تأمل على الأسبوع الأول من الصوم الكبير (+ الأحد) | تأمل على الأسبوع الثاني من الصوم الكبير (+ الأربعاء - الخميس - الجمعة) | تأمل على الأسبوع الثالث من الصوم الكبير | تأمل على الأسبوع الرابع من الصوم الكبير | تأمل على الأسبوع الخامس من الصوم الكبير | تأمل على الأسبوع السادس من الصوم الكبير | تأمل على الأسبوع السابع من الصوم الكبير
عشية |
باكر |
قراءات القداس |
|||
(مز 17 : 1 ، 2) (مت 6 : 34 – 7 : 12) |
(مز 18 : 1 ، 2) (مت 7 : 22 - 29) |
(رو 13 : 1 - 14) |
(يع 1: 13 - 21) |
(أع 21 : 40 – 22 : 16) |
(مز 25 : 1 ، 2 ، 4) (مت 6 : 19 – 33 ) |
سبق فتحدّث الرسول عن المسيحي والحياة اليومية (ص 12)
مظهرًا كيف يليق به أن يترجم إيمانه عمليًا في كل حياته، سواء في عبادته لله أو
تقديس جسده بالروح القدس، أو في علاقته بالمؤمنين كأعضاء معه في الجسد الواحد ثم
مع جميع الناس حتى مضطهديه، مقدّمًا بنعمة
الله شهادة حيّة لمسيحه محب البشر. الآن
يحدّثنا الرسول عن مركزه كمواطن حيّ يشعر بالتزاماته نحو
وطنه بروح التواضع والاحترام. فإن كان المؤمن يدرك أن قلبه قد انطلق نحو السماء
ليجد له فيها موطنًا أبديًا، فهذا يزيده التزامًا بالخضوع والحب ليشهد للوطن
السماوي خلال سلوكه العملي.
1. الخضوع للسلاطين 1-5.
2. أمانته نحو الوطن 6-7.
3. التزامه بحب القريب 8-10.
4. استعدادنا للوطن السماوي 11-14.
"لتخضع كل نفس
للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من
الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله،
حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة" [1-2].
بلا شك كانت علاقة اليهود بالحكام غير الإسرائيليين
تمثل مشكلة، إذ تمسكوا بحرفيّة الوصيّة الموسويّة: "إنك تجعل عليك ملكًا الذي
يختاره الرب إلهك، من وسط إخوتك تجعل عليك ملكًا، لا يحل لك أن تجعل رجلًا أجنبيًا
ليس هو أخاك" (تث 17: 15). لقد أساء اليهود فهم هذه العبارة فكانوا يقاومون
السلطات أينما وجدوا، وكانوا مثيري شغب في روما حتى اضطر الإمبراطور
كلوديوس قيصر
إلى طردهم من روما (أع 18: 2) حوالي عام 49 م.
لقد ارتبطت العقيدة الدينية في ذهن اليهودي
بالسياسة، فحسبوا أن
المسيّا المخلص قادم لإنقاذهم من السلطة الرومانية وبسط
نفوذهم على مستوى العالم، الأمر الذي دفعهم إلى
صلب ربنا
يسوع المسيح إذ لم يجدوا
فيه سؤل قلبهم. أمّا المسيحي فكمؤمن حقيقي يدرك أن السماء هي دائرة اهتمامه
الداخلي، كقول الرسول: "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث
المسيح جالس عن يمين الله، اهتمّوا بما فوق لا بما على الأرض" (كو 3: 1-2). هكذا
ينسحب قلبه إلى السماويات، مدركًا أن حياته كلها في يدي
ّ الله ضابط الكل. ولا يطمع المسيحي كمؤمن في مراكز
زمنية، ولا يرتبط إيمانه بالسياسة، إذ يرى في كنيسته ليست مؤسسة زمنية وإنما "حياة
سماوية"، لا تدخل في السياسة، وإنما تقبل الكل بروح التواضع والخضوع والحب في
الله.
كتب الرسول بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين، لأنه
ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله" [1]، ذلك في
الوقت الذي كان فيه
نيرون يضطهد الكنيسة بكل عنف. إذ كان يؤمن إن نيرون أيضًا
بالرغم من شرّه قد أقيم بسماح إلهي لخير الكنيسة، وليس عمل الكنيسة أن تقاومه لا
في الظاهر ولا بالقلب، إنما ترد مقاومته بالحب والخضوع في الأمور الزمنيّة مادامت
لا تمس إيمانها بالله.
جاء في سفر الأمثال: "بي تملك الملوك، وتقضي
العظماء عدلًا، بي تترأس الرؤساء والشرفاء، كل قضاة الأرض" (أم 8: 15-16)، "قلب
الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء أن يميله" (أم 21: 1)، لهذا لا تكف
الكنيسة عن أن تصلي من أجل الرئيس أو الملك ومشيريه ورجاله لكي يعطيهم الرب سلامًا
وحكمة.
