← اللغة الإنجليزية: Jeremiah - اللغة العبرية: יִרְמְיָה - اللغة اليونانية: Ἰερεμίας - اللغة القبطية: Ⲓⲉⲣⲙⲓⲁⲥ - اللغة الأرامية: ܐܪܡܝܐ - اللغة اللاتينية: Ieremias.
ومعناه "الرب يؤسس" أو "الرب يثبّت" وقد ورد في الكتاب المقدس في المواضع الآتية:
أرميا النبي العظيم وهو ابن حلقيا الكاهن من عناثوث في أرض بنيامين (أرميا 1: 1)، ولم نعرف اسم والدة النبي إرميا (سفر إرميا 15: 10). وقد دعاه الرب للقيام بالعمل النبوي في رؤية رآها وهو بعد حدث، فأحس بأنه لم يكتمل النضوج بعد، وبأنه قليل الخبرة وغير كفوء للقيام بهذا العمل العظيم ومخاطبة الرجال الذين يكبرونه سنًا وخبرة ومركزًا فمدّ الرب يده ولمس فمه وقال له "ها أنذا قد جعلت كلامي في فمك. انظر! قد أقمتك اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس". (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس الكتاب المقدس والأقسام الأخرى). وأخبره الرب أيضًا بأنه سوف يلقى مقاومة من الحكام والكهنة والشعب ولكنهم سوف لا ينتصرون عليه (أرميا 1: 4- 10) وقد بدأ عمله النبوي في السنة الثالثة عشرة من ملك يوشيا وبقي يقوم بهذا العمل إلى أن أخذت أورشليم في الشهر الخامس من السنة الحادية عشرة من ملك صدقيا (أرميا 1: 2، 3). لذا فقد دامت خدمته مدة الثماني عشرة سنة التي حكم فيها يوشيا، والثلاثة شهور التي حكم فيها يواحاز والإحدى عشرة سنة والخمسة شهور التي حكم فيها صدقيا. إذًا فجملة مدة خدمته كانت إحدى وأربعين سنة. وحتى ذلك الحين لم يكن قد توقف بعد عن القيام بعمله النبوي (أرميا 42-44).
وكان رجال عناثوث مواطنوه، في مقدمة من قاوموه، وهددوه إن لم يمتنع عن الاستمرار في عمله النبوي. ولكنه ثابر على القيام برسالته بالرغم من الاضطهاد. إلا أنه شعر بقوة وطأة هذه المقاومة لعمل الله والتي شنها عليه مواطنوه لذا فقد صرخ إلى الرب لكي يُنزل بهم قضاءه (ارميا 11: 18-21؛ 12: 3). أما العداء الذي ظهرت بوادره في عناثوث فقد ذاع وانتشر بعد حين حتى أصبح عداءًا عامًا مما ألجأه إلى أن يصرخ أيضًا طالبًا من الرب أن ينزل قضاءه بالمقاومين (أرميا 18: 18- 23؛ قارنه أيضًا مع 20: 12) ولكنه بقي أمينًا لمهمته بالرغم من كل مقاومة واضطهاد. وفي السنة الرابعة من مُلْك يهوياقيم أملَى أرميا نبواته التي نطق بها مدة العشرين سنة السابقة، وكتبها باروخ الكاتب في درج. وأخبر أرميا باروخ أن يأخذ السفر إلى بيت الرب وأن يقرأه على من يأتون من الشعب إلى الهيكل في يوم الصوم. ووصل الدرج في النهاية إلى الملك الذي بعد أن استمع إلى بعض فقرات منه مزق الدرج قطعًا، ورماه في النار حتى احترق كله (أرميا 36: 1- 26) ولكن الرب أرشد ارميا أن يكتب درجًا ثانيًا كالدرج الأول وزيدت عليه إضافات أخرى (إر 36: 27- 32). وقام واحد من أعدائه وهو الكاهن فشحور الناظر الأول للهيكل وضرب أرميا وجعله في المقطرة. ولكنه أطلقه في اليوم التالي (إر 20: 1- 3). وعندما كانت أورشليم محاصرة تدارست السلطات اليهودية نبوات أرميا الخاصة بتقدم الكلدانيين وسبي يهوذا الذي يعقب