النبي هو من يتكلم أو يكتب عما يجول في خاطره، دون أن يكون ذلك الشيء من بنات أفكاره، بل هو من قوة خارجة عنه - قوة الله عند المسيحيين والعبرانيين والمسلمين، وقوة الآلهة المتعددة عند عباد الأصنام الوثنين. وقد عرف النبوات المزيفة، أي أنبياء الآلهة الوثنية، معظم اتباع تلك الآلهة من عباد الأصنام، مثل الاشوريين والكلدانيين والمصريين والفينيقين واليونان والرومان، وكان الكهنة كثيرًا ما يقومون بالنبوة بطرق مختلفة. وكان الناس يؤمنون بكلامهم ويستشيرونهم في كل أمور حياتهم. وعليهم كانت تتوقف الفتوحات العسكرية والقرارات السياسية. وكانوا كالعرافين والمنجمين ومدعي الغيب اليوم.
وعنت النبوة عند اليهود الإخبار عن الله وخفايا مقاصده، وعن الأمور المستقبلية ومصير الشعوب والمدن، والأقدار، بوحي خاص منزل من الله على فم أنبيائه المصطفين. وعرف العهد القديم عددًا كبيرًا من الأنبياء. وكان محور نبواتهم عن مجيء المسيح، وعن التمهيد لمجيئه، وعن الشريعة الموسوية ومصير اليهود والشعب المتعاملة معهم والمجاورة لهم. وتكاثر عدد أنبياء حوالي القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وخاصة في الرامة (1 صم 19: 19-24). وكان همهم تقوية الإيمان بالله وتشجيع اليهود على الصمود في وجه الفلسطينيين وأصنامهم. وأطلق على طلاب تلك المدارس اسم أبناء الأنبياء. وكان صموئيل من أبرزهم، حتى قرن اسمه بموسى وهارون (مز 99: 6؛ إر 15: 1؛ أع 3: 22-24). وتأسست لبني الأنبياء مدارس أخرى، في بيت إيل وأريحا والجلجال وغيرها (2 مل 2: 3، 5؛ 4: 38؛ 6: 1). وكان رئيس المدرسة يدعى أبًا وسيدًا (1 صم 10: 12؛ 2 مل 2: 3) وكانت مناهج المدارس تشتمل تفسير التوراة وتعلم الموسيقى والشعر. ولذلك نمت في تلك المدارس موجة الشعر والغناء واللعب على آلات الطرب عند التلاميذ (خر 15: 20؛ قض 4: 4؛ 5: 1؛ 1 صم 10: 5؛ 2 مل 3: 15؛ 1 أخبار 25: 6). وكانت معيشتهم في منتهى البساطة وكانوا يتعودون على التقشف والاكتفاء بالقليل والتنسك وقبول الإحسان البسيط (1 مل 17: 5-8؛ 2 مل 4: 8-10، 38؛ مت 3: 4). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس الكتاب المقدس والأقسام الأخرى). وكان الله يختار من بين هؤلاء التلاميذ عددًا ويقبلهم أنبياء له ليعلموا الشعب بما يريده منهم ويختصه بوحيه. إلا انه كان بين الأنبياء من لم يدخل تلك المدارس، أمثال عاموس (عا 7: 14). وكان أنبياء الله يواجهون أنبياء مزيفين للأصنام والهياكل الوثنية - نذكر منهم الثمانمئة وخمسين نبيًّا للإله بعل الفينيقي والآلهة أشيرة أيام الملكة إيزابل الفينيقية الأصل (1 مل 18: 19). كما كانوا يواجهون الأنبياء الكذبة عند اليهود أنفسهم، من أصحاب الأرواح الشريرة في نفوسهم.
