محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
أيوب: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22
يصعب علينا أن نحكم على أيوب، إذ لم نتعرض لنكباتٍ مثله، بذات الصورة من جهة الكمية والتنوع، مع عنصر المفاجأة. هذا بجانب أنه لم يكن لديه الشريعة ولا الإنجيل، حيث تعلن لنا كلمة الله عن دور الشيطان كخصمٍ مقاومٍ لا يهدأ، وعن الخطية، وأيضًا عن الحياة المقبلة، ومع هذا مع ما لدينا من إمكانيات روحية تسندنا، ففي مواقفٍ كثيرةٍ يصعب علينا إدراك أحكام الله.
في هذا الأصحاح نرى أيوب المُجرب يصارع بين الحقائق التالية:
1. إدراكه أنه لم يفعل شرورًا خفية تستوجب مثل هذه التجارب المُرة من كل جانبٍ.
2. في نفس الوقت كان على يقينٍ من الرعاية الإلهية الفائقة، فهو خليقته المحبوبة جدًا لديه.
3. لا يمكن لإنسانٍ أن يفحص حكمة الله، ولا أن يقف أمامه ليحاوره كمن في ساحة القضاء.
4. واثق من عدل الله، فهو ليس بظالمٍ.
5. عاجز عن أن يصمت، فالتجربة فوق احتمال الطبيعة البشرية.
أمام هذه الحقائق يرى أيوب أن الحل الوحيد هو التفكير في المصير المحتوم. كأنه يقول لله: إن كنت لا تقدر أن تقدم لي أسسًا مقنعة لتعاملك هكذا مع شخصٍ بريء مثلي [2-3]، وإذ لا يمكنك أنك تُخدع كما قد يُخدع القضاة البشريون [4-5]، فهل قررت منذ البداية أن تعاملني كخاطئ، سواء كنتُ مذنبًا أم غير مذنب؟ هل كُتب عليَّ المصير الزمني بالدمار [6-7]؟
ولكن كيف يمكن أن يتفق هذا مع معجزة خلقتي عندما كونتني من التراب إلى لحمٍ وعظام؟ [8-11] فإنك حتى الآن لازلت تهبني الحياة وترعاني [12]، لكن يبدو أنك من البداية وضعت المصير الخفي بتدمير كل ما أعطيتني إياه [13]، بغض النظر إن كنتُ صالحًا أو شريرًا [14-15]، حتى وإن كنت قادرًا أن ارتفع لأبرهن على براءتي، فقد صممت أن تصطادني وتسكب عليّ آلام وأحزان، لكي تشهد على ذنبي أمام أعين العالم [16-17].
بالتأكيد كان الأفضل أنني لم أكن قد وُلدت عن أن أبقى حيًا [18-19]. لكن إذ أنا حيّ، فحياتي على الأكثر قصيرة هكذا، حيث تصوب عذاباتك عليّ، إذ سرعان ما يحل بي الموت، حيث الظلمة والمصير النهائي [20-21].
يكمل أيوب حديثه في الرد على بلدد، فمع تأكيده أن جميع الأبرار كما الأشرار يتعرضون للتجارب، لكن تحت ثقل النكبات صار يئن، وليس له أن يتبرر أمام الله إلا أنه يشكو من عجزه عن أن يرزح تحت المتاعب التي حلت به. كأن يتردد بين التزامه التسليم بين يدي الله، وبين ثقل الحمل وشهوة التخلص منه بالموت.
1 -7. |
||
8 -13. |
||
14 -17. |
||
18 -22. |
||
من وحي أيوب 10 |
1 «قَدْ كَرِهَتْ نَفْسِي حَيَاتِي. أُسَيِّبُ شَكْوَايَ. أَتَكَلَّمُ فِي مَرَارَةِ نَفْسِي 2 قَائِلًا للهِ: لاَ تَسْتَذْنِبْنِي. فَهِّمْنِي لِمَاذَا تُخَاصِمُنِي! 3 أَحَسَنٌ عِنْدَكَ أَنْ تَظْلِمَ، أَنْ تُرْذِلَ عَمَلَ يَدَيْكَ، وَتُشْرِقَ عَلَى مَشُورَةِ الأَشْرَارِ؟ 4 أَلَكَ عَيْنَا بَشَرٍ، أَمْ كَنَظَرِ الإِنْسَانِ تَنْظُرُ؟ 5 أَأَيَّامُكَ كَأَيَّامِ الإِنْسَانِ، أَمْ سِنُوكَ كَأَيَّامِ الرَّجُلِ، 6 حَتَّى تَبْحَثَ عَنْ إِثْمِي وَتُفَتِّشَ عَلَى خَطِيَّتِي؟ 7 فِي عِلْمِكَ أَنِّي لَسْتُ مُذْنِبًا، وَلاَ مُنْقِذَ مِنْ يَدِكَ.
قَدْ كَرِهَتْ نَفْسِي حَيَاتِي.
أُسَيِّبُ شَكْوَاي،
أَتَكَلَّمُ فِي مَرَارَةِ نَفْسِي [1].
في شيءٍ من الشجاعة يقف أيوب أمام الديان ليرفع شكواه إلى من أصدر الحكم عليه بالدخول في ضيقات مرة. لقد أدرك أيوب المُجَّرب أنه ليس من طريق للشكوى فيما حلَّ به بسماح من الله إلا أن يرفعه إلى الله نفسه.
عجز أيوب عن أن يدافع عن نفسه أمام الله، وقد خشي عظمته، ولم يجد من يصالحه معه، عندئذ صرخ: "قد كرهت نفسي حياتي". اشتهَى الموت يأسًا.
أطلق أيوب شكواه ضد نفسه، فهو لا يتهم الله بالظلم والقسوة، إنما يتهم نفسه بالجهل، لا يعرف أساس الخصومة، إذ افترض أيوب أن العيب فيه، لكنه لا يعرفه.
لم يرد أن ينطق بكلمة، لئلا يخطئ، لكن انطلقت المرارة التي في داخله تتكلم. وكما يقول الرسول "الخطية الساكنة فيَّ" (رو 7: 20).
* "نفسي قلقة من جهة حياتي" [1]. الآن إذ بدأت الحياة الحاضرة أن تصير بلا طعم، وتصير محبة الخالق عذبة، التهبت النفس ضد ذاتها، فتتهم ذاتها بالخطايا التي كانت قبلًا تبررها، بكونها تجهل العلويات. لهذا أكمل: "أسيب كلامي ضد نفسي" [1].
* لتكن آلامك كتبًا تنصحك.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب البار وسط المحن الشديدة ارتفع قلبه نحو السماويات، والتهب قلبه بالحب نحو الله، فتجلت أمامه الخطايا التي لم يكن يشعر بها قبلًا أو التي كان يستتفهها أو يبررها، لذلك كره ما كانت عليه حياته، وصار هو متهمًا لنفسه، يسمح لنفسه أن ينطق بشكواه ضد نفسه.
صار أيوب ديانًا لنفسه، حتى لا يسقط تحت الدينونة في يوم الرب العظيم الذي يستذنبه. إنه يفضل أن يستذنب نفسه قبل أن يستذنبه الله حتى في هذا العالم، فيسخر منه أعداؤه حين يسلمه الله لهم لتأديبه. حقًا ما أعذب أن يلقي الإنسان باللوم على نفسه!
هكذا تتحول الضيقة من ثقل يمرر النفس، إلى تمتع بثقل أمجادٍ أبديةٍ، نختبرها وسط الآلام. لذا يقول الرسول بولس: "لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبدي" (2 كو 17:4).
* "أتكلم في مرارة نفسي"، من يخبر عن خطاياه، مشمئزا منها، يلزمه أن يتكلم في مرارة نفسه، حتى أن المرارة ذاتها تعاقب اتهامات لسانه في تبريره لضميره. لكن يلزمنا أن نضع في ذهننا أنها تجلب نوعًا من الأمان من آلام الندامة التي تسدد ضربة إلى نفسها، وعندئذ ترتفع بثقة أعظم لمواجهة استجواب الديان السماوي.
* لا ترجع النفس إلى الله إلا إذا انتزعت من العالم، ولا ينزعها بحق إلا التعب والألم.
القديس أغسطينوس
* لم تكن طبيعة بولس الرسول تختلف عن طبيعتنا؛ ولا نفسه مختلفة عن نفوسنا، ولا عاش في عالمٍ آخرٍ، بل سكن في نفس العالم والمدينة وخضع لنفس القوانين والعادات، لكنه فاق في الفضيلة كل البشر في الماضي والحاضر. الآن، أين هؤلاء المعترضين على صعوبة الفضيلة وسهولة الخطية؟ فهذا الرجل يدينهم بكلماته: "لأن خفة ضيقاتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبديٍ" (2 كو 17:4). فإن كانت ضيقاته محتملة وخفيفة، فكم بالحري ضيقاتنا التي إن قارنتها صارت كلا شيء أو مجرد لذٌات...؟
احتضن بولس الآلام بمحبة بلا مُقابل، وتحْمَل بكل فرحٍ ما اعترضه من صعوبات وعوائق في طريق الفضيلة. فلم يتضايق من ضعف الجسد أو ضغوط المسئولية أو بطش العادات، ولا من أي شيءٍ آخر. عِلاوة على ذلك فاقت مسئولياته كل مهام القادة والملوك، لكنه كان يزداد في الفضيلة يوميًا. وصار ازدياد المخاطر سببًا في التهاب غيرته بالأكثر، فقال: "أنسى ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام" (في 13:3).
عندما اقترب منه الموت، دعا الجميع لمشاركته هذا الفرح، قائلًا: "وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضًا، وأفرحوا معي" (في 18:2). فكان يتهلل فرحًا في الضيق والألم وفي كل مذلةٍ. كتب إلى أهل كورنثوس: "لذلك أُسَر بالضيقات والشتائم الضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح" (2 كو 10:12). ودَعا ذلك أذرع العدالة، موضًحًا أنها مصدر مثمر لفائدته، فصار لا يُهزَم أمام أعدائه. وبالرغم من الضرب والاضطهاد والشتم كان كمن في عرسٍ مبهجٍ، مُصحِحًَا الكثير من مفاهيم النصرة، متهللًا فرحًا، شاكرًا الله بقوله: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين" (2 كو 14:2)(430).
* ما أمجد الآلام! بها نتشبه بموته!