يحدّثنا
القديس يوحنا الذهبي الفم عن خضوع الكنيسة
للحكام، قائلًا:
[إن كان يليق بنا أن نجازي
الذين يضرّوننا بالخير فكم بالأحرى يليق بنا أن نطيع من هم نافعون لنا؟... لقد
أظهر (الرسول) أن هذه التعليمات تشمل الكل كالكهنة
والرهبان وليس فقط الذين يمارسون أعمالًا عالمية... إذ يقول: "لتخضع كل
نفس للسلاطين الفائقة" [1]. فإن
كنتَ رسولًا أو إنجيليًا أو نبيًا، أو أيّا كنت فلتعلم أن هذا ليس مدمّرًا للدين.]
يفسر لنا
القديس يوحنا الذهبي الفم هذه العبارة موضحًا
إننا نلتزم بالخضوع للرؤساء والحكام، لأن هذا التدبير هو من الله، لا بمعنى كل ملك
أو مسئول أقيم من عند الله، وإنما التدبير ذاته هو من الله، إذ يقول: [ماذا تقول؟
هل كل حاكم اختاره الله؟ نجيب: لست أقول هذا، فإنني لا أتحدث عن أفراد وإنما عن
المركز نفسه، إذ يجب أن يوجد حكام ومحكومين، حتى لا تسير كل الأمور في ارتباك،
فيصير الناس كالأمواج يتخبطون من هنا وهناك، هذا ما أقول عنه إنه حكمة الله.
لذلك لم يقل: "لأنه ليس حاكم إلا من الله" وإنما
يقول: "ليس سلطان إلا من الله". وذلك كما يقول الحكيم: "زواج الرجل
بامرأة من عند الرب" (أم 19: 14 الترجمة السبعينية)، بمعنى أن الله أوجد
الزواج لكن هذا لا يعني أنه هو الذي يأتي بكل رجل يتزوج بإمرأة. فإننا نرى كثيرين
يتزوّجون للشرّ تحت شريعة الزواج، هذا لا ننسبه لله.]
يكمل
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
مظهرًا أن الخضوع هنا ليس لأجل منفعة زمنية، وإنما من أجل الله نفسه، كما
ذكرنا أيضًا هنا في
موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
فالخضوع
هنا لا يعني ضعفًا بل "طاعة في الرب"، لذا يليق بالمؤمن في خضوعه أن
يخاف لا من الناس وإنما من الشرّ: "فإن الحكام ليس خوفًا للأعمال الصالحة بل
الشرّيرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون
لك مدح منه، لأنه خادم الله للصلاح، ولكن إن فعلت الشرّ فخف، لأنه لا يحمل السيف
عبثًا إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشرّ. لذلك
يلزم أن يُخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضًا بسبب الضمير" [3-5].
هكذا يرفعنا الرسول من الخضوع عن خوف أو للتملق إلى
الخضوع عن ضمير داخلي حق، فيكون خضوعنا للسلاطين نابعًا عن أعماقنا الداخليّة،
ممارسين الخير والصلاح وممتنعين عن الشرّ من أجل الضمير الداخلي. هكذا يلتقي
خضوعنا للسلطان بتقديسنا الداخلي.
يُعلّق
القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة
الرسولية السابقة، قائلًا: [انظروا كيف يجعل منهم أصدقاء للحاكم، مظهرًا أنه
يمتدحهم من عرشه، فلا مجال للغضب... ليس الحاكم هو السبب في الخوف، وإنما شرّنا!]
في خضوعنا للسلطان نمارس وصية إنجيلية كجزءٍ لا
يتجزأ من حياتنا الروحيّة. هذا الخضوع لا يكون بالفم أو اللسان، وإنما بالعمل
الجاد، بإيفاء الوطن حقّه علينا، فبسرور نقدم الالتزامات، إذ يقول الرسول: "فإنكم
لأجل هذا توفون الجزيّة أيضًا، إذ هم خدّام الله مواظبون على ذلك بعينه؛ فأعطوا
الجميع حقوقهم، الجزيّة لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، الخوف لمن له
الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" [6-7].
يرى
القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول قد حوّل ما
يراه الكثيرون ثقلًا إلى راحة، فإن كان الشخص ملتزم بدفع الجزية إنما هذا لصالحه،
لأن الحكام "هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه"، يسهرون مجاهدين من
أجل سلام البلد من الأعداء ومن أجل مقاومة الأشرار كاللصوص والقتلة. فحياتهم
مملوءة أتعابًا وسهر. بينما تدفع أنت الجزية
لتعيش في سلام يُحرم منه الحكام أنفسهم. هذا ما دفع الرسول بولس أن يوصينا لا
بالخضوع للحكام فحسب وإنما بالصلاة من أجلهم لكي نقضي حياة هادئة مطمئنة (1 تي 2: 1-2).
هذا وإن كلمة "أعطوا" هنا في الأصل اليوناني تعني "ردّوا"، فما نقدمه من جزية أو تكريم للحكام ليس هبة منّا، وإنما هو إيفاء لدين علينا، هم يسهرون ويجاهدون ليستريح الكل في طمأنينة.
