الإنسان الروحي هو شخص مستقر في هدفه وفي وسائله. له هدف واضح ثابت لا يتغير. وقد ركز كل اهتمامه بهذا الهدف. وأصبح يتجه نحوه على الدوام، بكل طاقاته وكل رغباته، لا يتحول عنه. وكل وسائله توصل إليه. إنه مثل سهم البوصلة يتجه دائمًا في اتجاه واحد مهما حركت وضعه أو موضعه.
إنه إنسان راسخ ثابت لا تغيره تطورات الأيام والظروف الخارجية.
وقد صدق ذلك الأديب الروحي حينما قال عن الرجل الحق إنه "يتطور دون أن يتغير. ويكبر دون أن يتكبر. ويحتفظ بثباته في وثباته). أما الإنسان الضعيف فإنه متزعزع: خبراته في الحياة، وصدماته وتجارية وضيقاته وظروفه، تجعله يغير خط مسيرته ويتحول عنها. وقد يتحول نتيجة لإغراءات أو لمخاوف، أو لدنيا قد تفتحت أمامه...
وهكذا كثيرون بدأوا بالروح، وكلموا بالجسد. بدأوا بالله وكلموا بالعالم.
كم من أناس عرفناهم، وكان يبدو أن لهم هدفًا روحيًا وحاليًا لا وجود له ولا لهم، دوامة العالم جرفتهم وجرفت روحياتهم، فساروا مع التيار... وليس في جيلنا فقط، بل إن الكتاب المقدس يقدم لنا أمثلة عجيبة من شخصيات بدأت ولم تكمل. أو أن هدفها انحراف في الطريق ولم تثبت عليه. ولعل من أمثلة هؤلاء ديماس مساعد الذي قال عنه: بولس الرسول
"ديماس تركني لأنه أحب العالم الحاضر" (2تي4: 10). والذي حدث لديماس، حدث أيضًا لكثيرين قال عنهم القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبي "لأن كثيرين ممن كنت أذكرهم لكم مرارًا، والآن أذكرهم أيضًا باكيًا، وهم أعداء صليب المسيح. الذين نهايتهم الهلاك... ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات" (في3: 18، 19).
كل هؤلاء كانوا أصدقاء الرسول العظيم، وكلن لهم ماض مجيد في الخدمة.
كان لهم هدف روحي عاشوا به فترة، ولم يثبتوا عليهم. وربما لأن أشياء أخرى دخلت قلوبهم إلى جوار الله. وبمرور الوقت سيطرت عليهم. وربما أرادوا أن يجتمعوا بين الله والعالم في نفس الوقت. ويعيشوا مع سارة وهاجر في نفس البيت. أو مثل لوط البار الذي أراد أن يجمع بين محبة الله ومحبة الأرض المعشبة في سدوم.
إن شمشون بدأ حياته كنذير للرب، وكان روح الرب هو الذي يحركه (قض13: 25). ثم ماذا بعد؟
دخلت رغبات إلى قلب شمشون بجوار الرب، ففارقه الرب (قض16: 20).
لا يكفي إذن أن يكون هدفك هو الرب. إنما يجب أن تظل محتفظًا بهذا الهدف ولا تسمح لأهداف أخرى أن تدخل إليك، لأنك لن تستطيع أن تجمع بين نذرك ودليله في آن واحد، مهما ظننت حكيمًا.
هوذا سليمان أحكم أهل الأرض يعطينا نفسه مثالًا: لقد بدأ بهدف روحي، ما في ذلك شك. وتراءى له الله مرتين، ووهبه الحكمة. ومع ذلك أراد أن يجمع بين الله والمتعة ففشل. وفقد هدفه الروحي وسقط (1مل 11)...
سليمان الحكيم يسقط؟ يا للمأساة... كل ذلك لأن الهدف تغير، أو دخلت إلى جواره أهداف أخرى، فجرفته. أما الذين ثبتوا على هدفهم، فقد استمروا سائرين في ثبات نحو الله.
انظر إلى مياه الطوفان، ماذا فعلت. وتعلم منها درسًا...
مياه الطوفان غَطَّت الأرض كلها. حتى أن القمم العالية أيضًا غطتها المياه. أما الفلك فلم تؤذه المياه في شيء، بل سار فوقها، لأن هدفه هو الله. ولا شك أن الله كان داخله ويقوده حقًا إن الهدف الصالح يعطي حياة وحيوية وقدروه على السير في اتجاه الله. كما يعطي قدرة على مقاومة كل التيارات المضادة وصاحب الهدف الثابت لا تجذبه التيارات المضادة، لأن أرادته ثابتة فيه.
إن سمكة صغيرة جدًا تستطيع أن تقاوم التيار، وتستمر في مسيرتها، لأن فيها حياة، وفيها إرادة تحركها بينما كتلة ضخمة من الخشب يجذبها التيار حيثما يشاء لأنها بلا حياة وبلا هدف...
