أيوب 1-2
محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
أيوب: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22
يبدأ المشهد في منطقة أدوم، لرجلٍ بار يعبد الله الحقيقي، مثل الآباء البطاركة يمارس العمل الكهنوتي لحساب أسرته.
يليه مشهد آخر في السماء، لم يعرفه أيوب نفسه، لكن الله أعلنه لكاتب السفر. فيه يعلن الله عن اهتمامه ببني البشر، خاصة المؤمنين به.
يبرز الكتاب المقدس، خاصة في هذا السفر أن الشيطان كائن لا يعرف الخمول، لكن يبذل كل الجهد لمقاومة الله في البشرية المتعبدة له. إنه لا يكف عن الشكوى ضد المؤمنين، بينما يأخذ الله موقف الدفاع عنهم. إنهم موضع عنايته الإلهية ورعايته الفائقة، لكن قد يسمح لهم بالتجارب لكي تتلألأ بالأكثر أكاليلهم.
1 -3. |
||
4 -5. |
||
6 -12. |
||
13 -19. |
||
20 -22. |
||
1 كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عَوْصَ اسْمُهُ أَيُّوبُ. وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ. 2 وَوُلِدَ لَهُ سَبْعَةُ بَنِينَ وَثَلاَثُ بَنَاتٍ. 3 وَكَانَتْ مَوَاشِيهِ سَبْعَةَ آلاَفٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَثَلاَثَةَ آلاَفِ جَمَل، وَخَمْسَ مِئَةِ فَدَّانِ بَقَرٍ، وَخَمْسَ مِئَةِ أَتَانٍ، وَخَدَمُهُ كَثِيرِينَ جِدًّا. فَكَانَ هذَا الرَّجُلُ أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي الْمَشْرِقِ.
"كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عُوصَ اسْمُهُ أَيُّوبُ.
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا،
يَتَّقِي الله، وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ" [1].
يرى كثير من الآباء أن السفر يُفتح بمديح عظيم له بقوله: "كان رجل". وكما يقول العلامة أوريجينوس إن كثيرين يُدعون بشرًا، لكنهم يسلكون كحيواناتٍ مفترسةٍ أو حيواناتٍ غبية أو زواحفٍ أو طيورٍ وليس كبشرٍ حسبما خلقهم الله محب البشر.
* هذا الاسم "رجل" لا نعًّرفه حسبما يعرفه الذين هم في الخارج، بل حسبما يعًّرفه الكتاب المقدس. فالإنسان ليس هو كل من له يدا إنسان وقدماه، ولا من كان عاقلًا فحسب، بل من يمارس التقوى والفضيلة بشجاعة(36).
*كثيرون يدعون أنفسهم "رجالًا" (أناسًا)، لكنهم هم ليسوا بالحق هكذا. فالبعض يعيشون بسلوك بهيمي، بينما آخرون بسلوك الزواحف، يبثون حنقهم كوحوشٍ مفترسةٍ. لهذا يقول داود نفسه: "والإنسان في كرامةٍ لا يبيت، يشبه البهائم" (مز 49: 12)...
لكن بالتأكيد تُستخدم كلمة "إنسان" على من يحمل صورة الله (تك 1: 27)، هذا الذي يحمي كرامته بطريقة لائقة، ويضع الخيار بين الخير والشر، ويهب مجده لخليقته التي تبتهج به، وتجد مسرتها فيه (مز 104: 31).
هكذا "كان رجل في أرض عوص". فقد كانت المنطقة قفرًا موحشًا، لكن به غرس... كان أيوب كنزًا لا ينقصه شيء. كان مملوءً من عنب الحصاد المغروس. كان كاملًا (حقيقيًاtrue ) كخليقة الإله الحق، إذ استخدم فضائله لحساب الحق بغير رياءٍ، متممًا وصايا الله... فقد عبد الله حسبما يريد الله(37).
كان بنو أدوم يسكنون في "عوص" في أيام إرميا النبي (مرا 4: 21). يُعتقد أنها كانت بين دمشق وأدوم، في الصحراء السورية. وهناك من يعتقد أنها هي حوران. تقع ما بين فلسطين والعربية، شمال شرقي نهر الفرات، في طريق القوافل ما بين مصر وبابل. يرى التقليد أن حاران هي وطن أيوب، شرق بحر الجليل. وهي منطقة كانت خصبة للغاية، وكانت تضم حوالي 300 مدينة صغيرة.
ولعل عوص كانت لا تبعد كثيرًا عن أور الكلدانيين التي دُعي منها إبراهيم. فإن كان الله قد دعا إبراهيم ليقيم من نسله شعبًا مختارًا، لكن له بقية تشهد له وسط الأمم. وتحقق خطة الله نحو البشرية حين نشترك مع القديس يوحنا في تمتعنا بهذا المنظر: "وإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة واقفون أمام العرش" (رؤ 7: 9).
لقد أخرج الله إبراهيم من تلك الأرض الفاسدة حيث يدعو الله مختاريه اعتزال الشر. وسمح ببقاء أيوب لكي يكون شاهدًا بنوره الإلهي وسط الظلام الدامس، كالكواكب وسط ظلمة الليل.
* لكي يكشف عن استحقاق فضيلته أُخبرنا أين قطن الرجل القديس، لأنه من لا يعرف أن عوص هي بلد أممي؟ كان العالم الأممي تحت سلطان الشرير؛ وبالتالي كانت عيناه مغلقتين عن معرفة خالقه. إذن لنُخبر أين قطن، فإن في هذا مديح له. كان رجلًا صالحًا يقطن بين أناسٍ أشرارٍ. إنه لمديح ليس بعظيمٍ أن تكون صالحًا في صحبة الصالحين، وإنما أن تكون صالحًا ساكنًا وسط أشرارٍ، فهذه شهادة لا يُمكن قياسها...
فقد قيل: "وأنقذ لوطًا البار مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة، إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يُعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2 بط 2: 7-8)...
وهكذا يقول بولس لتلاميذه: "في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم" (في 2: 15).
وقيل لملاك كنيسة برغامس: "أنا عارف أعمالك، وأين تسكن، حيث كرسي الشيطان، وأنت متمسك باسمي ولم تنكر إيماني" (رؤ 2: 13).
هكذا مُدحت الكنيسة بصوت العريس، قائلًا في نشيد الحب: "كالسوسنة بين الشوك، كذلك حبيبتي بين البنات" (نش 2: 2)...
بحقٍ قيل عنه إنه كان "يحيد عن الشر" فقد كُتب: "حد عن الشر، وأفعل الخير" (مز 37: 27). فإنه بالحق الأعمال الصالحة تكون غير مقبولة لدى الله إن كانت في عينيه ملطخة بمزجها بأعمال شريرة، وذلك كما قيل بسليمان: "من يخطئ في أمرٍ واحدٍ يُفسد خيرًا جزيلًا" (راجع جا 9: 18). يشهد يعقوب لذلك، قائلًا: "لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة، فقد صار مجرمًا في الكل" (يع 2: 10). بولس يقول: "خميرة صغيرة تخمر العجين كله" (1 كو 5: 6).
إذن كان لائقًا أن يُشار كيف كان يحيد عن الأعمال الشريرة لإظهار كيف كان الطوباوي أيوب بلا غضن ثابتًا في أعماله الصالحة.
تشهد كلمة الله بكمال أيوب، "وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي الله، وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ".
1. كاملًا: وهو كمال نسبي، فلا يعني أنه بلا خطية، وإنما يطلب الكمال، ويجد في بلوغه حسب استطاعته.
* يتحدث الرسول عن نفسه أنه كامل وغير كامل. فيحسب نفسه غير كاملٍ، متطلعًا كم من برّ لا يزال ينقصه، لكنه كامل حيث لا يستحي من أن يعترف بعدم كماله، وأنه يتقدم لكي يبلغ الكمال(38).
*يوجد شكلان للكمال، شكل عادي، وآخر علوي. واحد يُقتني هنا، والآخر فيما بعد. واحد حسب القدرات البشرية، والآخر خاص بكمال العالم العتيد، أما الله فعادل خلال الكل، حكيم فوق الكل، كامل في الكل(39).
1. مستقيمًا: في معاملته مع الله والناس، أي يحمل روح البساطة التي بلا التواء ولا انحراف داخلي. ما يمارسه يكشف عما في قلبه بغير خبثٍ. مستقيم في سلوكه، يدقق في أفكاره وكلماته وتصرفاته، أمين في وقته ومواعيده والوزنات الموهوبة له.
2. تقيًا: يعبد الله بروح تقوي، لا في شكليات جافة بلا روح. يسعى أن يتمم مشيئة الله، بمعنى آخر يتناغم سلوكه مع عبادته لله، يخشى الله لئلا يسيء إلى جلاله وحبه.
3. يحيد عن الشر: مخافة الرب سور تحوط به، فلا يسمح للشرٍ أن يتسلل إلى فكره أو قلبه أو سلوكه.
* قيل إنه كان مستقيمًا "بلا عيب"، ولم يقل "بلا خطية"... لماذا كان بلا عيب؟ لأنه كان مستقيمًا.
كان "حقًا true" لأن الناس كاذبون (مز 62: 9).
كان "حقًا"، لا في الكلمات فقط، وإنما في الأعمال أيضًا. بهذا فهو "رجل حق". لأن "فلنسمع ختام الأمر كله، أتقِِ الله وأحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله" (جا 12: 13). كان أيوب غيورًا نحو التصرفات الخالصة، لهذا يقول النص إنه كان "تقيًا وحقًا" وقد أبرز علة كل فضائله أنه يتَّقي الله... معرفة الله تُعلَنْ في حياة الشخص، وتصير حافظة للحياة...
لم يقل: "لم يرتكب شرًا"، بل "يحيد عن الشر"... في عبارة أخرى: "لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب؟" (أم 30: 9). ها أنتم ترون أنه ما لم يكن الإنسان حذرًا، فإن التخمة هي أساس الخداع. لكن لم يكن حال أيوب هكذا.
"وَوُلِدَ لَهُ سَبْعَةُ بَنِينَ وَثَلاَثُ بَنَاتٍ" [2].
مع كثرة نسله لم ينشغل أيوب البار بممتلكاته ليقدم ميراثًا عظيمًا لكل ابن أو ابنة له، لكن ما كان يشغله هو تقديم ميراث ضخم من الصلوات والتسابيح والذبائح الروحيَّة والمحرقات كسندٍ لهم.
يرى العلامة أوريجينوس في البنين والبنات رمزًا لعمل الروح القدس في حياة المؤمن، حيث ينجب أو يثمر، خلال نفسه كما خلال جسده، ثمارًا روحيَّة مقدَّسة للرب، فالإنسان التقي كأيُّوب يعمل فيه روح الله، فتتناغم النفس مع الجسد، حيث يكون بكليَّته تحت قيادة الروح القدس. ويقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) في تفصيلٍ وبتوسع تفاسير رمزيَّة للسبعة بنين والثلاث بنات، نقتطف القليل جدًا منها.
* ماذا يقدم لنا رقم 7 سوى ذروة الكمال...؟ فالسبعة بنين يمثلون تدبير الكارزين، والثلاث بنات يمكن أن يشرن إلى الثلاث فئات من المؤمنين في حياة الكنيسة... الرعاة والبتوليِّين والمتزوِّجين.
يولد لنا سبعة بنين، حين نحبل بالنية الصالحة، فتولد فينا سبعة فضائل الروح القدس. فقد اهتم النبي بهذا النسل الروحي على وجه الخصوص حين يجعل الروح القدس الذهن مثمرًا بهذه الكلمات: "ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوَّة، روح المعرفة ومخافة الرب، ويملأه روح مخافة الرب" (راجع إش 11: 2). فعندما تتولد في كل منا عند حلول الروح القدس الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة والتقوى ومخافة الرب، يكون قد وُلد نسل في الذهن، يحفظ سلالة شرفنا العلوي في الحياة، حيث تتحالف بالأكثر مع المحبَّة الأبديَّة.
بالتأكيد السبعة بنين فينا لهم ثلاث أخوات، حيث كل منهم (البنين) يعمل بنضوج (رجولية) بميول فاضلة، فيتحد مع الإيمان والرجاء والمحبة. فإن رقم 7 لن يبلغ كمال رقم 10 ما لم يفعلوا كل شيء بإيمان ورجاء ومحبة.
بعدما تحدث عن غناه الداخلي الخاص بالنفس حيث كان له سبعة بنين، أيّ عطايا الروح القدس مع ثلاث بنات، أيّ الإيمان والرجاء والمحبة، تحدث عن غناه الجسدي. فالأبناء يشيرون إلى غِنَى الروح، والحيوانات تشير إلى غنى الجسد المقدس في الرب. فلا يعاني من عوزٍ روحي، ولا من عوزٍ جسدي، ما دام خالق النفس والجسد يُشبع كل كيانه.
"وَكَانَتْ مَوَاشِيهِ سَبْعَةَ آلاَفٍ مِنَ الْغَنَم،
وَثَلاَثَةَ آلاَفِ جَمَلٍ،
وَخَمْسَ مِئَةِ زَوْجِ بَقَرٍ،
وَخَمْسَ مِئَةِ أَتَانٍ،
فَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي الْمَشْرِقِ" [3].
مع ثروته الضخمة اتسم بالبرٌ، وقد قدم الغنم أولًا لأنها كانت لازمة للعائلات: "الحملان للباسك... لبن المعز لطعامك لقوت بيتك ومعيشة فتياتك" (أم 27:26-27). وكان خدمه كثيرين، الكل يخدمه هو وبيته.
من بين العادات التي لا تزال قائمة بين الرعاة ومجتمعات البدو تقدير ثروات الشخص وغناه ليس حسب أرضه ولا بيوته، وإنما حسب المواشي التي يملكها. فكان إبراهيم غنيًا جدًا من جهة قطيعه (تك 13: 2). وكان للوط أيضًا قطعانه (تك 13: 5). هكذا يُقدر غنى أيوب بعدد حيواناته التي يمتلكها. وقد ذكر أناث الحمير (الأتن)، لأنها كانت قيمتها أكثر من الذكور بكثير بسبب اللبن الذي كان يُستخدم للشرب(40).
يرى البعض أن غنم أيوب وجِماله تشير إلى اتحاد عصر الناموس بعصر النعمة، فالسبعة الآلف من الغنم تشير إلى مرعَى الناموس الذي يصير كاملًا باللمسات الروحية (رقم ألف) عوض الحرف؛ ينضم إلى هذا المرعى الثلاثة آلاف من الجِمال حيث تأتي شعوب الأمم لتنضم إلى مرعَى الناموس الروحي، ويكون الكل رعية واحدة لراعٍ واحدٍ.