كما يُلقى ممحص الذهب بقطعة الذهب في الفرن لتحتمل النار إلى حين حتى يراها قد تنقت، هكذا يسمح الله بامتحان البشرية بالضيقات حتى تتنقى وتحصل على نفعٍ عظيمٍ... فليتنا لا نضطرب ولا نيأس عندما تحل بنا التجارب. لأنه كما أن ممحص الذهب يعلم الزمن الذي ينبغي أن يترك فيه الذهب في الفرن، فيُخرجه في الوقت المعين، ولا يتركه بعد في النار، حتى لا يفسد ولا يحترق، هكذا كم بالأكثر يعلم الله ذلك. فعندما يرانا قد تنقينا بالأكثر، يعتقنا من تجاربنا حتى لا ننطرح ونُطرد بسبب تزايد شرورنا.
عندما يحل بنا أمر ما لم نكن نتوقعه، لا نتذمر ولا تخور قلوبنا، بل نتحمل الله الذي يعرف هذه الأمور بدقةٍ، حتى يمتحن قلوبنا بالنار كيفما يُسر، إذا يفعل هذا بهدفٍ لفائدة المجربين، لذلك يوصينا الحكيم قائلًا بأن نخضع لله في كل الأمور، لأنه يعرف تمامًا متى يخرجنا من فرن الشر. (حكمة يشوع 1:1، 2)
نخضع له على الدوام، ونشكره باستمرار، محتملين كل شيءٍ برضا، سواء عندما يمنحنا بركات أو يقدم لنا تأديبات. لأن هذه الأخيرة هي نوع من أنواع البركات.
فالطبيب ليس فقط يسمح لنا بالاستحمام (في الحمامات)... أو الذهاب إلى الحدائق المبهجة، بل وأيضًا عندما يستخدم المشرط والسكين هو طبيب!
والأب ليس فقط عندما يلاطف ابنه، بل وعندما يؤدبه ويعاقبه... هو أب!
وإذ نعلم أن الله أكثر حنوًا من كل الأطباء، فليس لنا أن نستقصي عن معاملته، ولا أن نطلب منه حسابًا عنها، بل ما يحسن في عينيه يفعله. فلا نميز إن كان يعتقنا من التجربة أو يؤدبنا لأنه بكلٍ من الطريقين يود ردنا إلى الصحة، ويجعلنا شركاء معه، وهو يعلم احتياجاتنا المختلفة، وما يناسب كل واحدٍ منا، وكيف، وبأية طريقة يلزمنا أن نخلص.
لنتبعه حيثما يأمرنا، ولا نفكر كثيرًا إن كان يأمرنا أن نسلك طريقًا سهلًا وممهدًا أو طريقًا صعبًا وعرًا(431).
القديس يوحنا الذهبي الفم
قَائِلًا لله: لاَ تَسْتَذْنِبْنِي.
فَهِّمْنِي، لِمَاذَا تُخَاصِمُنِي! [2]
مع ما يبدو في أيوب من تذمرٍ، لكنه يعلن جهله عن سرّ الخصومة ويستذنب نفسه، وإن كان لا يعرف ما هو ذنبه، لهذا في تواضع يطلب: "لا تسذنبني"، أي لا تفصلني عنك.
إذ سمحت لي بحمل الآلام، فلا تسمح للخطية علة تعبي أن تستقر في داخلي.
إذ سمحت لي بعصا التأديب، لا تسمح بهلاكي.
أدبني لكن لا تحكم عليَّ إني مستحق للدينونة. وكما يقول الرسول: "إذ قد حُكم علينا نؤدب من الرب لكي لا نُدان مع العالم" (1 كو 11: 32).
ما اشتهاه أيوب تحقق بالمسيح يسوع: "إذ لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" (رو 8: 1).
يسمح الله بالتجارب لكي يصرخ المؤمن طالبًا المعرفة، واكتشاف أسرار الله: "فهمني، لا تخاصمني".
خلال الضيق أدرك أيوب البار أنه خاطي، لكن هذا لا يكفيه، بل يريد من الله أن يهبه فهمًا ليدرك ما هي خطيته، فيعترف بها لله، ويهرب منها خلال النعمة الإلهية.
* عظيم هو الإيمان، وعظيمة هي قوة الضمير، أن يستدعي الإنسان الله كشاهدٍ على تحقيق هدفه.
لم يرفض أيوب ما يحل به خلال حاله البشري، إنما يرفض ما يأتي من عدم القداسة، معترفًا أنه يحل به عن ضعفٍ.
أن يخطئ الإنسان هذا من خلال واقعه البشري، لأنه ليس أحد مُستثنى من السقوط.
أما أن يعمل بطريقٍ غير مقدس، فهذا ليس من حاله البشري، إنما هو سم عدم الإيمان خلال القلب الشرير.
لا يليق بالإنسان البار أن يفعل هذا.
تعتمد المغفرة للإنسان على مراحم الله، لا على قوة الإنسان(432).
* "قائلًا لله: لا تدينني، فهمني لماذا تخاصمني؟" [2] إذ يعلن عن نفسه أنه خاطي، "في مرارة نفسه"، ماذا يقول لله إلا أنه يطلب ألا يُدان، حيث أن مرارة ندامته الحاضرة تنزع آلام السخط عن خطاياه؟
يدين الله الإنسان في هذه الحياة بطريقين: بإدراك أنه بالمتاعب الحاضرة قد بدأ فعلًا أن يجلب عليه العذابات العتيدة، وإلا أن يرفع العذابات العتيدة خلال الضربات الحالية...
يُخَّلص التأديب من الويل أولئك للذين يتغيرون وحدهم. أما الذين لا ينصلحون بالمتاعب الحاضرة، فيدخلون إلى متاعبٍ أخرى كنتيجة لذلك.
لو أن بعض العقوبات الحاضرة لا تحفظ من الويل الأبدي، ما كان بولس يقول: "ولكن إذ قد حُكم علينا نؤدب من الرب، لكي لا ندان مع العالم" (1 كو 11: 32). كما قيل ليوحنا بصوت الملاك: "إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه" (رؤ 3: 19)، كما كتب: "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله" (عب 12: 6)...
بعدلٍ قيل هنا: "فهمني، لماذا تحاكمني؟" [2]. وكأنه يقول بوضوح: لقد مارست حكمك عليّ بضرباتك علي، لكي بهذه الضربات تجعلني في أمانٍ من الدينونة.
يمكن أيضًا أن تفهم هذه العبارة بمعنى آخر. كثيرًا ما يتقبل البار ضربات التجربة، وإذ يمتحن حياته بالعين الحاذقة التي تستجوبه لا يقدر أن يحدد أية خطية على وجه التدقيق لأجلها قد ضُرب، حتى وإن شعر في نفسه أنه خاطي. إنه يرتعب بالأكثر تحت العصا بالنسبة لجهله السبب الحقيقي للضربات. إنه يصلي للديان ليُظهر له غاية ضربه إياه، حتى يتأدب بالبكاء على خطيته. فهو متأكد تمامًا أن المنتقم البار لن يُحزن أحدًا بظلمٍ. وأنه قد وُضع تحت الجلدات كإنذارٍ خطيرٍ، ومع ذلك لم يقدر أن يكتشف من نفسه ما يجب أن يحزن عليه.
أَحَسَنٌ عِنْدَكَ أَنْ تَظْلِم،َ
أَنْ تَرْذُلَ عَمَلَ يَدَيْكَ،
وَتُشْرِقَ عَلَى مَشُورَةِ الأَشْرَارِ؟ [3]
عاد أيوب يعاتب الله كمن شعر بالظلم، إذ يترك الأشرار يتممون مشورتهم الشريرة في حياة مؤمنيه الذين هم من عمل يديه.
واضح في السفر كله أن أيوب لم ينسب الظلم إلى الله، لكنه كان في حيرة شديدة، إذ لم يعرف كيف يفسر الأحداث بالرغم من إدراكه وتأكده من عناية الله.
إذ يركز الإنسان في ضعفه على الضيقات التي حلت به، يتعجب كيف يترك الله الأشرار يتممون مشوراتهم الشريرة ضد أولاد الله. يظن الإنسان كأن الله قد نسي أنه عمل يديه، وموضع رعايته، وأنه ترك الأشرار يفعلون ما يريدون.
لكن إذ يرفع المؤمن نظره إلى الله، يدرك أنه الطبيب السماوي الصالح الذي يحٌَول مشورات الأشرار لبنيان أولاده ومجدهم. يسمح لهم أن يمارسوا الضيق، لكنه يهب أولاده قدرة على الصبر والاحتمال. لن يسمح الله بتجربة فوق طاقة مؤمنيه وإمكانياتهم! بحق نترنم قائلين: "قد كسر الرب عصا الأشرار، قضيب المتسلطين" (إش 5:14) .
* الرب لم "يهتم بمشورة الأشرار" بطريقة تكبح نفس البار، حتى عندما يسلم جسده لفنون تجربتهم له... لكن حدة مشورتهم تصير كلا شيء، إذ يكيف الخالق الضربات حسب قدرتنا على الاحتمال...
حسنًا قال بولس: "ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا" (1 كو 10: 13). فلو أن الله الرحيم يسمح بالتجارب فوق قدرتنا، بالتأكيد ما كان يوجد إنسان يقدر أن يقف أمام خطط الأرواح الشريرة الماكرة دون أن يسقط أرضًا.
* إنه بلياقة يضيف: "عمل يديك"، كمن يقول بصراحة: إنك لن تضغط بقسوة صلدة على من تذكر أنك قد خلقته بنعمتك.
* لم يقل: "لماذا تتبرأ من البار، الإنسان الفاضل"، بل من "عمل يديك".
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "أنت تهتم بمشورة الأشرار"، فإن كان بسبب خطاياي (تؤدبني)، فكيف تهتم بمشورتهم؟
* حقًا يتألم الأبرار في الوقت الحاضر في حدودٍ معينة، وفي الوقت الحاضر يطغي الأشرار على الأبرار، كيف؟ يبلغ أحيانًا الأشرار مراكز عالمية، فيكونوا قضاة أو ملوكًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). يفعل الله هذا لتأديب قطيعه، لتأديب شعبه... لكنه لا يترك العصا هكذا. فإن عصا الأشرار تُترك إلى حين على نصيب الأبرار، لكنها لا تُترك إلى الأبد.
القديس أغسطينوس
* "أورشليم الجبال حولها، والرب حول شعبه من الآن وإلى الدهر" (مز 2:125)... يقول: إن كانت حتى الجبال محصِّنة لها، فهي في حاجة إلى الحصانة من الرب لكي تكون منيعة... ليس لها أن تثق في سلسلة الجبال.
ما الذي يجعلها مُحصنة، انظروا هذا: "لأن الرب لا يسمح لعصا الخطاة أن تستقر على نصيب الصديقين" (مز 3:125). إنه يشير إلى سبب لائق لنوال معونة الرب، حتى يشجعهم أن يثقوا فيه. ما هو؟ يقول المرتل: إنه لم يحتمل أن يكون صلاح الصديقين في أيدي الخطاة...