لقد خرج
بنو
إسرائيل من عبودية
فرعون،
ونجوا من الهلاك المهلك، وعبروا
البحر الأحمر. وكانت بداءة طيبة ولكن لم يكن لهم
هدف روحي ثابت، فهلكوا في
برية سيناء،
على الرغم من أنهم كانوا يقتاتون
بالمن والسلوى
وسحابة الله كانت تظللهم ربما هدفهم كان ذاتهم فتذمروا على الله، خرجوا
بأجسادهم من عبودية
فرعون، ولكن كانت هناك عبودية أخرى داخلهم لم يخرجوا منها...
فهلكوا.
كان الهدف السليم عند موسي النبي وليس عند بني إسرائيل.
فلم يستطيعوا أن يستمروا في مسيرتهم معه، على الرغم من كل العبادات الطقسية التي كانوا يقدمونها. إن القلب الذي لا يعطي ذاته لله عطية كاملة حقيقية بهدف سليم، ما أسهل عليه أن يكسر كل عهد يبرمه مع الله فلا يحافظ على عهوده، ولا على وعوده، وينحرف إلى أهداف سطحية تافهة لا تغنيه شيئًا...
وبنفس الوضع خرجت امرأة لوط من سادوم. وقلبها لا يزال فيها.
لم يكن خروجها من أرض الخطية خروجًا حقيقيًا من القلب، ولم يكن من أجل الله. كانت يدها في يد الملاك الذي أقتادها إلى خارج المدينة المحترقة مع أسرتها. أما قلبها فكان يحترق شوقًا إلى ما هو داخل المدينة... عجيبة هذه المرأة. لم تهلك داخل سدوم، إنما بعد أن خرجت منها. وهكذا هلكت وتحولت إلى عمود ملح.
صار موتها ملحًا للعالم، أي درسًا روحيًا في خطورته النظرة إلى الوراء.
الذي له هدف حقيقي ثابت في الله، لا ينظر مطلقًا إلى الوراء أثناء سيره مع الله، وإلا تعرض لتوبيخ إيليا النبي الذي قال "حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟ إن كان الله هو الله فاتبعوه. وإن كان هو البعل فاتبعوه" (1مل 18: 21).
إن كان هدفك هو الله، فلا تكن قلبين، ولا تكن مترددًا.
مشكلة يهوذا الإسخريوطي كانت هذه: يجلس مع السيد المسيح على مائدة واحدة، ويأكل معه من نفس الصفحة. وفي نفس الوقت كان يتفق ضده مع شيوخ اليهود وقادتهم. فكان "تلميذًا" للرب هدف. يقبل السيد ويسلمه إلى أعدائه في نفس الوقت. عاش المسكين بلا هدف. فكانت حياته ثقلًا عليه وعلى الجميع، فهلك.
إن نيقوديموس بعد أن عرف الرب معرفة حقه، لم يستطيع أن يستمر صديقًا له وعضوًا في مجمع السنهدريم في نفس الوقت...
حنانيا وسفيرة أرادا أن يجمعا بين الهدفين معًا... فلم يستطيعا، وهكذا...
أرادا الاحتفاظ ببعض المال حرامًا. بينما يظهران أمام الجميع كعضوين في جماعة أولاد الله الذين يضعون كل أموالهم عند أقدام الرسل. فلا كسبا المال، ولا كسبا عضوية الكنيسة. لم يكن لهما الهدف الروحي النقي الثابت الذي لا يعرج بين الفرقتين...
صورتهما تشبه صورة بيلاطس، الذي أراد أرضاء ضميره وإرضاء اليهود في نفس الوقت. ولما فشل غسل يديه بالماء، دون أن يغسل قلبه من الداخل.
كان الشاب الغني يريد أن يجمع الهدفين معًا. وإذ كشفه فاحص القلوب. مضى حزينًا.
إنه يسأل عن الحياة الأبدية وكيفية الوصول إليها، كأنه صاحب هدف صالح يسعَى إليه. أما قلبه فكان يحب العالم الحاضر، على الرغم من أنه حفظ الوصايا منذ حداثته... (متى 19: 16-22). وإذا كشف له الرب الداء الذي فيه، ودعاه إلى أن يكون صاحب هدف واحد، ويتخلَّى عن الآخر... مضى حزينًا.
وسيمضي حزينًا مثله كل من يحاول أن يضع إلى جوار الله هدفًا آخر.
كثيرون يقولون إن الله هو هدفهم، وفي نفس الوقت يريدون أن يدخلوا من الباب الواسع. والباب الواسع لا يوصل إلى الله مطلقًا، "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله" (أع14: 22).
والذين يجعلون الله هدفهم، ينبغي أن يتألموا من أجله، ويبذلوا ذواتهم من أجله، عالمين أن تعبهم ليس باطلًا في الرب، وكما قال الكتاب "كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه" (1كو2: 8).
هؤلاء استقروا على هدفهم الروحي، بكل ثبات لا يغيرونه.