كان الأنبياء من عِماد الحياة في المجتمع العبراني. وكانوا، مع الحكماء والكهنة، مستشاري الدولة ومقرري مصائرها زمن السلم وفي الحروب (إر 18: 18) فقد أرسلهم الله ليعلنوا مشيئته وليصلحوا الأوضاع الاجتماعية والدينية (2 مل 17: 13؛ إر 25: 4) وليخبروا الشعب عن المسيح الآتي لتخليص العالم. وكان لهم اثر كبير في توجيه الشعب نحو الحق. والحقيقة أن الأنبياء أسهموا إسهامًا كبيرًا في تأسيس الدولة اليهودية في العهد القديم وفي صراعها مع الفلسطينيين والسوريين. وكانت نبواتهم على أنواع، كالأحلام (دا 2) والرؤَى (اش 6؛ خر 1) والتبليغ (1 مل 13: 20-22؛ 1 صم 3).
والعهد القديم سَجَّل للنبوات والأنبياء. وهو يعرف النبوة بالإنباء عن الحوادث المستقبلة (تك 49: 1؛ عد 24: 14) التي يكون مصدرها الله (إش 44: 7؛ 45:21) وهو يصف الأنبياء بأنهم مقامون من عند الله (عا 2: 11) ومعينون منه (1 صم 3: 20؛ ار 1: 5) ومرسلون من عنده (2 أخبار 36: 15؛ إر 7: 25)، ويحذر العهد القديم من الأنبياء الكذبة (تث 18: 20؛ ار 14: 15؛ 23:15؛ عد 22؛ حز 13: 17-19)، ويصفهم بأنهم يدعون بأنهم مرسلون من عند الله (إر 23)، وإنهم مرسلون من عند الله فقط لامتحان الشعب (تث 13)، وأنهم مسوقون بالأرواح الشريرة (1 مل 22: 21).
حنة النبية (بنت فنوئيل)
النبيات بنات فيلبس المبشر (أعمال الرسل 21)
الثابت أن الكتاب المقدس يعتبر أن النبي هو من يتكلم بما يُوحى به إليه من الله، فأقواله ليست من بنات أفكاره، ولكنها من مصدر أسمى . والنبي هو في نفس الوقت “الرائي“ الذي يري أمورًا لا تقع في دائرة البصر الطبيعي، ويسمع أشياء لا تستطيع الأذن الطبيعية أن تسمعها. فكلمتا “النبي“ و“الرائي“ مترادفتان (1 صم 9: 9). أما من يتكلمون “برؤيا قلبهم لا عن فم الرب“ “فمن تلقاء ذواتهم.. الذاهبين وراء روحهم، ولم يروا شيئًا “فهم أنبياء كذبة" و"الرب لم يرسلهم" (إرميا 23: 16-18؛ حز 13: 2-7). فالأنبياء الحقيقيون إنما يتكلمون بما يضعه الله في أفواههم، أو يكشفه لبصائرهم الروحية (ارجع إلى إش 2: 1)، فليس من الضروري أن يأتي كلام الرب للنبي بصوت مسموع لأذنه الطبيعية. ولكن الأمر الأساسي هو أن يكون قادرًا تمامًا على التمييز بين صوت الله وصوت قلبه أو أفكاره الذاتية. فبهذا وحده يستطيع أن يقول إنه يتكلم باسم الرب أو "هكذا قال السيد الرب" (حز 4: 16؛ 7: 1). وفي هذا الحال يدرك أنه لا بُد أن يتكلم، كما يقول عاموس النبي: الأسد قد زمجر، فمن لا يخاف؟ السيد الرب قد تكلم، فمن لا يتنبأ؟" (عا 3: 8)، لأن كلمات الرب تشتعل في قلبه "كنار محرقة" إلى أن ينطق بها (إرميا 20: 7-9).