ذلك، ونظروا في هذه النبوات من الناحيتين السياسية والحربية بدلًا من أن ينظروا فيها من الناحية الدينية وعلى الصعيد الروحي. وادعوا عليه أن نبواته ضد يهوذا وأورشليم ثبّطت همم المدافعين عن المدينة. ولما رفع الكلدانيون الحصار إلى حين، وأوشك أرميا أن ينتهز هذه الفرصة للذهاب إلى عناثوث لبعض شأنه، اتهم بأنه فارّ ليذهب إلى الكلدانيين، وألقي في الجب (إر 37: 1- 15) وبعد أيام كثيرة أطلقه الملك صدقيا من حبسه وأخذه وسأله سرًا عن كلمة الرب بشأنه فأخبره أرميا بأنه يدفع إلى ملك بابل. وأمر صدقيا أن يضعوا أرميا في دار السجن وأن يحسنوا معاملته بعض الشيء ولكن الرؤساء أخذوه ورموه في الجب ليموت جوعًا (إر 37: 16- 21؛ 38: 1-6) فأشفق عليه خصيّ حبشي واستأذن الملك في أن يرفع أرميا من وحل الجب فأذن له ورفعه وأخذه ووضعه في دار السجن. وكان هناك إلى أن أخذت أورشليم (إر 38: 7- 28) وقد علم الكلدانيون بما عاناه، واعتقدوا أنه قاسى كثيرًا من أجلهم لذلك فقد أصدر نبوخذنصر أوامر صريحة بأن يحسنوا معاملة أرميا ووفقًا لذلك أرسل نبوزردان الكلداني رئيس الشرطة إلى دار السجن وأخذوه وأحضروه إليه مع غيره من الأسرى إلى الرامة فأطلق سراحه ومنحه حق الاختيار في أن يذهب إلى بابل أو يبقى في وطنه فآثر أن يبقى في وطنه وأعطاه رئيس الشرطة زادًا وهدية وأطلقه فأتى إلى جدليا بن أخيقام إلى المصفاة وأقام عنده في وسط الشعب الباقين في الأرض (إر 39: 11- 14؛ 40: 1-6) ولما قتل جدليا حثّ أرميا الشعب أن لا يهربوا إلى مصر ولكن عبثًا حاول إن يثنيهم عن عزمهم، ولم يذهبوا إلى مصر فحسب بل أرغموا أرميا على مرافقتهم في رحلتهم (إر 41: 1؛ 43: 7) وقد نطق بنبواته الأخيرة في تحفنحيس في مصر (إر 43: 8 - 44: 30) ولا يعرف شيء عن موته ولا كيف كان ولا متى حدث ذلك.
مقال تفصيلي:
أولا - الاسم والشخصية:
إرميا واحد من أنبياء إسرائيل العظام، ولأن الاسم كان شائع الاستعمال، لذلك يدعي النبي " ابن حلقيا " (إر 1: 1)، وهو ليس حلقيا رئيس الكهنة الذي جاء ذكره في الأصحاحين الثاني والعشرين والثالث والعشرين من الملوك الثاني، إذ يذكر عنه فقط أنه " من الكهنة الذين في عناثوث في أرض بنيامين ". وفي عناثوث - وهي الآن قرية " أناتا " على سفر ساعة ونصف شمالي شرق أورشليم - عاشت فئة من الكهنة تنتمي إلى فرع صادوق الكاهن (1 مل 2: 26).
ثانيًا - حياة إرميا:
لقد دعا الرب إرميا للخدمة كنبي وهو بعد شاب (إر 1: 6) في نحو العشرين من عمره، في السنة الثالثة عشرة للملك يوشيا (إر 1: 2؛ 25: 3) في سنة 627 ق.م. وظل نشيطًا في خدمته من ذلك الحين حتى خراب أورشليم في 586 ق.م، طيلة حكم الملوك يوشيا ويهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين وصدقيا، وحتى بعد سقوط أورشليم، ظل يتنبأ وهو في مصر لعدة سنوات على الأقل، فامتدت خدمته نحو خمسين عامًا. ويحتمل أنه عاش أولًا في عناثوث وكان يتردد علانية على أورشليم في المناسبات والأعياد الكبيرة، ثم سكن أخيرًا في أورشليم، وكان بها في الأيام العصيبة من حصار المدينة وخرابها.
