثم كُرر في ختامها. ويقينًا أنه إن كان قد ذكر كل هذا نحو إكرام الملك الأرضي، فبالأولى جدًا ينبغي أن نكرم ملك الملوك. آه، ليت البشر يكرمونه الإكرام اللائق، «مستحق هو أن يأخذ القدرة والغني والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة، لأنه ذبح واشترانا لله بدمه» (رؤ5: 9، 12). فلنكرمه بمحبة لا نهائية.

إن الذين يسلمون حياتهم الله تسلیمًا مطلقًا يعيدها الله إليهم كاملة لكي يعيشوا للآخرين. المسيح يجعلنا أعضاء في عالم آخر، لكنه في نفس الوقت يأمرنا أن نهتم بشدة بكل ما يمس البشرية المحيطة بنا، وذلك من أجله.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

14: كونوا صابرین

«لأنه أي مجد هو إن كنتم تُلطمون مخطئين فتصبرون. بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله» (1 بط 2: 20).

 

إن الخدم الذين يخاطبهم الرسول هنا هم خدم البيت وعبيده، وهؤلاء كانوا يستخدمون بكثرة في ذلك العصر. وكان ذوو الثروة والمراكز الرفيعة يفتخرون بكثرة عدد الخدم الذين يحتفظون بهم. وكانت حياة هؤلاء الخدم والعبيد رخيصة جدًا. وإذا ما اشتُري العبد كانت إعالته لا تكلف سيده كثيرًا. وقد اُتخمت الامبراطورية الرومانية بالعبيد، فكانوا سببًا في خرابها.

ولا عجب إن سمعنا بأن الكثيرين من هؤلاء المساكين كانوا يهربون ليلجأوا إلى الكنيسة المسيحية، كما يبحث الشريد عن الطعام. كانت هنالك على الأقل حرية للأسرى، محبة ومساواة بين العبد وسیده، بين السيد والعبد الذي يفلح أرضه.. وشراء نفس العبد قد كلف ابن الله نفس القدر من الآلام بقدر ما تحمله من أجل أغني إنسان. والمحبة التي رفرفت فوق الكوخ الذي لجأ إليه أنسيمس كانت قوية ورقيقة بقدر المحبة التي توسلت إلى فليمون. والسماء التي استقبلت لعازر المسكين هي نفس السماء التي استقبلت شهداء الرسل.

وهكذا نجد في الإنجيل جاذبية عجيبة للعبيد. وإن كنا نستنتج أي استنتاج من أن أجزاء كثيرة من الرسائل موجهة إليهم، وأن بعضًا من أجمل الرسائل قد كُتب من أجل خيرهم، فيجب أن نعترف بأنهم لم يوجدوا فقط في سجلات الكنائس، بل أن كتبة العهد الجديد كانوا يعطفون عليهم بشدة.

كانت الرسالة الوحيدة التي وجهها روح الله إليهم، والتي طالما كُررت في هذه الصفحات، تلخص في هذه الكلمات: اخضعوا، احتملوا، استسلموا، كونوا صابرين.

يجب أن نذكر بأنهم لم يكونوا يقدرون أن يعطوا إنذارا لترك مراكزهم كلما أرادوا. إن كانت لهم الحرية الكاملة ليفعلوا هذا عندما يقدرون على شرط أن يكون هذا بلا لوم، وبدون إتلاف للمهمة التي ائتمنوا عليها من الله أو من الناس. «إن استطعت أن تصير حرا فاستعملها بالحري» (1كو 7: 21). لكن هذا كان في حكم النادر، لم يكن أمامهم بديل -في أغلب الحالات- سوى أن يبقوا في أماكنهم إلى أن يريحهم الموت. لمثل هؤلاء كُتبت هذه النصائح الخاصة.

هنالك شعور قوي بعدم الراحة بين المستخدمين في المجتمع. فالخدم ينذرون بمغادرة أماكنهم. والشبان يسعون لتحسين مراكزهم. والرجال يتنقلون من عمل إلى عمل. وكقاعدة عامة يمكن القول أن هذه التغييرات المستمرة لا تجنى الكثير، حتى من الوجهة العالمية. أما الحياة الثابتة الهادئة التندة فهي التي تنجح بسرعة وتتنعم كثيرًا. ومع ذلك فإن التغيير ليس خطية، إن كان لا يتم لمجرد محبة الذات والأنانية، أو طمعًا في مكاسب عالمية.