لقد اختاروا الله هدفًا لهم، بغير ندم ولا تردد، وبغير إعادة تفكير، وبغير النظر إلى الوراء. لم يعودوا يفحصون الأمر من جديد، أو يتساومون مع الشيطان. إن خط حياتهم واضح أمامهم لا يتغير. استقروا عليه منذ زمان، ولا يعد موضوع نقاش. وكما قال القديس بولس الرسول:
"إذن يا أخوتي الأحباء. كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب كل حين. عالمين أن تعبكم ليس باطلًا في الرب" (1كو15: 58).
إنهم لا يعيشون حياة صراع بين الخير والشر، أو بين الله والعالم.
فالصراع يعني عدم استقرار. أما هؤلاء، فلهم خط واضح لا تردد فيه، ولا انحراف عنه يمنه ولا يسره. يسيرون بقلب مع محبة الله. بل إن الله صار هو شهوتهم الوحيدة التي تملأ قلبهم تمامًا ولا يبقى فيه شيء لغيرها.
وسنضرب أمثلة لهؤلاء الثابتين:
إن قصص الثابتين تعطينا فكرة عن الثبات في الهدف الروحي.
هؤلاء تركوا حياة الخطية إلى الأبد، وما عادوا يرجعون إليها مرة أخرى نسمع مطلقًا أن القديس أوغسطينوس عاد إلى حياة الخطية بعد توبته، ولا عاد القديس موسى الأسود إلى ما كان عليه أولًا. ولم نسمع أن القديسة مريم القبطية أو القديسة بيلاجية πελαγία عادتا إلى الخطية بعد توبتهما.
فهؤلاء بعد أن صار الله هدفًا لهم تغيرت حياتهم تمامًا بلا أية ردة أو رجعة أو أية نظره إلى الوراء.
إنما استأصلوا الخطية تمامًا من قلوبهم.
تمامًا في جدية كاملة، وفي أمانة عجيبة لله الذي اختاروه. مثل الذي يجري الكل، وبقي ولو شيء مثل شعره، سيعود ويتضخم ويصير أسوأ مما كان... ولهذا فإن الذي يقول إنه تاب، وهو لا يزال يقع ويقوم، ويقع ويقوم، هذا لم يتب بعد، وهدفه ليس واضحًا أمام عينيه وكما يقول الشاعر:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه
إن التوبة ليست مجرد أجازة [عطلة] من الخطية بحيث يمكن أن يعود الإنسان إليها مرة أخرى. إنما هي قطع كل صلة بها إلى الأبد، بكل تصميم، وبكل حب له. وكما قال أحد القديسين في تعريف التوبة أنها "استبدال شهوة بشهوة" أي أن شهوة الإنسان بالنسبة إلى العالم تنتهي، لتحل محلها شهوة الحياة مع الله، وتصبح هدف الإنسان من حياته. وبهذا تحول أولئك الخطاة ليس فقط إلى تائبين وإنما صاروا قديسين.
ساروا في تصميم شديد لدرجة تنفيذ قول الرب: إن أعثرتك عينيك فاقلعها والقها عنك... وإن أعثرتك يدك اليمنى فاقطعها والقها عنك (متى5: 29: 30). مثال آخر في التصميم على الهدف الروحي: سلوك الشهداء.
كان هدفهم الوحيد هو الله والحياة معه في الأبدية السعيدة، لذلك ساروا وراءه بكل قلوبهم حتى إلى الموت ولم يبالوا بإغراءات ولا بتعذيب. ولم يستطيع شيء من كل هذا يحول قلوبهم الثابتة في الرب. كما قال بولس الرسول "مَن سيفصلنا عن محبة المسيح؟... إني متيقن أنه لا موت ولا حياة... ولا أمور حاضره ولا مستقلة، ولا علة ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رو8: 35-39).
مثال آخر للتصميم على الهدف الروحي، هو الدعوة الإلهية:
إبراهيم أبو الآباء، لما دعاه الرب أن يترك وطنه وأهله وعشيرته، ويمضي إلى الجليل الذي يريه، لم يتردد بل خرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب (عب11: 8) لم تكن الأرض ولا العشيرة هي هدفه، إنما هدفه هو الله الذي من أجله يترك كل شيء...
كذلك لما أمره الرب أن يقدم ابنه وحيده ذبيحة، لم يتردد مطلقًا، ولم يفكر، ولم يدخل في صراع داخلي. إنما بكر صباحًا جدًا وأخذ ابنه، ومعه الحطب والنار والسكين. لم يكن الابن هو هدفه، وإنما الله هو الهدف.
وكذلك قال الرسول "لما سُرَّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته... للوقت لم استشر لحمًا ولا دمًا، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين كانوا قبلي" (غل 1: 15-17).
إن الهدف الإلهي يحتاج إلى تصميم.
فالشيطان إذا وجد فينا إرادة مترددة غير حازمة في علاقتنا مع الله، إرادة زئبقية تتموج ولا تثبت على حال يعرف أن عودنا طري، يمكنه أن يحصره ويعصره. فلنكن راسخين في محبتنا لله. ولا نضع هدفًا إلى جواره... له المجد من الآن وإلى الأبد آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/mwg76zw