سبق لنا الحديث بإفاضة عن الوصيّة الإلهية: "أعطوا
ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" في تفسيرنا (مت 22: 21؛ 1 بط 2: 13، 17).
هذا والجزية هنا يقصد بها ما يأخذه الحاكم
على النفوس والعقارات، أمّا الجباية فيأخذها على التجارة.
اِلتزامنا نحو الوطن لا يقف عند الخضوع للسلاطين
ودفع التزاماتنا الماديّة كالضرائب وإنما يمتد أيضًا لحب كل إنسان، إذ يقول الرسول:
"لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضًا، لأن من أحب غيره فقد
أكمل الناموس" [8].
لا يستريح المؤمن مادام عليه دين، فيبذل كل الجهد أن
يفي دين الآخرين عليه، ولعلّه يقصد هنا أنه يليق بالشعب أن يفوا الحكام الدين، لأن
الآخرين يبذلون كل الجهد لأجل سلام الشعب.
على أي الأحوال يليق بنا أن نفي كل إنسان دينه، إنما
نبقى نشعر بدين الحب نحو الكل من أجل الله الذي أحبّنا، فنعيش كل حياتنا نرد حب
الله لنا بحبّنا للناس. وكما يقول
القديس يوحنا الذهبي الفم عن إيفاء دين الحب [يريدنا أن نبقي على الدوام نفي الدين، ولا ينتهي.] يسألنا
القدّيس أغسطينوس أن نطلب من الله الحب حتى نقدر أن نفي الدين.
بهذا الفكر لا نمارس "الحب" وحده، إنما نكمل
الناموس كله، "لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس" [8]. وكما يقول
القديس يوحنا الذهبي الفم: [مرة أخرى نناقش الأعمال الصالحة، المنتجة لكل فضيلة...
إنك مدين لأخيك بالحب، لأننا أعضاء لبعضنا البعض؛ فإن
تركنا الحب تمزّق الجسد إلى أشلاء. إذن فلتحب أخاك، فإن
كنت بصداقتك له تقتني إتمام الناموس كله فأنت مدين له بالحب بكونك تنتفع به.]
يوضّح الرسول ذلك بقوله: "لأن لا تزن، لا تقتل، لا
تشهد بالزور، لا تشته، وإن كان وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة: أن تحب قريبك
كنفسك" [9].
إذ يمتليء القلب حبًا حقيقيًا، إنما يمتلئ بالله
نفسه الذي يشبع القلب والنفس والعواطف والأحاسيس، فلا يحتاج الإنسان إلى ملذات
العالم وإغراءاته ولا شهوات الجسد ولا خداعات الخطيّة لتملأ حياته. الحب مشبع
للكيان الإنساني، ومبهج للحياة!
بالحب أيضًا نلتقي مع السيد المسيح محب البشر، فتصير
الوصايا الإنجيليّة هي ناموس حياتنا الداخليّة، عندئذ يكمل فينا الناموس بكونه
وصايا سهلة وهينة.
يكمل الرسول حديثه، قائلًا:
"المحبّة لا تصنع شرًا للقريب، فالمحبّة هي تكميل الناموس" [10].
المحبّة وهي أم كل فضيلة، ترفع الإنسان في أعماقه فوق
كل شرّ، ليحيا بالروح مكملًا الناموس.
+ حيث يوجد الحب ماذا
نحتاج بعد؟... وحيث لا يوجد الحب فأي شيء يمكن أن يكون
نافعا؟ فإن الشيطان يؤمن (يع 2: 19) لكنه لا يحب، لكن ليس أحد يحب ما لم يؤمن.
+ المحبّة هي تكميل الناموس، مثل المسيح (الذي أكمل
الناموس)... بالحب تكمل الوصايا: لا تزن، لا تشته امرأة
قريبك، تلك الخطايا التي مُنعت قبلا بالخوف.
+ الحب هو بداية الفضيلة ونهايتها، الحب هو جذورها
وأساسها وقمّتها. إن كان الحب هو
البداية والتكميل، فماذا يعادله؟
إن كان يليق بنا أن نكون أمناء بالنسبة لوطننا
الأرضي فنخضع للسلاطين، ونقدم لهم الكرامة عمليًا
بالحياة الفاضلة، ونحب جميع
إخوتنا كأنفسنا، فإن هذا الالتزام ينبع عن أعماقنا الملتهبة بحب الوطن السماوي،
وشوقنا الدائم للاستعداد للانطلاق إليه.
هذا وإنكم عارفون إنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم، فإن خلاصنا الآن أقرب ممّا كان حين
آمنّا" [11].
لنكن أمناء ومحبّين للكل لأن أيّامنا على الأرض مقصّرة،
هي مجرّد "ساعة"، وكأنها ساعة نوم نستيقظ لنجد أنفسنا مع الله وجهًا
لوجه في ملكوته السماوي أبديًا.