إن القوة الإلهية التي تحل على كائن بشري، وتجبره على رؤية أو سماع أشياء، تظل بدون ذلك مخفية عنه، هذه القوة هي التي يعبر عنها " بالوحي "، فيقال مثلًا: “ فكان عليه روح الله “ (عد 42: 2)، أو “ حل عليه روح الله “ (حز 11: 5) ؛ أو “ كانت عليه يد الرب" (2 مل 3: 15؛ حز 1: 3؛ 3: 14، 22)، أو “لبسه روح الله” 2 (أخ 24: 20)، أي أن روح الله ملأه، أو “استقرت” روح الله عليه (2 مل 2: 15؛ إش 11: 2؛ 61: 1)، أي حلت حلولًا دائمًا. أو “جعل الرب روحه عليه“ (عد 11:29)، أو " وضع الرب روحه عليه " (إش 42: 1)، أو " يسكب روحه عليه" (يو 2: 82). ولكن لم يكن الوحي يلغي وعي من يتلقاه، أو شخصيته، فيصبح مجرد آلة تسجيل، بل يكون متلقي الوحي في كامل وعيه، ويستطيع فيما بعد أن يصف كل ما حدث وصفًا دقيقًا، فالله هو الذي أعد النبي لتلقي الوحي، وزوده بكل المواهب والقدرات والخبرات اللازمة لنقل أقوال الله، وتدوينها كما وصلت إليه بكل أمانة ودقة.
من بعض الوجوه، يمكن اعتبار الأحلام ظاهرة مشابهة، حيث أن الأفكار الكامنة في النفس، تبرز دون سلطان للوعي أو للعقل عليها، ولكن من الجانب الآخر، يختلف الوحي عن الأحلام اختلافًا جوهريًا، وذلك لأن ما ينطق به النبي يتلقاه وهو في تمام الوعي، كما أن النبي يتكلم بسلطان وبيقين كامل بأنه يتلقى كلامه من الله ذاته. ونقرأ في نبوة إرميا عن الفرق الواضح بين هذين الأمرين، فيقول الرب لإرميا: "قد سمعتُ ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين: "حلمت حلمت". "حتى متى يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب، بل هم أنبياء خداع قلبهم، الذين يفكرون أن يُنسُّوا شعبي اسمي بأحلامهم ... ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟" (إرميا 23: 25-28). فالفرق بين الأحلام والوحي هو كالفرق بين التبن والحنطة.
لأن لروح الله مطلق الحرية، فهو يختار أدواته حسبما يشاء من كل مكان أو عمر أو جنس، فهو غير مقيد بطبقة كهنوتية أو بهيئة معينة. لقد حدث في بعض الأوقات أن النبي كان يجمع حوله عددًا من التلاميذ يمكن أن يصبح بعضهم أنبياء (2 مل 2: 10)، ولكن النبوة كانت على الدوام موهبة خاصة، يهبها الله لمن يشاء بسلطانه المطلق. ويعلن عاموس النبي هذه الحقيقة بكل قوة : "لست أنا نبيًا ولا أنا ابن نبي، بل أنا راع وجاني جميز، فأخذني الرب من وراء الضأن، وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل" (عا 7: 14، 15)، فهو نفسه لم يختر أن يكون نبيًا، كما لم يكن تلميذًا لنبي، ولكن الرب دعاه رأسًا من عمله اليومي كراع وجاني جميز. وفي نفس الوقت نجد أن بعض الأنبياء كانوا ينتمون للسلك الكهنوتي مثل إرميا، وحزقيال وغيرهما. ولكن من الحق أيضًا أن عددًا أكبر لم يكونوا ينتمون لهذا السلك.
ثم إن العمر لم يقف حائلًا دون دعوة الله للنبي، فصموئيل دعاه الله لذلك العمل وهو في صباه المبكر (1 صم 3: 1-21)، كما لم يكن العمر حجة لإرميا، إذ قال للرب إنه " ولد " (إرميا 1: 6). كما أن روح الله كان يحل -من وقت لآخر- على امرأة، ولو أن ذلك لم يكن بالكثرة التي كانت للنساء النبيات في الديانات الوثنية . بل حدث في بعض الأحيان أن حل روح الله -استثناء- على أشخاص لم تكن لهم علاقة قلبية صحيحة بالله، مثلما حدث مع شاول الملك (1 صم 10: 11؛ 19: 24)، وبلعام (عد 23؛ 24)، وقيافا (يو 11: 51). ولكن كانت القاعدة هي أن يختار الله البعض من آلاته لخدمة متواصلة، فكان يدعوهم ويكرسهم لهذا الغرض بأسلوب خاص مثل موسى (خر 3: 1 - 3) وأليشع (1 مل 19: 16-21)، وإشعياء (إش 6)، وإرميا (إر17)، وحزقيال (حز 1)، فقد كانت تلك لحظات حاسمة في حياتهم، وكانت أساس خدمتهم . ولكن في كل حالة كان النبي يحصل على استنارة داخلية خاصة. ولم يكن النبي يتكلم بالوحي في كل وقت، فقد تكلم ناثان النبي مؤيدًا فكرة داود الملك في بناء بيت للرب، لكنه اضطر للعودة إلى داود ليسحب كلامه الذي تكلم به من نفسه (2 صم 7: 3-13). ويشرح إرميا كيف استقبل كلام الرب، فقد وجد ذلك للفرح في البداية (إرميا 15: 16، 17؛ 20: 7 - 18؛ ارجع أيضًا إلى حز 3: 3)]، ولكنه بعد ذلك فقد لذته في الحياة وتمني لو أنه لم ينطق بما قال، وهو ما لم يكن في استطاعته (ارجع أيضًا إلى رؤ 10: 8-11).