عندما تُقدم الشهادة المسيحية بوضوح فتُرفض بوضوح، عندما يكون بقاؤنا في نفس المكان معثرًا بدلا من أن يكون بانيًا، عندما نحس بأننا نقدر أن نطلب من الله أن يفتح بابًا آخر فيجيب طلبتنا، عندما نستطيع أن نجد مركزًا آخر دون إتلاف للمصالح

التي اؤتمنا عليها، عندما نقدر بالتغيير أن نخدم خدمة أوفر الملكوت المسيح - عندئذ لا يكون هناك أي مانع من التغيير.

لكن، في كثير من الحالات، كما كانت الحال مع أولئك الخدم، لا يوجد مبرر كان لترك المركز الذي أقامنا الله فيه، قد تلقى كل يوم الظلم العنيف، والقسوة التي لا تحتمل، والكلمة السامة، والطبع المثير العياب، الذي لا يشبع من الشتيمة قط، ولا يريح قط. قد يكون هذا هو موقف الطفل مع أمه، أو الممرضة مع مريضها، أو الصبي تحت التمرين مع مخدومه، أو الزوجة مع زوجها. مثل هذه المراكز لا يمكن تغييرها، ويجب احتمالها إلى النهاية بعدما قبلناها.

هنا نجد النصيحة الإلهية: إذا شُتمت لا تشتم عوضًا، عندما تُلطم وأنت عامل الخير فلا تقابل غيرك بالمثل، عندما تُتهم كذبًا، أو تُعاقب زورًا وبهتانًا، فاحتمل بالصبر، هذه كلها تؤدي إلى حياة ليست فقط مماثلة لحياة من ترك لنا مثالًا لكی نتبع خطواته، بل أيضًا تبعث تأثيرًا قويًا فعالًا مخلصًا في أعنف مقاومي الإنجيل، كما أن الله يشتم منها رائحة زكية، ويعلن رضاه ومحبته.

هنا يشير الرسول إلى تصرفين:

 

1- اللطم بسبب الأخطاء

كلنا قد ارتكبنا أخطاء، ونعرف معنى التوبيخ والقصاص. وفي مثل هذه الظروف لا يكون لنا الحق في الشكوى. وأحسن خطة، عندما يكون هذا هو موقفنا، أن لا نلتمس لأنفسنا المعاذير، ولا نلوم الآخرين أو الظروف، ولا نتفوه بألفاظ تنم عن الغضب الشديد، بل لنتحمل كل شيء بالصبر. وإن كان لا بُد من أن نتكلم فلنعترف بأخطائنا، ونطلب الصفح.

في هذا الصدد قدم لنا المرنم العظيم مثلًا رائعًا. فإنه عندما كان نازلًا على منحدر جبل الزيتون متجهًا إلى الأرض، خرج رجل من بيت شاول يدعى شمعی، «وإذ كان داود ورجاله يسيرون في الطريق كان شمعی يسير في جانب الجبل مقابله ويسب وهو سائر ويرشق بالحجارة مقابله ويذرى التراب. فاغتاظ أبيشاي جدًا وطلب الإذن من الملك لكي يقطع رأسه. فقال الملك: «كلا دعوه يسب لأن الرب قال له سب داود» (2صم 16: 5-13).

كأنه أحس أن خطيته تستحق التوبيخ العلني، وبتواضع، اعتبر بأن الله إذ سمح لشمعي بأن يسبه كأنه قد قال له أن يسب. بمثل هذه الروح يجب أن نحتمل كل لطم يأتينا بسبب أخطائنا. اصمت. اجلس وحدك، واصمت. ضع فمك في التراب. حول خدك لمن يلطمك. الرب لن يرفضك إلى الدهور (مز 77: 7)، بل يردك إلى نفسه. اذكر فقط أنه لا يوجد في هذا ما تفتخر به، فهذا هو واجبك العادي. «أما الصبر فليكن له عمل تام لكي تكونوا تامين كاملين غير ناقصين في شیء» (يع 1: 4).

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

2- اللطم ونحن عاملون الخير

إن رؤساءنا، أو مخدومینا، قد يكونون شكسين، لا يسهل إرضاؤهم، كثیری الانتقاد. ومع أننا قد نبذل كل ما في وسعنا لإرضائهم، فإننا لا نلقى منهم إلا اللطم والتوبيخ. ومع ذلك ينبغي أن نقابل كل شيء بالصبر.