يشعر الرسول أن كل يوم ينقضي إنما يدخل به إلى الأبدية
مقتربًا من نهاية حياته الزمنيّة لينعم بشهوة قلبه. كأنه يترقب خروجه من العالم
يومًا وراء يوم، وساعة بعد ساعة! هذه هي إحساسات
الكنيسة
الأولى، إذ نسمع: "الوقت منذ الآن مقصّرً" (1 كو 7: 29)؛ "نهاية كل
شيء قد اقتربت" (1 بط 4: 7)؛ "هي الساعة الأخيرة" (1 يو 2: 18).
+ "لقد اقتربت القيامة، اقتربت الدينونة
الرهيبة، اقترب اليوم الذي يحرق كأتون. لذلك وجب علينا
أن نتحرّر من تغافلنا... أنظر كيف يضع القيامة قريبة
جدًا منهم، فالأيّام تتقدّم لينتهي زمان حياتنا الحاضرة، والحياة العتيدة تقترب...
فإنه لا يليق أن يكونوا في بداية سعيهم غير ملتهبين غيرة
وقد بلغ شوقهم كمال شدته، ليفتروا في غيرتهم مع مرور الزمن... إنما
يجب أن يحدث العكس ألاَ يتراخوا بعامل الزمن، وإنما أن يزدادوا قوّة أكثر فأكثر.
فكلما اقترب مجيء الملك يلزم بالأكثر أن يستعدّوا؛ كلما اقتربت
المكافأة بالأكثر يصحون في صراعهم كما يحدث في المباريات حيث يزداد حماس
المتسابقين كلما اقتربت نهاية المباراة". (القديس
يوحنا الذهبي الفم)
"قد تناهي الليل وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس
أسلحة النور، لنسلك بلياقة كما في
النهار، لا بالبطر والسكر، لا
بالمضاجع والعهر، ولا بالخصام والحسد، بل البسوا الرب يسوع، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات" [12-14].
يرى القدّيس بولس أن ليل الحياة الحاضرة يتناهى، لكي
يقترب نهار الأبدية التي بلا ليل، لذا لاق بنا أن نتهيأ لهذا النهار فنحمل فينا
السيد المسيح "شمس البرّ"، نلبسه فيحطِّم فينا كل أعمال الظلمة، مشرقًا
علينا بأعماله المقدّسة كأسلحة نور.
يشبِّه
البابا غريغوريوس (الكبير) الرسول بولس هنا
بالديك الذي يعطي صوتًا جميلًا لنستيقظ عند انتهاء الظلمة، وحلول النهار في الفجر.
+ لنمارس حياتنا هنا الآن بنفس الطريقة التي سنحياها
في النهار، أي في العالم العتيد.
+ إن كانت الظلمة قد رحلت عن صدرك، إن كان الليل قد
تبدّد من هناك، إن كان
الظلام قد طُرد، إن كان بهاء النهار قد أنار حواسك، إن كنت
قد بدأت أن تكون إنسان النور، فلتمارس أعمال المسيح، لأن المسيح هو النور والنهار.
+ يليق بنا أن نترك الأعمال نفسها تصرخ عاليًا، إذ
تجعلنا نسير في النهار، إذ تضيء أعمالك (مت 5: 6) .
بعد أن قدّم لنا السيّد المسيح الجوانب الثلاثة
للعبادة المسيحيّة أراد توضيح غايتها، ألا وهي رفع القلب النقي إلى السماء، ليرى
الله ويحيا في أحضانه، محذّرًا إيّانا ليس فقط من تحطيمها خلال "الأنا" وحب
الظهور، وإنما أيضًا خلال "محبّة المال" التي تفقد القلب المتعبّد
حيويّته وحريّته، إذ يقول السيد: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد
السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بلا اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث
لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون" [19-20].
من يتعبّد لله بقصد المجد الزمني الباطل يكون كمن جمع
كنوزه على الأرض، سواء في شكل ثياب فاخرة يفسدها السوس، أو معادن تتعرّض للصدأ، أو
أمور أخرى تكون مطمعًا للصوص. هكذا يرفع قلوبنا إلى السماء لننطلق بعبادتنا إلى
حضن الآب السماوي، يتقبّلها في ابنه كسرّ فرح له وتقدِمة سرور، لا يقدر أن يقترب
إليها سوس أو لصوص ولا أن يلحقها صدأ!
يقول
القديس أغسطينوس: [إن كان القلب على الأرض، أي
إن كان الإنسان في سلوكه يرغب في نفع أرضي، فكيف يمكنه أن يتنقّى، مادام يتمرّغ في
الأرض؟ أمّا إذا كان القلب في السماء فسيكون نقيًا، لأن
كل ما في السماء فهو نقي. فالأشياء تتلوّث بامتزاجها بالفضّة النقيّة، وفكرنا
يتلوّث باشتهائه الأمور الأرضيّة رغم نقاوة الأرض وجمال
تنسيقها في ذاته.]