* كان أيوب غنيًا، لكنه لم يقضِ حياته في ترف بلا حنو (على الآخرين). كان بيته مفتوحًا لكل محتاجٍ بإرادته المملوءة حبًا. لم يعامل أحدًا بظلمٍ، بل ساعد الذين كانوا يعانون من الظلم؛ كان يقدم الاحتياجات اللازمة للأرامل والأيتام. فإن هذه هي أعمال البرّ للغني البار(41).
4 وَكَانَ بَنُوهُ يَذْهَبُونَ وَيَعْمَلُونَ وَلِيمَةً فِي بَيْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ، وَيُرْسِلُونَ وَيَسْتَدْعُونَ أَخَوَاتِهِمِ الثَّلاَثَ لِيَأْكُلْنَ وَيَشْرَبْنَ مَعَهُمْ. 5 وَكَانَ لَمَّا دَارَتْ أَيَّامُ الْوَلِيمَةِ، أَنَّ أَيُّوبَ أَرْسَلَ فَقَدَّسَهُمْ، وَبَكَّرَ فِي الْغَدِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى عَدَدِهِمْ كُلِّهِمْ، لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: «رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى اللهِ فِي قُلُوبِهِمْ». هكَذَا كَانَ أَيُّوبُ يَفْعَلُ كُلَّ الأَيَّامِ.
"وَكَانَ بَنُوهُ يَذْهَبُونَ وَيَعْمَلُونَ وَلِيمَةً فِي بَيْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ،
وَيُرْسِلُونَ وَيَسْتَدْعُونَ أَخَوَاتِهِمِ الثَّلاَث،َ
لِيَأْكُلْنَ وَيَشْرَبْنَ مَعَهُمْ" [4].
صورة رائعة لرجل غني جدًا لم يشغله ولا شغل أبناءه الغنى والثروة، بل يجتمع الكل بروح الحب والوحدة مع التدبير الحسن، فيقيمون وليمة في بيت كل ابنٍ بالتتابع مع شركة مع الأخوات! كان بنوه يقومون بعمل ولائم دورية، بروح المحبة والوحدة. فكان كل ابنٍ يقيم الوليمة في دوره، حيث يجمع إخوته وأخواته. يقول المرتل: "هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معًا" (مز 133: 1).
ويلاحظ في هذه الولائم الأتي:
1. كانت تقام في البيوت، لا في أماكن عامة، ربما لكي تحتفظ الأسرة بطابعها المقدس حتى في الولائم ووسط المسرات.
2. دعوة الأخوات مؤشر على أن الولائم كانت عائلية، وغالبًا ما كانت قاصرة على أسرة أيوب.
3. لم يذهب أيوب إلى الولائم، ليس عن تزمتٍ، فهو يطلب مسرة أولاده وبهجتهم ما دامت في الرب، فوجوده وهو شيخ ربما يكون فيه نوع من عدم إعطاء الحرية للشبان أن يمرحوا بعد، حتى وإن كان في الرب.
* الغنى العظيم يكون عادة علة للخلافات بين الإخوة. يا له من مديح لا يُقدر لتربية أب كهذا! لقد أعُلن عن غنى الأب وسلام الإخوة معًا، فبينما تُوزع الثروة بينهم لم ينقسم الحب، بل يملأ قلوب الكل!
"وَكَانَ لَمَّا دَارَتْ أَيَّامُ الْوَلِيمَةِ،
أَنَّ أَيُّوبَ أَرْسَلَ فَقَدَّسَهُمْ،
وَبَكَّرَ فِي الْغَدِ،
وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى عَدَدِهِمْ كُلِّهِمْ،
لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيّ،َ وَجَدَّفُوا عَلَى الله فِي قُلُوبِهِمْ.
هَكَذَا كَانَ أَيُّوبُ يَفْعَلُ كُلَّ الأْيَّامِ" [5].
مع عدم اشتراك أيوب في الولائم جسديًا اشترك بروح الأبوة الحانية والحب روحيًا. كان غيورًا على خلاص نفوسهم، يخشى لئلا يتنجسوا ولو بالفكر، بهذا يُحسبون كمجدفين على القدوس.
خشي لئلا يفكر أحدهم في أعماقه قائلًا: "قوتي وقدرة يدي اصطنعت لي هذه الثروة" (تث 8: 17). أو كما يقول الحكيم: "لئلا أشبع وأكفر، وأقول: من هو الرب؟" (أم 30: 9).
كان أيوب كاهن الأسرة، يؤمن أنه يعجز عن تقديس أولاده، وإنما هذا من عمل الله، لذا كان يقدم محرقات على عددهم. كان يفعل هذا لا في بدأ الوليمة فحسب، ولا في نهايتها فقط، بل كل أيام الوليمة، وكل أيام السنة. "هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام". ولعله كان يقدم ذبيحة محرقة عن كل العائلة كل يوم، أما في أيام الولائم، فكان يقدم محرقة عن كل واحدٍ، لأن الخطايا -خاصة بالفكر- تجد في الولائم جوًا مناسبًا للتسلل إلى الداخل.
* إن كان الحكم على الخطايا التي تُرتكب بجهلٍ أنها هكذا عنيفة وتحتاج إلى ذبيحة للتكفير عنها، هذه الحقيقة التي شهد لها أيوب بتقديمه ذبيحة عن أولاده، فماذا يُقال عن الذين يرتكبون الخطية بمعرفة، أو الذين في صمتهم يذعنون إلى السلوك المخطئ الذي للآخرين؟(42)
* قدم ذبائحه من أجل خطاياهم الخفية، وأخطائهم التي لم يعترفوا بها. إن كان أيوب يأخذ حذره هكذا من جهة الخطايا الخفية التي بغير معرفة، فكم تظن بالنسبة للأخطاء الظاهرة. لاحظوا كيف يترجم كلمات الرسول إلى عمل: "وأنتم أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم، بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره" (أف 6: 4)، أي يهتم الشخص بأولاده. إنها ممارسة للحماية الوالدية. لاحظوا إلى أيّ مستوى من الكمال أراد أن يقودهم...
فبالنسبة للأخطاء الظاهرة كان يمكنه أن يصلحها، ولكنه ماذا يمكنه أن يفعل بالنسبة للخطايا السرية؟ مع هذا قيل لموسى: "السرائر للرب إلهنا، والمعلنات لنا ولبنينا إلى الأبد" (تث 29: 29). على أيّ الأحوال لم يتجاهل أيوب حتى الأخطاء السرية في علاقته بالله، بل ألزم نفسه أن يصحح الموقف شخصيًا بوسيلة علاجية. فإن هذه الوسيلة تسمح له أن يضرب بالأخطاء فينتزعها، وأن يعلم أولاده أيضًا...
ها أنتم ترون أنه لم يصحح من تقصيراتهم في الأعمال فحسب، ولكن أيضًا ما يخص الأفكار، متممين عمليًا كلمات المسيح: "لأن من القلب تخرج أفكار شريرة... هذه هي التي تنجس الإنسان" (مت 15: 19-20)... ها أنتم ترون هنا تطهيرًا ليس موسويًا، ولا بالناموس، بل بطريقة رسولية حيث يطلب تطهير أفكارهم يوميًا، ليس فقط بنصحهم وتقديم المشورة لهم، وإنما أيضًا بحمايتهم والصلاة لله عنهم. هذا ليس عمل الأب فقط بل وعمل الكاهن، وإن كنا نعلم أنه لم يكن يوجد كاهن بعد...
يرى البعض أنه كان يوجد كهنة في تلك الأيام أيضًا مثل ملكي صادق لم يخترهم الشعب.
* تشير نفس كلمات الكتاب إلى أن الجهل خطية. هذا هو السبب الذي لأجله يقدم أيوب محرقات عن أبنائه لئلا يكونوا قد أخطأوا سهوًا في الفكر(43).
* تنسب هذه العبارة لأيوب تقوى عظيمة للغاية. فإن أناسًا كثيرين اعتادوا أن يبكروا لممارسة أعمال أرضية وكل ما يفكرون فيه خلال الليل هو الوسيلة لتكديس ثروة أو مجدٍ أو كرامات، فيسرعون في القيام لتحقيق أفكارهم عمليًا. يعبر النبي في أنشودة مرثاة ما يلزم أن يُقال عن هؤلاء: "ويل للمفتكرين بالبُطل، والصانعين الشر على مضاجعهم، في نور الصباح يفعلونه" (مي 2: 1). أمّا عن أيوب فلم ينشغل بهذا، وإنما كان في الفجر يقدم لله خدمة، هذا الذي يجعل النور مشرقًا... فإن الذبيحة الحقيقية هي حفظ الناموس وممارسة الفضائل (ابن سيراخ 35: 1-3). تخدمنا في هذا كلمات رسالة بولس إلى العبرانيين كمثال: "فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح... ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع، لأنه بذبائح مثل هذه يُسر الله" (عب 13: 15-16).
"لأن أيوب قال ربما أخطأ بني، وجدفوا على الله في قلوبهم" [5]. استقامة أيوب واضحة! يكمل برَّه نحو الصلاح. إنه أب حكيم وسيد مختبر، برج (من الكواكب) يتسم بالتعقل، مرشد صالح كمن يمسك بلجام خارجي ليلجم الشهوات الداخلية... لم يقتنع داود بالترنم بتلك الكلمات: "السهوات من يشعر بها؟ من الخطايا المستترة أبرئني" (مز 19: 12)، وإنما وضع أيضًا وصية الإنجيل في العملٍ. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). نقول بأن أيوب سلك حسب الناموس والنعمة، وحسب وصية الإنجيل:"...الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلبٍ جيدٍ صالحٍ" (لو 8: 15). إنه لم يكن مستهينًا بذلك. لقد كتب يوحنا اللاهوتي في هذا: "نُسكِّن قلوبنا قدامه، لأنه إن لامتنا قلوبنا، فالله أعظم من قلوبنا، ويعلم كل شيء. أيها الأحباء، إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله" (1 يو 3: 19-21) والرب نفسه يقول: "لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف، هذه التي تنجس الإنسان، وأما الأكل بأيدٍ غير مغسولة فلا يُنجس الإنسان" (مت 15: 19-20). إذن لنتطهر من هذه الأفعال. لنطلب كل يوم الثمر من نفوسنا، فقد كان أيوب "حقًا وبلا لوم"، متطلعين أيضًا إلى ما كُتب: "هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام" [5].
* هكذا طهٌر أيوب أولاده، لأن من يقدم ذبائح عن الخطايا السرية، كم بالأكثر يهتم بخصوص الخطايا الظاهرة؟(44)
* استخدم أيوب علاجًا حتى عن أفكار بنيه(45).
* "وبكر في الغد، وأصعد محرقات على عددهم كلهم" [5]. عرف القديس أنه يندر إقامة وليمة دون وجود معصية. عرف أنه يجب تطهير مرح الولائم بالذبائح. وما قد ارتكبه الأبناء من وصمات في أشخاصهم أثناء ولائمهم قام الأب بغسلها بتقديم ذبيحة... إذ غالبًا ما تصحب الحفلات الشهوات، فإذ يكون الجسم في تراخٍ بالملذات يخضع القلب للفرح الباطل. فقد كتُب: "جلس الشعب للأكل والشرب، ثم قاموا للّعب" (خر 32: 6).
كان أيوب مستريحًا لتصرفات بنيه وبناته من جهة محبتهم لبعضهم البعض ووحدانية الروح والانسجام معًا، كما كان مطمئنًا لتصرفاتهم وكلماتهم، لكنه لا يعلم ما يدور في أفكارهم وقلوبهم. إنه لم يقف موقف الديان، فيحكم على ما في داخلهم، كما لم يقف في تهاونٍ، معتبرًا نفسه غير مسئول عما في قلوبهم، إنما في حبٍ مملوء حكمة التجأ لله بتقديم ذبائح روحية ومحرقات عن كل واحدٍ منهم. فهو وحده عارف بالأسرار الخفية، وقادر على تقديس الأعماق.
* "هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام" [5]. لم يتوقف أيوب عن تقديم ذبيحة دائمة، وذلك كما يقدم مخلصنا محرقة عنا بلا انقطاع. هذا الذي يُظهر تجسده أمام الآب لأجلنا دون توقف. فإن تجسده ذاته هو تقدمة لأجل تطهيرنا؛ وبينما يُظهر نفسه كإنسانٍ يكون شفيعًا يغسل أدناس الإنسان، مقدمًا بسرّ بشريته ذبيحة دائمة...
باطل هو الصلاح الذي نمارسه إن توقف قبل نهاية الحياة، وذلك أنه باطل لمن يركض سريعًا أن يتوقف قبل بلوغه الهدف. عن هذا قبل التوبيخ: "ويل لكم أيها الذين فقدوا الصبر" (ابن سيراخ 2: 14). وهكذا يقول الحق لمختاريه: "أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي" (لو 22: 28)... هكذا فرض موسى أن يُقدم ذيل الذبيحة على المذبح، بمعنى أن كل عمل صالح نبدأه نكمله بمثابرة حتى النهاية.
* على وجه العموم، وصايا كل القديسين تحثنا على ذلك بالقدوة، وذلك كما استعمل سليمان الأمثال قائلًا: "اسمعوا أيها البنون تأديب الرب، أصغوا لأجل معرفة بفهم، لأني أعطيتكم تعليمًا صالحًا فلا تتركوا شريعتي. فإني كنت ابنًا لأبي غضًا ووحيدًا عند أمي" (أم 1:4). لأن الأب البار يربي أولاده تربية حسنة، إذ يجتهد في تعليم الآخرين بسيرته المستقيمة الفاضلة. حتى إذا ما حدثت مقاومة، لا يخجل من سماعه هذا القول: "فأنت الذي تُعَّلم غيرك، ألست تعلم نفسك" (رو 21:2)، إنما يكون بالحري مثل خادم أمين يقدر أن يخلص نفسه ويربح الآخرين. وإذ تتضاعف النعمة المعهودة إليه يستطيع أن يسمع ذلك القول: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين. كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير. أدخل إلى فرح سيدك" (مت 21:25)(46).
6 وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو اللهِ لِيَمْثُلُوا أَمَامَ الرَّبِّ، وَجَاءَ الشَّيْطَانُ أَيْضًا فِي وَسْطِهِمْ. 7 فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «مِنَ أَيْنَ جِئْتَ؟». فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «مِنْ الْجَوَلاَنِ فِي الأَرْضِ، وَمِنَ التَّمَشِّي فِيهَا». 8 فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ». 9 فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ اللهَ؟ 10 أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَانْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي الأَرْضِ. 11 وَلكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». 12 فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ». ثمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ الرَّبِّ.
"وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو الله لِيَمْثُلُوا أَمَامَ الرَّبِّ،
وَجَاءَ الشَّيْطَانُ أَيْضًا فِي وَسَطِهِمْ" [6].
جاء في الترجوم الأورشليمي Targum Yerushalmi أن المجلسين اللذين تَمَّا في السماء أحدهما في روش هاشاناه Rosh ha- Shanah، والثاني في يوم كيبور Yom Kippur.