ومع أن الملك يوشيا كان يخاف الله ومستعدًا لخدمة يهوه، وسرعان ما أعلن إصلاحاته حسب شريعة يهوه، في السنة الثامنة عشرة من ملكه ، إلا أن إرميا عندما دعي لخدمته النبوية، لم يشك اطلاقًا في أن دينونة الله ستحل على المدينة قريبًا (إر 1: 11، 12). وعندما وجد سفر الشريعة في الهيكل بعد سنوات قليلة (2مل 22، 23) أذاع إرميا كلمات " هذا العهد " على الشعب الذين كانوا في المدينة وفي كل نواحي البلاد (إر 11: 1-8؛ 17: 19-27) وحثهم بشدة على الطاعة للوصية الإلهية. ولكنه بعمله هذا صار موضوع كراهية شديدة وبخاصة في موطنه عناثوث. بل إن إخوته وأقاربه تآمروا عليه، بإعلانهم أنه من أخطر المتعصبين (إر 12: 6). وعلى أي حال، كانت أيام إرميا في عهد هذا الملك التقي أسعد أيام خدمته، وقد رثاه إرميا عند موته المبكر بمراث حزينة، نوه عنها كاتب سفر الأخبار (2 أخ 35: 25) ولكنها لم تصل إلينا.
وكانت أحوال إرميا على غير ما يرام بعد وفاة يوشيا ، فقد تلقي الملك يهوآحاز (شلوم) - الذي حكم ثلاثة أشهر فقط - إعلان القضاء عليه، من (إرميا 22: 10، 11). أما يهوياقيم (609-598 ق.م) فقد أيد بدوره عبادة الأوثان، وضايق الشعب بمحبته للترف وإقامة المباني الضخمة (إرميا 22: 13، 14)، علاوة على أن سياسته كانت مبنية على الخيانة والغدر، فقد تآمر مع مصر على سيده نبوخذ نصر. وجاءت اللحظة الحاسمة في السنة الرابعة من ملكه، حين انتصر الكلدانيون في موقعة كركميش في غربي أسيا، كما سبق أن تنبأ إرميا (إر 46: 1-12) .
وفي أيام يهوياقيم ألقي إرميا خطابه العظيم في الهيكل [الأصحاحات (إر 7-9؛ 10: 17-25)] فصمم الكهنة على قتله (إر 26)، ولكن الرؤساء ذوي النفوذ أنقذوه من أيديهم، ولكنه تعرض للإهانة من المسئولين تلبية لرغبة الكهنة (ص 20). ونرى من (إرميا 36: 1، 2)، أنه لم يعد يسمح له بالدخول إلى الهيكل، ولهذا أمره الرب أن يجمع نبواته في درج، وأن يقرأها للشعب تلميذه الأمين "باروخ" (إر 36، 45). ولما وقع السفر في يد الملك، أحرقه، ولكن إرميا عاد وأملَى السفر ثانية على باروخ مع إضافات جديدة.
أما يهوياكين أو كنياهو (إر 22: 24، 25) ابن يهوياقيم، فبعد أن حكم ثلاثة أشهر، أخذه نبوخذ نصر أسيرًا إلى بابل، وأخذ معه عددًا كبيرًا من النبلاء وخيرة الشعب (إر 24: 1؛ 29: 2) كما سبق وتنبأ إرميا (إر 22: 20-30)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. ولم تتحسن الأمور في عهد صدقيا (596-585 ق.م) مع أن الملك نفسه لم يكن معاديًا لإرميا مثلما كان يهوياقيم، ولكن كان أكثر الناس كراهية له هم الأمراء وقادة الجيش الذين أصبح بيدهم الأمر بعد أن اجليت أفضل طبقة من الشعب إلى بابل. وظلوا في تمردهم ضد بابل، مما اضطر إرميا معه إلى معارضة حركة وطنية من ذلك النوع. وأخيرًا جاء الجيش البابلي لمعاقبة الملك الخائن الذي دخل مرة أخرى في تحالف مع مصر. لقد نصحه إرميا بإلحاح بالخضوع، ولكن الملك كان ضعيفًا وجبانًا جدًا أمام نبلائه، فطال الحصار، وسبب معاناة رهيبة في حياة إرميا، إذ ألقاه قادة الجيش في سجن قذر متهمين إياه بالخيانة (إر 37: 11، 12) أما الملك الذي استشاره سرًا، فقد أخرجه من السجن ووضعه في دار السجن (إر 37: 17، 18) حيث استطاع أن يتحرك بحرية وأن يتنبأ مرة أخرى. وإذ حل القضاء، أمكنه أن يتحدث عن رجاء المستقبل (إر 32؛ 33). ويحتمل أن أصحاحي (إر 30؛ 31) يشيران إلى تلك الفترة، ولكن بسبب استمرار ندائه للشعب بالتسليم ، ألقاه المسئولون في جُب مُوحِل، ولكن أحد رجال البلاط -عبد ملك- أشفق عليه وأنقذه (إر 39 : 15-18)، فعاد مرة أخرى إلى دار السجن، وبقى هناك حتى فتحت أورشليم.