يُعلّق أيضًا
القديس أغسطينوس على حديث السيّد:
"لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض"، قائلًا:
+ لو أخبركم مهندس معماري
أن منزلكم يسقط حالًا، أفلا تتحرّكون سريعًا قبل أن تنشغلوا بالنحيب عليه؟! هوذا
مؤسّس العالم يخبركم باقتراب دمار العالم، أفلا تصدّقوه؟!... اسمعوا إلى صوت
نبوّته: "السماء والأرض تزولان" (مت 24: 35)...
استمعوا إلى مشورته...
الله الذي أعطاكم المشورة لن يخدعكم، فإنكم لن تخسروا ما
تتركونه، بل تجدوا ما قدّمتموه أمامكم... اعطوا الفقراء فيكون لكم كنز في السماء!
لا تبقوا بلا كنز، بل امتلكوا في السماء بلا هّم ما تقتنونه
على الأرض بقلق. أرسلوا أمتعتكم إلى السماء. إن مشورتي هي لحفظ
كنوزكم وليس لفقدانها...
ينبغي علينا أن نضع في السماء ما نخسره
الآن على الأرض. فالعدو يستطيع أن ينقب منازلنا، لكنّه
هل يقدر أن يكسر باب السماء؟إنه يقتل الحارس هنا، لكن هل
يستطيع أن يقتل الله حافظها؟...
الفقراء ليسوا إلا حمّالين ينقلون
أمتعتنا من الأرض إلى السماء. إذن فلتعطوهم ما لديكم
فإنهم يحملونها إلى السماء... هل نسيتم القول: "تعالوا يا مباركي أبي
رثوا الملكوت... لأني جعت فأطعمتموني... وكل ما فعلتم بأحد
إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 34-40).
بهذه الوصيّة يرفع الرب عبادتنا للسماء، محذّرًا إيّانا
من "المجد الباطل" ومقيمًا حراسًا عليها، ألا وهي أعمال الرحمة المملوءة
حبًا. فالصدقة الحقيقية بمعناها الواسع والتي تضم العطاء المادي والمعنوي، ترفع
القلب بعيدًا عن الزمنيّات المعنويّة والماديّة، وتحوّل أرصدته في السماء.
ويرى
القديس يوحنا الذهبي الفم أن
السيّد المسيح
يحدّثنا عن الحب والرحمة في دستوره الإلهي بطريقة تدريجيّة هكذا:
أولًا: قدّم لنا الرحمة كمبدأ عام نلتزم به.
ثانيًا: طالبنا بمصالحتنا لخصمنا، فلا حاجة للدخول مع أحد
في منازعات، وإنما الرحمة تغلب (5: 23 26).
ثالثًا: ارتفع بنا إلى ما فوق القانون، فبالحب ليس فقط
نترك ثوبنا لمن ليس له الحق فيه، وإنما نقدّم معه رداءنا حتى نربح الخصم بحبّنا.
رابعًا: سألنا ألا نكنز على الأرض، فلا نقدّم أعمال الرحمة
للخصم والمضايقين لنا فحسب، حتى لا ندخل معهم في نزاعات بل نكسبهم بالمحبّة، فتكون
طبيعتنا هي العطاء بسخاء، كطبيعة داخليّة تنبع عن حنين مستمر لنقل ممتلكاتنا إلى
السماء.
إذ يقدّم لنا السيّد هذا التوجيه يُعلن جانبه الإيجابي
ألا وهو أنه بالعطاء نحوّل كنزنا إلى فوق في السماء، كما يوضّح جانبه السلبي
مهدّدًا أن ما نتركه هنا يفسد بطريق أو آخر فنفقده إلى الأبد. يقول
القديس يوحنا الذهبي الفم: [أنه يجتذبهم، إذ لم يقل فقط إن قدّمت الصدقة تُحفظ لك
بل هدّد بأنك إن لم تعطِ غناك الخ. إنّما تجمعه للسوس والصدأ
واللصوص. وإن هربت من هذه الشرور لن تهرب من عبوديّة
قلبك له فيتسمّر بالكامل أسفل، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا. إذن
فلنُقِم المخازن في السماء.]
تحدّث عن القلب الذي يلتصق بالكنز ويجري وراءه،
مطالبًا إيّانا أن يكون مسيحنا هو كنزنا عِوض الكنز يحطّمه السوس والصدأ واللصوص،
فيكون قلبنا على الدوام مرفوعًا إلى فوق حيث المسيح جالس، لهذا يحدّثنا عن "العين
البسيطة" التي تجعل الجسد كلّه نيّرًا. ما هي هذه
العين الداخليّة إلا القلب الذي وحده يقدر أن يرى أسرار الكنز السماوي، فيجذب نحو
السماويات، ولا يتذبّذب بين النور الأبدي ومحبّة الفانيات.