لا ضرر من أن نُبین بهدوء وأدب ظلم التهمة وعدم صحتها وعدم معقولیتها، أو نبين كيف قد بذلنا الجهد لكي نؤدی عملنا على أحسن وجه. عندما اتُهم الرب بإخراج الشياطين بالتحالف مع رئيس الشياطين، أوضح كيف أن هذه التهمة غير معقولة. وعندما لُطم، قال: «إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الردى. وإن حسنًا فلماذا تضربنی» (یو 18: 23). يجوز لنا جدًا أن نعطي ردًا هادئًا لينًا كهذا. أما إن لم يكف هذا لتحويل الغضب، فيجب أن نقابل كل شيء بالصبر.

احرص على أن لا يكون صبرك صبر الجُبْن والخنوع، ليس لنا فضل في هذا، بل لیكن مبعثًا من إرضاء الله. قَدِّم صبرك لله على المذبح الذي يقدس العطية، فيكون الباعِث على تقديم الذبيحة ثمينًا في عينيه. «هذا فضل عند الله». ويحمل النص اليونانی معنی كهذا: «يقول لك الله شكرًا». نعم هذا معقول. فإنه إن وُجد في بيت كبير خادم مسكين، أو إن وُجد في مدرسة تلميذ مضطهد واستطاع، من أجل الله، أن يكظم غيظه، ويحتمل الظلم، فإن قلب الله يتأثر جدًا، لدرجة أنه ينحني ويقول «شكرًا». إن البطل المكتشف قد تشكره بلاده وملكه، أما أضعف قديس خامِل الذكر فقد يتقبل الشكر من القدير.

نستطيع أن نحصل على نعمة الصبر هذه من اعتبارات كثيرة:

حتى وإن كان الاتهام خاطئًا وباطلًا، فقد كانت هناك فرص كثيرة في حياتنا نلنا فيها نصيبًا وافرًا من الشكر أكثر مما نستحق. فلعل هذا يعوض ذاك. هكذا يكون الشر في قلوبنا لدرجة أن جراثيم الخطايا، التي نسبت إلينا زورًا، تكون كامنة تنتظر الفرصة لإظهارها، وكان يمكن أن تظهر من قبل لولا نعمة الله.

وعلاوة على هذا ألا تنم هذه الرغبة -في الحصول على مدح الجميع واحترامهم- عن قلب عالمي؟ لذا نطلب مدح البشر؟ لو أعطى لنا ما نستحقه لأعطيت إلينا لطمات كثيرة بدلًا من مدح واحد. وإن كان المخلص الذي بلا شر ولا دنس قد صمت كنعجة أمام جازیها، وسط عاصفة من الإهانات التي أحاطت به، فخليق بنا أن نصمت، لأن هنالك أسبابا كثيرة تدعو إلى توبيخنا تبرر أشر ما قيل عنا، وأسوأ منها أننا نشبه مجرمًا يحسن به أن يحتمل بالصبر حكمًا صدر عليه من أجل جريمة لم يرتكبها، لئلا إذا كثر صياحه يعطي الفرصة لفحص عدة جرائم لم يُتهم بها، لأنها لم تُعرف.

وعلاوة على هذا ينبغي أن نعطف على مضطهدينا. أسفًا عليهم. إن حالتهم تحزن، تدعو إلى الرثاء، يقينًا إنهم يحتاجون إلى العطف لا إلى الغضب، إلى الرحمة لا إلى العنف. ولعل وداعتنا التي لا تعرف الشكوى تمس قلوبهم أكثر مما تفعله كلمات الحدة والغضب، كما فعلت تنهدات وتأوهات الشهداء الأولين إذ نخست ضمائرهم مضطهديهم، ودفعتهم إلى الرب.

وعلاوة على هذا فإنه أمر تافه أن يديننا الناس. إن مدحنا إنسان فماذا يفعل لنا مدحه؟ وإن لامنا فلا يكون لومه إلا نفخة في الهواء. الحياة قصيرة مهما طالت، والأبدية قريبة على الأبواب. وابتسامة الله، عندما نقترب من عرشه، تجعلنا شاكرين إذ تعرضنا لظروف التوبيخ التي أهلتنا لننال مثل هذا الأجر الجزيل.