وبعد احتلال المدينة، عامله البابليون باحترام عظيم عندما علموا أنه تحدث لصالحهم (إر 39: 11 - 40: 1، 2) وأعطوه حرية الاختيار بين الذهاب إلى بابل أو البقاء في وطنه، ولكنه قرر البقاء، وذهب إلى جدليا الوالي في المصفاة، وكان جدليًا إنسانًا جديرًا بالثقة، ولكن عندما اغتال المعارضون الأثمة هذا الرجل بعد فترة وجيزة ، قرر اليهود الذين كانوا قد تُركوا في فلسطين -مهددين وخائفين من انتقام الكلدانيين- أن يهاجروا إلى مصر، فحذرهم إرميا بشدة وأنذرهم بانتقام يهوه إذا أصروا على ذلك (إر 42: 1، 2)، ولكنهم أصروا على رأيهم، بل وأجبروا النبي الشيخ على الذهاب معهم (إر 43: 1، 2)، وكانت وجهتهم الأولى مدينة تحفنحيس في مصر السفلى (الوجه البحري) وهناك واصل إرميا مناداته بكلمة الله لزملائه الإسرائيليين ونجد شيئًا من ذلك في (إر 43: 8-13)، وفي عظته في الأصحاح الرابع والأربعين، التي قالها في وقت لاحق، ولكن قبل 570 ق.م. ولا بد أن إرميا كان قد بلغ في ذلك الوقت مابين السبعين والثمانين من عمره ويحتمل أنه مات بعد ذلك بقليل في مصر. ويقول بعض آباء الكنيسة إن اليهود قد رجموه حتى الموت في تحفنحيس. (جيوم وترتليان ... وغيرهما)، ولكن ليس لهذا القول ما يؤيده تمامًا، وهو أشبه بالتقليد اليهودي الذي يقول إنه أخذ من مصر إلى بابل ومعه باروخ بأمر نبوخذ نصر، وهناك مات.
ثالثًا - صفات إرميا الشخصية:
لا يقدم لنا سفر إرميا صورة كاملة لحياة النبي ورسالته فحسب ، بل يقدم لنا أيضًا الكثير عن حياته الداخلية ومشاعره أكثر من أي نبي آخر. فمن هذا السفر نعرف أنه كان بطبيعته رقيقًا في مشاعره وعواطفه، وإن كانت له صورة مغايرة في رسالة القضاء القاسي، التي كان عليه أن ينادي بها. لقد جعله الله في تبليغ رسالته مثل الحديد صلبًا لا يلين (إر 1: 18؛ 15: 20). هذا التناقض بين مشاعره الشخصية الرقيقة الدافئة، وبين رسالته الصارمة، يظهر بوضوح -مرات عديدة- في تعبيراته القلبية في نبواته. لقد ابتهج أولًا عندما تكلم الله إليه (إر 15: 16)، ولكن سرعان ما صارت كلمات الله في قلبه مصدرًا للألم والمعاناة (إر 15: 17، 18). كان يود أن لا ينطق بها، لكنها اشتعلت في قلبه كالنار (إر 20: 7؛ 23: 9). لقد كان في حاجة إلى المحبة، ولكن لم يسمح له بالزواج (إر 16: 1، 2). لقد اضطر أن يهجر مباهج الشباب (إر 15: 17). لقد أحب شعبه أكثر مما فعل غيره، ومع ذلك اضطر إلى التنبؤ عليهم بالشر، وبدا كما لو كان عدوًا لأمته، وكثيرًا ما جعله هذا حزينًا. لقد شعر بعمق العداوة التي كان هو ضحيتها لأنه لم يعلن إلا الحق. [انظر شكواه (إر 9: 1؛ 12: 5؛ 15: 10؛ 17: 14-18؛ 18: 23..)] وفي هذا الصراع المؤلم بين قلبه ووصايا الرب، كان يتمنى لو أن الله لم يكلمه، بل لقد لعن اليوم الذي ولد فيه (إر 15: 10؛ 20: 14-18؛ انظر أيوب 3: 1، 2). ويجب أن نميز بدقة بين هذه الشكاوى وبين تلك التي أبلغها الرب بروحه للنبي، إن الله يوبخه على هذه الشكاوى ويطلب إليه أن يتوب وأن يثق فيه ويطيعه (إر 15: 19)، فيصبح راسخًا لا يتزعزع. بل إن إدانته المريرة لأعدائه (إر 11: 20، 21؛ 15: 15؛ 17: 18؛ 18: 21-23) نبعت جزئيًا من طبيعته العميقة الحساسة، وتظهر الفرق الكبير بينه وبين " المتألم الكامل " الذي صلي من أجل ألد أعدائه. ولكن على أي حال، كان إرميا أشبه ما يكون " بالمخلص المتألم " أكثر من كل قديسي العهد القديم، وقد ظل ككاهن يصلي من أجل شعبه حتى نهاه الله عن ذلك (إر 7: 16؛ 11: 14؛ 14: 11؛ 18: 20). لقد كان عليه -أكثر منهم جميعهم- أن يتألم بسبب غضب الله على الشعب. لقد شعر أفراد الشعب أنفسهم أنه كان يريد خيرهم، ويمكننا أن نرى ذلك في أن الشعب المتمرد -الذين فعلوا دائمًا عكس ما أمرهم به، والذين اعتبروه نبيًا غير مرغوب فيه- إضطروه للذهاب معهم إلى مصر لأنهم أدركوا أنه هو العبقري الفذ بينهم.