كان الملائكة -بنو الله- يجتمعون معًا أمام الله يقدمون له التسبيح اللائق من أجل محبته للسمائيين والأرضيين، ويقدمون أيضًا صلوات المؤمنين، ويترقبون أية إرسالية يتممونها، إذ هم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14).
تسلل بينهم الشيطان المتكبر والمضل لكي يشتكي على البشرية، خاصة المؤمنين، ففي حسده لا يطيق أن يرى إنسانًا ترابيًا ينمو في الروح، وينطلق كما بجناحي حمامة إلى السماء.
كل الأمور مكشوفة أمام الله، فهو ليس في حاجة إلى ملائكة تحمل إليه صلوات مؤمنيه، ولا إلى الشيطان ليكشف عن فساد مؤمنٍ ما. لكن الله في محبته للسمائيين يهبهم عمل المحبة سواء بتقديم الصلوات أو إتمام إرساليته. كما في عدله يترك للشيطان الحرية ليشتكي على من يريد. إنه يقدس حرية الإرادة في المخلوقات العاقلة، سواء على مستوى الطغمات السمائية أو القوات الروحية في الشر، أو البشر.
لا نعجب من هذا، ففي رؤيا زكريا النبي إذ شاهد كلمة الله نفسه كرئيس كهنة يحمل خطايانا كثوبٍ قذرٍ، كان الشيطان قائمًا ليقاومه (زك 3: 1-2).
يسألنا القديس يوحنا الذهبي الفم ألا ندهش من أن يقف المتمرد وسط الملائكة، فإن ما يقدمه السفر هو بصورة بشرية لكي نتفهم الموقف بفكرنا البشري.
* جاءت الملائكة -حسب النص- وجاء معهم الشيطان، إذ كان يطوف الأرض، ويسير فيما هو تحت السماء. ماذا نفهم من هذا؟ إن الأرض مملوءة بالشياطين والملائكة، والكل تحت سلطة قوة الله، وأن الملائكة يقفون أمام الله حيث يتقبلون منه الأوامر. ولا يقدر الشيطان أن يفعل شيئًا يسره ما لم ينل سماحًا من فوق... بالقول: "جاء الشيطان أيضًا في وسطهم" [6] لا يعني سوى أنه هو أيضًا لا يقدر أن يفعل شيئًا بدون سماح الله.
* ماذا يعني هذا التعبير؟ إنه معهم في العالم، فكما أن البشر المخادعين والصالحين ممتزجون معًا هكذا الملائكة والشياطين.
لعلَّ أقصى ما يشتهيه الإنسان أن يتمتَّع بالمجد السماوي بالوقوف وسط الطغمات السماويَّة وينعم برؤية الله، فكيف يقف الشيطان هكذا ليرى الله ويدخل معه في حوار؟ بلا شك أن الوقوف هنا لا يحمل المعنى الحرفي، إنَّما سُمح له الله بالحوار من أجل العدالة الإلهيَّة وتأكيد حريَّة الخليقة العاقلة حتى بالنسبة للشيطان وجنوده الأشرار. وقف الشيطان كما وسط الملائكة يُسمح له بالحديث مع الله، لكنَّه لم يتمتَّع برؤية مجد الله، ولا أُشرق عليه بهاء المجد الإلهي، ولا اختبر عذوبة صوت الله كمصدر لذَّة وفرح وسلام حقيقي!
هكذا في يوم الرب العظيم يرى المؤمنون الحقيقيُّون في عينيّ المسيح يسوع حمامة وديعة، وفي أحضانه أمجادًا لا يُعبَّر عنها، أمَّا الأشرار فيرون عينيه لهيب نارٍ، فلا يحتملون رؤيته.
وكما قيل هنا عن الشيطان أنه وقف ممتثلًا أمام الله دون أن يتمتع ببهاء مجده، قيل في موضع آخر عن الملائكة أنهم أرواح خادمة مُرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 14:1)، لكن إرسالهم للخدمة لا يحرمهم من التمتع بالحضرة الإلهية وإشراق البهاء الإلهي عليهم.
* ربما يتساءل البعض: كيف يمكن للشيطان وقد سقط عن رتبته بسبب كبريائه أن يقف أمام الرب بين الملائكة؟
هل يُمكن له معاينة الرب وهو غير طاهرٍ؟
لقد سقط إبليس وجنوده ولم يعد من حقه رؤية الله، لكن بحسب طبيعته كروح يمكن المثول أمام الله دون معاينته. هكذا كان ماثلًا يشتكي علينا دون رؤية الله، لأنه غير طاهرٍ.
لاحظ أنه قيل أنه جاء أمام الرب، ولم يُقل أنه رأى الرب. فقد جاء لكي يُرى لا لكي يرى. كان أمام عيني الرب، ولم يكن الرب أمام عينيه، وذلك كما يقف أعمى أمام الشمس، فهو نفسه غارق في أشعة النور، لكنه لا يرى شيئًا من النور البهي... فإن قوة الله، بنظره يخترق كل الأشياء، فيرى الروح الدنس الذي لا يراه. فإنه حتى الأشياء نفسها التي تهرب من وجه الله لا يمكنها أن تكون مختفية، فالكل عريان أمام نظر العلي. فالشيطان الغائب جاء إلى ذاك الذي هو حاضر.
* من هم الذين يُدعون بني الله إلا الملائكة المختارون؟ وكما نعرف عنهم أنهم يتطلعون إلى عيني عظمته. يليق بنا أن نتساءل: من أين جاءوا ليمثلوا أمام الله؟ فقد قيل عنهم بصوت الحق: "إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات" (مت 10:18). ويقول عنهم النبي: "ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه" (دا 10:7). فإن كانوا دائمًا ينظرون ويقفون بجواره، يلزمنا بحرص وتدقيق أن نراعي من أين جاءوا، فإنهم لا يفارقونه قط، لكن إذ يقول عنهم بولس: "أليس جميعهم أرواحًا خادمة مُرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص؟" (عب 14:1)، من هذا نتعلم أنهم مُرسلون ونكتشف من أين جاءوا...
إنهم لا يذهبون بطريقة يُحرمون فيها من رؤية الله، فتُنزع عنهم أفراح التأمل الداخلي، فلو أن بإرسالهم يفقدون رؤية خالقهم لا يقدرون أن يُقيموا الساقطين، ولا أن يعلنوا للذين في الجهالة عن الحق، وما كانوا يستطيعون قط أن يقدموا للعميان ما حُرموا به بتركهم مصدر النور.
تختلف طبيعة الملائكة عن حال طبيعتنا الحاضرة، حيث نحن مقيدون بالمكان ومحدودون بعمى الجهالة، أما أرواح الملائكة فمع كونها محدودة بمكانٍ، لكن معرفتهم ترتفع عنا جدًا، دون وجه للمقارنة، لهم معرفة ممتدة خارجيًا وداخليًا، إذ يتأملون ذات مصدر المعرفة نفسه...
وكما أن أرواحهم ذاتها إن قورنت بأجسادنا فهم أرواح، هكذا إن قورنوا بالروح السامي غير المدرك يُحسبون جسدًا. لذلك فهم مُرسلون منه، وواقفون أمامه أيضًا، إذ في هذا هم مقيدون أن يُرسلوا، وفي نفس الوقت حاضرون بالكامل لن يفارقوه.
هكذا في نفس الوقت يرون وجه الآب دائمًا، ومع هذا يأتون إلينا، حيث يُرسلون خلال سمة التأمل الداخلي. يمكن إذن أن يُقال: "جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب"، إذ يرجعون إلى هناك بعودة الروح، إلى حيث لم يفارقوه قط بعدم انسحاب العقل عنه.
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟
فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ: مِنْ الْجَوَلاَنِ فِي الأَرْضِ،
وَمِنَ التَّمَشِّي فِيهَا " [7].
بقوله: "من الجولان في الأرض" يشير أنه لم يتعدَ حدوده، لأن "التنين العظيم طُرح إلى الأرض" (رؤ 12: 6). يرى كثير من آباء الكنيسة الأولين أن الأرض في الكتاب المقدس تشير إلى الإنسان الترابي الجسداني الذي لا ينشغل إلا بالأرضيات، هكذا يجول عدو الخير كما في مِلْكِهِ. بينما تشير السماء إلى الإنسان الروحي الذي ينشغل بالأبديات. فالشيطان لا يقدر أن يتسلل إلى قلب الإنسان الروحي، لكنه يجول بلا ضابط في قلب الإنسان الجسداني.
عدو الخير لا يعرف الخمول، فإنه لا يهدأ ليلًا ونهارًا عن الجولان في الأرض ليغوي أولاد الله على ترك مملكة النور والانشغال بالخطايا.
* "من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها" [7]. ها أنتم ترون أن السماء متعذرة بالنسبة للشيطان الشرير. فإن قلتم: "حسنًا! السماء غير متاحة له، لكن العالم يرحب به. نعم فإن هذا لصالحكم، فإنه إن كنتم حتى وأنتم مع عدو يقظ هكذا لا تهتمون بإصلاح أنفسكم، فيا لكم من أناس خاملين...؟
أنصت إلى بولس وهو يقول: "اللذان أسلمتهما للشيطان، لكي يؤدبا حتى لا يجدفا" (1 تي 20:1).
أتريدون أن تسمعوا نصًا آخر؟ ألا ترون المُعذِبينَ الذين يرافقون المسئولين؟ هكذا يستخدم بولس الشياطين. أما النتائج الصالحة فهي ليست من عمل الشيطان، بل من حب الله للإنسان حيث يستخدم الشيطان لهذا الغرض.
* ماذا إذن أن يُقال للشيطان: "من أين جئت؟" إلا لكي يدين طرقه كما لو كانت غير معروفة. فنور الحق لا يعرف شيئًا عن الظلمة، هذه التي يوبخها، وعن طرق الشيطان التي يدينها كديانٍ. يليق أن يُسال عنها كما لو كانت مجهولة. ولهذا قيل لآدم وهو في خطيته بصوت خالقه: "آدم، أين أنت؟" (تك 9:3)، فإن القوة الإلهية لم تجهل الموضع الخفي الذي هرب إليه عبده عند عصيانه، لكنه رأى أن الساقط في خطيته مختفيًا عن عيني الحق تحت الخطية...
إنه يدين الشيطان، لذا فُحص طريقه، أما الملائكة المختارون فلا يحتاجون أن يُسألوا من أين جاءوا، إذ طرقهم معروفة لله. إنهم كمن يمثلون حركته، إذ هم خاضعون لإرادته وحدها، ولا يمكن أن يكونوا غير معروفين له.
* يجول إبليس في الأرض، إذ استخف بالسكنى في سلامٍ في أعالي السماء. وإذ هو كمن يُبلغ بأنه لم يَطِرْ بل مشى، يُظهر ثقل الخطية التي تجعله دائمًا في الأسفل...
يتحدث الله مع الملائكة حينما تُعلن لهم إرادته الداخلية كموضوع إدراكهم، وأما الملائكة فيتحدثون مع الرب متى كانوا بهذا يتأملون فيما هو فوقهم، ويقفون أمامه في دهشة. وهكذا يتحدث الله مع نفوس قديسيه بطريقة ما، وهم يتحدثون معه بطريقة أخرى... نراهم في الرؤيا: "صرخوا بصوتٍ عظيمٍ قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض...؟ وقيل لهم أن يستريحوا زمانًا يسيرًا" (رؤ 9:6-10).
يتحدث الله مع الشيطان بأربع طرق: فهو يشجب طرقه الظالمة، ويوبخه ببرّ قديسيه، ويسمح له أن يجرب براءتهم، وأحيانًا يوقفه عن أن يجربهم...
إنه يوبخه ببرّ مختاريه، إذ يقول: "هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض (كلها)". لقد سمح له أن يضع برّه موضع اختباره عندما قال له: "هوذا كل ما له في يدك" [12]. مرة أخرى منعه من أن يجربه عندما قال: "وإنما إليه لا تمد يدك" [12].
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ:
هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟
لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ.
رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيم،ٌ
يَتَّقِي الله وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ" [8].
في حديث الله مع الشيطان يُظهر مدى اعتزازه بأيوب عبده، "لأنه ليس مثله في الأرض" في الاستقامة والتقوى. خلال علاقة الحب المتبادلة بين الله والمؤمن الحقيقي، يقول الأخير: "من مثلك بين الآلهة يا رب؟ من مثلك معتزًا في القداسة، مخوفًا بالتسابيح، صانعًا عجائب؟" (خر 15: 11)"من هو إله مثلك غافر الإثم، وصافح عن الذنب لبقية ميراثه؟" (مي 7: 18). وفي الوقت نفسه يعتز الله بمؤمنيه في إيمانهم، كما مع أيوب (أي 1: 8) وقائد المئة والمرأة الكنعانية، والعجيب أن جميعهم أمميون.
* كان الصبر بالفعل في أيوب، الأمر الذي كان يعلمه الله، وقد شهد له، لكنه صار معروفًا للبشر خلال اختبار التجربة. فما كان مخفيًا في الداخل وغير ظاهرٍ كثمرةٍ، ظهر بواسطة ما حدث وصار في الخارج(47).
* اعتزم الشيطان على الدخول في صراعٍ، ليس مع أيوب بل مع الله، أما الطوباوي أيوب فكان بينهما موضوع النزاع...
لولا أن الله يعلم أن أيوب يستمر في استقامته بالتأكيد لما سلمه للشيطان. إنه لم يسلمه له لكي يهلكه بالتجربة... وقد التهبت نيران الحسد في ذهن المجرب من أجل مديح الله له.
إذ يفشل العدو القديم في اكتشاف أي شر يمكن أن يتهمنا به، يتجه نحو النقاط الصالحة ليحولها للشر، وإذ ينهزم بالأعمال يتطلع إلى كلماتنا ليجد مجالًا للاتهام.
إنه يصارع لكي يُظلم نية القلب حتى لا تصدر أعمالنا الصالحة عن ذهنٍ صالحٍ، وبهذا لا تُعتبر صالحة في عيني الديان. فإنه حتى إن رأى ثمرًا على شجرة خضراء في الحر يبحث عن دودة تفسد الجذور.
* لاحظوا غباوة الشيطان ومكره. يشهد الله أن أيوب بلا لوم، فهل تود (أيها الشيطان) أن تنتزع شهادة الله...؟
إذ يقول الله: "عبدي أيوب"، ففي هذا الكفاية في تحديد فضيلته...
لقد هاج (الشيطان) في الحال إذ سمع الله يدعو أيوب عبده، فبالنسبة له حُسب هذا توبيخًا له فأثاره للهجوم.
لقد كنت (أيها الشيطان) قبلًا عبدًا... هذا ما عناه بولس: "ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة´(1 كو 3:6).