ما أكثر المحاولات التي بذلت لتفسير النبوة على أساس أنها نتيجة طبيعية لعوامل بشرية محضة، فاعتبر علماء اللاهوت العقليون أن الأنبياء ما هم إلا معلمون دينيون متحمسون، مثلهم مثل القادة الوطنيين والزعماء السياسيين، لا يمتازون إلا بقدرة قوية على التخمين بالمستقبل على أساس استقراء الحاضر. ولكن لا يمكن أن يكون هذا تفسيرًا للحقائق التي تتضمنها النبوات. لقد كان الأنبياء أنفسهم يعلمون تمامًا أن نبواتهم لم تكن من بنات أفكارهم، فقد تكلموا بأمور تقع خارج آفاق قدراتهم الطبيعية، بل والتي كانت تناقض كل الاحتمالات القائمة. فلربما كان حزقيال النبي يستطيع في ضوء نظراته الدينية أن يدرك أن الملك صدقيا لا يمكن أن ينجو من العقاب الذي يستحقه لأجل خيانته وعصيانه لكلمة الرب، ولكن لم يكن في قدرته الطبيعية أن يقول بكل يقين إن هذا الملك سيؤخذ أسيرًا في أثناء محاولته الهروب من المدينة المحاصرة، وأنه ستقلع عيناه ويؤخذ إلى بابل (حز 12: 8-15). ولم يكن في استطاعته الطبيعية -وهو في بابل- أن يعرف اليوم الذي بدأ فيه حصار أورشليم (حز 42: 2). ولو كان هذا النبي قد علم بهذه الأمور بطريقة طبيعية، وألبسها ثوبًا نبويًا، لكان إنسانًا مخادعًا وكذابًا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يخطر بالبال بالنسبة لشخص على هذا المستوى الرفيع من التقوى والورع .
كما نجد نفس الأمر في حالة إرميا الذي أنبأ حنانيا النبي الكذاب، بأنه سيموت في خلال شهرين في نفس السنة (إرميا 28: 1، 12-17). وليست هذه الأمور المحددة هي وحدها التي تدل على رؤى الأنبياء الخارقة، بل في كل الأحوال التي تنبأ فيها إرميا بأن خراب أورشليم أكيد على النقيض من كل آمال الشعب، بل ورغبات قلب النبي نفسه، إنما تدل على أن النبي كان يتكلم بفعل قوة إلهية، أقوى من كل رغباته وعواطفه. ونفس الأمر مع إشعياء، عندما يخبر آحاز بكلمة الله أن الأراميين والأفرايميين لن يفتحوا أورشليم (إش 7: 4 - 9)، وعندما يقول إشعياء لحزقيا الملك إن الأشوريين لن يرموا سهمًا على المدينة، بل سيعودون دون أن يحققوا هدفهم (إش 37: 22-35). لقد كانت كل هذه الأمور على النقيض من كل الاحتمالات القائمة، حتى لكان النبي يعتبر مجازفًا وطائشًا، لو لم يكن قد قبل هذه الإعلانات من مصدر أسمى . ومما لا شك فيه أن مثل هذه النبوات الخارقة كانت هي السبب في ما كان يتمتع به الأنبياء من قوة وتأثير . وبالمثل في حالة عاموس النبي الذي تنبأ بالزلزلة قبل حدوثها بسنتين (عا 1: 1) وفي حالة إيليا الذي تنبأ بوقوع المجاعة والجفاف (1 مل 17: 1). كما كشف أليشع النبي مخططات الأعداء (2 مل 6:12)، وغير ذلك من الحالات. ومن الحق أيضًا أن أقوال الأنبياء لم تكن كلها قاصرة على المستقبل، بل كل ما كان الله يريد أن يعلنه للبشر من جهة مشيئته