إنه لا يسمح لهم أن ينالوا سلطانًا على ميراث الأبرار، فإن سمح به، إنما إلى حين لأجل إصلاحهم ونصحهم وتأديبهم(433).
أَلَكَ عَيْنَا بَشَرٍ،
أَمْ كَنَظَرِ الإِنْسَانِ تَنْظُرُ؟ [4]
وثق أيوب أن عيني الله ليستا كعيون البشر الجسدية، فهو يرى في الظلام، ويعرف الخفيات، عيناه في كل مكان (أم 15: 3)، تجولان في كل الأرض (2 أي 16: 9). كل شيء مكشوف أمام الله. لهذا يقول الرسول: "نحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق" (رو 2: 2).
ما دام الله مدركًا لأسرار قلب أيوب، ويعلم محبته له ونقاوة قلبه، فهو ليس بمحتاجٍ أن يسمح للعدو أن يجربه كيف يتزكى أمام الرب.
حقًا لم يكن الله محتاجًا أن يُسلم أيوب للتجربة لكي يفحص أعماقه، إنما سمح بذلك ليخزي عدو الخير، ولكي يتزكى بالأكثر أيوب خلال صبره واحتماله بشكرٍ دون أن يجدف على الله.
في عتاب صريح يقول أيوب لله إن عينيه ليست كعيون البشر، فهي فاحصة لأعماق الإنسان بلا حدود، تعرف حتى ما سيفعله في المستقبل، فما الحاجة لفحصه؟ يسأله ألا يسلمه للشرير حتى لا يضغط عليه فيخطئ.
* "ألك عينا بشر، أم كنظر الإنسان تنظر؟" [4]... لا تقدر أعين الجسد أن تتطلع إلى أعمال الحقبات الزمنية إلا في حدود زمنٍ معين، علاوة على هذا فإن أيام البشر وسنواتهم تختلف عن أيام الأبدية وسنواتها. حياتنا تبدأ في زمنٍ وتنتهي في زمنٍ، بينما الأبدية فبلا حدود...
* "أم كنظر الإنسان تنظر؟" هذه الكلمات معناها... ليس من ضرورة لك أن تفحص أيوب، وتمعن النظر فيه لتنظره إن كان هو كما يدعي العدو، فإذ أنت هو الله تعرفه مقدمًا. إنك لا تنظر كما ينظر المائت، فلماذا سُلمت أنا للعدو ليلزمني أن أرتكب إثمًا؟
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
أَأَيَّامُكَ كَأَيَّامِ الإِنْسَانِ
أَمْ سِنُوكَ كَأَيَّامِ الرَّجُل [5].
كما أن الله غير محدود، فإن أيامه غير محدودة، هو خالق الزمن. أيام الإنسان كما قال ليعقوب لفرعون: "قليلة ورديئة"، عرضة للتغيير. لذا فإن نظرة الله للأمور وأحكامه تختلف عن نظرة الإنسان. فبالنسبة لله الماضي كما الحاضر والمستقبل، الكل حاضر قدامه.
حَتَّى تَبْحَثَ عَنْ إِثْمِي،
وَتُفَتِّشَ عَلَى خَطِيَّتِي؟ [6]
يرى أيوب أن الله أعظم من أن يبحث عن خطيته أو يفتش عن إثمه، أو أن أيوب في عيني نفسه أتفه من أن ينشغل به الله ليبحث عن خطاياه. وكأنه يقول مع إرميا النبي: "قد عرفنا يا رب شرنا، إثم آبائنا، لأننا قد أخطأنا إليك، لا ترفض لأجل اسمك. لا تهن كرسي مجدك" (إر 14: 20-21).
* كأنه يقول وهو يتساءل في تواضعٍ: لماذا تفحصني بالضربات في زمنٍ، بينما حتى قبل أن يوجد الزمن تعرفني معرفة كاملة في داخلك؟ لماذا تقيم استجوابًا عن خطاياي خلال الضربات، وأنت بقدرة أبديتك تعرفني قبل أن تخلقني؟
فِي عِلْمِكَ أَنِّي لَسْتُ مُذْنِبًا،
وَلاَ مُنْقِذَ مِنْ يَدِكَ [7].
سبق أن اعترف أنه خاطئ، لكنه ليس بالمعاند الشرير والمقاوم لله ووصيته، ولا بالمرائي. لهذا يقول: "في علمك إني لست مذنبًا".
هكذا يليق بنا أن نعترف أننا خطاة، لكننا بالنعمة نعلن له مع الرسول: "أنت تعرف إني أحبك" (يو 21: 17).
مع اعترافي بأني شرير، لكن ليس من ينقذني من يدك سواك! إليك ألجأ فلا تغضب عليّ!
* "ليس من يفلت من يدك"، إنه كمن يقول بوضوح: ماذا لك سوى أن تصفح، يا من لا يقدر إنسان على مقاومة قدرتك؟ فإنه كما لا يوجد من ينعم بافتقادك عن استحقاق بسموه، هكذا، فإن حنوك هو الذي يسمح بنوال المغفرة.
* حتى إن قدمت شهادة عني، فإني لا أستطيع أن أخلص ببري، وإذ أنت تريد أن تضربني لا أقدر أن أخلص نفسي، لأنه "من يقدر أن ينقذني من يديك؟" كل الخليقة في يمين هذا الذي له المجد الأبدي.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
8 «يَدَاكَ كَوَّنَتَانِي وَصَنَعَتَانِي كُلِّي جَمِيعًا، أَفَتَبْتَلِعُنِي؟ 9 اُذْكُرْ أَنَّكَ جَبَلْتَنِي كَالطِّينِ، أَفَتُعِيدُنِي إِلَى التُّرَابِ؟ 10 أَلَمْ تَصُبَّنِي كَاللَّبَنِ، وَخَثَّرْتَنِي كَالْجُبْنِ؟ 11 كَسَوْتَنِي جِلْدًا وَلَحْمًا، فَنَسَجْتَنِي بِعِظَامٍ وَعَصَبٍ. 12 مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً، وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي. 13 لكِنَّكَ كَتَمْتَ هذِهِ فِي قَلْبِكَ. عَلِمْتُ أَنَّ هذَا عِنْدَكَ:
يَدَاكَ كَوَّنَتَانِي وَصَنَعَتَانِي كُلِّي جَمِيعًا.
أَفَتَبْتَلِعُنِي؟ [8]
الإنسان مدين لله بوجوده، لكن عندما تحلّ به تجربة يرى كأن الله يريد أن يبتلعه.
استخدم كثير من الآباء الكنسيين هذه العبارة للرد على أتباع ماني وغيرهم ممن ادعوا أن جسم الإنسان عنصر ظلمة، وأنه فاسد بطبعه يجب الخلاص منه(434).
يرى القديس مار يعقوب السروجي أن الجسد لا يستطيع أن يعيش وحده، كذلك لا تستطيع النفس أن تعيش وحدها. [لم يُمنح الجسد حياة دائمة من دون النفس، ولم تُمنح النفس إحساسًا من دون الجسد. فحياة النفس هامدة بدون الجسد، والجسد الموضوع في التراب يبقى بدون حياة.]
أشار كثير من آباء الكنيسة إلى أن إحدى بركات التجسد الإلهي، أن الله ردّ للجسد الذي خلقه كرامته، إذ لم يأنف كلمة الله الأزلي أن يحمل جسدًا بشريًا حقيقيًا، ويمارس أعمالًا جسدية.
* من أجل أن الكلمة نزل وأتى ليكون جسدًا مع الجسدانيين، سار في طريق كل المولودين، وبقي في العالم ثلاثين سنة بتواضعٍ. حينئذ بدأ يفعل بقوة جبروته.
عجيب أنه كان ساكنًا في بيت النجار، ومختلطًا بهم، ويسلك حسب عادتهم...
العجب أن السماوات ممتلئة من تمجيده، وقد اكتفي ببيتٍ صغيرٍ يتربى فيه...!
صار طفلًا ورضع اللبن ولم يمل... صار صبيًا وقاس الأسواق بخطواته... صار شابًا وتعبد في بيت النجار. صار رجلًا وأحنى رأسه قدام يوحنا، ومع التائبين نزل للتعميد بتواضعه...
لنصدق أنه أتى وصار جسدًا، لا بالتشبيه بل بالحق. صار إنسانًا ليشعر العالم أن آدم الثاني أظهر نفسه ليجدد العالم عوض الأول الذي لدغته الحية.
لو بدأ يفعل القوات من صباه لكانوا يظلمونه قائلين إنه لم يتجسد بالحق. وأن جسده خيال ولم يكن جسدًا. من أجل هذا ثبَّت ربنا ثلاثين سنة، وحينئذ بدأ يسير بطريق القوات. ليكون بالجسد رجلًا كاملًا يشبه آدم. لأنه خرج ليخاصم العدو (الشيطان) عوض آدم.
* لسنا نريد أن نتخلص من الجسم، وإنما من الفساد الذي فيه. جسمنا هو ثقل علينا، ليس لأنه جسم، بل لأنه فاسد وقابل للألم. ولكن إذ تحل الحياة الجديدة، فإنها تنزع هذا الفساد، أقول هذا الفساد لا الجسم نفسه(435).
* إن أردتم أن تتعلموا أية نوعية للجسد الذي خلقه الله أولًا، فلنذهب إلى الفردوس، ونبحث عن الإنسان الذي خُلق في البداية. فإن ذاك الجسد لم يكن فاسدًا ولا ميتًا. لكنه كان أشبه بتمثال ذهبي خارج من الفرن يشرق بهاءً، هيكله متحرر من كل فسادٍ. العمل لا يجعله متُعبًا ليس من عرق يتصبب منه. لا يتآمر عليه، ولا وجد شيء من هذا النوع يزعجه(436).
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يا لشدة فاجعة هذا القديس من أجل الضعف العام لكل البشر! يا لقسوة الرعاية أن الله صنع الإنسان بيديه! يمكن أن يعفي عن الإثم بحجة الضعف (البشري)، وتعلن النعمة عملها الأبدي فينا خلال حنو الحصانة السماوية(437).
* "يداك كونتاني وصنعتاني كلي جميعًا، ثم عدت فطرحتني فجأة" [8]. كأنه يقول له في تواضعٍ: وإن كان ما أفعله غير لائق باسترضائك إن خضع لفحصٍ عادلٍ، فلتذكر رحمتك، لئلا تهلك صنعة يديك... لماذا تستخف بي هكذا، وأنت خلقتني بمثل هذه الظروف من الكرامة؟
* "لقد ضربتني" ليس كديانٍ، بل كأب تصلحني!