لقد بلغ أيوب إلى هذه الدرجة حتى أضاف الله: "رجل كامل، ومستقيم، وحق، يتقي الله". "رجل مستقيم"، أما أنت على العكس، وإن كنت لست إنسانًا، لكنك لم تثابر على الفضيلة.
* "هل تفكرت مليًا في عبدي أيوب؟" [8]. في نفس الوقت يعني بدقة أن الخائن (إبليس) يحمل نية خبيثة نحو أولئك الذين يحسبهم خطاة من أجل رذائلهم وأبرارًا خلال خداعه.
"فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ:
هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ الله؟" [9].
لم يحتمل عدو الخير أن يسمع كلمة مديح تُقال في شخص آخر غيره، حتى وإن صدرت من الله فاحص القلوب والعَاِلمْ بالأفكار وكل الأسرار. هكذا لم يحتمل شاول الملك النساء يمدحن الصبي داود الذي أنقذه هو وكل جيشه وشعبه من جليات الجبار وجيشه (1 صم 18: 6-9). ولم يحتمل رؤساء الكهنة والكتبة الأطفال يسبحون السيد المسيح في الهيكل (مت 21: 15 إلخ).
* يُدعى الشيطان أو المفتري بسبب افتراءاته، فإنه يفتري على الإنسان أمام الله، قائلًا: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟"... ويفتري على الله أمام الإنسان، قائلًا: "نار الله سقطت من السماء، فأحرقت الغنم" (أي 16:1). فكان متلهفًا على إثارته بأن الكارثة حلت من السماء من فوق، فيجعل العبد في نزاعٍ مع السيد، والسيد مع عبده. في الواقع لم يجعلهما في نزاع، لكنه حاول ذلك وكان عاجزًا(48).
* "يقضي لمساكين الشعب، يخلص بني البائسين، ويسحق المفتري" (مز 72: 4). بحق يُدعى الشيطان "المفتري"، فقد افترى على كل من الله حيث ادعى أن الله منع الأخذ من شجرة (معرفة الخير والشر) بسبب الحسد، وافترى على أيوب بأكاذيب، قائلًا "هل حقًا مجانًا يتقى أيوب الله...؟ أبسط يدك الآن، ومس كل ما له، فإنه في وجهك يجدف" (أي 1: 9، 11). في المزمور الثامن أعطاه اسمي "عدو ومنتقم"، بينما هنا (مز 72: 4) فيدعوه مفتريًا(49).
* بالتأكيد الشيطان هو مُوجه الاتهام ضد القديسين. إنه لا يقدر في حضرة ديان كهذا أن ينسب اتهامًا خاطئًا، فهو يعرف مع من يتكلم. لهذا فإنه إذ يعلم عجزه عن تقديم اتهامٍ باطل ضدنا يلجأ إلى القول بشيءٍ صادق. لهذا فإن خصمنا الذي يحسدنا على وجودنا في ملكوت السماوات، ولا يريدنا أن نكون هناك حيث طُرد هو منه، يقول: "هل مجانًا يعبد أيوب الله؟" (أي 1: 9)...
يليق بنا أن نحرص على حبنا لله ليس من أجل مكافأة. فإنه أيّ نوع من المكافأة هذه التي يعطيك الله إياها؟
مهما أعطاك فهي أقل من ذاته. لا تعبد الله لكي ما تقبل منه شيئًا. اعبده دون ترجي في مقابل، وعندئذ تتقبله هو، فإن الله يحفظ نفسه لك لتتمتع به.
إن كنت تحب ما خلقه، فكم يكون خالق العالم؟ انزع من قلبك محبة المخلوقات، لكي ما تلتصق بالخالق، وعندئذ تقول ما جاء في المزمور: "خير لي أن ألتصق بإلهي" (مز 72: 28)(50).
* يقول الشيطان: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟" لماذا تُعجب من أيوب؟ لماذا تدلي بتصريحات غير عادية بخصوص رجل مستقيم؟ فإنك أنت نفسك تصمم على برَّه وهذا إنما بسبب عطاياك التي نالها بسخاءٍ عظيمٍ مقابل فضيلته. صار له فيض في كل شيء، إنه مُتخم في كل شيء، ليس لديه قلق، ليس ما يجعله يخطئ. بيته مبني حسنًا، مملوء بالخيرات. كل ممتلكاته مسيَّجة بسياج البركات. أبناؤه يحيطون به مثل إكليل يتوجه. لماذا لا يكون أيوب مستقيمًا؟ لماذا لا يكون تقيًا؟ أي الوصايا يلتزم بأن يهملها؟ فمن لم يذق الفقر، لماذا يسرق؟
* في وقاحة دخل مع الله في جدال (أي 1: 9). هذا ليس اتجاه الشيطان وحده، بل اتجاه الناس الأشرار. ألم يفعل ذلك من ورد عنه في الإنجيل: "عرفت أنك إنسان قاسٍ، تحصد حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبذر" (مت 24:25)...
كان يسعى في تشويه دافع أيوب... يود الله دومًا أن يصدر حُكمَه من كلمات أعدائه، حتى لا يترك لهم مجالًا لأي عذرٍ، وذلك كما قيل في العبارة: "من فمك أدينك أيها العبد الشرير" (لو 22:19)... بهذا يُمسك الخداع دومًا في شباكه.
"أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ،
وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟
بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْه،
فَانْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي الأَرْضِ!" [10].
استنتج الربيَّ يوسى حانينا Yose b. Hanina من أي 1: 10 أن ماعز أيوب كان قادرًا على قتل الذئاب. واستنتج الربيَّ يوحنان R. Yohanan من أي 1: 14 أن الله وهب أيوب أن يتذوق الحياة الفردوسية، فحسده الشيطان، وبدأ يحاربه مفتريًا عليه بخصوص برِّه.
يلقي الشيطان باللوم على الله: "أليس أنك سيجت حوله وحول بيته، وحول كل ما له من كل ناحية؟" حقًا لقد سيَّج الله حوله لحمايته وحماية بيته، ووهبه النجاح والغنى، وبارك أعماله، لكنه لم يفعل ذلك في محاباة، إذ لم يتسم أيوب بالبلادة والرخاوة.
يكشف حديث الشيطان عن بذله كل الجهد ليجد ثغرة يدخل منها إلى قلب أيوب أو فكره ليجتذبه إلى مملكته، فلم يجد.
* "لأنك قلت: أنت يا رب ملجأي، جعلت العلي مسكنك" (مز 91: 9). لكي تتمتع بهذه العناية الإلهية يقول: لتختبر الرجاء في الرب، ولتجعله ملجأ لك... "لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك" (مز 91: 10). إنك ستثبت أمام رماح الشيطان، فلن تؤذيك في شيءٍ. بهذا حوطت النعمة الإلهية حول بيت أيوب، هذه التي شهد لها العدو صارخًا بصوت عالٍ: "أليس أنك سيَّجت حوله وحول بيته؟" وعندما سمح له (أن يجربه) أظهر من الجانب الآخر شره، وكلل الديان العادل المصارع المنتصر(51).
* "أليس أنك سيَّجت حوله؟" ألا تلاحظون أنه حتى الشيطان يدرك تمامًا أن كل أمان أيوب يأتي من قبل الله. يقول: "باركت أعمال يديه، انتشرت مواشيه في الأرض". ألا ترون أن ثروته هي هبة من الله؟ ألا ترون أنها ليست ثمرة ظلم (أو اغتصاب)...؟
"ولكن أبسط يدك الآن، ومس كل ما له، فإنه في وجهك يباركك (أي يجدف عليك)" [11]. لقد أراد واشتهى أن ينال هذا السلطان منه، لكنه لم يجسر أن ينطق بهذا.
* ما هو عمل الله الخاص إن لم يكن هكذا، أن يعمل صلاحًا لكل البشرية، بالتأديبات كما بالمسرات تمامًا؟ ليتنا إذن نشكر ليس فقط حين نكون في رخاءٍ، فإن هذا ليس بالأمر العظيم. هذا ما يعرفه الشيطان أيضًا حسنًا، لذلك قال: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول كل ما له من كل ناحية؟" (أي 1: 10)(52)
* يعرف داود الطوباوي بأن هذا الترك المؤقت من جانب الله تجاهنا أحيانًا يكون لصالحنا، وفي صلاته طلب أن لا يكون ذلك على الدوام (لأنه يعلم أن ترك الله للإنسان فيه ضرر حيث تعجز الطبيعة البشرية عن السلوك نحو الكمال)، لذلك توسّل بأن يكون ذلك في حدود معينة قائلًا: "لا تتركني إلى الغاية" (مز 8:119). بمعنى آخر يقول: إنني أعلم أنك تترك قديسيك لأجل فائدتهم وذلك لامتحانهم... لذلك لست أسألك ألا تتركني، لأنه ليس من المفيد لي ألا أشعر بضعفي (لذلك قال "خيرٌ لي أني تذللت" مز 71:119)، ولا من النافع لي ألا تتاح لي فرصة للحرب. وهذه الفرصة لن تتاح لي بالتأكيد ما دمت أمتلئ بحماية الله الدائمة. فالشيطان لا يتجاسر ويحاربني ما دمت مستندًا على حمايتك، فيتقدم معترضًا ومشتكيًا ضدي وضدك: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أَليس أنك سيَّجت حوله وحول بيته وحول كل ما لهُ من كل ناحية؟" (أي 1: 9-10). ألتمس منك أن تتركني، لكن "ليس إلى الغاية" (اللفظ اليوناني "ليس كثيرًا") وذلك لأنه مفيد لي أن تتركني قليلًا، حتى يُمتحن ثبات حبّي(53).
الأب دانيال
* كلماتك تضربني بشدة في صدري، وتسيج حولي من كل جانب(54).
"وَلَكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ،
وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ،
فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ" [11].
في حديث لثيؤدورت أسقف قورش عن العناية الإلهية أثار اعتراض البعض: لماذا يحيا غالبية الأغنياء في حياة تتسم بالظلم؟ لماذا لا يطلبون العدل؟ ولعله استقى مثل هذا الاعتراض من فيلون السكندري ومن بعض
الرواقيين. يجيب ثيؤدورت [مرة أخرى إنكم تنسون أن للإنسان إرادة حرة. إنكم بهذا تحرمونه من المجد الذي أُعطي له من صانعه. هذا بجانب أن صانعي الشر يجدون أساسًا قويًا للدفاع عن أنفسهم لو أن الديان وزع الثروة على الأبرار وحدهم في الحياة الحاضرة. فيقولون ما قاله سيدهم عن أيوب: "سيَّجت حولهم وحول بيوتهم. ضاعفت محاصيلهم وكرومهم. لكن أبسط يدك ومسْ كل ما لهم، فإنهم يباركون (يجدفون عليك) في وجهك" هذا ما يقوله الخطاة القساة لو أن ممارسي الفضيلة نالوا وحدهم عطية الغنى(55).]يرى القديس أغسطينوس أن المؤمن الحقيقي مثل أيوب هو بوق ممتد، وأن التجارب أشبه بالطرق بمطرقة، متى ضربت البوق أصدر أصوات تسبيح مفرحة. هكذا المطرقة التي تحطم غير المؤمن تكشف عن سلام وتهليل المؤمن فتزكيه أمام الله(56).
* لو كان في استطاعة (الشيطان) أما كان ينتقم لنفسه؟ لكن لا يُسمح له بذلك. فعندما أراد أن يجرب أيوب سأل أن ينال سلطانًا ليفعل ذلك، ولم يكن قادرًا أن يفعل شيئًا لم ينل به سلطانًا. فلماذا لا تعبدون الله بدون خوف، ذاك الذي بدونه لن يؤذيكم أحد، وبسماح منه تؤدبون لكن لا تُهزمون؟(57)
* استطاع (الشيطان) أن يحسد الرجل القديس (أيوب)، لكن هل استطاع أن يؤذيه؟
أمكنه أن يتهمه، لكن هل استطاع أن يدينه؟
هل استطاع أن ينتزع منه شيئًا أو يؤذيه، ولو بقدر ظفر إصبع أو شعرة من رأسه، دون أن يقول لله: "ابسط يدك"؟
أعطني سلطانًا. لقد أُعطي له.
واحد جرَّب، والآخر جُرب. لكن الذي جُرب غلب، والذي قام بالتجربة انهزم.
فالله الذي سمح للشيطان أن يسحب كل ما له لم يتخلَ عنه داخليًا بكونه خادمه. جعل من نفس خادمه سيفًا به انهزم الشيطان.
وما هي المُحَصِّلَة؟ أظن أنها لنفع البشرية عامة. الإنسان التي انهزم في الفردوس صار غَالِبًا وهو على المزبلة. في موضع هزمه إبليس خلال امرأة، وفي موضع آخر غلب إبليس والمرأة معًا(58).
* يهيئ الشيطان التجربة، فإن رأى شخصًا ضعيفًا يقوم بالهجوم عليه، أما إذ رآه قويًا يتوقف(59).
*هذا أيضًا ما نقرأ عنه، أن البرّ الإلهي قد أعان أيوب الأمين بحق في مصارعته، عندما ناهضه الشيطان في معركة فريدة. لكن لو تقدم أيوب ضد عدوه، ليس بقوته، إنما بحماية نعمة الله مسنودًا بالعون الإلهي من غير ممارسة أي احتمال من جانبه، فإنه في خضوعه لهذه التجارب المتعددة... يكون للشيطان أن ينطق بعدلٍ، مفتريًا بما سبق أن قاله قبلًا: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟! أَليس أنك سيَّجت حولهُ.. حول كل ما لهُ من كل ناحية؟! ولكن ابسط يدك الآن"، أي اسمح لي أن أحاربه "فإنهُ في وجهك يجدّف" (أي 9:1-11).
لكن لم يستطع العدو المفتري أن يحتج بهذا بعد المعركة، لأنه انهزم بقوة أيوب وليس بقوة الله(60)، لا بمعنى أن نعمة الله فارقت أيوب، لأنها هي التي أعطت للمجرب سلطانًا أن يجرب في الحدود التي كانت ترى فيها أن أيوب يقدر أن يقاومها، وفي نفس الوقت لم تحمه النعمة من هجمات العدو بطريقة تنزع فيها فضيلته وجهاده، إنما تعينه. بمعنى أنها لا تسمح لذلك العدو الذي هو في غاية القسوة أن ينزع عنه عقله أو يغرقه أثناء ضعفه ببث أفكار فوق طاقته أو النزول معه في نزاع غير متساوٍ معه(61).
الأب شيريمون
* غالبا ما تسمح العناية الإلهية أن يواجه المؤمن مضيقات لكن ما يظهر للآخرين الفضيلة المخفية فيه, هكذا كان الحال بالنسبة لأيوب(62).
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ:
هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ،
وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ.
ثمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ الرَّبِّ " [12].
لقد سمح الله للشيطان أن يجرب أيوب، كما سمح أن يغربل بطرس الرسول، لكن حرص ألا يفنى إيمانه (لو 22: 32)، فإن التجارب تؤول للمدح والكرامة والمجد (1 بط 1: 7).