ونصائحه وتحذيراته، كان يعلنه على فم أنبيائه. لقد كان الأنبياء رقباء وحراسًا على الشعب، فكان عليهم تحذير الأمة، إذ كانوا يرون الأخطار والدينونات الوشيكة التي لابد أن تقع إذا تجاهل الشعب وصايا الله . كما كان الأنبياء يفسرون للشعب الأمور الجارية، والأمور التي حدثت معهم، مثل الهزائم التي أصابتهم على يد أعدائهم، أو ضربات الجراد (يوئيل)، أو المجاعات، كما يكشفون أسباب الأحداث وعلاقتها بتدبيرات العناية الإلهية. وهذا يعطي للنبوة وحدة قوية رغم الفوارق الكبيرة في الأوقات والظروف المحيطة . إن الفضل في فهم الشعب العبرانى لمضمون التاريخ، إنما يرجع إلى النبوات، فهم يعرفون وجود خالق لكل الأشياء، يهيمن عليها ويوجهها لغاية محددة، تعمل كل الأحداث على تحقيقها . فالهدف من خطة الله هو إعلان سلطان إرادته الكامل لكل البشر.
النبوة الحقيقية -حسب المفهوم الكتابي- لا بُد أن تتم، فهذا الإتمام هو الدليل القاطع على أصالة النبوة (تث 18: 21، 22)، فإن لم تتحقق النبوة، فإنها تسقط إلى الأرض (1 صم 3: 19)، وتصبح مجرد كلمات خاوية من كل معنى، ولا قيمة لها، ويكون قائلها كاذبًا غير أهل للثقة. ففي الكلمة التي ينطق بها النبي تكمن قوة إلهية، وفي اللحظة التي ينطق بها، تصبح أمرًا واقعًا، وإن كان الناس لم يروها بعد . فبمعنى ما، النبي الحقيقي هو الذي -بكلمته- يقلع ويهدم، ويهلك وينقض ويبنى ويغرس " (إرميا 1: 10؛ 25: 15 - 17)، ويمكن للمعاصرين الحكم على صحة النبوة بالمعنى الوارد في (سفر التثنية 18: 22)، عندما يحدث الإتمام بعد وقت قصير، وتكون النبوة - في تلك الحالة - " علامة " واضحة عن صدق النبي (ارجع مثلًا إلى إرميا 28: 16؛ إش 8: 1-4؛ 37: 30)، أما في الحالات الأخرى فإن الأجيال المتأخرة هي التي تقدر أن تحكم على إتمام النبوات (زك 1: 6) وما أروع أن تتكرر الإشارات في العهد الجديد إلى إتمام نبوات العهد القديم، وبخاصة فيما يتعلق بالرب يسوع المسيح (انظر مثلًا: مت 2: 14، 17، 18، 23).
ولكن في حالات الإنذارات، ليس من المحتم أن تتم النبوة، فهي ليست مرسومًا بالقضاء، ولكنها كلمة إنذار من الله الحي للناس ليتوبوا، ولذلك فهي مشروطة، فإذا حدث أن تاب الشعب، فيكون الإنذار قد حقق الهدف منه (يونان 3: 3-10) دون إيقاع العقاب. كما أن الرب يستطيع أن يسحب وعده بالإحسان إلى شعب إذا أثبت هذا الشعب أنه ليس أهلًا للإحسان (إرميا 18: 7-10)، كما يمكنه أن يؤجل العقاب (1 مل 21: 29). كما أن النبي كان يجمع أحيانًا -في نبوة واحدة- بين أحداث غير متزامنة، لا تتحقق دفعة واحدة، بل على آماد متباعدة، مثل نبوات العهد القديم عن الرب يسوع التي جمعت بين مجيئه الأول ليكفر عن الخطية، ومجيئه الثاني بمجد ليدين الأحياء والأموات، “فإن شهادة يسوع هي روح النبوة" (رؤ 19: 10).