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
ماذا
يعني بيديْ الله؟* إذ نقرأ أن الروح القدس هو إصبع الله (لو 11: 20)، فإننا نحسب أن الأصابع تشير إلى الابن والروح. أخيرًا لكي يشير أنه يقتني التقديس من كل من الابن والروح يقول قديس معين: "يداك كونتاني وصنعتاني" (أي 10: 8)(438).
* "يداك كونتاني وشكلتاني". إنها تشير إلى العناية الإلهية التي تعمل بعد خلقتنا(439).
اُذْكُرْ أَنَّكَ جَبَلْتَنِي كَالطِّينِ.
أَفَتُعِيدُنِي إِلَى التُّرَابِ؟ [9]
يلجأ أيوب إلى حب الله الفائق للإنسان. أقامه الله من الطين، وقدم له كل هذه الإمكانيات الفائقة، فهل يرجع الله عن حبه، ويرد الإنسان إلى ما كان عليه؟
ليس للإنسان أن يفتخر لأنه جُبل من الطين، وفي نفس الوقت لا يستهين بنفسه، ولا يستخف بحياته، فهو من صنع الله، الذي خلقه على صورته ومثاله.
* يبدو أيوب كمن يقول: أذكر ضعف الجسد، وأغفر إثمي.
* لماذا تنسى عملك؟ لماذا تنسى افتقادك؟
نعم لماذا تنسَ ضعفي؟
لأنه من هو الإنسان إلا افتقادك له؟ (مز 8: 4؛ عب 2: 6)
لهذا لا تنسى من هو ضعيف. تذكر يا رب أنك خلقتني ضعيفًا، أذكر أنك جبلتني كالطين (مز 103: 14؛ أي 10: 9). كيف يمكنني أن أقف ما لم توجهني عنايتك على الدوام لتقوي هذا الطين، فتصدر قوتي عن وجهك؟ "تحجب وجهك، فيرتاع كل شيء" (مز 104: 29)(440).
*احتياجات الجسم تولد اهتمامات، وتدخل بنا إلى مساعٍ تعوق قوة النفس وتمنع تركيزها. أوضح القديس أيوب ذلك حسنًا: "أذكر أنك جبلتني من الطين" (أي 10: 9). فإن كان الجسم طينًا، فبالتأكيد يلوثنا ولا يغسلنا. إنه يفسد النفس ويلوثها بالإفراط في إشباع الهوى. "كسوتني جلدًا ولحمًا، فنسجتني بعظامٍ وعصبٍ" (أي 10: 11). هكذا ترتبط نفوسنا وتتعذب بأعصاب الجسم وأحيانًا تقسو غالبًا عندما تنحني. "من ذنبي لا تحلني. إن كنت شريرًا، فيا ويلي! إن كنت بارًا، لا أتجاسر وأرفع رأسي، لأني شبعان هوانًا. تجلب عذابات ضدي" (أي 10: 14-15، 17)(441) LXX.
* يُوضع (الإنسان) في يد الله (مز 31: 6)، الذي هو ميناء آمن (مز 107: 30)، وبرج حصين (مز 61: 3)، بالطبيعة هو رءوف ينقذ ويخلص. يهتم الله بأولئك الذين خلقهم من الطين برعاية فائقة... لقد أقام شكلًا ملوكيًا ملتحفًا بالمجد (مز 8: 6)، صورة مستحقة للكرامة؛ أعطاه سمات على مثال الخالق، إذ أراد ذلك. لذا يليق بكل واحدٍ منا أن يحفظ هذه الصورة في كل حينٍ، وبالأكثر في وقت التجربة... هكذا الآن يصور أيوب بدقة كل تاريخ آدم، مقدمًا لنا تعليمًا مختصرًا، هذا الذي شرحه موسى بإفاضة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
* لقد تضايق يونان بعد هروبه ومصالحة شعب نينوى مع الله... متألمًا ومنفعلًا بطريقة بشرية مملوءة حزنًا. فأمر الله الأرض أن تنبت يقطينه ليونان تحمي رأسه، ثم أمر الشمس أن تزيد من حرارتها فتحرقها. فغضب يونان لهلاكها، لكن إذ عزاه الرب ثم جربه اسمع ماذا يقول له: "أنت تشفق على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، التي بنت ليلة كانت، وبنت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من أثنى عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم؟!" (يونان 4: 10-12)
هذا ما أراد أن يقوله: ألم تفرح بظل اليقطينة، فكم بالحري ينبغي لي أن أفرح بخلاص أهل نينوى؟! ألم تتألم بهلاكها؟! هكذا يؤلمني هلاك البشرية...
لم يقل له: "أنت شفقت على اليقطينة" وتوقف... بل أكمل: "التي لم تتعب فيها ولا ربيتها". لأنه كما يشفق البستاني على الشجرة التي تعب فيها أكثر من غيره، هكذا أراد الله أن يثبت محبته للبشر خلال هذه المحبة. كأنه يقول له: أنت تدافع بقوة عن عمل غيرك الذي لم تتعب فيه، بالحري يليق بي الدفاع عن عمل يدي! ثم يخفف من حدة الاتهام الموجه ضدهم بقوله: "لا يعرفون يمينهم من شمالهم"، أي أخطأوا بغير معرفة...
ويعاتب الذين يئنون بأنهم متروكون قائلًا: "من جهة بني ومن جهة عمل يديَّ أوصوني!" (إش 45: 11) وكأنه يقول: من يُذَّكر الأب بابنه أو يحثه ليفكر فيه؟ أو من يُذَّكر الفنان ألا يتلف فنه؟!
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الإنسان الترابي يحمل فكرًا ترابيًا يميل إلى الزمنيات الأرضيات، لكن الروح القدس يرفعه إلى السماويات.
من محبة الله أنه يسحب نعمة روحه القدوس منه كما إلى حين حتى يكتشف حقيقته فيصرخ: "أفتعيدني إلى التراب؟" [9]. يشعر الإنسان بضعفه ويدرك أنه بدون تدخل نفخة النعمة السماوية يكون ترابًا جافًا.
أَلَمْ تَصُبَّنِي كَاللَّبَنِ،
وَخَثَّرْتَنِي كَالْجُبْنِ؟ [10]
تشبيه رائع، فكما يمكن للشخص البسيط أن يصب اللبن أو يصنع الجبن هكذا في يُسر وسهولة صنع الله الإنسان.
* إذ أخذ الرب جسدًا لم يخجل منه، إذ هو مكوِّنًا للأجساد. لكن من الذي أخبرنا بهذا؟ يقول الرب لإرميا: "قبلما صورتك في البطن عرفتك. وقبلما خرجت من الرحم قدستك" (إر 5:1). فإن كان لم يخجل من خلقه جسد الإنسان، أفيخجل من الجسد الذي أخفي فيه لاهوته، الذي يخلق الأطفال في الأحشاء كما كتب أيوب: "ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن، كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب؟!"(442)
مرة أخرى إذ تعمل فيه نعمة الروح القدس ينسحب فكرنا مما كان عليه، فيصير ذهننا كاللبن المصبوب، فيتشكل بالروح القدس إلى الحنو والرقة من جديد، ويصير أشبه بقطعة من الجبن.
* تختفي الطبيعة العاقلة الخالدة في جسدنا البالي، وتوحي بكل أفعالها فيه وخلاله. وهكذا إذ لكم هذا الجسد الذي صار مذبحًا يُقدم عليه البخور، لذلك ضعوا عليه كل أفكاركم ومشوراتكم الشريرة قدام وجه الرب، رافعين عقولكم وقلوبكم إليه، متوسلين أن يرسل ناره المقدسة لتحرق كل ما هو على هذا المذبح وتنقيه، فيخافكم خصومكم (الشياطين والخطايا) - كهنة البعل - ويهلكون على أيديكم، كما حدث مع إيليا النبي (1 مل 25:18 - إلخ) حينئذ تشاهدون الْمُعَزِّي القدوس في الماء الإلهي (المعمودية) الذي يمطر عليكم مطرًا روحيًا.
القديس أنطونيوس الكبير
كَسَوْتَنِي جِلْدًا وَلَحْمًا،
فَنَسَجْتَنِي بِعِظَامٍ وَعَصَبٍ [11].
حين خلق الله الإنسان، لم يخلقه عريانًا، لأنه كساه بالجلد، ولا أوجده ضعيفًا، إذ نسجه بالعظام والعصب. هكذا تتشح أجهزتنا الداخلية بالجلد وتتحصن بالعظام والأعصاب. وكان يُمكن أن يعيش الإنسان في وقارٍ وقوةٍ لو لم تعريه الخطية وتضعف قدرته.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الإنسان الداخلي ملتحف بجلدٍ ولحمٍ، وذلك لأنه في أثناء ارتفاعه نحو السماويات يجد في نفس الوقت إعاقة حيث يُحاصر بتحركات جسدية تعوقه.
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أيوب يلمس رعاية الله الفائقة الذي خلقه من العدم ووهبه جلدًا وجسمًا، عظامًا وأعصاب، فكيف يمكن لهذا الخالق المبدع في حبه ورعايته وقدراته ألا يهتم بالإنسان محبوبه؟
* إنه يعني: ألست أنت هو الذي تقدم له تأكيدًا على عظمة الحب نحو الإنسان، وعلى عظمة الحكمة هذه؟ فإن كان أيوب يشير إلى تكوين الإنسان في شيء من التفصيل إنما ليبرهن أنه بعدما خلقه من العدم، هل ينكر رعاية الله العظيمة وحكمته الفائقة هذه؟ وقد أظهر أن الإنسان (بذاته) عدم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إنه لصانع حكيم، من الذي أعد الرحم ليحمل الجنين؟!
من يهب الحياة للأشياء التي بلا حياة في داخلك؟!
من الذي ربطنا بعضلات وعظام، وكسانا بجلدٍ ولحمٍ، وما أن يولد الطفل حتى يفيض اللبن من الثديين؟!
كيف ينمو الطفل ليكون صبيًا، فشابًا، فرجلًا، ويبقى هكذا حتى يعبر إلى الشيخوخة، دون أن يلاحظ أحد هذا التحول الدقيق من يومٍ إلى يومٍ؟!(443)
مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً،
وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي [12].
إن كان لنا ما نشتكي منه حتى مما صدر عن الله، فإننا نلجأ إليه. إنه يسمح بالضيق لكي نتعلم أن نلجأ إليه فهو الذي خلقنا لكي ننعم به، لا لكي نتذمر.
مع عطية الجسد في روعة خلقته وإمكانياته الظاهرة والخفية، قدم الله لنا ما هو أعظم، ألا وهي نسمة الحياة التي من فم الله. منحنا الحياة والرحمة، وقدم لنا نعمة العقل والفكر مع القلب والعواطف.