التصريح الذي سمح به الرب للشيطان يعطي المؤمن طمأنينة وسلامًا، فعدو الخير لا يقدر أن يمس مؤمنًا دون إذن إلهه، حتى أملاكه لا يقدر أن يقترب إليها بدون سماح إلهه. أما الله فهو الأب القدير المحب الحكيم، يعطي السماح بالقدر الذي نحتمله، وبما يؤول إلى مجدنا إن كنا أمناء.
قيل عن عدو الخير: "خرج الشيطان من أمام وجه الرب" كما قيل عن قايين (تك 4: 16)، إذ لا يحتمل الشر الوجود في الحضرة الإلهية. أما بنو الله الماثلون أمام الله فلم يُقل عنهم أنهم خرجوا من وجه الرب. هكذا يبقى المؤمنون في حضرة الرب حتى في لحظات نومهم!
لقد سمح الله للشيطان بأن ينال سلطانًا لتجربة أيوب البار حسب الحدود التي وضعها له. هنا يميز البابا غريغوريوس (الكبير) بين إرادة الشيطان وسلطانه. فمن جهة إرادته فهي دومًا شريرة، أما سلطانه الذي يُسمح له به من قبل الله فلن يكون فيه ظلم، لأنه بسماحٍ إلهيٍ لأجل تزكيتنا وبنياننا. لهذا لا نعجب مما ورد في (1 صم 10:18) "الروح الرديء من قبل الله اقتحم شاول، وجن في وسط البيت". فهو روح شرير، أما القول: "من قبل الله"، فلأنه ما كان يمكنه أن يقتحم شاول بدون نوال سلطانٍ من الله العادل. يقول القديس بولس: "لم تصبكم تجربة إلا بشرية، ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1 كو 13:10). لذا يقول داود المرتل: "جربني يا رب، وامتحني" (مز 2:26).
يرى القديس أغسطينوس أن الله يسمح للشيطان أن يُسقط عليهم الضيقات، إما لأجل تأديبهم كما سلم شعبه للسبي بواسطة الغرباء؛ وإما للامتحان كي يتزكوا كما سمح لأيوب أن يُجرب، وإما ليبعث بهم إلى نوال الإكليل كما سمح لشهداء أن يُضطهدوا(63).
*بالحقيقة عندما سأل الشيطان أن يُعطى له سلطان ضد أيوب، كان هجومه عليه سببًا في نوال أيوب مجدًا مضاعفًا بعد نصرته. نواله ضعف ما فقده في الحاضر أظهر بالحقيقة أنه سينال بلا شك بنفس الطريقة في المواضع السماوية. يقول الرسول إنه: "إن كان أحد يجاهد لا يُكلل إن لم يجاهد قانونيًا" (2 تي 2: 5).
بالحقيقة كيف يوجد جهاد إن لم يوجد من يقاوم؟
يا لعظمة جمال النور وبهائه الذي لا يمكن تبينه إن لم تعترضه ظلمة الليل.
لماذا يُمدح البعض لأجل الطهارة، إلا لأن آخرين يدانون على وقاحتهم؟
لماذا يتمجد الأقوياء إلا لأنه يوجد جبناء؟
عندما تستخدم ما هو مُر، عندئذ يصير لك الحُلو مستحقًا للمديح بالأكثر(64).
* نقرأ في سفر أيوب كيف أن الشيطان نفسه الذي يظهر كمن له كل السلطة إلى حين لا يقدر أن يفعل شيئًا بدون سماحٍ. لقد نال سلطانًا على الأشياء الدنيا، وفقد سلطانه على كل ما هو أعظم وأسمى. سلطانه هذا ليس كمن يصدر عقوبة، بل العقوبة حالة به هو نفسه(65).
* لقد سمح الله للمجرب، لا لكي يعرف ما هو بالفعل يعرفه (عن أيوب)، وإنما لكي نعرف نحن ونقتدي به. لقد سلم للمجرب، فسلب كل شيء. وبقي الرجل مسلوبًا من ممتلكاته ومن أسرته ومن أولاده، لكنه كان ممتلئًا من الله(66).
* سُمح للمجرب أن يجرب إنسانًا قديسًا، أيوب. في لحظة واحدة نزع كل الأشياء، أزال كل ما كان يملكه، نزع الميراث، وقتل الوارثين. لم يحدث هذا شيئًا فشيئًا، بل جملة معًا، بضربة واحدة... فأعلن عن الكلٍ بإعلان مفاجئ. حين أُزيل كل شيء بقي أيوب وحده، لكن بقيت فيه نذور التسبيح التي يرددها لله(67).
* استجاب الله (لشعبه) طلبتهم، أعطاهم ملكًا حسب قلبهم - كما هو مكتوب - وليس حسب قلبه هو. لقد وهب أيضًا ما سأله إياه الشيطان أن يجرب خادمه لكي يتزكى(68).
* ألا ترون الحدود التي وضعت في الاختبار؟ أما تلاحظون أن الشيطان ما كان يمكنه أن يلمس حتى القطيع لو لم ينل سلطانًا؟
* يُسمح للشيطان المجرب أن يثير حربًا على القديسين بكل طرق التجربة، حتى يتزكى حبهم لله، ولكي يكون ذلك شاهدًا. وذلك عندما يُنزع عنهم أو يحرمون أو يصيرون في عوز ومعدمين من الأمور الحسية، بينما يبقون محبين لله، ثابتين في محبته، يحبون بالحق. وبينما يحاول (الشيطان) إغراءهم يبقون غير منهزمين، ولا يغيرون محبتهم لله...
فالعدو يرغب بقوة أن يجرب كل إنسانٍ، إن كان ذلك ممكنًا له، ويسأل الله من أجل الكل لكي يجربهم كما سأل من أجل الرجل البار أيوب... وإذ نال في وقت قصير سماحًا اقترب الشيطان فورًا حسب قوة من سيجربه. هكذا يصارع الشرير معهم حسب شهوته. بهذه الوسائل، أولئك الذين هم مستقيمون وثابتون في حب الله يتزكون عندما يستخفون بكل شيء ويحسبونه كلا شيء بجوار حبهم لله(69).
* يُعطى السلطان ضدنا في شكلين، إما للعقاب عندما نخطئ، أو للمجد عندما نتزكى، كما نرى في حالة أيوب(70).
* "هوذا كل ما له في يدك، وإنما إليه لا تمد يدك" [12]، يمكن أن يكون لها معنى آخر. لقد عرف الرب حقًا أن جنديه كان شجاعًا، وأن النصرة أكيدة تحت كل الظروف لهذا المصارع الصامد. وأن العدو سيعود إلى الرب مهزومًا من صراع واحدٍ. عندئذ يسمح له بمعركة أخرى لكي يُهزم للمرة الأخرى، ويصير هذا الذي يتبعه بأمانة منتصرًا بالأكثر بطريقة لا تُقارن على العدو المنهزم الذي استعاد قواه للحروب الجديدة.
*ما كُتب عن أيوب ليس بدون معنى، إذ يتضح من الكتاب أن الشيطان طلبه وسعي إليه. فإن الشيطان لا يستطيع أن يعمل شيئًا من ذاته بدون إذن من الله.
ماذا يقول الشيطان للرب؟ "سلمه ليدي، فإنه في وجهك سيجدف عليك" (أي 1: 12) ولا يزال أيوب كما هو إلى الآن، وهكذا الله أيضًا، وكذلك الشيطان. لذلك فبقدر ذلك يطلبه الشيطان ويقول للرب: "إنما هو يخدمك، لأنك تساعده وتحميه وتعينه، ولكن ابسط يدك الآن وسلمه لي، فإنه في وجهك يجدف عليك".
باختصار إذ يكون الشخص حاصلًا على العزاء بالنعمة، تنسحب النعمة قليلًا حتى يمكن أن يُسلم للتجارب. ويأتي الشيطان ويحضر معه آلاف من الشرور كتجاربٍ للإنسان، مثل اليأس والارتداد والأفكار الرديئة، ليعذب بها النفس، لكي يضعفها ويفصلها من الرجاء في الرب(71).
*[لا تدخلنا في تجربة] الصلاة هنا ليست لكي لا نُجرب، بل لكي لا ندخل (ننقاد) في تجربة. فإذ يلزم لكل إنسان أن يُمتحن بالنار، عليه ألا يصلي لكي لا تمسه النار، بل لكي لا يهلك. لأن آنية الخزف تُختبر بالأتون، والإنسان يُمتحن بالضيقات trail of tribulation (حكمة يشوع 6:27).
يوسف أُمتحن بغواية الزنا، لكنه لم يدخل في تجربة (تك 7:39-12).
وسوسنة جُربت أيضًا دون أن تدخل في تجربة (دا 22:19).
وكثيرون من كلا الجنسين جُربوا دون أن يدخلوا في تجربة.
أما أيوب فأعظمهم، لأنه ثبت ثباتًا عجيبًا في الرب إلهه(72).
* ليس لدى (الشياطين) سلطان ولا قوة يمارونها ضد أحد ما لم ينالوا سماحًا من الله حسب تدبيره, مثال ذلك ما حدث ضد أيوب (أي1: 2), وضد الخنازير المذكورة في الأناجيل (مر 5: 13)(73).
* ليس للأرواح الشريرة السلطان أن تضر أحدًا، يظهر ذلك بوضوح في حالة الطوباوي أيوب، حيث لم يتجاسر العدو أن يجربه إلا حسبما سمح الله به... وقد اعترفت الأرواح نفسها بذلك كما جاء في الإنجيل، إذ قالت: "إن كنت تُخرِجنا فَأْذَنْ لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير" (مت 31:8). فإن كان ليس لديهم السلطان أن يدخلوا الحيوانات النجسة العُجم إلا بسماح من الله، فكم بالحري يعجزون عن الدخول في الإنسان المخلوق على صورة الله؟!(74)
13 وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنَاتُهُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، 14 أَنَّ رَسُولًا جَاءَ إِلَى أَيُّوبَ وَقَالَ: «الْبَقَرُ كَانَتْ تَحْرُثُ، وَالأُتُنُ تَرْعَى بِجَانِبِهَا، 15 فَسَقَطَ عَلَيْهَا السَّبَئِيُّونَ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». 16 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «نَارُ اللهِ سَقَطَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتِ الْغَنَمَ وَالْغِلْمَانَ وَأَكَلَتْهُمْ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». 17 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «الْكَلْدَانِيُّونَ عَيَّنُوا ثَلاَثَ فِرَق، فَهَجَمُوا عَلَى الْجِمَالِ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». 18 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، 19 وَإِذَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ جَاءَتْ مِنْ عَبْرِ الْقَفْرِ وَصَدَمَتْ زَوَايَا الْبَيْتِ الأَرْبَعَ، فَسَقَطَ عَلَى الْغِلْمَانِ فَمَاتُوا، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ».
"وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنَاتُهُ
يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا،
فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ" [13].
* يلزمنا ملاحظة التوقيت الذي حلت به التجارب، فقد اختار الشيطان وقت التجربة عندما كان أبناء الطوباوي أيوب منشغلين في وليمة (أي 1: 13). فإن المقاوم لم يبحث فقط ماذا يفعل، وإنما متى يفعل هذا. فمع نواله السماح، إلا أنه بحث عن التوقيت المناسب ليمارس تدميره. وبترتيب الله كان الهدف هو تسجيل هذا لنفعنا، فإن التمتع بالملذات الكاملة هو تهيئة لحلول البلايا.
"أَنَّ رَسُولًا جَاءَ إِلَى أَيُّوبَ وَقَالَ:
الْبَقَرُ كَانَتْ تَحْرُثُ،
وَالأُتُنُ تَرْعَى بِجَانِبِهَا" [14].
جاء في الترجمة السبعينية "الأتن مع صغارها"، ففي حذاقة شديدة أراد العدو أن يزيد من مرارة الكارثة، فقد سَبَى السبئيون البقر النافعة، إذ كانت تحرث الأرض، والأتن المخصبة، إذ كان معها صغارها. بهذا أراد العدو أن يضرب بعنفٍ ليجعل الجرح في نفس البار أيوب أكثر مرارة. هذا بجانب سقوط الكوارث متلاحقة وبسرعة بالغة.
فَسَقَطَ عَلَيْهَا السَّبَئِيُّونَ وَأَخَذُوهَا،
وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ،
وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ [15].
إذ أخذ الشيطان إذنًا بالتجربة لم تعوزه الإرادة التي ينفذ بها خطته، فإن الأشرار يتممون مشورة أبيهم الشرير. وكما قال السيد المسيح لليهود في عصره: "أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 44). فإنه هو "الروح الذي يعمل في أبناء المعصية" (أف 2: 2).
* ألا ترون سرعة الضربة...؟ مثل هذا لم يحث قط من قبل، ولا سمع أحد عن أمرٍ كهذا. أضف إلى هذا أنه لم يُعد ممكنًا حرث الأرض بعد، وفي لحظة جُرد أيوب من كل ممتلكاته. رؤية هلاك القطيع مؤلمة دائمًا، خاصة إن حدث في وقت يعتمد الإنسان تمامًا عليه... أضف إلى ذلك فإن حدوث قتلٍ وسط الدمار يجعل الصراع غير محتمل، حيث تظهر الوحشية والهمجية. إنها كارثة مزدوجة، القتل والحملات الهجومية، مع الهزال المتبقي مضافًا إلى المحن التي لحقت به، حيث لم تعد تجعله جاهلًا بهول طبيعة الكارثة التي للحدث.
يؤكد القديس أمبروسيوس أن كثيرًا من الأمور التي تبدو شريرة ورديئة ونحن نعاني منها تصير فرصة لنمو فضائلنا، كما حدث مع أيوب في تجاربه المتعددة.
* أما كان (أيوب) يصير في حالٍ أقل تطويبًا لو لم يعاني من هذه الأمور التي بها بالحقيقة قد تزكى؟(75)
"وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذْ جَاءَ آخَرُ، وَقَالَ:
نَارُ الله سَقَطَتْ مِنَ السَّمَاءِ،
فَأَحْرَقَتِ الْغَنَمَ وَالْغِلْمَانَ وَأَكَلَتْهُمْ،
وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ" [16].
تلاحقت النكبات في لحظات وبسرعة فائقة، ولعل العدو تعمد ذلك لكي لا يترك لأيوب فرصة للتفكير المتزن، بل مع تلاحق الكوارث يظن أن غضب الله قد حّل عليه، وأنه لن يتوقف. كانت التجارب كأمواج لا تهدأ. "غمر ينادي غمرًا" (مز 42: 7).