أليس مفروضًا أن الله سوف يعلن حقنا بعد لحظة؟ نعم، سوف يعلن. «أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلًا وهو يتمهل عليهم؟ أقول لكم إنه ينصفهم سریعًا». (لو 18: 7-8) هو «سینیر خفايا الظلام» (1 كو 4: 5). «يخرج مثل النور برك وحقك مثل الظهيرة» (مز 37: 6). فمن ذا الذي، إذن، يعطي مكانًا للغضب طالما كان الرب قد قال: «لي النقمة أنا أجازی» (رو 12: 19). «فلنسلم أنفسنا لمن يقضي بعدل، كما فعل يسوع» (1بط 2: 23) وعندئذ نجد أنه أظهر حقنا، وجعل أعداءنا يعضون التراب، كما فعل هامان إذ قاد مردخای ممجدًا في شوارع شوشن.

 

3- بواعِث الاحتمال بالصبر

1- سوف يقول الله «شكرًا» كما سبق أن رأينا، وسوف تسمع النفس بفرح هذا الشكر يومًا ما عندما تقف في حضرته في ذهول، قائلة: «متى فعلت ما أستحق عليه كل هذا؟» وردًا على تذكر حوادث كثيرة تافهة ومنسية ظهر فيها اللطف والوداعة أثناء الإساءات والتوبيخ. ثم يقول الرب: «هذا ما رأيته فيك، یا بني، فسرني. مرحبا، نعم ما فعلت».

2- «لأننا لهذا دعينا» (1بط 2: 21). لم ندع قط لنفرح، ونخلص، ومجد، بل دعينا لنتألم كما تألم المسيح. كان هو رب البيت، لكنهم بصقوا عليه، ولطموه، وهزأوا به، وصلبوه. ومع ذلك«لم يهدد». ونحن قد دعينا لنتمثل به.

ولكي يزيد الرسول كلامه وضوحًا، استخدم كلمات يفهمها الأولاد. فإنه عندما كان المعلم اليوناني يعلم الكتابة، كان يكتب بحروف غير واضحة، وكان التلميذ يكتب فوقها. كان هذا هو فكر الرسول. ونحن قد دعينا لكي نتبع كل خطوة، ونسير وراءه في كل منحنی، وكل عطفة، وهكذا يرى العالم صورة حية من حياته. «تاركًا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته» (1بط 2: 21).

3- نحن ندرك أننا في الطريق المستقيم إلى وطننا. لقد اجتاز ربنا العالم تاركًا وراءه آثار خطواته. وفي غابة استراليا الكثيفة يشعل المرء النار في جذوع الأشجار، أو ينثر فروعها وراءه، لكي يعرف الطريق كل من يتبعه. هكذا عندما نقابل بالبغضة والتوبيخ، ليس من أجل أخطائنا، بل لأننا للمسيح، ونقدر بأن نحتمل بالصبر، فلنتأكد بأننا مقتفون آثاره، التي تقودنا إلى الموت ثم إلى مجد القيامة، إلى شاطئ نهر الحياة. «هؤلاء هم الذين يتبعون الحمل حيثما ذهب» (رؤ 14: 4).

وهل هذا الصبر میسور؟ نعم، ولكن ليس بقوتك الشخصية، بل هو موهبة من إله الصبر بالروح القدس. حدثنا الكتاب ثلاث مرات عن صبر يسوع الذي أحتمل التهديد والإساءات دون أن ينطق بكلمة تهدید. آه، یا لهذه النعمة العجيبة. وكل ما فعله لم يفعله من أجل نفسه فقط، بل من أجل كل الذين يؤمنون. وهو ينتظر أن نتمثل نحن به. فلنتمثل به في كل لحظات الغضب والغيظ، قائلين مع من قال: «هدىء ثورة غضبی یا حمل الله»، أو هامسين برقة: «هبني صبرك يا رب».

· هكذا ليت الروح القدس يرشدك إلى صبر يسوع المسيح.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

15: آثار الغنم

«لأنكم لهذا دعيتم. فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركا لنا مثالًا لكي تتبعوا خطواته. الذي لم يفعل خطية، ولا وجد في فمه مكر. الذي إذا شتم لم يكن يشتم عوضًا. وإذا تألم لم یكن يهدد. بل كان يسلم لمن يقضي بعدل. الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكی نموت عن الخطايا فنحيا للبر، الذي بجلدته شفيتم. لأنكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها» (1بط 2: 21-25).