رابعًا - نبوات إرميا:
كان على إرميا أن ينادى بقضاء الله على يهوذا، وذلك بسبب ارتداد الشعب عن يهوه، وعبادتهم الأصنام على المرتفعات كما فعل إسرائيل، لقد وجدت الممارسات الوثنية الشريرة طريقها إلى حياة الشعب، لقد دخلت الوثنية صراحة بواسطة أشخاص من أمثال منسى، حتى وصلت إلى تقديم الأطفال ذبيحة "لبعل ومولك" في وادي بن هنوم (إر 7: 18؛ 19: 5؛ 32: 35) وعبادة " ملكة السموات" (إر 7: 18؛ 44: 19). صحيح أن إصلاحات يوشيا قد اكتسحت أسوأ هذه الشرور، ولكنها لم تؤد إلى عودة قلبية حقيقية إلى الرب، ولأن هذه الاصلاحات كانت أكثر ما تكون سطحية خارجية لإرضاء الملك، وهكذا يدين إرميا الشعب للخطايا السابقة، ويضيف إليها ذنوب الجيل المعاصر (إر 18: 11، 12). ومع هذا النفاق الديني، جاء الفساد الأخلاقي كعدم الأمانة والظلم واضطهاد العاجزين والنميمة وأمثالها [انظر الاتهامات في (إر 5: 1، 2، 7، 26؛ 6: 7، 13؛ 7: 5، 9؛ 9: 2، 6، 8؛ 17: 9؛ 21: 12؛ 22: 13؛ 23: 10؛ 29: 3.. إلخ.) - وهي اتهامات موجهة إلى القادة الروحيين والكهنة والأنبياء].
وقد أعلن إرميا منذ البداية، أن القضاء القادم قريبًا، عقابًا لخطايا الشعب، سيكون غزو البلاد بواسطة عدو سيجتاحها من الخارج، كما هو واضح من رؤيا القدر المنفوخة ووجهها من جهة الشمال، التي رآها النبي في بدء دعوته (إر 1: 13، 14)، ولم يذكر اسم هذه القوة القادمة من الشمال، إلا في السنة الرابعة ليهوياقيم (إر 25) حيث تحدد اسم نبوخذ نصر على أنه هو الفاتح المنتصر. ويظن البعض أنه في السنوات الأولي كان السكيثيون في ذهنه عندما تحدث عن الأعداء الذين سيأتون من الشمال، وبخاصة في الأصحاحات من (إر 4-6)، وقد ذكر هيرودوت أن السكيثيين -قبل دعوة إرميا للنبوة بسنوات قليلة- كانوا قد احتلوا ميديا ثم عبروا أسيا الصغرى واقتحموا طريقهم حتى مصر، مخترقين كنعان ومارين في مسيرتهم من الشرق إلى الغرب " ببيت شان ". كما يحتمل أن التخريب الذي أحدثه هؤلاء الناس العتاة، كان له أثره في اللهجة التي استخدمها إرميا في نبواته (إر 4: 11؛ 5: 15؛ 6: 3، 22) ولكن ليس من المعقول أن إرميا لم يتوقع أكثر من النهب والسلب بواسطة جحافل السكيثيين البدو، فلم يكن للسكيثيين المركبات الموصوفة في (إر 4: 13)، والأكثر من هذا، ينبغي أن لا ننسي أن إرميا منذ البداية تكلم عن إجلاء شعبه إلى تلك البلاد الأجنبية (إر 3: 18؛ 5: 19)، بينما لم يكن سبي إسرائيل إلى بلاد السكيثيين في الحسبان . وعلى أي حال، فمنذ السنة الرابعة ليهوياقيم، صرح إرميا أن الكلدانيين هم العدو الذي سيأتي من الشمال (انظر إش 39: 6؛ ميخا 4: 10؛ حب 1: 6). وهناك أيضًا أنبياء آخرون يعتبرون أن البابليين ينتمون إلى مجموعة الأمم الشمالية (زكريا 6: 8) لأنهم كانوا دائمًا يأتون من الشمال، كما أنهم كانوا الخلفاء الشرعيين للأشوريين .