العجيب في الرسل القادمين إلى أيوب أنهم يؤكدون أن البقر كانت تحرث، والأتن ترعى. وكأنه حتى الحيوانات كانت تقوم بدورها، فليس من لومٍ على الأبناء، ولا الخدم، ولا الحيوانات، وكأن اللوم كله ينصب على الله وحده دون غيره. لقد كانت خطة الشيطان محكمة للغاية، ليضرب قلب أيوب حتى يحول كل مشاعره وأفكاره نحو التجديف على الله.
بينما كنت أسجل هذا التفسير إذا بشاب يموت فجأة، فصار صديقه العزيز عليه جدًا يجدف: "لماذا أخذ الله أعز صديق لدي؟" ويرفض أية تعزية... بل وأحيانًا يتمتم: "أين هو الله؟ وإن وُجد، فأين رحمته ورعايته؟" وكأن عدو الخير في كل جيل يبذل كل الجهد لتحويل طاقات البشرية نحو التجديف على الله.
لم يعطِ عدو الخير الفرصة لأيوب كي يفكر في القيام بحرب ضد السبئيين ورد ممتلكاته، إذ جاء الخبر التالي يعلن أن نارًا من السماء نزلت من عند الله فأحرقت الغنم والغلمان وأكلتهم. فإن كان يريد أن يحارب السبئيين، فمن أين يأتي برجاله للقتال وقد أحرقتهم نار إلهية. ثم هل يحارب الله؟ وكيف يبلغ إليه...؟ وكأنه لم يعد في متناول يد أيوب غير لسانه ليجدف على الله كظالمٍ عنيفٍ لا يعرف الرحمة.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن بقوله: "نار الله سقطت من السماء"، أراد العدو أن يوحي لأيوب أن ما يحل به ليس بضربات بشرية بل من قبل الله، وموجهة ضده وحده دون بقية المحيطين به. ولعله بهذا أراد تشويه صورة الله في عينيه. فمع عدم ارتكابه خطايا عظمى وعدم إهماله في العبادة لله، إلا أن الله حلّ بغضبه عليه دون غيره، مما يثير فيه الدافع نحو التجديف على الله كظالمٍ. إذ أحرق الله الغنم التي اختار أفضلها ليقدمها محرقات لله، فإن الله يبدو كمن لا يُسر بمحرقاته، ولا يقبل عبادته، أو كأن "عبادة الله باطلة" (مل 3: 14).
لم يُسمع عن احتراق صادر من السماء منذ حرق سدوم وعمورة، لذا يقول أيوب: "لأن البوار من الرب رعب عليّ" (أي 31: 23).
* لئلا لا يثيره فقدان ممتلكاته بحزنٍ كافٍ عند سماعه الخبر حث مشاعره بكلمات الرسول ذاتها.
لاحظوا كيف بمكرٍ قيل "نار الله"، كما لو قيل إنك تعاني من افتقاد ذاك الذي تريد أن تسترضيه بذبائح كثيرة هكذا. ها أنت ساقط تحت غضب ذاك الذي تشغل نفسك بخدمته كل يوم...
هذه هي الغاية أن يستعيد في ذاكرته خدماته الماضية، ويحسب أنه باطلًا قد خدم، وكأنه قد أراد أن يثير فيه الشعور بظلم الخالق.
فإن الذهن التقي إذ يجد نفسه يواجه حمل صلبان من يدي إنسان يطلب التعزيات من العناية الإلهية. وعندما يرى عاصفة التجربة تستمد قوتها من الخارج، يطلب أن يغطيها بالثقة في الرب، ويلجأ داخليًا إلى ميناء الضمير. لكن ذاك الخصم الماكر أراد أن يحطم في ذات اللحظة قلب هذا القديس الشجاع، وذلك بضربات موجهة من إنسان وباليأس من الله.
جاء إليه بأخبار أولًا عن السبائيين الذين قاموا بالنهب، وفي الحال جاء النبأ عن نار الله التي سقطت من السماء، حتى يغلق الباب تمامًا عن أية وسيلة للتعزية.
"وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذْ جَاءَ آخَرُ، وَقَالَ:
الْكِلْدَانِيُّونَ عَيَّنُوا ثَلاَثَ فِرَق،
فَهَجَمُوا عَلَى الْجِمَالِ وَأَخَذُوهَا،
وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ،
وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ" [17].
لم يتركه العدو ليفكر لماذا سقطت النار من السماء كما بأمر إلهي، إذ جاءه رسول آخر يخبره بضربة جديدة من فعل الكلدانيين. وهو في هذا يريد أن يربك فكر أيوب. فإن كانت النار قد حلت من قبل الله، فلعل أيوب يظن أنها ضربة لتأديبه، لكن إذ يجد حتى البشر يسقطون عليه، فبماذا يبرر هذا؟
للمرة الثالثة تحل به نكبة خطيرة، وقد جاءت عن طريق ثلاث فرق من الكلدانيين، في وقت فقد فيه أيوب كل إمكانية للمقاومة. ولعل العدو أراد بهذه الضربة أن يصرخ أيوب في قلبه: "لماذا ينجح الرب طريق الأشرار؟"
"وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذْ جَاءَ آخَرُ، وَقَالَ:
بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا،
فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ" [18].
"وَإِذَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ جَاءَتْ مِنْ عَبْرِ الْقَفْرِ،
وَصَدَمَتْ زَوَايَا الْبَيْتِ الأَرْبَع،
فَسَقَطَ عَلَى الْغِلْمَانِ فَمَاتُوا،
وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ " [19].
لكي يزيد من مرارة الكارثة، بعث إليه بخبرٍ خطيرٍ وهو أن الطبيعة أيضًا ثائرة ضده، فريح شديدة هزت البيت وقتلت أولاده وبناته، حتى يصعب عليه أن يخرج جثثهم سليمة! سيكون منظرهم بشعًا للغاية. هذا بجانب إرباك فكر أيوب: كيف تتكاتف السماء والأرض معًا ضده، الله والبشر والطبيعة يقاومونه، لماذا؟ ماذا فعل ليسقط تحت هذه الكوارث المتلاحقة من مصادر مختلفة؟
هذه أمر الضربات تركها العدو في النهاية، حتى يصوب سهمًا قاتلًا في قلب أيوب، إذ مات أولاده وبناته جميعًا في لحظات تحت الأنقاض. إنها خسارة بالغة جدًا. عندما مرض الابن الرضيع لداود لم يحتمل المرارة، بل صار يسير ذهابًا وإيابًا يصرخ، فماذا يكون حاول أيوب الذي فقد كل أولاده وبناته فجأة.
كان أيوب في حاجة إلى أولاده يعزوه في كل ما فقده، لكن موتهم، خاصة بهذه الطريقة، حتمًا جعله ينسى كل التجارب السابقة ليسقط في مرارة لا تُحتمل.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه في الكوارث السابقة ربما يوجد ما يبرر قول الرسول: "ونجوت أنا وحدي"، حيث هرب ما لحق بحيوانات أيوب، أما أن ينجو هذا الرسول الأخير من سقوط البيت بينما يموت كل أبناء وبنات أيوب معًا، فهذا أمر غير طبيعي، فما هو السرّ؟ يرى الذهبي الفم أن هذا الرسول لم يكن إنسانًا بل الشيطان نفسه، لأنه كيف ينجو من يخدم أبناء وبنات أيوب دونهم وهو معهم في ذات البيت الذي سقط وأهلك من فيه؟
* هل فقدت طفلًا! إنك لم تفقده؟ لا تقل هذا، إنه نائم، وليس ميتًا، لقد تحرك ولم يتدمر، إنه في رحلة من حال سيئ إلى ما هو أفضل.
لا تثر الله ليغضب، بل استعطفه. فإنك إن احتملت هذا بنبلٍ، فإن الراحة تتضاعف بالنسبة للراحل كما بالنسبة لك. أما إن حدث العكس فإنك تلهب بالأكثر غضب الله...
قدم شكرًا فإنه بهذا تتبدد سحابة الحزن عنك. قلْ مع أيوب: "الرب قد أعطى، الرب أخذ" (أي 21:1)(76).
20 فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، 21 وَقَالَ: «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا». 22 فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ وَلَمْ يَنْسِبْ للهِ جِهَالَةً.
"فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَه،ُ
وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ،
وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ " [20].
لو لم يتصرف أيوب هكذا لحُسب إنسانًا بليد الحس، جامدًا، غير طبيعي وغبيًا، لم يتأثر بموت بنيه وخدمه. لقد كشف بهذا التصرف عن مرارة نفسه دون الخروج عن حدود اللياقة، وذلك بالنسبة لكثرة التجارب المتلاحقة وبشاعتها.
بجانب هذا فإن ما فعله كان يناسب العادات المتبعة في ذلك الحين. تصرفه لا يعني أنه فقد سلامه الداخلي أو شجاعته وصبره وقوة احتماله.
يرى بعض المفسرين أنه التجأ إلى هذا، لأن عدو الخير حاول أن يبث أفكار التجديف على الله. فتمزيق الثياب وجز الشعر هما علامة على إصراره على رفض هذه الأفكار. لأن تمزيق الثياب علامة الرغبة في رفض التجديف، وذلك كما فعل رئيس الكهنة، حينما ظن في يسوع المسيح أنه قد جدف.
سجوده حتى الأرض علامة على إخلاصه مع نفسه، إذ شعر أنه خاطي، وأن نفسه قد انحطت حتى التراب.
يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن أيوب قام بتمزيق ثيابه كما بجز شعر رأسه من أجل الحزن، لكن بالأكثر لكي يتعرى من كل شيء، حتى من ثوبه وشعر رأسه، فلا يجد عدو الخير شيئًا يمكنه أن يجربه فيه. كما في تواضعٍ أمام الله سقط على الأرض.
* "سجد" ليقنع الخائن أنه باطلًا يفتري عليه أمام الله. فإن ذاك الذي قال عنه (الشيطان) أنه سيجدف (أي 11:1؛ 5:2) ها هو يسجد. الشخص الذي قال عنه أنه متى دُمرت ممتلكاته سيظهر جحودًا أمام الله، ها هو يقدم شكرًا أكثر من قبل.
* البعض يحسبونها درجة عالية من فلسفة الثبات أنهم متى سقطوا تحت تأديبٍ قاسٍ، يكونوا بليدين في إحساسهم بالضربات، وفي ألم الجلدات. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). والبعض يبالغون في حساسيتهم لألم الضربات...
يقول النبي: "ضربتهم فلم يتوجعوا؛ أفنيتهم وأبوا قبول التأديب" (إر 3:5). مقابل هذا الحوار القلبي في الإحساس بالتأديب يقول المرتل: "لن يثبتوا في المحنة" (مز 10:140 الفولجاتا). فإنهم يثبتون في المحنة إن احتملوها بصبرٍ.
* كانت العادة في العصور القديمة أن يحتفظ كل واحدٍ بمظهر شخصه بترك شعره ينمو، ليقصه في أوقات الحزن.
إذ فقد الرجل القديس كل شيء في وقت محنته بواسطة الخصم، أدرك أن الشيطان ليس له سلطان عليه أن يجربه بدون سماح الرب، لهذا لم يقل: "الرب أعطى، والشيطان أخذ"... فإنه يكون الأمر محزنًا إن كان ما يعطيه الخالق يأخذه منه العدو. لكن الذي يأخذه ليس أحد آخر إلا ذاك الذي أعطى، حيث استرد ما له، ولم يأخذ ما هو لنا. فإن كل ما نستخدمه في حياتنا الحاضرة يأتي من عنده، فلماذا نحزن إن كنا نرد إليه ما اقترضناه منه خلال سخائه؟
* يا لشجاعة أيوب التي تفوق كل ما يُخبر به! يا للتواضع! يا لحب الله...!
هل ظن العدو أن أيوب لا يبالي بالبقر، ولا يهتم بالأتن، وحسب القطيع أمرًا ليس بذي قيمة، والجمال كأنها لا شيء، وكل ممتلكاته أمورًا يُستهان بها؟
ماذا بخصوص الحزن على موت بنيه وبناته، كيف لم يُسقطه في رعبٍ...؟
ذاك الذي كان أبًا لأبناء كثيرين لم يعد أحدٍ ما يدعوه "أبي".
لم يقل لله: "أية خطايا كثيرة ارتكبها أيوب حتى يُحسب غير أهلٍ أن يحتضن أبنائه عند موتهم، ولا يكون قادرًا أن يكرمهم بدفنهم في قبرٍ، ولا في استطاعته أن يتعزى بدموعٍ كعادة طبيعية كاملة، ولا في قدرته أن يقود موكب جنائزي، كما يفعل عادة الآباء والأصدقاء...؟
إذن ليتكم لا تغضبون حينما تُجردون من ممتلكاتكم، وتُحرمون من الكرامات الزمنية، وتُعزلون عن الأبناء أو الآباء.
حين تفقدونهم حسب ناموس الطبيعة، لا ترتبكوا...
فلا يُمكن أن يُسلب منكم غناكم الحقيقي الذي هو التسبيح لله، الأمر الذي يجعلكم أقوياء تتحَّدون كل الأحداث.
هل العبد يقدم اتهامًا عندما يُطالب بالوزنات التي أودعه إياها سيده؟ (مت 19:25)
أو إذ أخذ قرضًا، فهل يضطرب عندما يرده...؟
نعم، إذ نعطي ما هو ليس لنا، ليتنا نتقدم لله بكونه مستحقًا الشكر، عندما يعطي كما عندما يأخذ.
* "فقام أيوب، ومزق جبته، وجزَّ شعر رأسه" [20]. لا تظنوا أيها الأحباء أن هذه الإيماءة علامة هزيمة، بل هي على وجه الخصوص إشارة إلى النصرة. فلو لم يتصرف قط لحُسب أنه كان في حالة ذهول، لكنه بالحق أظهر نفسه حكيمًا وأبًا تقيًا في نفس الوقت. فإنه أية خسارة هذه التي لحقت به؟ إنه لم يحزن فقط على فقدان أبنائه وأيضًا حيواناته، وإنما على الطريقة التي ماتوا بها. من لا يتحطم أمام هذه الأحداث؟ أي رجل حديدي لا يتأثر بها؟
بولس أيضًا كانت له هذه المشاعر في مواجهة الدموع، إذ يقول: "ماذا تفعلون، تبكون وتكسرون قلبي؟" (أع 13:21) وهو بهذا كان موضوع إعجاب! هكذا أيوب يستحق الإعجاب، لأنه بالرغم من المشاعر التي دفعته إلى هذا التحرك عبَّر عنها بطريقة ليس فيها أي شيء غير لائق نهائيًا...
موسى (النبي) كسر (لوحي الناموس)، ويشوع مزق ثيابه (خر 15:32-20؛ يش 6:7)، فلو أن أيوب لم يمزق ثيابه لقيل أن الله خلقه بطبيعة لا تتأثر (جامدة)، لكنه قبل الآلام التي تحل بالأبرار حتى تدركوا أنه التزم أن يكون حكيمًا حتى في حزنه.