 

«خراف ضالة». ألا تقدر أن تراها؟ لقد خرجت من ثغرة ضيقة في السياج، وجالت بعيدًا لترعَى في المراعي الجميلة التي أغرتها، فأفزعتها الكلاب وطاردتها، فهامت على وجهها، وسقطت في حفرة، أو ارتمت على الأرض منهكة، وصارت فريسة للأسد أو للذئب. صارت بعيدة عن الحظيرة، جريحة، مطاردة، منزعجة، لطختها الأقذار، تكاد تهلك، إلا إذا افتقدها الراعي. هكذا كنا كلنا. «كلنا كغنم ضللنا» (أش 53: 6).

كيف نستطيع أن نشكر راعي النفوس الأعظم، الصالح، لأنه لم يتركنا للمصير التعس، بل سعى وراءنا وسط شقوق الجبال، والأرض الشائكة، وفوق الصخور المدببة، وصار يبحث حتى وجدنا، وحملنا على كتفيه، وأعادنا إلى الحظيرة؟

«لكنكم رجعتم، الآن آمنين في حظيرته. ونحن نستمع إليه وهو يدعونا بأسمائنا. ونحمل اسمه موسومًا علينا. لا نخشى التعرض للتجارب، لأننا واثقون أنه «متى أخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها، والخراف تتبعه» (يو 10: 4).

لكن اتباعنا لراعي نفوسنا وأسقفها يتضمن الآلام. «فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته،» (1بط 2: 21). فخليق بنا أن نتأمل جيدا في هذه الآثار التي تقودنا إلى أسفل، إلى الطرق المظلمة قبل أن تقودنا إلى أعلى، إلى القمم العالية، إلى القيامة والصعود.

← انظر كتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

1- الآلام في مصير كل البشر. «الإنسان مولود للمشقة كما أن الجوارح لارتفاع الجناح» (أي 5: 7). العمل هو نصف الحياة، والألم هي النصف الآخر. نصف الكرة الأرضية يستنير بنور شمس العمل، والنصف الآخر في ظلال الآلام. الجميع يتألمون، إما في النفس أو في الجسد، في أشخاصهم أو في عائلاتهم، يتألمون مما يملكون أو مما لا يملكون. يتألمون من خبث زملائهم، أو من ضغائن الأرواح الشريرة، أو من حماقاتهم وأخطائهم.

لقد كابد يسوع كل هذه الآلام، ما عدا الآلام الأخيرة. لقد عرف معنی الجوع، والعطش، والتعب، والفقر، وضعف الجسد، والآلام الجسدية، والحزن من أجل وفاة الأحباء. كل هذه يكابدها الإنسان. هو يأكل خبزه بعرق وجهه. وبها تكون أخلاق المرء. وبها يتسلط على الطبيعة. ولأن الرب «وجد في الهيئة كإنسان» (في 2: 8)، فقد أحني رأسه الطاهرة الملكية ليحتملها. ومع أنه هو سيد الكل، وملك الكل، فقد اختار أن يُجرد نفسه من المادة، ولا يكون له أين يسند رأسه، لكي لا يقدر أي إنسان بشري أن يفتخر بكثرة آلامه، لأن ابن الله سبقنا في الآلام، وتفوق علينا فيها، «كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء» (عب 2: 17).

 

2- هنالك أيضًا آلام انفرد بها المسيح كنائب عنا وكمخلص. لقد شدد الرسول على هذه الناحية لأنها هي الأساس الجوهري لعلاقتنا بالله. فإنه «تألم لأجلنا». هذه تدل على أنه قبل على نفسه اللعنة ونتائج خطيتنا، لكی يعفينا منها إلى الأبد. ولكي يشدد الرسول على العمل الذي قام به المسيح كنائب عنا، اقتبس مرة أخرى من نبوة إشعياء، النبي الإنجيلي، التي فيها أعلن الروح القدس مقدمًا الناحية الكفارية في آلام الفادي (أش 53).