← انظر: النبوة في العهد الجديد.
(1) إن من المميزات الخاصة بديانة العهد القديم، أن بداياتها الأولى كانت ذات طبيعة نبوية، فقد كان إبراهيم وإسحق ويعقوب أصحاب رؤى سماوية وإعلانات إلهية، فقد بدا عند الغرباء الذين لم يكن إبراهيم لهم صديقًا ولا قريبًا، أنه نبي (تك 20: 7؛ مع مز 105: 15).
(2) وكان موسى الذي أعطى الشعب القديم شرائعه، نبيًا بكل معنى الكلمة، ولم يكن نفوذه بين الشعب متوقفًا على مركزه كقائد لهم، أو على حنكته العسكرية، بل كان ذلك، لأنه منذ دعوته -عند العليقة المشتعلة- قد تكلم إليه الله، فقد كان لهذا اللقاء بين الله وموسى أهمية بالغة، إذ إنه بينما أعطى الله أناسًا آخرين رسائل معينة بين وقت وآخر، وعن طريق الأحلام والرؤى، فإن الله كلم موسى " وجهًا لوجه " (خر 33: 11؛ عد 12: 6-8) وأمره أن يكتب هذه الأقوال (تث 34: 10-12)، فقد كان موسى الآلة التي استخدمها الله لإيقاع الضربات بمصر، وإعلان مقاصده من جهة شعبه. كما أن الله استخدمه في قيادة الشعب في كل أيام البرية، من مصر إلى تخوم أرض كنعان، وأعطاهم شرائعه وفرائضه وأحكامه عن طريق موسى، الذي كان له الامتياز أن يمكث في محضر الله أوقاتًا طويلة وأيامًا عديدة .
منذ زمن موسى، لم تنقطع إعلانات الله لبني إسرائيل عن طريق الأنبياء انقطاعًا كاملًا (تث 18: 15)، ولكن هذا النبع لم يكن على الدوام بمثل هذا الفيض والوضوح . ففي أيام القضاة كان روح الله يعمل في الأبطال الذين أقامهم الرب لقيادة الشعب، أكثر مما يكلمهم، ومع ذلك فقد كان لدبورة مكانة عظيمة كنبية وقاضية لإسرائيل، وهي التي دفعت الشعب للتخلص من أعدائهم الذين استعبدوهم طويلًا. وما جاء في (سفر صموئيل الأول 3: 1) في زمن عالي، من أن كلمة الرب كانت "عزيزة في تلك الأيام. لم تكن رؤيا كثيرًا" يمكن أن تقال عن فترة القضاة كلها . وفي ختام هذه الفترة، اختار الله صموئيل - وهو لم يزل صبيًا - ليعلن على فمه مشيئته، “ وكان الرب معه، ولم يدع شيئًا من جميع كلامه يسقط إلى الأرض، وعرف جميع إسرائيل من دان إلى بئر سبع أنه قد اؤتمن صموئيل نبيًا للرب" (1 صم 3: 19، 20). وكان صموئيل مكرسًا لخدمة الله وخدمة الشعب، مطيعًا على الدوام لروح الله حتى في الأمور التي كانت ضد رأيه الشخصي، كما حدث في موضوع إقامة ملك لإسرائيل (1 صم 8: 6-9).