* "وخر على الأرض وسجد" [20]. لكي لا تظنوا أن تمزيق ثيابه يعني تجديفًا، وأنه في حالة غضب على الأحداث أنصتوا إلى ما يقوله. لقد تنازل عن ثوبه للشيطان. يقول النص: "وجزَّ شعر رأسه... وقال: عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريانًا أعود إلى هناك". مرة أخرى يتكلم حسنًا. فإنه منذ ذلك الحين يواجه الصراع ملقيًا بنفسه عاريًا.
لقد سقط على الأرض وأسقط الشيطان. لقد أظهر مشاعره وأوضح تقواه...
لاحظوا كيف أنه بتصرفاته هذه أعلن عن كلمات الرسول: "لأننا لم ندخل العالم بشيءٍ، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيءٍ" (1 تي 7:6).
لاحظوا كيف أن كلماته التي نطق بها خدمته، ليس هو وحده فقط، بل وستخدمنا نحن أيضًا.
هذه الممتلكات فوق كل شيء هل هي ملكي؟ هل أنا الذي جبلتها؟
هذه الثروة، أليست هي وديعة؟ إنها غريبة عني، إذ لم ترافقني عند دخولي هذا العالم، لا ترافقني عند خروجي...
ليتنا نكون متبلدين من جهة الغنى. لهذا خلقنا الله عراة منذ البداية، وجعلنا قابلين للموت.
* عندما مات أبناء أيوب وجدوا مقبرة عامة تحت أنقاض بيته, وكل ما استطاع أن يفعله هو إظهار عاطفته الوالدية بتمزيق ثيابه وسقوطه على الأرض والسجود قائلًا: "عريانًا خرجت من بطن أمي, وعريانًا أعود إلى هناك, الرب أعطى، والرب أخذ, فليكن اسم الرب مباركا" (أي 1: 20)(77).
"وَقَالَ: عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي،
وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ.
الرَّبُّ أَعْطَى، وَالرَّبُّ أَخَذَ،
فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا" [21].
لم يذكر الكتاب المقدس أية تسبحة تغنى بها آدم وحواء في الفردوس وسط كل العطايا والبركات الفائقة التي تمتعا بها. لكن سجل لنا سفر أيوب تسبحة قصيرة تفوق الكثير من التسابيح, تسبحة تفرح قلب الله وقلوب السمائيين, وتبقى منقوشة كما على صخر تتغنى بها الأجيال, ويجد فيها البشر عبر الأجيال تعزيان إلهية. هكذا ما كنا نتمتع بالمزامير وحياة التهليل الداخلي لو لم يكن داود النبي رجل الآلام, وما كنا نتغنى بتسبحة الثلاثة فتية القديسين لو لم يلقوا في أتون النار.
بقوله هذا يعلن أيوب عن عودته إلى أصله، وكما يقول الحكيم: "يرجع التراب إلى الأرض كما كان" (جا 12: 7). عرايا نعود حيث نرجع إلى التراب الذي أُخذنا منه (أي 23: 6). جاء المثل اللاتيني بأنه "لا يمكن أن يبلغ أحد إلى حالة من الفقر المدقع أكثر مما كان عليه حين وُلد".
ظهرت أمانة أيوب على غير ما ادعي الشيطان، فعوض أن يجدف على الله باركه، معترفًا بالعناية الإلهية مهما حلّ به من ضيقات.
لم يقل الله أعطى والسبائيون والكلدانيون أخذوا، ولا قال الله أعطاني والرب أفقرني، وإنما قال بأن الله الذي أعطى من حقه أن يأخذ. إنه لم يخسر شيئًا، لأن كل ما لديه حتى أولاده هم ملك الله، هم عطيته.
بارك الله الذي أعطى، ويباركه لأنه أخذ، لأن بقاء العطايا ولو إلى حين هو من قبيل محبة الله لنا. ولأن الله الكلي الحكمة والحب والقدرة يعرف ما لبنياننا وبالقدر الذي فيه نفعنا، لذا حتى الأخذ منا هو لخيرنا.
* عندما جاء الرسل إلى الطوباوي أيوب واحد يلي الآخر، وسمعهم يعلنون عن أخبار مميتة، مضافًا إلى ذلك دمار أبنائه الذي لا يُحتمل، لم يصرخ ولا تنهد، بل التجأ إلى الصلاة وقدم شكرًا للرب؛ فلتتمثلوا به(78).
* أيوب ليس فقط لم يجدف، بل وبارك! لم يكتفِ أن يحتمل كارثته في صمتٍ، بل مجد الله، ليس فقط في ذلك الحين، وإنما في المستقبل أيضًا.
* إن كنا نمارس هذه الحكمة الروحية (الشكر الدائم)، فلن نختبر أي شر، حتى إن سقطنا تحت آلام لا حصر لها، بل يكون الربح أعظم من الخسارة، ويطغي الخير على الشر. بهذه الكلمات تجعل الله رحومًا نحوك، ويدافع عنك ضد طغيان إبليس. ما أن ينطق لسانك بهذه الكلمات، حتى يهرب الشيطان منك سريعًا(79).
* حينما كان (أيوب) محاطًا بالتمام بتلك الثروة، لم يكن ظاهرًا لكثيرين أي رجل كان هذا. ولكن عندما أُنتزعت ثيابه كمصارع وألقاها جانبًا، وجاء عاريًا للمصارعات لأجل التقوى، أدهش كل الذين رأوه. حتى أن مسرح الملائكة صرخوا عندما شاهدوا نفسه الثابتة في جلدٍ، وامتدحوه بكونه قد كسب الإكليل. وكما سبق فلاحظت أنه لم يكن يراه البشر حسنًا حينما كان ملتحفًا بكل الثروة مثلما رأوه حينما طرحها كثوبٍ، وظهر كعريانٍ على خشبة المسرح وسط العالم، فدُهش الكل لقوة نفسه. لقد شهدوا له ليس بكونه تجرد من كل شيء، وإنما بكونه في صراعه احتمل بصبر ضعفاته(80).
* "الرب أعطى، والرب أخذ" [21]، ليفعل ما يحسن لدى الرب. انظروا فقد آمن أن الله هو الذي أخذ... أي شيء يمكن مقارنته بهذا الاتجاه؟ إنه لم يطلب أن يعرف عن حب استطلاع، ولم يقل: لماذا يعطيني الله؟ ولماذا يأخذ؟
"فليكن اسم الرب مباركًا" [21]. لاحظوا بأية وسيلة يتمتع بتعزية...
إنه الرب هو الذي قرر. تقولون: لماذا قرر الله بهذه الطريقة...؟ عندما جعلني غنيًا لم أبحث عن معرفة لماذا أعطاني الغنى، والآن لا أريد أن أعرف لماذا أخذه مني. لأنه هل أعطاني هذا عن استحقاق من جانبي؟ هل أعطاني هذا مقابل أعمال صالحة؟
لقد قرر أن يعطيني، وفعل ذلك. لقد قرر أن يأخذ، وهو يفعل هذا.
إنها علامة على الروح التقوية أن نصنع كل شيء حسب إرادة الله، ولا نطلب منه حسابًا، ولا تفسيرًا لما يفعله.
* إنه لأمر عظيم إن استطعنا أن نقدم الشكر بفرحٍ عظيمٍ. لكن تقديم الشكر عن خوفٍ شيء، وتقديم الشكر أثناء الحزن شيء آخر. هذا ما فعله أيوب عندما شكر الله.. لا يقل أحد إنه لم يحزن على ما حلّ به أو أنه لم يتأثر به في أعماقه. لا تنزع عنه المديح العظيم لبرِّه... يؤذينا الشيطان لا لكي يسحب ما لنا ويتركنا مُعدمين، وإنما لأنه عندما يحدث هذا يلزمنا أن نجدف على الله(81).
* توَّج أيوب وصار مشهورًا، ليس لأنه لم يهتز بالرغم من التجارب غير المحصاة التي أحدقت به، وبالرغم من مقاومة زوجته له، وإنما استمر في شكره للرب على كل حال ليس عندما كان غنيًا فقط، وإنما عند صار فقيرًا أيضًا، ليس عندما كان في صحة، بل وعندما ضُرب جسمه (بالقروح) أيضًا، ليس عندما حلت به هذه الأمور ببطء، وإنما عندما حلت به عاصفة عنيفة، حلت ببيته كما بشخصه بالكامل أيضًا(82).
* يسبب لنا الشيطان خسائر, لا لكي ينزع عنا خيراتنا فحسب, إذ هو يعلم أن هذه كلا شيء, إنما لكي يلزمنا بهذا أن ننطق بالتجديف. هكذا في حالة الطوباوي أيوب لم يجاهد ليجعله فقيرا فحسب وإنما ليجعله أيضًا مجدفًا(83).
* وإن كان قد حسب أنه صاحب ثروات عظيمة، لكن الاختبار الذي قُدم له من الرب أظهر بوضوح أنه لم يكن يقتني سوى الله وحده(84).
* سبحوا الرب على القيثارة. إن صار لكم فيض من الأرضيات قدموا شكرًا للعاطي. إن كان هناك عوز أو سُلبتم مما لكم، اعزفوا على القيثارة بفرحٍ. لأنكم لم تُحرموا من العاطي، وإن كنتم قد حُرمتم من العطية التي وهبكم إياها. هكذا أكرر، اعزفوا ببهجةٍ. بثقةٍ كاملةٍ في إلهكم، امسكوا بأوتار قلوبكم كما بقيثارةٍ، لتدوي أصواتكم إلى أعماقها صارخين: "الرب أعطى، الرب أخذ(85)".
* هنا نجد مثالًا للإنسان الذي يبارك الرب في كل الأوقات(86).
* ليأخذ ما قد أعطاه، لكن هل فقدت العاطي...؟ كأنه يقول: أخذ الكل وليأخذ كل شيء، وليرسلني عريانًا، لكن لأحتفظ به هو نفسه، ماذا ينقصني إن اقتنيت الله؟ أو ما هو نفع كل شيء لي إن كنت لا أقتني الله؟(87)
*كان يمكنه القول: "الرب أعطى، الرب أخذ. الذي أخذه الرب يمكنه أن يعطي مرة أخرى، ويرد أكثر مما أخذ". لكنه لم يقل هذا، بل قال: "ما يحسن لدى الرب فليكن". إذ ما يسره يسرني. ليت ما يسر الرب الصالح لا يُحزن العبد الخاضع، ما يسر الطبيب لا يُحزن المريض(88).
* من أين جاءت مثل هذه الجواهر التي لمديح الله؟ انظروا إنسانًا كان من الخارج فقيرًا، لكن في الداخل كان غنيًا. هل كان يمكن لمثل هذه الجواهر أن تصدر عن شفتيه لو لم يحمل كنزًا مخفيًا في قلبه؟(89)
* يا للغنى الداخلي الذي لا يقدر لص أن يقترب إليه! الله أعطاه نفسه. لقد أغناه إذ قدم له نفسه، بما يحبه(90).
* أنت تأخذ ما لدي، أنت لا تأخذ ما في داخلي. فإنه لن يصير فقيرًا القائل: "الرب أعطى الرب أخذ، ليفعل ما يحسن في عينيه، مبارك اسم الرب"(91).
* مال الظلم هو كل غنى هذا العالم، أيا كان مصدره. إذ يجمع الغني، إنما يجمع مال الظلم أي غنى الظلم... إن أردنا الغنى الحقيقي فهو مختلف عن هذا الغنى. هذا الغنى كان بوفرة، فإذ كان أيوب عاريًا كان قلبه مملوء بالإلهيات، يفيض بالتسابيح كأثمن جواهر مُقدمة لإلهه، وذلك عندما فقد كل ما لديه(92).
* إذ تسمعون هذا وجهوا قلوبكم نحو الله. لا تخدعوا نفوسكم.
اطلبوا أنفسكم... سواء كنتم تحبون العالم أو لا تحبونه، وتعلموا أن تدعوه يرحل أمامكم قبل أن ترحلوا أنتم. ماذا يعني أنكم تدعونه يرحل؟ أي لا تتعلق قلوبكم به.
عندما يكون لديكم شيء ما مما ستفقدونه يومًا، سواء وأنتم في الحياة أو بالموت، دعوه يرحل، فإنه لن يقدر أن يرافقكم على الدوام.
تهيأوا لإرادة الله وتعلقوا به. تمسكوا به هذا الذي لا يمكن أن تفقدوه بدون إرادتكم. فإن حانت فرصة لفقدان الزمنيات، قولوا: "الرب أعطى، الرب أخذ."(93)
* وُجد أيوب يتعبد لله من أجل الله نفسه، يحبه لأجل ذاته، وليس لأنه أعطاه ما يلزمه، وإنما لأنه لم ينزع الله نفسه عنه... لقد اقتربت نيران التجربة منه، لكن وجدته ذهبًا وليس قشًا. نزعت عنه الزغل، ولم تحوله إلى رماد!(94)
* إن أخطأت فلتحزن على فقدان كنزك الداخلي. ليس لديك شيء في بيتك، لكن قد يكون قلبك أكثر فراغًا. ولكن إن كان قلبك مملوء بصلاحه، مملوء بإلهك، فلماذا لا تقول: "الرب أعطى، الرب أخذ، ما يحسن لدى الرب فليكن! مبارك هو اسم الرب!" ما الذي يُحزن الله؟ هل من الضربات وهو نفسه قد ضُرب؟ حاشا!(95)
* يا لجواهر التسبيح لله، فقد احضرها من كنوزه الداخلية! هذه هي ثروته! أخرج تسبحة عذبة تمجد الله وتزكي أيوب(96).
* يا له من صوت شجاع عذب! من لا يستيقظ على هذا الصوت من النوم؟ من لا يثق في الله في يقظة، ليسير في المعركة بلا خوف ضد إبليس، محاربًا لا بقوته الذاتية، بل بقوة ذاك الذي يزكيه(97).
* كيف أتأهل أن أكون في صحبة أيوب، أنا الذي لا أقبل المحن العادية بشكرٍ؟(98)
* واضح أن الفضائل تصير ممتلكاتنا، عندما تصير عمليًا منسوجة في طبيعتنا. إنها لا تتركنا ونحن نجاهد على هذه الأرض، ما لم نطردها نحن بإرادتنا ونلزمها بذلك، وذلك بفتح الباب للرذيلة لتدخل.
إنها تجري بنا متلهفة كلما أسرعنا نحو العالم الآخر.
إنها تقيم من يمتلكونها في رتبة الملائكة، وتشرق أبديًا في عيني الخالق.
أما الغنى والسلطة واللذة وكل حشد مثل هذه الغباوات التي تتزايد يوميًا بسبب غباوتنا، هذه لا تدخل معنا في هذه الحياة ولا تصحب أحدًا عند تركه هذا العالم. فإن قول الرجل البار قديمًا: "عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريانًا أعود إلى هناك" (أي 1: 21) هو قول بحقٍ راسخٍ سائدٍ بالنسبة لكل إنسانٍ(99).