"سراج الجسد هو العين،
فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرًا، وإن كانت عينك شرّيرة فجسدك كلّه يكون
مظلمًا، فإن كان النور الذي فيك ظلامًا،
فالظلام كم يكون؟!" [22-23]
العين هي مرشد الجسد كلّه لينطلق إلى هنا أو هناك،
فإن ارتفعت نحو السماء انطلق الإنسان كلّه بعبادته وسلوكه كما بأحاسيسه ومشاعره
نحو السماويات، أمّا إن اِنحنت نحو الأرض لتصير أسيرة حب المجد الباطل أو رياء
الفرّيسيّين أو حب الغنى الزمني، لا يمكن للإنسان مهما قدّم من عبادات أن يرتفع
إلى فوق. يشبّه
القديس يوحنا الذهبي الفم العين بالقائد الذي إن
سقط أسيرًا ماذا ينتفع الجند بالذهب؟ وربّان السفينة الذي إن بدأ يغرق ماذا تنتفع
السفينة بالخيرات الكثيرة التي تملأها؟! حقًا كثيرون قد
جمعوا ذهب الصداقة والصلاة
والصوم وظنّوا أن سفينتهم مشحونة بالأعمال الصالحة،
ولكن بسبب فساد قلبهم وظلمة بصيرتهم الداخليّة يبقون بعيدًا عن الميناء الآمن
وتغرق بكل ما تحمله! لهذا يفسر
القديس أغسطينوس العين البسيطة بنيّة القلب
الداخلي التي تقود كل تصرفاتنا، إذ يقول: [نفهم من هذه العبارة أن جميع أفعالنا
تكون نقيّة ومرضية في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن جميع أفعالنا تكون
نقيّة ومرضيّة في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن كان هدفنا فيها سماويًا،
متطلّعين إلى تلك الغاية التي هي المحبّة، لأن "المحبّة هي تكميل الناموس"
(رو 13: 10). من ثم فلنفهم "العين" هنا على أنها "النيّة التي نصنع
بها أفعالنا"، فإن كانت نيّتنا نقيّة وسليمة، أي ناظرين إلى السماويات،
فستكون جميع أعمالنا صالحة، هذه التي لقّبها الرب "جسدك كلّه"، لأنه
عندما حدّثنا الرسول عن بعض أعمالنا القبيحة، دعاها أيضًا (أعضاء لنا)، إذ علّمنا
أن نصلبها قائلًا: "فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض، الزنا النجاسة...
الطمع"
(كو 3: 5)، وما على شاكلة ذلك.]
ويرى الأب موسى أن العين البسيطة تُشير إلى روح التمييز
أو الحكمة، [لأنها هي التي تميّز كل الأفكار والأعمال، وترى كل شيء وتراقب ما
سيحدّث. فإن كانت عين الإنسان شرّيرة، أي غير محصّنة بصوت الحكمة والمعرفة، مخدوعة
ببعض الأخطاء والعجرفة (في العبادة) فإنها تجعل جسدنا كلّه مظلمًا، أي يظلم كل
نظرنا العقلي، وتصير أعمالنا في ظلام الرذيلة ودجى الإضرابات، إذ يقول: "فإن
كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟" [23]. فلا يستطيع أحد أن يشك في
أنه متى كان "الحكم في الأمور" في القلب خاطئًا، أي متى كان القلب مملوء
جهالة، تكون أفكارنا وأعمالنا - التي هي ثمرة التمييز والتأمّل - في ظلام الخطيّة
العُظمى.]
إن كان "البسيط" هو عكس "المُركّب أو
المُعقّد"، فإن العين البسيطة إنّما هي التي لا تنظر في اتّجاهيّن، ولا يكون
لها أهداف متضاربة بل لها اتّجاه واحد وهدف واحد... وكما يقول
مار فيلوكسينوس: [لقد
أعطانا ربّنا مبدأ سهلًا في بشارته ألا وهو الإيمان الحق البسيط، فالبساطة ليست هي
المعروفة في العالم بالبلادة والخرافة بل هي فكر واحد بسيط فريد.]
إن كان غاية العبادة هي الالتقاء مع الله أبينا
السماوي لنحيا معه في ابنه إلى الأبد، فإنه يسألنا أن نحيا بالعين البسيطة التي لا
تعرج بين السماء والأرض، فيرتفع الجسد كلّه مع القلب إلى السماء.
أمّا العدوّ الأول للبساطة فهو "حب المال" الذي
تنحني له قلوب الكثيرين متعبّدة له عِوض الله نفسه، ويجري الكثيرون نحوه كعروسٍ
تلتصق بعريسها عِوض العريس السماوي. إنه يقف منافسًا لله نفسه يملك على القلب
ويأسره، وهنا يجب التأكيد أننا لا نتحدّث عن المال في ذاته وإنما "حب المال".
"لا يقدر أحد أن يخدم
سيّدين، لأنه إمّا أن يبغض الواحد
ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال"
[24].
كلمة
المال هنا "Mammon"
كلمة عبريّة تُشير إلى المقتنيات الماديّة بشكل عام، وكانت في الأصل تُشير إلى ما
يعتزّ به الإنسان من مال ومقتنيات، لكنها تطوّرت لتعني المال كإله يُستعبد له
الإنسان.