منذ أيام صموئيل، نقرأ عن "بني الأنبياء" أو مدرسة الأنبياء. ولعل هذه الجماعات بدأت بأن النبي جمع حوله جماعة من الشباب الراغبين في أن يكون لهم نصيب من روحه، وأقام هؤلاء التلاميذ مع عائلاتهم في مستعمرات حول معلمهم . والأرجح أن صموئيل كان أول من أقام مثل هذه المدرسة من الأنبياء، فبالقرب من الرامة Rama -محل إقامة صموئيل- "نجد نايوت" أو مستعمرة أولئك التلاميذ (1 صم 19: 18، 19؛ 20: 1). وكانت تحدث بين أولئك التلاميذ بعض حالات انتشاء أكثر مما بين معلميهم، وكانوا يشحذون مشاعرهم عن طريق الموسيقى ليصلوا إلى حالة من النشوة تؤثر في الآخرين، فيحذون حذوهم، ويتنبأون، ويتعرون من ثيابهم، وينطرحون على الأرض (1 صم 19: 23، 24). ولكن لم تكن هذه حالة عامة، إذ الغالب أنها كانت مراكز للحياة الروحية في شركة مع الله في الصلاة والتأمل، وتذكر معاملات الله وأعماله العظيمة في الماضي، مما كان يؤهلهم لاستقبال إعلانات جديدة . ولعل استخدام الموسيقى في العبادة بدأ في هذه المراكز .
في ذلك العصر ظهر العديد من الأنبياء الذين طلبوا من الملوك أنفسهم إطاعة كلمة الله . وقد هلك شاول الملك لعدم طاعته لكلمة الله (1 صم 13: 11-14). وكان داود الملك مدينًا بشدة لتأييد الأنبياء صموئيل وناثان وجاد (1 صم 16: 1 - 13؛ 2 صم 7؛ 2 أخ 29: 25.. إلخ)، فلقد استجاب داود تمامًا لأولئك الأنبياء حتى عند توبيخهم له (2 صم 12، 24). وقد تعلم ابنه سليمان على يد ناثان النبي، كما تنبأ أخيا الشيلونى بانقسام مملكته (1 مل 11: 29-38)، فالرب "يهوه" له كامل السلطان لتوليه الملوك وخلعهم، وكان إعلان ذلك يتم على فم الأنبياء (ارجع إلى 1 مل 14: 7 - 10؛ 16: 1 - 7). وبعد انقسام المملكة، نجد شمعيا رجل الله يمنع رحبعام من محاربة إسرائيل (1 مل 12: 22 - 24؛ ارجع أيضًا إلى 2 أخ 11: 2-4) .
وفي المملكة الشمالية، جاءت الكلمة النبوية ضد يربعام (1 مل 13، 14) وضد غيره من الملوك، رغم وجود أنبياء كذبة يتنبأون للملوك بما يتفق مع أهوائهم. ونجد صورة لمقاومة الأنبياء الحقيقيين للأنبياء الكذبة، في النبي ميخا بن يملة (1 مل 22). وقد حارب إيليا معركة فاصلة ضد كهنة البعل والسواري، فقد كان نبيًا شجاعًا في إعلان حق الله، وكذلك كان خليفته أليشع الذي جمع حوله جماعة من بني الأنبياء (2 مل 4: 38-43). وصنع الخير مع الكثيرين (2 مل 4: 16، 32 - 41؛ 6: 8 - 32 .. إلخ.) كما تنبأ يونان بن أمتاي ليربعام الثاني ملك إسرائيل نبوة طيبة (2 مل 14: 25).
كان ازدهار الأحوال في المملكة الشمالية في عهد يربعام الثاني سببًا في تدهور الحالة الروحية، فأقام الرب عاموس وهوشع النبيين لإعلان انهيار المملكة الوشيك أمام قوة عالمية عظيمة. وقد ترك لنا كل من هذين النبيين سفرًا مكتوبًا . ويرى كثيرون من العلماء أن عوبديا ويوئيل كانا أسبق من عاموس وهوشع، بينما يرى آخرون أنهما كانا بعد فترة السبي. على أي حال، كان انتظار يوم الرب موضوعًا شائعًا في زمن عاموس (عا 5: 18-20)، وكان الهدف من كتابة النبوات (إش 8: 1، 2؛ 30: 8؛ حب 2: 2، 3) هو حفظها في صورة ثابتة باقية، ثم لإقناع القارئ بإتمامها العجيب، ولتظل تراثًا دائمًا للشعب (إرميا 30: 2؛ 36: 1 - 3؛ إش 8: 16).