أقام النفس مخفية في الجسم، لكن ما يحفظها، ليس الجسم بقدراته وطاقاته، إنما عناية الله.
* يا لقوة مرثاة هذا الرجل القديس للضعف العام لكل البشر! كم كان ثقل الاتهام بأن الله صنع الإنسان بيديه قويًا، ومع ذلك يُقدم الإنسان عذرًا عن ارتكاب الذنب بدعوى أنه ضعيف، بينما تعلن النعمة عن العمل الأبدي فينا خلال حنو الحماية السماوية(444).
* "وحفظت عنايتك روحي" [12]. لا يكفي أن يكون لك ذلك بالطبيعة، بل يتطلب عنايتك الإلهية علينا. يقول: خلال كل حياتي استعين بعنايتك الإلهية.
* إن كنت تشك في عناية الله سْل الأرض والسماء والشمس والقمر، سلْ الكائنات غير العاقلة والزروع... سلْ الصخور والجبال والكثبان الرملية والتلال. سلْ الليل والنهار. فإن عناية الله أوضح من الشمس وأشعتها. في كل مكان، في البراري والمدن المسكونة، على الأرض وفي البحار... أينما ذهبت تسمع شهادة ناطقة بهذه العناية الصارخة...
في كل موضع ترتفع الأصوات مدوية بوضوح أعلى من أصوات البشر العاقلين، تعلن لكل من يريد أن يسمع عن محبة الله الساهرة!
وإذ أراد النبي أن يسجل قوة هذه الأصوات قال: "في كل الأرض خرج صوتهم وفي أقصى المسكونة كلماتهم" (مز 19: 4).
لا يفهم لغتنا نحن إلا أهل لساننا، أما الخليقة فتنطق بلغة تفهمها جميع الشعوب!(445)
القديس يوحنا الذهبي الفم
لَكِنَّكَ كَتَمْتَ هَذِهِ فِي قَلْبِكَ.
عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عِنْدَكَ [13].
كان أيوب في صراعٍ بين هذه النعم الإلهية المجانية ورعاية الله الفائقة للحفاظ على الجسم كما على النفس، وبين ما سُمح له بأن تحلّ به متاعب لا تُحتمل. لهذا يقول: "لكنك كتمت هذه في قلبك"، أي أن الأمرين يتفقان معًا خلال مشيئتك المكتومة في داخلك، لا يستطيع أحد منا أن يدرك أعماقها. إنه في يقين من نحو عناية الله ومن نحو سماح الله له بالألم: "علمت أن هذا عندك".
* "إذ كتمت هذه في نفسي، أعرف أنك تستطيع كل شيء، ولا يستحيل عليك شيء". ألا ترون أن إمكانية معرفة الله معلنة في خليقته (رؤ 1: 19)؛ فإنه يكفيني خلقتي أن تظهر لي وجود الله وقوته دون حاجة إلى السماء؟ فإننا إذ خُلقنا هكذا، أن نوجد من حيوان منوي (بذرة)، وأن نكون بهذا العون، ولا يسمح لنا بالسقوط في مخاطرٍ، هذا كله يكفي ليظهر قوة الله وسلطانه. وذلك كما في حقيقة حفظ الخاطي وعدم معاقبته (هنا)، وفي تأديب البار ومعاقبته.
* كيف لا يكون مثل هذا (منح الحياة والرحمة) لخالق كهذا؟
أي شيء يمكن أن يكون مستحيلًا عليه؟
فإن كنت جعلت الطين على صورة الله (تك 2: 7)، وجعلت التراب يعبر إلى درجة الكائن العاقل، إن كنت تهب الكائنات الأرضية سعادة تعادل ما للكائنات السماوية، كيف لا تقدر أن تصنع معجزة لي؟
14 إِنْ أَخْطَأْتُ تُلاَحِظُنِي وَلاَ تُبْرِئُنِي مِنْ إِثْمِي. 15 إِنْ أَذْنَبْتُ فَوَيْلٌ لِي، وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أَرْفَعُ رَأْسِي. إِنِّي شَبْعَانُ هَوَانًا وَنَاظِرٌ مَذَلَّتِي. 16 وَإِنِ ارْتَفَعَ تَصْطَادُنِي كَأَسَدٍ، ثُمَّ تَعُودُ وَتَتَجَبَّرُ عَلَيَّ. 17 تُجَدِّدُ شُهُودَكَ تُجَاهِي، وَتَزِيدُ غَضَبَكَ عَلَيَّ. نُوبٌ وَجَيْشٌ ضِدِّي.
إِنْ أَخْطَأْتُ تُلاَحِظُنِي،
وَلاَ تُبْرِئُنِي مِنْ إِثْمِي [14].
لا ينكر أيوب أنه مخطئ، وأن خطاياه يعلمها الله، ويلاحظها، وبهذا لن يتبرر أيوب أمامه. "إن كنت تراقب الآثام يا رب، يا سيد فمن يقف؟" (مز 130: 3)
* إن أخطأت تلاحظني، لئلا أسقط في الحفرة (مز 28: 1)، في خطية قصوى، وأضيع تمامًا، ولئلا أضل عن القطيع (يو 10: 1)، واذهب إلى جب الذئاب. حسب قانون العدل لا تجدني بارًا، بل تجدني ملومًا تحت ضربة اللعنة الموروثة (تك 3: 17).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
أدرك أيوب أنه لن يستطيع أن يتبرر بذاته، بل محتاج إلى من يهبه. إنه كسائر آباء العهد القديم كان يترجى مجيء المسيا المخلص.
* تألم السيد المسيح في الوقت الذي كان فيه بيلاطس بنطس يعمل حاكمًا وقاضيًا...
من الذي تألم؟ ربنا، ابن الله الوحيد!
وماذا حدث له؟ صُلب ومات وقُبر!
ومن أجل من؟ لأجل الأشرار والخطاة!
يا لعظم هذا التنازل! يا لعظمة النعمة!
"ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته لي؟ (مز 116: 12)(446).
القديس أغسطينوس
* يظهر المسيح لكل واحدٍ حسب احتياجه. فالمحتاجون إلى البهجة يتقدم إليهم ككرمة، والمحتاجون إلى الوجود في حضرة الآب يأتيهم كبابٍ، والمحتاجون إلى من يقدم صلواتهم يجدونه الشفيع فيهم الكاهن العلى، وللخطاة هو الحمل (المذبوح) لأجل تقديسهم.
إنه كل شيء لكل واحد دون أن تتغير طبيعته بل يبقى كما هو. هو باقٍ، وعمل بنوته لن يتغير، لكنه يكيف نفسه حسب ضعفنا، بكونه طبيبًا ممتازًا أو معلمًا مملوء حنوًا إنه الرب نفسه، لم يقبل الربوبية عن تقدم، إنما عمل بنوته طبيعي(447).
* كلمة "يسوع" تعني "مخلص"، أما في اليونانية فتعني "الشافي"، إذ هو طبيب النفوس والأجساد، شافي الأرواح، فتح عيني المولود أعمى، وقاد الأذهان إلى النور. يشفي العرج المنظورين، ويقود الخطاة في طريق التوبة، يقول للمفلوج: "لا تخطئ"، وأيضًا: "احمل سريرك وامش" (يو 14:5، 8)، لأن الجسد كان مفلوجًا بسبب خطية النفس. خدم النفس أولًا حتى يمتد بالشفاء إلى الجسد.
لذلك إن كان أحدكم متألمًا في نفسه من خطايا، فإنك تجده طبيبًا لك. وإن كان أحدكم قليل الإيمان فليقل له: "أعن عدم إيماني" (مر 24:9).
وإن أصابت أحدكم آلام جسدية، فلا يكون غير مؤمنٍ، بل يقترب، فإن يسوع يعالج مثل هذه الأمراض، وليعلم أن يسوع هو المسيح(448).
* كثيرًا ما يضطرب الذهن في أعماقه عند تذكر الخطية، فيحث على ممارستها بصورة أشر مما كان عليها حين سبق فارتكبها.
البابا غريغوريوس (الكبير)
*"إن أخطأت تلاحظني" (أي 10: 14). اعترف يا إنسان بخطاياك لتنال المغفرة "اظهر آثامك فتتبرر" (إش 43: 26) LXX.
لماذا تخجلون من الاعتراف بها وأنتم قد وُلدتم فيها؟ (مز 51: 7). من ينكر ذنبه ولا يعترف به ففي الحقيقة ينكر مولده.
لكن أتريدون أن تحتفظوا بما تتسلموه! لماذا تظنون أنكم تملكون ما لم تتسلموه؟ لهذا فليعترف الخاطي، وغير المقدس، ولا يرتفع البار ولا يتشامخ، لئلا يفقد مكافأة برِّه بالكبرياء (أي 10: 15)(449).
إِنْ أَذْنَبْتُ فَوَيْلٌ لِي.
وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أَرْفَعُ رَأْسِي.
إِنِّي شَبْعَانُ هَوَانًا وَنَاظِرٌ مَذَلَّتِي [15].
بدون التوبة نسقط في هذا الويل الذي يشير إليه أيوب هنا. فإنه ليس ما ينقذني منه، لا سمو أخلاقي ولا عبادتي أيا كانت ما دامت بدون توبة. هذا ما يعنيه أيوب بقوله: "إن تبررت" أي اتكلت على بري الذاتي أو على سلوكي أو خدمتي، هذا كله لن يرفع رأسي أمام إلهي.
حذرنا الكتاب المقدس من الخطية أيا كانت فإنها تجلب العار والهوان، "إِنِّي شَبْعَانُ هَوَانًا وَنَاظِرٌ مَذَلَّتِي" [15].
"البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية" (أم 14: 34).
"ارحمنا يا رب ارحمنا، لأننا كثيرًا ما امتلأنا هوانًا" (مز 123: 3).
"الحكماء يرثون مجدًا، والحمقى يحملون هوانًا" (أم 3: 35).
"تأتي الكبرياء فيأتي الهوان، ومع المتواضعين حكمة" (أم 11: 2).
"فقر وهوان لمن يرفض التأديب، ومن يلاحظ التوبيخ يُكرم" (أم 13: 18).
"إذا جاء الشرير جاء الاحتقار أيضًا، ومع الهوان عار" (أم 18: 3).
"لا تترفع لئلا تسقط، فتجلب على نفسك الهوان" (سيراخ 1: 38).
"شأن الإنسان الكذوب الهوان، وخزيه معه على الدوام" (سيراخ 20: 28).
"الكسلان أشبه بحجر قذر، كل أحد يصفر لهوانه" (سيراخ 22: 1).