«الذي حمل خطايانا». هذه تعبر عن عمله الكفاري، كان اليهودي قديمًا يضع يده على رأس الذبيحة المهيأة للذبح نيابة عنه، وكان الحمل البرئ يحمل العبء، ويموت تحت حمله. هكذا حمل المسيح خطايانا في جسده على الخشبة. لم يكن تفكيره مقدمًا في التعذيب الجسدي المقترب هو الذي سبب حزنه في جثسيماني، أو فجر العرق كقطرات دم منه. بل كان هو ضغط خطايانا التي كانت قد بدأت فعلًا تضغط على قلبه الحنون، والتي انتهت بموته على الصليب.

لم يكابد أي متألم حزنًا كهذا. ولم يوجد له مثيل في تاريخ كل الأجيال، ولن يوجد. «ولكنه الآن قد أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه» (عب 9: 26). لم يحدث في تاريخ البشرية هذه المأساة سوى مرة واحدة، حيث ظهرت فيها هذه المحبة، إذ وُضعت على الحبيب خطایا ربوات لا يحصى لها عدد لكي يكفر عنها وتبطل إلى الأبد (أش 53: 6).

سوف لا نطيل التأمل في العبارة التي تؤكد ضرورة تقديم «جسده» لإتمام عملية الفداء. ذلك الجسد الذي وُلد بلا خطية «وحل فيه كل ملء اللاهوت جسديا»، والذي بدا عندما نزل في مياه الأردن في بداية الأمر كأنه حُسب مع الخطاة، مع أنه بلا خطية، كان هذا الجسد مسكنًا لله الذي هيأه له، والذي كان أداة استخدمها لينطق بكلمات مباركة كثيرة، ويتمم أعمالًا مجيدة - هذا الجسد جُعل ذبيحة خطية، وكأنه قد اُحرق بالنار خارج المحلة، كما كانت أجساد الثيران والتيوس تُحرق في عهد الناموس اللاوي.

كذلك سوف لا نطيل التأمل في «الخشبة» (17)، فنشبهها بالحطب الذي حمله إسحق على كتفيه إلى جبل المريا. لكن يكفي أن ندرك أن هذه الشجرة قد أصلت أصولها في عالمنا، وملأته بأغصانها المتفرعة، التي تتآوى فيها حتى طيور السماء - هذه هي شجرة الحياة الحقيقية، التي تملأ ثمارها كل الأرض، «وورق الشجرة لشفاء الأمم» (رؤ 22: 2).

ومع هذا، فهناك فكرة تستدعي انتباهنا قبل أن نتجاوز هذه التأملات. هي أن تلك الآلام التي انفرد هو بها، والتي لا نقوى نحن على احتمالها، والتي تتحدى كل إنسان في العظمة الفريدة، قد حررتنا من تحمل القصاص العادل، الذي نستحقه بسبب نقض وصايا الله. قد نلتزم بأن نتحمل النتائج الطبيعية لأخطائنا وقصاصاتها. فالسكير الذي تتجدد حياته يحمل إلى نهاية الحياة آثار إدمانه رغم غفران خطاياه ونجاته من قصاص غضب الله، بل حتى هذه الآثار قد تتحول إلى بركات بنعمة الله. فمن الآكل يخرج أكل، ومن الجافي حلاوة.

أما النتائج الأبدية لخطايانا، فقد حملها الرب نيابة عنا بآلامه. لقد أزالها عنا إلى الأبد إلهنا العظيم، وذلك في شخص الرب يسوع المسيح. ولأنه تألم بسببها، فلا حاجة بنا لكي نتألم نحن أيضًا بسببها. لأنه حملها فلا حاجة بنا لكي نحملها نحن أيضًا. لأن الجلدات العنيفة ألهبت ظهره، فلا حاجة بنا لكی نُجلد نحن أيضًا. «الذي بجلدته شفيتم» (1بط 2: 24).

كان العبيد الذين كتب إليهم الرسول يعرفون تمامًا معنى الجلد. والكلمة اليونانية تعني «الحبر» (18). لقد خرج المخلص من القبر حاملًا جروح جلدات كثيرة، جروحًا في يديه وقدميه وجنبه. لكن هذه الجروح إذ تحدثنا تملأ قلوبنا فرحًا جزيلًا.عندما «أقيم من الأموات راعي الخراف العظيم ربنا يسوع بدم العهد الأبدي» (عب 13: 20)، والتقى بأتباعه الجبناء في العلية «أراهم يديه وجنبه. ففرح التلاميذ» (يو 20: 20).