على النقيض من أدعياء النبوة الذين كانوا يأملون في معالجة الأمور (إر 6: 14)، فإن إرميا - منذ البداية تنبأ بخراب المدينة والهيكل، وعن نهاية الأمة اليهودية وسبي الشعب بواسطة هؤلاء الأعداء القادمين من الخارج. وبناء على ما جاء في إرميا (إر 25: 11؛ 29: 10) نجد أن مدة السيادة البابلية (وليس بالضبط مدة السبي) كانت لا بد أن تستمر سبعين عامًا يعقبها الخلاص من قبضتها. تكرر الوعد بذلك في السنوات الأولي من حياة النبي (إر 3: 14؛ 12: 14؛ 16: 14)، كما تكرر أيضًا بكثرة في أثناء الحصار وبعده (إر 23: 1؛ 24: 6؛ 47: 2-7).
وأهم مايميز النبي إرميا هو تقواه الروحية العميقة، فمآل العبادة الخارجية إلى الدمار لأنها مظاهر تفتقر إلى روح الإحساس بخوف الله، فالختان الظاهري لا قيمة له بدون نقاوة القلب الداخلية، وسيحيق الدمار بالهيكل لأنه أصبح مخبأ للخطاة، وأصبحت الذبائح بلا قيمة لافتقار الذين يقدمونها إلى الحياة الروحية، وهذا كله يحزن الله. لقد شجب تفسير شريعة الله وتطبيقها (إر 8: 8)، حتى تابوت العهد لم يعد يعلن مجد حضور الرب. كان لا بد للشريعة أن تكتب على قلوب الناس (إر 31: 31 ... الخ). وإن كان النبي لا يصف أمجاد زمن المسيا بالتفصيل، إلا أنه يذكر مرارًا أوصافها الروحية في عبارة " الرب برنا " (23 : 6؛ 33: 16). وعلى كل حال لا ينبغي أن نقلل من قيمة مثالية إرميا، فقد آمن بعودة حقيقية لسيادة الله عمليًا، مثل سائر الأنبياء [الأصحاحات (إر 31؛ 32؛ 38-40)].
أما من جهة تعبيرات إرميا النبوية، فقد كان ذا طبيعة شاعرية، ولكنه لم يكن شاعرًا فحسب، بل كثيرًا ما استخدم أسلوب الرثاء، ولكنه لم يكن مقيدًا به، بل كان ينتقل بحرية إلى الأوزان الشعرية الأخرى ومنها إلى الأساليب النثرية حسب مقتضى الحال. والنغمة الحزينة الرتيبة التي تنسجم مع رسالته الحزينة، تتحول أحيانا إلى تعبيرات متنوعة أكثر حيوية عندما يتحدث النبي عن أمم أخرى، ففي هذه الحال يستخدم تعبيرات الأنبياء السابقين.
خامسًا - سفر إرميا:
نقرأ عن كتابة السفر لأول مرة في الأصحاح السادس والثلاثين، وفي الأعداد الأولى منه. ففي السنة الرابعة ليهوياقيم، وبناء على أمر الرب، أملى إرميا نبواته التي تكلم بها حتى ذلك الحين، على تلميذه باروخ، فكتبها في درج. وبعد أن أحرق الدرج بأمر الملك يهوياقيم، قام إرميا بإملاء محتوياته مرة أخرى مع بعض الإضافات (إر 36: 32)، وهكذا بدأت كتابة السفر، ثم زيدت عليه بعض الأقوال الأخرى، وأجريت عليه بعض التعديلات، فبينما نجد أحاديث السفر مرتبة تاريخيًا -على الأغلب- حتى السنة الرابعة للملك يهوياقيم، إلا أننا نجد في السفر -كما هو بين أيدينا الآن- ابتداء (من 21: 1؛ 23: 1؛ 26: 1..) أحاديث من عهد صدقيا، ومما لا شك فيه أن النسخة الثانية (إر 36: 28) احتوت الأصحاح الخامس والعشرين ومعه الخطابات الموجهة ضد الأمم الوثنية التي كانت وقتئذ. إن عدم الترتيب من الوجهة التاريخية -في السفر كما هو الآن- ترجع إلى أن الأحداث التاريخية أو الملاحق الخاصة بخدمة إرميا، قد أضيفت إلى السفر في أوقات لاحقة مثل الأصحاحات 26، 35، 36، وغيرها. وفي هذه الإضافات نجد أحاديث للنبي من تاريخ أسبق. وبداية من الأصحاح السابع والثلاثين، نجد قصة النبي في أثناء حصار أورشليم وبعد خراب المدينة.