"على حسبما كثروا هكذا أخطأوا إليّ، فأبدل كرامتهم بهوانٍ" (هو 4: 7).
"لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان، لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة" (رو 1: 26).
* بجانب الشرور الموروثة (الجدية) أضفت شرورًا من عندي... خطية آدم بلا شك لا تسمح لإنسان أن يتطلع إلى فوق بجسارةٍ، ولا أن يمجد ذاته. لهذا يقول أيوب: "أنا شبعان هوانًا".
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
* نعم، فإن "الويل" للشرير، وللبار "الحزن"، فالعقوبة الأبدية تلحق بالخاطي الهالك، بينما كل شخص من المختارين يتطهر بآلام الحزن الوقتي...
ولكن إن تغاضينا عن خطية أبينا الأول إلى حين، نجد أنفسنا نُصطاد بواسطة عادة الكبرياء الشريرة.
كثيرًا ما يحدث أنه بالفضائل الموهوبة، ينتفخ الإنسان في جسارة وبرّ ذاتي، ولكن خلال تدبير العناية الإلهية العجيبة يُسمح له أن توضع أمام عينيه بعض الأمور المعارضة التي يسقط فيها البعض...
إذ يرى القديس ما يحدث لزملائه تصدر عنه شخصيًا صرخة من جهة المخاطر التي نتعرض لها.
بهذا إذ نقرأ عن نوح شخصٍ ما نتعلم أن نحزن على ما في داخلنا.
الآن إذ يثور الكبرياء في الفكر، فإن الشعور المجروح بحب الأعالي يفارقنا، ولكن عندما تحل النعمة من فوق علينا تحثنا في الحال على الاشتياق إليها بدموع.
* بحق يقول: "إن تبررت لا أرفع رأسي، فإني شبعان هوانًا" [15]. يعرف الإنسان البار ضعفه...
الحكيم يتحرك للتعرف عليها، والغبي لا يفعل ذلك.
بالحق يتحرك الحكيم نحو التوبة ويتذكر أخطاءه، والجاهل يسر بها.
الحكيم هو من يتهم نفسه (أم 18: 17)، أما الشرير فهو المدافع عن نفسه.
البار يود أن يسبق متهمه في اتهام نفسه بخطاياه، أما الشرير فيرغب في أن يبكمه.
واحد يسرع من البداية في الحديث عن أخطائه، والآخر يحاول أن يتهم الغير بحديثه الثرثار حتى لا تنفضح خطاياه(450).
في إحدى الرسائل الفصحية يصور لنا القديس أثناسيوس الرسولي الهوان الذي يحل بالنفس البشرية بسبب الخطية، بينما يتمتع الأبرار أصحاب القلوب النقية بالمجد، أي مجد رؤية الله.
* إننا نقول بأن الأشرار أموات، لكن لا في حياة تعبدية ضد الخطية، ولا هم مثل القديسين يحملون الموت في أجسادهم، إنما يدفنون النفس في الخطايا والجهالات، فتقترب النفس من الموت. وإذ يشبعونها بالملذات المميتة، تكون نفوسهم أشبه بنسورٍ صغيرةٍ تحوم فوق جثث الموتى. وقد أعلنت الشريعة عن هذا إذ تأمر في صورة رمزية بعدم أكل النسور وجميع الطيور التي تأكل الجيف (لا 13:11).
هؤلاء يقتلون النفس بالشهوات، ولا يقولون سوى "لنأكل ونشرب، لأننا غدًا نموت" (إش 13:22).
وقد وصف النبي الثمرة التي يجتنيها أمثال هؤلاء الذين ينغمسون في الملذات، فقال: "فأعلن في أذني رب الجنود: لا يغفرن لكم هذا الإثم حتى تموتوا" (إش 14:22).
نعم، حتى عندما يعيشون، فإنهم يكونون في عارٍ، إذ يحسبون آلهتهم بطونهم، وعندما يموتون يتعذبون، لأنهم افتخروا بمثل هذا الموت.
ويحمل بولس أيضًا شهادة عن هذه النتيجة فيقول: "الأطعمة للجوف، والجوف للأطعمة، والله سيبيد هذا وتلك" (1 كو 13:6).
وتعلن الكلمة الإلهية عن هؤلاء بأن موت الأشرار شر، ومبغضو الصديق يخطئون (مز 21:34)، لأن الأشرار يرثون نارًا مرة وظلامًا مهلكًا.
أما القديسون والذين يمارسون الفضيلة ممارسة حقيقية، فقد أماتوا أعضاءهم التي على الأرض، الزنا والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة (كو 5:3). فيتحقق فيهم، بسبب هذه النقاوة وعدم الدنس، وعد مخلصنا: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 8:5).
وَإِنِ ارْتَفَعَ رَأْسِي تَصْطَادُنِي كَأَسَدٍ،
ثُمَّ تَعُودُ وَتَتَجَبَّرُ عَلَيَّ! [16]
كأنه قد صار فريسة في فم أسد، ليس من مفرٍ ولا مهربٍ، ولا من رحمةٍ أو شفقةٍ! جاءت إحدى الترجمات: "إن تكبرت وتجبرت كأسدٍ فإنك تصطادني".
* عين الإنسان بحق كأسد، لأنه وحش ملوكي (تك 28: 8-9). علاوة على هذا فإن البار إذ يحفظ كرامة صورة (الله) فيه يكون مرعبًا لخصومه. قيل في هذا في سفر الأمثال: "الصديق جرئ كأسد" (راجع 28: 1). أما إن انحط إلى الطمع، كما يحثه الأعداء على ذلك، ففي ذات اللحظة "يُصطاد كأسدٍ للذبح". يصير موضوع سخرية للذين كانوا يقتفون أثره، فيكون كالأسد الذي ما أن يسقط في إغوائهم له، يصطادونه.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
تُجَدِّدُ شُهُودَكَ تُجَاهِي،
وَتَزِيدُ غَضَبَكَ عَلَيَّ.
مَصَائِبُ وَجَيْشٌ ضِدِّي [17].
ما ضاعف نكبة أيوب أنه شعر بغضب الله يتزايد، مما زاد التجربة مرارةً وثقلًا. لم ينقص الله وجود شهودٍ ضد أيوب، إن عجز شاهد يقوم شاهد جديد محله. ولما كانت كلمة "شهود" في اليونانية تعني "شهداء، فكأن الذين يشهدون لله على محبته ورعايته الإلهية وعمله الخلاصي حتى الموت، يصيرون شهودًا ضد المتشككين في عناية الله والمتذمرين عليه. ظهور هؤلاء الشهود القديسين يديننا، فلا يكون لنا حجة أو تبرير لتصرفاتنا الخاطئة، وقد عبَّر أيوب على ذلك بقوله: " وَتَزِيدُ غَضَبَكَ عَلَيَّ. مَصَائِبُ وَجَيْشٌ ضِدِّي".
"مَصَائِبُ وجيش ضدي"، جاءت إحدى الترجمات: "جيوشك تتناوب الموقف ضدي".
* شهود الله هم الذين يحملون شهادة بممارسة الأعمال المقدسة... أيضًا أولئك الذين يتألمون من أجل الحق. في اللسان اليوناني "الشهداء" هم "الشهود". يقول الرب خلال يوحنا على لسان الملاك: "حتى في الأيام التي كان أنتيباس شاهدي الأمين الذي قًتل عندكم" (رؤ 2: 13).
الآن يجدد الرب شهوده ضدنا، عندما يضاعف حياة المختارين، فيتحدون شرنا بقصد إقناعنا وتعليمنا... كل ما يفعلونه يضاد شرنا. لذلك دعيت كلمة الحق "الخصم"، حيث يقول الوسيط في الإنجيل: "كن مراضيًا لخصمك، سريعًا ما دمت معه في الطريق" (مت 5: 25). ويقول أبناء الهلاك في اضطهاداتهم بخصوص نفس المخلص: "إنه ضد أفعالنا تمامًا"، وبعد ذلك: "لأن حياته ليست كحياة الناس الآخرين" (حك 2: 12، 15). هكذا يجدد الله شهوده ضدنا، حتى يُظهر أن الأعمال الصالحة التي نهملها نحن يمارسها الآخرون، لتوبيخنا...
لاق أن يضيف: "وتزيد غضبك علي"... وذلك كما شهد بطرس القائل: "لأن الوقت لابتداء القضاء من بيت الله، فإن كان أولًا منا، فما هي نهاية الذين لا يطيعون إنجيل الله؟" (1 بط 4: 17). لذلك إذ يحدد الله القدير شهوده ضدنا "يزيد غضبه" كما يليق، إذ يضع حياة الصالحين أمام أعيننا، ويظهر بأية قسوة سيضرب عنادنا، ونحن نمارس الخطية، وذلك في الدينونة.
18 «فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنِي مِنَ الرَّحِمِ؟ كُنْتُ قَدْ أَسْلَمْتُ الرُّوحَ وَلَمْ تَرَنِي عَيْنٌ! 19 فَكُنْتُ كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ، فَأُقَادَ مِنَ الرَّحِمِ إِلَى الْقَبْرِ. 20 أَلَيْسَتْ أَيَّامِي قَلِيلَةً؟ اتْرُكْ! كُفَّ عَنِّي فَأَتَبَلَّجَ قَلِيلًا، 21 قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ وَلاَ أَعُودَ. إِلَى أَرْضِ ظُلْمَةٍ وَظِلِّ الْمَوْتِ، 22 أَرْضِ ظَلاَمٍ مِثْلِ دُجَى ظِلِّ الْمَوْتِ وَبِلاَ تَرْتِيبٍ، وَإِشْرَاقُهَا كَالدُّجَى».
جاءت كتابات الكنيسة الأولى ومفاهيمها في عبادتها ونسكها وقوانينها وكل جوانب حياتها لها مسحة أخروية كتابية. وكانت عقيدة الحياة الأخرى ليست عنصرًا إيمانيًا رئيسيًا فحسب، وإنما هي صُلب الإيمان نفسه! لقد كانت الكنيسة الأولى ككنيسة كتابية بحق كنيسة أخروية، وضعت قلبها في السماء، لتعيش سفيرة للمسيح السماوي، تجتذب العالم نحو السماء، وتدخل به إلى الحياة الفردوسية، لكي تترقب في رجاء كمال المجد الأبدي والميراث السماوي.
أما عن نظرة مؤمني العهد القديم إلى الموت، فقد عبَّر عنها ما ورد في سفر الحكمة: "فإن الله خلق الإنسان لعدم الفساد، وجعله صورة ذاته الإلهية، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 23:2، 24). لم يخلق الله الموت، لذا فبالبر ينال الإنسان الخلود: "لأن الله لم يصنع الموت، ولا يُسر بهلاك الأحياء؛ فإنه خلق كل شيء لكي يكون، وأن خلائق العالم مفيدة، وليس فيه سمّ مهلك، ولا مُلك لمثوى الأموات على الأرض، لأن البرّ خالد" (حك 13:1-15). كما قيل: "العلم بقدرتك هو أصل الخلود" (حك 3:15).