ونحن عندما نتأمل في الحمل، وكأنه مذبوح، وننظر هذه الآثار الثمينة، وآثار عمله الذي تممه عنا، فإننا نحن أيضًا نترنم ترانيم جديدة مثل الذين في السماء. هذه الجلدات هي ثمن فدائنا، ودليل شرائنا، وعلامة الغفران. ليت كل واحد منا يردد هذه الكلمات:«وهو مجروح لأجل معاصيَّ، مسحوق لأجل آثامي، تأدیب سلامي عليه، وبحبره شفيت» (أش 53: 5).

لكن موت المسيح له ناحية مزدوجة. فهو أولًا يتطلع إلى العدل الإلهي الذي قُدم إليه تكفيرًا لخطايانا الكثيرة. كل هذا تم دون أي تدخل من جانبنا نحن الذين تم من أجلنا.

ثم هو أيضًا يتطلع إلى الإنسان في النتيجة التي يعملها فيمن يدركون معناه الحقيقي. «لكی نموت عن الخطايا فنحيا للبر» 1بط 2: 24). هنالك اتفاق عجیب بين هذه العبارة وبين ما ورد في الأصحاح السادس من رسالة رومية. والواقع إننا نجد في هذه الكلمات تعليمًا من أقوى تعاليم الكتاب المقدس. فإننا في نظر الله نعتبر كأننا ممثلين في ربنا، حتى أن النبوات التي قيلت عنه يصح أن تنطبق علينا. فنحن قد متنا بموته، وقمنا بقيامته، ونجلس معه في مجده. وينبغي أن يكون القصد والهدف من حياتنا أن نحقق بالإيمان، وبالاختبار العملي، كل ما يختص بنا حسبما هو في فكر الله وقصده.. أنتم قد متم: «احسبوا أنفسكم أمواتًا» (رو 6: 11). وقمتم «اهتموا بما فوق» (كو 1:3 و2)، وأجلستم في السماويات. فاسلكوا كما يحق لدعوتكم العليا. بنعمة الله ينبغي أن يكون هنالك موت مستمر عن كل طلب يأتينا من الجسد، أو من العالم، أو من إبليس، كما ينبغي أن نلبي بالتمام كل الإيحاءات والطلبات التي تأتينا من الروح القدس التي تدعونا الحياة البر.

وآلام المسيح الكفارية تقتضي منا أن نتألم. فإننا يجب أن نسلم أنفسنا للموت كل يوم، يجب أن نحمل صليبنا ونتبعه، يجب أن نقع في الأرض لنموت. يجب أن يكون هنالك إنكار للذات باستمرار، يجب أن نتمثل الصليب أمامنا في كل أيام حياتنا، يجب أن نتشبه بموته، ونشرب كأسه، ونصطبغ بصبغة آلامه - كل هذه ضرورية للخلاص من محبة الخطية وقوتها، ذلك الخلاص ان الذي تممه من أجلنا.. بهذا نقدر أن نتبع خطوات فادينا.

 

3- آلام مَنْ لم يعرف خطية. لقد شهد الجميع بأن المسيح كان بلا خطية. لم يخل أي حمل أو ثور من العيوب كما كان هو خاليًا من كل عيب. فيهوذا الأسخریوطي، الذي كان يعرف دقائق حياة المسيح، صرح قائلًا: «سلمت دمًا بریئا» (مت 27: 4). وبیلاطس كرر مرارًا بأنه لم يجد فيه علة. والتهمة الوحيدة التي وجهها إليه الكهنة هي أنه ادعى الألوهية. «الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر» (1بط 2: 22). لم يقل نعم ولا، «لأن مهما كانت مواعيد الله فهو فيه النعم وفيه الأمين» (2كو 1:19 و20). «هو الشاهد الأمين الصادق» (رؤ 1: 5، 3: 14).

وكم كان جميلًا جدًا صمته أمام متهميه. فقد صمت أمام السنهدریم، بينما كان شهود الزور يتقدمون في فشل مخز. وصمت أمام هيرودس، لدرجة أنه لم ينطق بكلمة منذ دخوله قصره إلى خروجه منه، إشارة إلى صمت الله أمام الذين أغلقوا قلوبهم أمامه. وصمت أمام بیلاطس إلا عندما عبر ذلك المسكين عن أفكار وآراء تنم عن خبث قلبه. صمت في دار الولاية، صمت على الصليب، إلا في بعض كلمات للبركة وللصلاة.