وهناك تساؤل عما إذا كانت هذه الأجزاء -التي تميل إلى الأسلوب القصصي والتي تبدو أنها من إنتاج شخص معاصر قد يكون باروخ- قد كونت في وقت ما سفرًا قائمًا بذاته، ثم أخذت منها أجزاء، في وقت لاحق، وضمت إلى سفر إرميا أو أنها أدخلت إليه بواسطة باروخ. وإذا أخذنا بوجهة النظر الأولى، فإننا نجد ما يؤيدها في أنها ليست دائمًا في ترتيبها التاريخي الصحيح، فمثلًا يعتبر الأصحاح السادس والعشرين جزءًا من خطاب الهيكل في الأصحاحات (إر 7-9). وعلى العموم فإن سفر باروخ هذا -الذي يري بعض النقاد أنه كان سفرًا مستقلًا إلى جانب سفر إرميا- لا يكوّن قصة حياة مترابطة، ولا يبدو أنه كتب لمثل هذا الغرض فهو يحتوى على مقدمات لكلمات وأحاديث معينة للنبي، والنتائج التي أعقبتها، ولذلك فمن المحتمل جدًا أن يكون باروخ -في وقت لاحق- قد قام ببعض هذه الإضافات للسفر الأصلي، الذي أملاه عليه النبي، ولعل النبي نفسه قد عاونه في ذلك، وربما كان إملاء النبي له في بعض المواضع بينتهي بقصة من باروخ (إر 19: 14 - 20 : 6) أو يبدأ بها، إذ يبدو أن باروخ قد كتب مقدمة تاريخية ثم أملاه إرميا النبوة (إر 27: 1؛ 18: 1؛ 32: 1؛ وغيرها) ومن الطبيعي أن الأجزاء التي جاءت من قلم باروخ تعتبر كتابات صحيحة.
سادسًا - صحة السفر ووحدته:
ينكر بعض النقاد على إرميا وعلى تلميذه باروخ، أجزاء معينة من السفر الحالي وينسبونها إلى تاريخ لاحق. ومن هذه الأجزاء (إر 10: 1-16)، وهو جزء يحتوى على تحذير للذين في السبي من عبادة الأوثان، والتي -كما يدعون- لا يمكن أن تكون بصورتها الكاملة، من عمل إرميا، كما أنهم ينكرون -وبدون أي سند- صلة الأصحاح 17 (إر 17: 19-27) بإرميا على أساس أنه لا يمكن أن يكون قد خطر على باله التشديد على شريعة السبت. ولكنه على أي حال، لم يكن محدثًا مثاليًا فحسب، بل احترم أيضًا كل الفرائض والأحكام الإلهية ( انظر إر 11: 1-8). كما يرفض البعض الأصحاح الخامس والعشرين، بينما يهاجم آخرون الأعداد من (إر 25: 12-14) ومن (إر 25: 27-28) من هذا الأصحاح -بصفة خاصة- ولا حجة واضحة لهم في الحالتين. إلا أننا من الجانب الآخر نرى أن العدد السادس والعشرين، والفقرة الأخيرة من العدد الثالث عشر إضافات لاحقة، فمن المرجح أن تكون العبارة: "كل ما كتب في هذا السفر الذي تنبأ به إرميا على كل الشعوب " تذييلًا أضيف إلى النص الأصلي، وكذلك العبارة في العدد السادس والعشرين: "وملك شيشك يشرب بعدهم" تعتبر دخيلة ، وكلمة شيشك هنا تعتبر بديلًا لكلمة "بابل" [(كما جاء في (إر 51: 41)]، ولا توجد هذه الجملة في السبعينية. أما الهجوم على الأصحاحين (إر 30؛ 31) فهو هجوم لا يعتد به. كما لا نجد في السبعينية (إر 33: 14-16) وترتبط محتوياته بأجزاء في إرميا تتعرض لهجوم عنيف، ويعتبر النقاد أن إرميا كان على درجة من الروحانية لا يمكن أن يعمل معها على استمرار الكهنوت اللاوي. وفي ص 39 يرون أن الأعداد (إر: 1، 2، 4-10) إضافات واضحة لا تنتمي لهذا المكان. وبين الأحاديث ضد الأمم في الأصحاحات من (إر 46-51) نجد أن الآيات (إر 46: 1-12) والتي