+ يُسمى حب المال سيدًا ليس
بطبيعته الخاصة به، وإنما بسبب بؤس المنحنين له. هكذا أيضًا تُدعى
البطن إلهًا (في 3: 19) ليس عن كرامة هذه السيدة، وإنما بسبب بؤس المستعبدين لها.
(القديس
يوحنا الذهبي الفم
+ من يخدم المال يخضع للشيطان القاسي المهلك، فإذ يرتبك بشهوته للمال يخضع للشيطان ويلازمه رغم عدم محبّته له، لأنه من منّا يحب الشيطان؟ ويكون بذلك يشبه إنسانًا أحب خادمة لدى شخص عظيم، فرغم عدم محبته لسيدها إلا أنه يخضع لعبوديته القاسية بسبب محبته للخادمة . (القديس أغسطينوس)
المال ليس في ذاته إلهًا، ولا هو شرّ نتجنّبه، إنّما يصير
هكذا حينما يسحب القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه، فيفقده سلامه ويدخل به إلى
ظلمة القلق؛ يفقده النظرة العميقة للحياة ليرتبك بشكليّاتها. عِوض الاهتمام
بالحياة ذاتها ينشغل بالأكل والشرب، وعِوض الاهتمام بالجسد كعطيّة مقدّسة وأعضاء
تعمل لخدمة القدّوس يهتم بالملبس. هكذا بالمحبّة المال
تحصر الإنسان خارج حياته الحقيقية: نفسه وجسده، ليرتبك بأمور
تافهة باطلة وزائلة. يقول السيد: "لذلك أقول لكم لا
تهتمّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة
أفضل من الطعام؟! والجسد أفضل من اللباس؟!" [25]. ويُعلّق
القديس يوحنا الذهبي الفم هكذا: [لا يقف الضرر عند الغنى ذاته، وإنما يبلغ الجرح
إلى الأجزاء الحيويّة الذي فيه تفقدون خلاصكم، إذ يطردكم خارج الله الذي خلقكم
ويهتم بكم ويحبّكم.] ويقول
القديس أغسطينوس: [فبالرغم من أننا لا نطلب الكماليّات
(بل الأكل والشرب والملبس)، لكن نخشى من أن يصير قلبنا مزدوجًا حتى في طلب
الضروريّات. فنحن نخشى أن ينحرف هدفنا إلى طلب ما هو
لصالحنا الخاص، حتى عندما نصنع رحمة بالآخرين مبرّرين ذلك بأنّنا نطلب الضروريّات
لا الكماليّات. لقد نصحنا الرب أن نتذكّر أنه عندما خلقنا وهبنا جسدًا وروحًا،
وهما أفضل من الطعام واللباس، وبذلك لم يشأ أن تكون قلوبنا مزدوجة.]
+ وُضع علينا أن نعمل (من أجل الضروريّات) لكن لا نقلق. (القديس جيروم)
+ لا يُطلب الخبز خلال قلق
الروح بل تعب الجسد. والذين يجاهدون حسنًا ينالونه بوفرة كمكافأة لعملهم، ويُنزع
عن الكسلان كعقوبة من الله.
(القديس
يوحنا الذهبي الفم)
في الوقت الذي فيه يُعلن السيّد ما تفعله محبّة
المال في الإنسان، حيث تسحبه من خلاصه وتربكه في الأمور الزمنيّة الباطلة، يوضّح
مدى رعايته هو بالإنسان ليس فقط بروحه وجسده، أو حتى أكله وشربه وملبسه، وإنما
يهتم حتى بطيور السماء
وزنابق الحقل التي خلقها لأجل الإنسان، حقًا ربّما تبدو
الطيور ليست بضروريّة لنا وأيضًا زنابق الحقل، لكن الله الذي خلق العالم كلّه
لخدمتنا يهتم بأموره كلها. وإذ أراد السيّد أن يسحبنا تمامًا من حياة القلق التي
تخلقها محبّة المال، تساءل إن كان أحد منّا يقدر أن يزيد على قامته ذارعًا واحدًا؟
"انظروا إلى طيور السماء.
أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالأحرى أفضل منها؟!
ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا
واحدًا؟ ولماذا تهتمّون باللباس؟ تأمّلوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تحصد،
+ إن كان الله يهتم بهذه الأمور التي خُلقت اهتمامًا
عظيمًا، فكم بالأكثر يهتم بنا؟! إن كان يهتم
هكذا بالعبيد فكم بالأكثر بالسيد؟!
+ إن كنّا لا نقدر أن نعمل بسبب مرض ما أو بسبب
الانشغال فإنه يقوتنا كما يقوت الطيور التي لا تعمل. لكن
إن كان يمكننا العمل يلزمنا ألا نُجرِّب الله، لأن ما نستطيع أن نعمله إنّما نعمله
خلال عطيّته. حياتنا على الأرض هي عطيّته، إذ يهبنا
الإمكانيّة للحياة!