كان الآباء المؤمنون في العهد القديم ينظرون إلى الموت أنه انضمام أو نوم مع آبائهم (تك 8:25؛ 30:47)، وكانوا يخشون فقط من النزول إلى الهاوية Sheol في حزنٍ (تك 35:27). يحسبون الموت في شيخوخة صالحة بركة (تك 15:15؛ 8:25)، أما قطع الإنسان من أرض الأحياء في ريعان شبابه، فهو أمر مخيف (إش 10:38).
مع هذا فقد اختلفت نظرة اليهود إلى الموت من شخصٍ إلى آخر، وقد قدم لنا الفريد أديرشايم مقارنة بين قائدين يهوديين في نظرتهما للموت(451).
القائد الأول هو الحاخام يوخانان بن ساكاي Jochanan ben Saccai. وقد جاء في التلمود(452) عنه أن تلاميذه جاءوا إليه وهو على سرير الموت، فانفجر في البكاء. دهشوا لذلك، فتساءلوا كيف أن "نور إسرائيل، عمود الهيكل الحق"، تخونه هكذا علامات الخوف؟ أجابهم الحاخام: "لو أنني أُقدم أمام ملك أرضي يحيا اليوم ويموت غدًا، غضبه وقيوده ليست أبدية، وإصداره الحكم بالموت لا يكون موتًا أبديًا، ويمكن بسهولة الدخول معه في حوارٍ، أو شرائه بالمال، من هذا ارتعب وأبكي، فكم بالأكثر يكون حالي وقد اقتربت من الوقوف أمام ملك الملوك، القدوس، المبارك، الذي يحيا ويقطن إلى الأبد، قيوده قيود دائمة، وحكمه بالموت حكم أبدي، هذا الذي لا أستطيع أن أحاوره بالكلمات، ولا أرشيه بالمال! ولا يقف الأمر عند هذا، وإنما قدامي طريقان: واحد نحو الفردوس والآخر نحو الجحيم، وأنا لا أعلم إلى أي الطريقين سأذهب: هل إلى الفردوس أم إلى الجحيم، فكيف لا أسكب الدموع؟"
أما المثل الثاني فهو ر. يهودا Jehudah R. الذي يدعى القديس، فإنه عندما مات رفع يديه نحو السماء مؤكدًا أنه لا يوجد أصبع واحد من أصابعه العشرة قد كسر ناموس الله!
الأول فاقد الرجاء تمامًا، يعيش في يأسٍ شديدٍ ويخشى اللقاء مع الله بالرغم من مركزه كرئيسٍ لأعظم مجمع عند اليهود، والثاني في اعتزازٍ شديدٍ ويقينٍ يظن أنه حتمًا يتمتع بالفردوس، لأنه لم يكسر وصية ما بأحد أصابعه. صورتان متطرفتان تمامًا، واحد يحطمه اليأس، والآخر يحطمه الكبرياء!(453)
فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنِي مِنَ الرَّحِمِ؟
كُنْتُ قَدْ أَسْلَمْتُ الرُّوحَ،
وَلَمْ تَرَنِي عَيْنٌ! [18]
يكرر أيوب ذات الرغبة التي سبق فأعلنها في حديث سابق (أي 3: 11).
مرة أخرى كان يشتهي أيوب أن يُخنق في الرحم، ولا يخرج إلى العالم، ولا يراه أحد.
لعل أيوب شعر بأنه صار مثلًا وسخرية لكل ناظريه، فاشتهي لو لم يَرَ أحدًا قط، ولا أحد يراه.
فَكُنْتُ كَأَنِّي لَمْ أَكُن،ْ فَأُقَادَ مِنَ الرَّحِمِ إِلَى الْقَبْرِ [19].
كما أن الذي يضع قلبه في الحياة الزمنية يخطئ، هكذا من ييأس من الحياة ويشتهي الموت عن يأس يخطئ. الأول يحب العالم والخليقة أكثر من خالقها، والثاني يستخف بخطة الله من نحوه.
أَلَيْسَتْ أَيَّامِي قَلِيلَةً؟
اتْرُكْ! كُفَّ عَنِّي، فَأَبْتَسِمُ قَلِيلًا [20].
يطلب من الله أن يكف عن التأديب ليلقط أنفاسه ويستريح قليلًا.
يعلم أيوب أن أيام الإنسان قليلة، فيطلب في هذا القليل شيئًا من الراحة، ولو من حين إلى آخر.
* قال سليمان: "لأنه إن عاش الإنسان سنين كثيرة، فليفرح فيها كلها، وليتذكر أيام الظلمة لأنها تكون كثيرة، كل ما يأتي باطل" (جا 11: 8). مرة أخرى كتب: "أيا كان ما تأخذه في اليد، تذكر نهايتك، فلا تخطئ". لذلك عندما تجرب الخطية الذهن يليق بالنفس أن تدرك قصد بهجتها، لئلا تسرع بها الخطية إلى موت محقق، حيث من الواضح أن الحياة القابلة للموت تنتهي سريعًا.
* يا أبناء آدم، يا من ملك الموت عليكم، فكروا في الموت، وتذكروا الحياة، ولا تتعدوا الوصية مثل أبيكم الأول.
أيها الملوك المتوجون بالأكاليل، تذكروا الموت الذي سينزع الأكاليل الموضوعة على رؤوسكم، سيكون مَلكًا عليكم حتى يأتي الوقت الذي فيه تقومون للدينونة.
يا أيها المتعالون والمتكبرون والمتعجرفون، تذكروا الموت، الذي سيحطم تعاليكم، ويحل أعضاءكم، ويفك المفاصل، ويحل الفساد بالجسم وكل أشكاله. بالموت ينحط المتعالون، والعنفاء القساة يُدفنون في ظلمته...
يا أيها الجشعون المغتصبون والسالبون لزملائكم تذكروا الموت، ولا تضاعفوا خطاياكم. ففي ذلك الموضع لا يتوب الخطاة، ومن سلب ممتلكات رفيقه لا يملك حتى ماله، بل يذهب إلى الموضع الذي لا تُستخدم فيه الثروة، ويصير بلا شيء، تعبر عنه كرامته، وتبقى خطاياه لتقف ضده يوم الدينونة(454).
القديس أفراهاط
قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ وَلاَ أَعُودَ إِلَى أَرْضِ ظُلْمَةٍ وَظِلِّ الْمَوْتِ [21].
يضع الموت أمام عينيه، فيطلب شيئًا من الراحة، ربما لكي يستعد للرحيل، ولكي لا يخطئ ولو بفكره تحت ثقل التجارب. وكما يقول المرتل: "أنر عيني لئلا أنام نوم الموت" (مز 13:3). طلب وقتًا يرجع فيه إلى نفسه، ويطلب عمل الله في حياته قبل أن يموت ويُغلق الباب. "أفلعلك للأموات تصنع عجائب؟" (مز 88: 10)
لا يطلب أيوب الراحة لأنه متعلق بالحياة الزمنية، فهو يعلم أنه راحل ولا يعود بعد. "قبل أن أذهب ولا أعود".
يقدم لنا أيوب صورة مؤلمة عن الموت والقبر، هذه التي كانت سائدة حتى بين المؤمنين قبل قيامة المسيح. "إلى أرض ظلمة وظل الموت".
كان منظر أيوب فيه سخرية لأصدقائه والمارين به، لعله اشتهي القبر حيث الظلمة، فلا يرى أحد قروحه، بل ويتحلل جسمه كبقية الأجسام دون تفرقة!
بالنسبة لنا حياتنا معركة دائمة، موقعها هو أرض القلب والفكر والحواس؛ فهي حرب داخلية بين النور والظلمة. لن يهدأ عدو الخير حتى النفس الأخير، حاسبًا نفسه ملكًا من حقه اقتناء كل البشرية تحت سلطانه. فالمؤمن برحيله يعلن نصرته النهائية، أو نصرة نعمة الله العاملة فيه.
* كثيرون من شعبنا يموتون بهذا الموت (الجسدي)، فيتحررون من هذا العالم. هذا الموت الذي يحسبه (أهل العالم) كارثة، يراه عبيد الله رحيلًا إلى الخلاص.
يموت الأبرار كالأشرار بلا تفرقة... لكن الأبرار يُدعون إلى الراحة، والأشرار إلى العقاب.
سلام عظيم يوهب للمؤمنين، وعقاب لغير المؤمنين(455).
* من جهة الراحة، ماذا نجد في العالم سوى حرب دائمة مع الشيطان، وصراع في معركة دائمة ضد سهامه وسيوفه؟! حربنا قائمة ضد محبة المال والكبرياء والغضب وحب الظهور، وصراعنا دائم ضد الشهوات الجسدية وإغراءات العالم.
ففكر الإنسان يحاصره العدو من كل جانب، وتحدق به هجمات الشيطان من كل ناحية. وبالجهد يقدر للفكر أن يدافع، وبالكاد يستطيع أن يُقاوم في كل بقعة. فإن استهان بحب المال، ثارت فيه الشهوات. وإن غلب الشهوات انبثق حب الظهور. وإن انتصر على حب الظهور اشتعل فيه الغضب والكبرياء، وأغراه السُكر بالخمر، ومزّق الحسد اتفاقه مع الآخرين، وأفسدت الغيرة صداقاته.
هكذا تعاني الروح كل يوم من اضطهاداتٍ كثيرةٍ كهذه ومن مخاطرٍ عظيمةٍ كهذه تضايق القلب، ومع هذا لا يزال القلب يبتهج ببقائه كثيرًا هنا بين حروب الشيطان! مع أنه كان الأجدر بنا أن تنصب اشتياقاتنا ورغباتنا في الإسراع بالذهاب عند المسيح، عن طريق الموت المعجل. إذ علمنا الرب نفسه قائلًا: "الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح؛ أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرحٍ" (يو 20:16).
من منّا لا يرغب في أن يكون بلا حزن؟!
من منّا لا يتوق إلى الإسراع لنوال الفرح؟!
لقد أعلن الرب نفسه أيضًا عن وقت تحويل حزننا إلى فرح بقوله: "ولكن سأراكم أيضًا، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 20:16). ما دام فرحنا يكمن في رؤية المسيح... فأي عمى يُصيب فكرنا، و سخافة تنتابنا متى أحببنا أحزان العالم وضيقاته ودموعه أكثر من الإسراع نحو الفرح الذي لا يُنزع عنا؟!(456)
كبريانوسأَرْضِ ظَلاَمٍ مِثْلِ دُجَى ظِلِّ الْمَوْتِ،
وَبِلاَ تَرْتِيبٍ،
وَإِشْرَاقُهَا كَالدُّجَى [22].