ذكرت قبيل معركة كركميش، لا يمكن أن تكون غير صحيحة، كما أن الأعداد (إر 46: 13-18) صحيحة كذلك. والحقيقة أن النص قد عاني كثيرًا، ولكن ليس ثمة حجج مقبولة ضد النبوات الواردة في الأصحاحات (إر 47؛ 48؛ 49)، إذا افترضنا أن إرميا أكّد مرة أخرى بعض أقواله ضد الأمم الوثنية والتي يبدو أنها لم تتحقق تمامًا في وقته، أما الأقوال في الأصحاحين (إر 50؛ 51) ضد بابل، فإنها تحمل طابع إرميا، وهو طابع أقوى من الشكوك التي لا يغفل وزنها. أما الأحداث في (إر 51: 59؛ إلخ.) والتي ليست مجالًا للتساؤل، فإنها تفترض وجود أقوال مسهبة سابقة لإرميا ضد بابل، والأرجح أن كتابة هذه الأقوال -كما هي مدونة بالسفر الذي بين أيدينا- يرجع تاريخها إلى ما بعد 586 ق.م، كما أنه لا يمكن إثبات وجود أي أثر لإشعياء التثنوي أو لأي كتبة لاحقين في سفر إرميا، أما الأصحاح (إر 52) فيبدو أنه اقتبس من سفر الملوك حرفيًا تقريبًا (2 مل 24، 25).
سابعًا - الترجمة السبعينية للسفر:
هناك مشكلة تتعلق بالمقابلة بين نص سفر إرميا في العبرية والترجمة السبعينية له، فالصورة العبرية للسفر لا تختلف عن اليونانية في مادتها أكثر من أي سفر من أسفار العهد القديم الأخرى فحسب، بل تختلف في الترتيب أيضًا، فالأقوال المختصة بالشعوب الوثنية [أصحاحات (إر 46-51)] موجودة في السبعينية في سياق الأصحاح الخامس والعشرين وفي ترتيب مختلف تمامًا (انظر مثلًا إر 49: 35-46، 50، 51؛ 47: 1-7؛ 49: 7-22؛ 49: 1-5، 28-33، 23-27، 48). وبالإضافة إلى هذا فإن القراءات في كل السفر تختلف في كثير من الحالات، فالنصوص السبعينية، بصفة عامة، أقصر وأكثر تركيزًا. كما أن كلمات النص اليوناني أقل من النص العبري المعترف به بحوالي 2700 كلمة عبرية، وبذلك يكون أقل من النص العبري بمقدار الثمن، أما فيما يختص بإدراج الأقوال ضد الشعوب الوثنية في الأصحاح التاسع والعشرين (إر 29)، فإن الترتيب اليوناني -بكل تأكيد- ليس أكثر أصالة من الترتيب العبري، لأنه يمزق الأجزاء المترابطة في الأصحاح الخامس والعشرين، ويحتمل أن يكون هذا قد حدث نتيجة لسوء الفهم، فقد اعتبرت كلمات (إر 25: 13) إشارة إلى أنه هنا تأتي الأقوال ضد الأمم الوثنية . كما أن ترتيب هذه الأحاديث في النص اليوناني لا يأتي طبيعيًا كما في النص العبري. أما بالنسبة للنص ذاته، فيظن البعض أن النص في السبعينية يستحق التفضيل بالنسبة لإيجازه، وأن النص العبري قد زيد بما أضيف إليه. والترجمة اليونانية -بوجه عام- غير دقيقة، ويغلب أنها تمت بدون فهم دقيق للموضوع، وهناك ما يدعو للاعتقاد بأن المترجم قد اختصر النص، حيثما ظن أن أسلوب إرميا كان شديدًا، وحيثما واجه أشياء متكررة فرأى أن يحذفها، أو عمد إلى ذلك عندما اعترضته مشاكل في الموضوع أو في اللغة. ومع ذلك لا ننكر أن ترجمته -في مواضع كثيرة- يمكن أن تكون صحيحة وأن تكون قد حدثت إضافات إلى النص العبري.
* انظر أيضًا: سفر إرميا، سفر مراثي إرميا، استخدامات أخرى لكلمة "إرميا"، حنمئيل ابن عم إرميا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/cchqnr6