إن كان الله يُطعم الطيور ويقدّم القوت اليومي
للعصافير ولا يترك الخليقة التي لا تدرك الإلهيّات في عوز إلى مشرب أو مأكل، فهل
يمكنه أن يترك إنسانًا مسيحيًا أو خادمًا للرب معتازًا إلى شيء؟ إيليّا عالته
الغربان في البرّيّة، ودانيال أُعد له لحم من السماء وهو في الجب، فهل تخشى
الاحتياج إلى طعام؟
+ إنك تخشى فُقدان ممتلكاتك عندما تبدأ أن تعطي بسخاء، ولا تعلم أيها البائس أنك فيما تخاف على ممتلكات عائلتك تفقد الحياة نفسها والخلاص. بينما تقلق لئلا تنقص ثروتك لا تُدرك أنك أنت نفسك تنقص!... بينما تخشى أن تفقد ميراثك لأجل نفسك إذا بك تفقد نفسك لأجل ميراثك! (القديس كبريانوس)
+ إن كانت الطيور بلا تفكير أو اهتمام والتي توجد
اليوم ولا تكون غدًا يعولها الله بعنايته كم بالأحرى يهتم بالبشر الذين وعدهم
بالأبديّة؟!
(القديس جيروم)
+ الله هو الذي ينمّي أجسادكم كل
يوم وأنتم لا تُدركون. فإن كانت عناية الله تعمل فيكم يوميًا،
فكيف تتوقّف عن إشباع احتياجكم؟ إن كنتم لا تستطيعون
بالتفكير أن تضيفوا جزءًا صغيرًا إلى جسدكم فهل تقدرون بالتفكير أن تهتمّوا بالجسد
كله؟ (القديس
يوحنا الذهبي الفم)
+ الزنابق تمثّل جمال الملائكة السمائيّين البهي، الذين ألبسهم الله بهاء مجده، إنهم لم يتعبوا ولا غزلوا، إذ تقبّلوا من البدء ما هم عليه دائمًا. وإذ في القيامة يصير الناس كالملائكة أراد أن نترجّى جمال الثوب السماوي، فنكون كالملائكة في البهاء. (القدّيس هيلاري)
+ الرهبان على وجه الخصوص هم طيور من هذا النوع، ليس لهم مخازن ولا خزائن لكن لهم رب المؤن والمخازن، المسيح نفسه!... ليس لهم غنى الشيطان (محبّة الغنى) بل فقر المسيح. ماذا يقول الشيطان؟ "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9). أمّا المسيح فماذا يقول لتابعيه؟ من لا يبيع كل ما له ويعطي الفقراء لا يقدر أن يكون تلميذًا. الشيطان يعد بمملكة وغنى ليحطّم الحياة، والرب يعد بالفقر لكي يحفظ الحياة! (القديس جيروم)
يختم السيّد حديثه عن العبادة الحرّة التي لا يأسرها
محبّة المال، فيعيش الإنسان في كمال الحرّية متّكئًا على الله لا المال، موضّحًا
ضرورة الحياة بلا قلق، إذ يقول: "لكن اطلبوا أولًا ملكوت الله وبرّه، وهذه
كلها تُزاد لكم؛ فلا تهتمّوا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه؛ يكفي اليوم شرّه"
[33-34].
+ ملكوت الله وبرّه هو الخبز الذي نسعى إليه،
والذي نقصده من كل أعمالنا. ولكننا إذ نخدم في هذه الحياة
كجنود راغبين في ملكوت السماوات نحتاج إلى الضروريّات اللازمة للحياة، لذلك قال
الرب: "هذه كلها تزاد لكم"، "ولكن اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره".
فبقوله كلمة "أولًا" أشار إلى طلبنا هذه الأشياء، ولكننا لا نطلبها أولًا، لا من جهة الزمن بل حسب الأهمّية، فملكوت الله نطلبه كخير نسعى نحوه، أمّا الضروريّات فنطلبها كضرورة نحتاج إليها لتحقيق الخير الذي نسعى نحوه. (القديس أغسطينوس)
يرى
القديس جيروم في القول: "لا تهتمّوا بالغد"
دون قوله "تهتمّوا باليوم" تشجيع للعمل والجهاد الآن بغير تواكل، إذ
يقول: [قد يسمح لنا أن نهتم بالحاضر ذاك الذي يمنعنا من التفكير في المستقبل، حيث
يقول الرسول: "عاملون ليلًا ونهارًا كي لا نثقل على أحدٍ منكم" (1 تس 2:
9).]
وفي قوله "يكفي اليوم شرّه" لا يعني بالشرّ الخطيّة، وإنما بمعنى "التعب"،
فلا نهتم بما سنتعبه غدًا، إنّما يكفي أن نتعب اليوم ونجاهد، وكأن الله وهو يمنعنا
من القلق يحثّنا على الجهاد.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/6pqy2z7