وكيف كان أمرًا محتمًا أن قداسته، رغم صمتها وعدم شكواها، التي لم لا تصارع ولم تصرخ، ولم يُسمع في الشوارع صوتها، تصطدم مع روح عصره، وفي هذا الاصطدام تألم آلامًا مريرة. كما أن الشمس المشرقة تبعث الروائح رنا الكريهة من البركة الراكدة، هكذا كان وجود يسوع بين البشر، إذ أظهر الشر الكامن في قلوبهم ولا بد أن هذا الشر كان في حد ذاته باعثًا على ألم مرير لشخصه الحساس جدًا، والرقيق جدًا، والطاهر جدًا. بقدر ما يزداد التقدير للموسيقى المتناسقة النغم، يزداد النفور من النغم غير المتناسق.

هل تستطيع أن تحصى عناصر الألم التي كانت في كأس المسيح؟ لقد كان البشر، الذين جاء لأجلهم، منحدرين جدًا في الخطية، حتى اضطر أن يتنفس جوهم المدنس بعكس جو العالم الذي أتى منه. لقد أحتمل الإساءات والاتهامات من شعبه، لقد عومل كمجنون ومختل العقل، لقد اضطر أن «يحتمل من الخطاة مقاومة لنفسه» (عب 12:3)، لقد قاومه وأبغضه أولئك الذين اشتاق أن يخلصهم، لقد تعرض لتجارب البشر والشياطين. ومع ذلك فليست هذه كلها هي آثار آلامه الدموية، التي أشار إليها هذا الشاهد العيان لآلام المسيح.

في كل هذا «لنا مثالًا لكی نتبع خطواته». ولا بد أن نجتاز الكثير من هذه الاختبارًات. عندما نتمثل بالمسيح، فإننا يجب أن نجتاز نفس الخطوات، ونعامل بنفس المعاملة التي عومل بها. لن يعطف علينا العالم الذي عامل السيد بمنتهی القسوة. وبقدر ما نحيا بروح المسيح، سوف نصطدم مع روح العالم، ونتألم بسبب عدم ملاءمته لأقدس غرائز النفس.

توقع بأن تُشتم وتُلطم، يسيء الناس فهمك ويصورونك على غير حقيقتك، تُنبذ وتُصلب، كما احتمل ربك. لا يمكن أن تتوقع الغنم مصيرًا أفضل من مصير الراعي، فإنهم يعرفون أنهم يتبعون آثاره، عندما يلتزمون بأن يتبعوا آثاره في الآلام والأحزان.

لكن النهاية مجيدة عندما يتجمع كل القطيع على جبال الأبدية، «إن كنا قد متنا معه سنحيا أيضًا معه. إن كنا نصبر(19) فسنملك أيضًا معه» (2 تی 2: 11-12). «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربی، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا» (لو 22: 28-29).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(10)  «الاغتياب» حسب ترجمة اليسوعيين والترجمة الإنجليزية.  

(11)  «حجر صغير» حسب الترجمة الإنجليزية.  

(12)  المقصود هنا المؤمنون، فالمؤمن إذ يقدم عبادته الفردية أو العائلية، يقدم ذبيحة روحية (رو 12: 1). وهذا لا يغني عن إقامة كهنة رسميين متخصصين لخدمة الشعب وإتمام الطقوس الكنسية (المعرب).  

(13)  «عرشه» حسب ترجمة اليسوعيين والترجمة الإنجليزية.  

(14)  «إذ هم ينكرون الرب (أو«السيد» حسب الترجمة الإنجليزية المنقحة) الذي اشتراهم» انظر أيضًا (2 تی 2: 21، يه 4، رؤ6: 10).  

(15)  «أميرًا» حسب الترجمة الإنجليزية.  

(16) في (يو 17) تحدث المسيح ست مرات عن الذين أعطاهم له الآب قائلًا: «الذين أعطيتني».

(17)  «الشجرة» حسب الترجمة الإنجليزية.  

(18)  ولهذا قيل في (أش 53: 5) «وبحبره شفينا» وفي الترجمة الإنجليزية «وبجلداته شفينا». والحبر هي الآثار المتخلفة عن الجلدات.  

(19)  «نتألم» حسب الترجمة الإنجليزية.  

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

← تفاسير أصحاحات بطرس الأولى: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/f-b-meyer/peter1/chapter-02.html

تقصير الرابط:
tak.la/whgfd7r