* بين الرجال القدامى والمعاصرين يُفترض أن كل واحدٍ منهم تمتع بنجاحٍ معينٍ، إذ يتمتع كل بفضيلةٍ معينة: أيوب نال صبرًا لا ينهزم وسط المحنة، وموسى وداود الوداعة، وصموئيل النبوة متطلعُا إلى المستقبل، وفينحاس الغيرة (عد 7:35)... وبطرس وبولس الغيرة في الكرازة (غل 7:2)، وابنا زبدي بفخامة الأسلوب، فدُعيا ابني الرعد (مر 17:3)(100).
* كان هذا أشبه بصرخة منه: "كنت أَُدُعى أبًا إلى زمن طويل، إذ أراد من خلقني أن أكون هكذا. لقد أراد بدوره أن ينزع عني إكليل النسل. لا أقاومه فيما يخصه. ما يحسن في عينيه فليتحقق. إنه خالق أبنائي، أما أنا فأداة. لماذا وأنا العبد استسلم لحزنٍ غير نافعٍ وشكوى مرة ضد قرارٍ عبثًا أستطيع أن أتجنبه؟" بمثل هذه الكلمات طرح الشيطان أرضًا(101).
* هل رأيتم السهام التي صوَّبها الخائن؟
العدو نفسه سُلب، وقد ارتبك باطلًا. فإن أيوب لم يتأثر قط بالأحداث، منصتًا إلى أحاديث الشرور الساقطة عليه كما لو كانت تخص غيره، وأما هو فكصخرةٍ تصد الأمواج التي تتخبط عليها.
*إن كان أحد يحتمل تدبير الرب بصبرٍ، فيقول عندما يفقد شيئًا: "الرب أعطي، الرب أخذ..."، فإنه يتقبل إكليلًا على صبره الذي يسر الله إن كان بارًا، وغفرانًا إن كان خاطئًا(102).
* الإنسان البار الذي يعاني من التحطيم (للأمور المادية) هو غني وعريان. كان القديس أيوب مملوءً من هذا الغنى... لقد فقد كل تلك الأشياء التي وهبه الله إياها، لكنه اقتنى الله نفسه واهبها(103).
* انظروا كيف يختم كل ما شعر به بحق بمباركته الرب. بهذا أدرك العدو الخزي، وحُسب له ذلك عقوبة وهزيمة. فإنه هو نفسه وإن كان قد خُلق في بَرَكةٍ إلا إنه تمرد على الرب، بينما ذاك الذي هو مائت ينطق بتسبحة المجد حتى وهو تحت تأديباته... بكلمات الصبر سبَّح الله عندما ضُرب. لقد صوَّب سهامًا كثيرة في صدر خصمه، وأصابه بجراحات أكثر مرارة من التي سقط هو تحتها. فإنه بمحنته فقد الأرضيات، وباحتماله لها بتواضعٍ ضاعف بركاته السماوية.
* يقول الكتاب المقدس: "لأننا لم ندخل العالم بشيءٍ، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيءٍ". (1 تي 6: 7) الذين يطلبون أن يكونوا أغنياء يسقطون في شهوات عديدة غير نافعة. التلميذ الذي صار خائنًا هو برهان واضح لهذا، فقد هلك من أجل مالٍ قليل بائس(104).
* نحن سادة أنفسنا، لنا أن نؤذي أنفسنا أو لا نؤذيها... (إن سُرقت كل كنوزنا) فبالحقيقة لهو أمر محزن، ويبدو أنه خسارة. لكن يبقى الأمر متوقفًا عليك فتستطيع أن تجعل منه خسارة أو ربحًا لك. تقول: "وكيف يمكن أن يكون هذا ربحًا؟" إني أسعى لأظهر لك كيف هذا، فإنك إن أردت سيكون ذلك لك ربحًا عظيمًا، وإن لم ترد فالخسارة ستكون أقسى من خسارة ما قد أُخذ منك. فانه كما في حالة الفنانين عندما توضع المواد الخام أمامهم، فمن كان منهم ماهرًا في فنه يستخدم المواد في هدفٍ صالحٍ، أما غير الماهر فيُفسد المواد وتصير بالنسبة له خسارة. هكذا الأمر هنا كيف تصير هذه ربحًا؟ إن قدمت شكرًا لله، إن كنت لا تنتحب بمرارة، إن نطقت بكلمات أيوب: "الرب أعطى، الرب أخذ..."(105)
* من يحتمل بهدوء أن يرى طفلًا وحيدًا له مطروحًا كجثةٍ هامدةٍ؟ إنه يحتاج إلى نفسٍ كالفولاذ لاحتمال ذلك. مثل هذا يلزمه أن يستريح من تنهدات الطبيعة، وأن يتقوى لينطق كلمات أيوب: "الرب أعطى، الرب أخذ" (أي 21:1). فبهذه الكلمات وحدها يقف مع إبراهيم نفسه وأيوب ليُعلن عنه أنه غالب. وإن منع نحيب النساء وقام بتفريق جماعات النائحين ليقيمهم للتغني بمجد الله، فإنه ينال فوق الكل مكافآت لا حصر لها، يندهش منه البشر، وتمتدحه الملائكة، ويُتوجه الله(106).
* هذه كلمات نفسٍ حيةٍ، نفس تؤدي دورها اللائق بها(107).
* لنفرض أن شخصًا فقد ابنه، وآخر كل ممتلكاته... فإنه يمكن اقتناء ثمر من المحنة حتى وإن كان لا يمكن علاجها، وذلك باحتمال الظروف بنبلٍ، وعوض استخدام كلمات تجديف، تقدم كلمات شكر للرب، بهذا فإن الشرور التي تُجلب عليكم بغير إرادتكم تصير أعمالًا صالحة باختياركم(108).
* الله صالح, وكل ما يفعله يلزم أن يكون صالحًا أيضًا.
هل قرر أنه يجب أن أفقد زوجي؟ اندب خسارتي, لكن ما دامت هذه هي إرادته احتملها بتسليم.
هل يختطف مني الابن الوحيد؟ الضربة القاسية, لكن يمكن احتمالها, لأن الذي يأخذ هو نفسه الذي أعطي.
إن صرت أعمى فقراءة صديقي تعزني.
إن صرت أصم اهرب من سماع الكلمات الشريرة، وتتركز أفكاري في الله وحده(109).
"فِي كُلِّ هَذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ،
وَلَمْ يَنْسِبْ لله جَهَالَةً" [22].
هذه شهادة حيَّة يقدمها لنا الروح القدس عن حسن تصرفه وسط الضيق. لقد اجتاز التجربة في نجاحٍ ونصرةٍ صادقةٍ.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في تعبير "لم ينسب لله جهالة" أنه لم يتهم الله بالظلم، ولا حسب أن ما حلَّ به هو وليد صدفة، ولا تذمر قائلًا بأنه لم يخطئ فلماذا حلت به الشرور، ألا يبالي الله بأمره. مثل هذه الأفكار تحل بالبعض حينما تحل بهم التجارب بينما يرون غيرهم يتمتعون ببركات زمنية.
* حارب الشيطان (أيوب) بثباتٍ، لكنه عجز عن النصرة على مصارع الله.
لقد فرّغ جعبة أسهمه، لكنه لم يستطع أن يجرح مقاتله الشجاع الباسل.
أثار أمواجًا ضخمة، لكنه لم يقدر أن يحرك الصخرة الثابتة.
استخدم حيله، لكنه لم يقدر أن يهدم البرج القوي.
هزّ الشجرة، لكنه لم يحطم الثمرة.
لقد كسَّر الأغصان، لكنه لم يوذِ الجذر.
لقد اخترق السور، لكنه لم يحمل الكنز.
الآن أقول إن هذا الكنز الذي أشير إليه ليس من ذهبٍ ولا فضةٍ، بل إيمان الرجل البار. فإن الشيطان أراد تحطيم هذا الكنز عندما هيّج عليه بلاء لا يُحتمل بعد أن نزع عنه كل ثروته... ها أنتم ترون الله يتمجد والشيطان يخزى(110).
* فشل الشيطان وملائكته أن ينتصروا على أيوب عندما أطلقوا هجماتهم عليه. كان هو الرجل الذي يقف مقدامًا، لن يهتز في إيمانه الثابت(111).
* لاحظوا كيف يوصف أيوب أنه صار إلى حالٍ أعظم خلال التجربة، بينما سقط داود بالتجربة أرضًا. لهذا فإن فضائل أسلافنا قد تعزز رجاءنا، وسقوطهم يدعم حذرنا بالتواضع، فبينما بالأولى نرّتفع إلى الفرح، نبقى بالثانية في مخاوف.
* "في كل هذا لم يخطئ أيوب، ولم ينسب لله جهالة" [22]... إذ لم ينطق بشيء فيه غباوة، حافظًا لسانه من الإثم، بينما قيل: "لم يخطئ"، فيظهر أنه استبعد عنه خطأ التذمر حتى من فكره، فلم يخطئ، ولا تكلم بجهالة، ولا ثار السخط في شعوره الصامت، ولا انحل لسانه بالسب.
* لتشكر الله ولتسبح ذاك الذي يختبرك في الأتون. لتنطق بالتسبيح عوض التجديف هذا هو الطريق الذي به عبَّر ذاك الطوباوي عن نفسه(112).
* هذا هو الطريق الذي به قدم أيوب ذبيحة (تسبيح) بالرغم من الأحزان المرعبة التي فوق الطاقة البشرية قد حلت به(113).
* هب لي يا رب بنعمتك أن أنعم بالغنى الروحي!
أكون في عينيك كاملًا، يا من تنسب لملائكتك حماقة!
وتحسبني مستقيمًا، من أجل عمل روحك فيٌ!
سمرٌ خوفك في قلبي، فأحيا بالتقوى.
وليشرق نورك في داخلي،
فلا احتمل السلوك في ظلمة الشر.
* هب لكنيستك أن تكون كأسرة أيوب،
أيامها أعياد وولائم روحية لا تنقطع!
سمتها الحب الأخوي والاتفاق بغير انشقاق.
تعزف سيمفونية الحب التي تفرح السمائيين!
في وسط أفراحي لا تفارقني ذبيحة صليبك!
أطلب عن إخوتي كما عن حقارتي،
لئلا في جهالة أو بمعرفة أخطئ إليك.
* ليشتكِ إبليس عليَّ أمامك،
فإنني تحت ظل جناحيك أحتمي!
ليس من يسندني سواك!
* ليجردني إبليس من كل شيء!
لكنني أقتنيك، فلن يسحبني منك.
أنت غناي وسعادتي وكفايتي في كل شيء!
* وسط الضيق نفسي تشكرك وتسبحك،
لأن قلبي مرتفع إليك!
ليس له موضع في العالم،
ولا للعالم موضع فيه!
(36) Second Instruction, 1.
(37) Homilies on Job, homily 1.
(38) Two Letters of Pelagius, 3:19.
(39) Duties of the Clergy, 3:2:11.
(40) cf. James M. Freeman: Manners and Customs of the Bible, Logos International Plainfield. N J, 1972, p. 207.
(41) Fragments, 222, on Luke 16: 19.
(42) On the Judgment of God.
(43) Against the Pelagians 1: 33.
(44) The Gospel of St. Matthew homily 42:3.
(45) The Gospel of St. Matthew homily 86:4.
(46) Paschal Letters, 2.
(47) On the Good of Marriage, N. & P-N Frs, vol 3, p. 409.
(48) Resisting the Temptation of the Devil, homily 2:2.
(49) Commentary on Ps.72.
(50) Sermons, 21: 5.
(51) Commentary on Ps. 91.
(52) Homilies on Ephesians, Homily 19.
(53) Cassian: conferences 4:6:2.
(54) Confessions, 8:1:1.
(55) On Divine Providence, Discourse 6: 36.
(56) On Ps. 98.
(57) On Ps. 97. (96).
(58) On Ps. 34, Discourse, 1: 7.
(59) Homilies on Thessalonians, homily. 4.
(60) هذا النص من ضمن النصوص التي جعلت البعض يتهمونه بال Semi - pelagianism غير أنه يظهر من المقال في مجمله أنه لا يقصد تجاهل نعمة اللّه وقوته. لكن خاف البعض لئلا يقتطف البيلاجيون بعض عباراته منفردة عن المقال ويعتمدون عليها في تأكيد اتكالهم على أعمال الإنسان فقط..
(61) Cassian: conferences 13:14:1.
(62) Exposition of the Orthodox Faith, 29.
(63) On Ps. 29, Discourse, 2,6.
(64) On Genesis, homily 1.
(65) On Ps. 26 Second Discourse,1.
(66) On Ps 55 (56).
(67) On Ps. 56 (55)
(68) Letters, 130:14:26.
(69) Ascetical Homilies, homily 39.
(70) Treatises, 4:26.
(71) Sermon 26:7.
(72) Sermon on the Mount, 2:10:32.
(73) Exposition of the Orthodox Faith, 4.
(74) Cassian: Conference 7:22:1.
(75) Duties of the Clergy, 2:5:20.
(76) Homilies on 1 Corinthians, homily 41:9.
(77) Letters, 117 to Julian, 2.
(78) Concerning the Status, 16:2.
(79) Paralytic Let Down through the Roof, 8.
(80) Concerning Statues, homily 1:18.
(81) J. A. Crammer, ed. Catena in Epistolas Catholicass. Oxford 1840, 35.
(82) On Ps 111.
(83) Homilies on Hebrews, homily 20:8.
(84) Sermon 5: 7.
(85) On Ps. 32, Discourse, 2: 5.
(86) On Ps. 33, Discourse, 2: 4.
(87) On the Creed, 10.
(88) On the Creed, 10.
(89) On Ps. 30, Discourse, 4, 12.
(90) On Ps. 56 (55).
(91) Sermons on N.T. lessons. 57:9.
(92) Sermons on N.T. Lessons, 63:4.
(93) Sermons on N.T. Lessons, 76:11.
(94) Sermons on N.T. Lessons, 41:4.
(95) On Ps. 38 (37)..
(96) On Ps. 69 (68).
(97) On Ps. 98 (Latin 97).
(98) The Long Rules, Preface..
(99) On Detachment..
(100) On the death of his Father, 24.
(101) On Detachment..
(102) Sermons, 54: 4.
(103) Sermons, 114: 6.
(104) Commentary on Luke, homily 40.
(105) Homilies on Thessalonians, homily. 3.
(106) Homilies on 2 Corinthians, homily 1:6.
(107) Homilies on 2 Corinthians, homily 7:4.
(108) the Epistle to the Romans, homily 9.
(109) Letter 39: 2.
(110) Sermons, 131: 1.
(111) On Ps, 12.(v. 5).
(112) On Ps 128.
(113) On Ps. 50.
← تفاسير أصحاحات أيوب: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير أيوب 2 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
مقدمة سفر أيوب |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/s4ny5am