كان للأنبياء في مملكة يهوذا كرامة أكثر مما كان للأنبياء في المملكة الشمالية، ولو أنهم اضطروا أيضًا للتنديد بمظالم الطبقة الحاكمة، والفجور من كل نوع . ولكن في هذه المملكة ظهر بين الحين والآخر ملوك ساروا في طريق داود، فسار آسا حسب توجيهات النبي عزريا (2 أخ 15: 1 - 9). ومن الحق أيضًا أن حناني الرائي وبخ هذا الملك نفسه ولكن لسبب آخر (2 أخ 16: 7 - 10). كما واظب يهوشافاط على استشارة الأنبياء الذين كان من بينهم أليشع النبي (2 مل 3: 14) وغيره من الأنبياء (2 أخ 19: 2؛ 20: 14-37). وكان أعظم الأنبياء في أيام الفتوحات الأشورية، إشعياء الذي ظل يؤدى خدمته على مدى أكثر من أربعين عامًا، في أيام يوثام وآحاز وحزقيا، وجزءًا من حكم منسى . وكان لأقواله تأثيرها الشديد على الملوك والشعب. وقد جمعت نبواته بين الوعيد بالدينونة، والوعد بالرجاء .
وكان النبي ميخا المورشتي معاصرًا لإشعياء، وعلى توافق تام معه، وإن كان لم يبلغ ما بلغه إشعياء من نفوذ عند الملوك والرؤساء .
أما ناحوم وصفنيا وحبقوق فينتمون إلى فترة انتقال السيادة الدولية من الأشوريين إلى الكلدانيين. وفي أيام يوشيا كان لخالدة النبية دور كبير في أورشليم (2 مل 22: 14). وفي أيام يوشيا أيضًا برز إرميا النبي الذي دعاه الله لخدمة عظيمة، فقد عاصر أيام حصار أورشليم وتدميرها على يد الكلدانيين . ورغم مشاعره الرقيقة نحو بلاده وشعبه، فإنه تنبأ للشعب بالكوارث الوشيكة، ضد كل مزاعم الأنبياء الكذبة، وظل راسخًا أمينًا للرب رغم كل ما تعرض له من اضطهادات، لم يصمد أمامها معاصره النبي أوريا بن شمعيا (إرميا 26: 20، 21).
في زمن السبي البابلي نجد النبي حزقيال الذي تلقي إعلانات ورؤى نبوية عديدة، وهو في بلاد بابل. وكانت نبواته ملائمة للأحوال القائمة، كما كانت أيضًا نبوات دانيال النبي الذي كان يشغل مركزًا رفيعًا في بلاط ملوك بابل الوثنيين . وقد أخذت صورًا رؤية أكثر منها كلامية، لخص فيها تاريخ العالم السياسي إلى مجيء المسيح ثانية وإقامة ملكوته الأبدي.
بعد العودة من السبي البابلي قام النبيان حجي وزكريا بتشجيع الشعب الراجع من السبي على إعادة بناء الهيكل (نحو 520 ق.م) . ولكن كان هناك أيضًا أعداء وأنبياء كذبة يعارضون هذا العمل، كان منهم نوعدية النبية (نح 6: 6-14).
وقام النبي ملاخي للدعوة إلى العبادة من القلب، لا العبادة الشكلية الظاهرية .
يعتبر
ملاخي آخر أنبياء العهد القديم، به ختمت أسفار العهد القديم وانقطعت النبوة
(ارجع إلى 1 مكابيين 4: 46؛ 9: 27؛ 14: 41) إلى أن ظهر
يوحنا المعمدان.
* انظر أيضًا: الأنبياء الصغار، نبي كذاب، النبوة في العهد الجديد، نبوات عن الأمم القديمة، نبوات عن الشعب اليهودي، أسفار الأنبياء الصغار، الأنبياء الكبار، أسفار الأنبياء الكبار، نبوات العهد القديم التي تمت، نبية | نبيات، كتاب مفهوم الوحي والعصمة في الكتاب المقدس - أ. حلمي القمص يعقوب.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/2gz282w