لم يرد القديس يوحنا الذهبي الفم أن يتحدث عن موضع جهنم سوى أنها "خارج هذا العالم"(457)، لكنه تحدث في شيء من التفصيل عن لعناتها. ففي إحدى عظاته يقول:
[إنها بحر من النار، ليست بحرًا من ذات النوع بالأبعاد التي نعرفها هنا، بل أعظم وأعنف، بأمواج نارية، نيران غريبة مرعبة. توجد هناك هوة عظيمة مملوءة لهيبًا مرعبًا. يمكن للإنسان أن يرى النار تخرج منها من كل جانبٍ مثل حيوانٍ مفترسٍ...
هناك ليس من يقدر أن يقاوم، ليس من يقدر أن يهرب.
هناك لا يُرى وجه المسيح الرقيق واهب السلام في أي موضع.
وكما أن الذين صدر عليهم الحكم بالعمل في المناجم هم أناس عنفاء، لا يرون بعد عائلاتهم، بل الذين يسخرونهم، هكذا يكون الأمر هناك. ولكن ليس بالأمر البسيط هكذا، بل ما هو أردأ بكثير. لأنه هنا يمكن أن يقدم الإنسان التماسًا للإمبراطور طالبًا الرحمة، وقد يُعفي عن السجين، أما هناك فلن يحدث هذا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). إنهم لن يخرجوا بل يبقوا، يحتملون عذابات لا يمكن التعبير عنها(458).]
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه بالرغم من كل هذه العذابات فإن العذاب الرئيسي للمدانين هو حرمانهم من حضرة الرب وشركة القديسين في السماء(459).
درجات العذابات مختلفة في الجحيم، تعتمد على مدى خطايا الإنسان(460)، لكن الكل يسقط تحتها أبديًا(461).
يقول: [مستحيل أن يكون عذابات جهنم غير موجودة(462).] وهو يرى أن هذه العذابات ليست لمجرد تحقيق العدل الإلهي، لكنها وُضعت لحث البشرية على التوبة والامتناع عن الخطية(463). يقول: [إن كان الله يهتم ألاّ نخطئ، وإن ندخل في متاعب كهذه لتصحيحنا، فواضح أنه يعاقب الخطاة ويكلل الأبرار(464).] كما يقول إنه يعد جهنم، حتى لا يُلقى أحدًا في جهنم(465).
* كما أن الموت الخارجي يفصل الجسد عن النفس، هكذا الموت الداخلي يفصل النفس عن الله. هكذا فإن "ظل الموت" هو ظلمة الانفصال، حيث كل واحدٍ من الذين يُدانون بنار أبدية تهلكه، يكون في ظلمةٍ من جهة النور الداخلي.
الآن فإن طبيعة النار أن تصدر نورًا، ولها سمة التدمير، أما النار التي تسخط على خطايا سابقة، فلها سمة التدمير وليس لها نور. لذلك يقول الحق للهالكين: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المُعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41). وإذ يتمثلون جميعًا في شخصٍ واحدٍ، يقول: "اربطوا رجليه ويديه، وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية" (مت 22: 13).
لو أن النار التي تعذب الهالكين يمكن أن يكون لها نور لما قيل عن المطرودين خارجًا "اطرحوه في الظلمة". هكذا أيضًا يقول المرتل:" تسقط النار عليهم ولا يعاينوا الشمس" (مز 58: 8 Vulgate). إذ تسقط النار على الأشرار.
"بلا ترتيب"، يبدو لنا أنه ليس في القبر نظام معين، إنما يستوي الملوك مع العبيد، والأغنياء مع الفقراء إلخ.، كل منهم يُدفن بدوره حسبما يعين الله له، لكن توجد خطة إلهية دقيقة من جهة ما قد يحل بنا من تأديبات حتى وإن لم نستطع تفسيرها.
* الكلمات: "بلا ترتيب" عجيبة للغاية، فإن الله القدير، الذي بحق يعاقب على الشرور لن يسمح حتى للعذابات أن تكون "بدون ترتيب". العقوبات ذاتها التي تصدر عن ميزان العدالة لا يمكن بأية كيفية أن توقع "بدون ترتيب"، إذ كيف يمكن ألا يكون ترتيب في العقوبات التي يصدرها، ما دامت حسب قياس الجريمة هكذا تكون العقوبة التي تلحق بالذين يدانون أبديًا. وكما هو مكتوب: "لكن القادرين يكون عذابهم أشد، والعذابات الأشد تحل على الأقوياء" (حك 6: 6 ،7). قيل في دينونة بابل: "بقدر ما مجدت نفسها وتنعمت، بقدر ذلك أعطوها عذابًا وحزنًا" (رؤ 18: 7). فإن كانت العقوبة حسب قياس الخطية، فإنه حق لا يمكن إنكاره إنه يوجد ترتيب محفوظ في العقوبات...
كما أنه في بيت أبينا منازل كثيرة حسب تنوع الفضائل، هكذا يوجد اختلاف في الجريمة، ويخضع المدانون لعقوبة متباينة في نيران جهنم. فمع أن جهنم واحدة وهي بعينها للكل، لكن هذا لا يعني أن الكل يحترقون بذات الكيفية.
* "وإشراقها كالدجى" [22]. بالرغم من النار في ذلك الموضع لا تعطي نورًا للراحة، إلا أنه لأجل عذابهم بالأكثر تضيء بهدف معين. فإن المدانين سيرون باللهيب المنير أتباعهم معهم في العذاب، هؤلاء الذين من أجل حبهم للعصاة فضلوا محبة الحياة الجسدانية عن وصايا الخالق...
يُظهر لنا الحق أن الغني الذي كان نصيبه أن ينزل في عذابات النار الأبدية (لو 17: 19-31) وصف بأنه يتذكر إخوته الخمسة، وقد سأل إبراهيم أن يرسل لهم لتعليمهم، حتى لا يسقطوا تحت نفس العقوبة في المستقبل. فمن الواضح - دون شك - إن ذاك الذي يتذكر أقرباءه الغائبين قد ضاعف من آلامه، فكم بالأكثر عندما يراهم فيما بعد بعينيه حاضرين معه يزيد من عذابه.
* في يوم الدينونة، ما من شك أن الصالحين سيُفصلون عن الطالحين، والأبرار عن الأشرار. وسوف يُخصص لكل نفسٍ من خلال دينونة الله مكانًا يليق بجدارتها واستحقاقها، إن شاء الله(466).
* نتحدث عن درجات كثيرة ومقاييس متنوعة في كل من الملكوت وجهنم... فإن الله كقاضٍ عادلٍ يعطي كل واحد حسب مقدار إيمانه(467).
* في النور وفي المجد توجد درجات. وفي جهنم نفسها وفي العقاب يظهر أنه يوجد سحرة ولصوص، كما يوجد آخرون ممن ارتكبوا خطايا أقل(468).
القديس مقاريوس الكبير
* إذ تحصرني الضيقات أشعر بمرارة وضيق.
أكره حياتي، مشتهيًا الموت.
يملأ القلق أعماقي، ويهتز كل كياني الداخلي.
اصرخ مع أيوب: قد كَرَهت نفسي حياتي.
حقًا في ضعفي كثيرا ما اشتهيت الموت.
كثيرا ما تعجبت لماذا خلقتني.
لكن إذ أرفع عيني إليك، في وسط تجاربي لن أنسى إني صنع يديك.
في وسط تأديباتي لن أتجاهل رعايتك الدائمة لي.
أنت حب، كلك حكمة وكلك أبوة وحب!
أتطلع إليك فتحملني وسط تأديباتي إلى أحضانك.
اذكر أبوتك، فأنسى كل متاعبي.
أدرك بالحق خطاياي الخفية، عوض التفكير في الضيق تضيق نفسي بآثامي.
عوض اشتهاء الموت، أطلب نعمتك الغافرة للخطايا.
عوض التذمر أستذنب نفسي.
أعترف بخطاياي الآن، حتى تسترني في يوم الدين.
أنفضح أمام نفسي، فأستتر ببرِّك.
تتحول الضيقة إلى طمأنينة،
حيث أختفي فيك، وأتحصن بك، يا ملجأ حياتي.
عوض ثقل الضيقات التي تحطم النفس،
أتمتع بثقل مجدٍ أبديٍ يرفع نفسي إلى السماويات.
أنسى كل ألمٍ، بل وأشتهيه،
فهو طريق الشركة معك في الصلب، كما في مجد القيامة.
* في ضيقتي ووسط آلامي أدرك إني خاطي.
لكنني محتاج إلى روحك القدوس ينير بصيرتي،
أعرف خطيتي واكتشفها، فأعترف لك بها.
أبغضها، وأصرخ إليك لتسندني نعمتك، فأهرب منها.
من يفضح نفسي أمامي غير نورك يا رب.
لتشرق عليّ، فأدرك ضعفاتي، وأترجى بتهليلٍ غنى حبك الغافر لكل خطاياي!
هب لي أن أحاكم نفسي هنا، فلا تحكم عليّ يوم مجيئك!
* في ضعفي ابتلعت الآلام نفسي،
حسبتك قد تركت الأشرار يهلكونني.
لكنني إذ أرفع عيني إليك، أدرك أنك لم تسمح لي بضيقٍ فوق احتمالي.
بحبك تضع حدودًا للضيقة فلا تتعداها.
وبنعمتك تهبني عطية الاحتمال بفرحٍ،
وتسكب عليّ ثمر الروح، الصبر، طريقًا للعبور إلى الأمجاد.
حقًا إنك لا تترك عصا الأشرار تستقر على الصديقين.
إنما خلالها تزكيهم، وتعبر بهم إلى الأبدية.
* إلهي، أنت عارف أعماقي،
أنت خالق الزمن، وأنت فوق الزمن.
لستَ محتاجًا أن تفحصني بالتجارب.
ففي ضعفي أخشى ضغطات العدو عليّ.
لئلا ينحرف بي إلى الشر!
إني ألجأ إليك كي تحفظني منه!
* إلهي اعترف لك إني خاطي.
بنعمتك أصرخ مع الرسول بطرس:
أنت تعلم يا رب إني أحبك.
لست أريد أن أقاومك، ولا أن أعصاك.
لكن هذا لن يبررني، فإني ضعيف.
أسندني بنعمتك، فأحمل بٌرك.
* حقًا إني أئن من جسدي،
لكنه هو من صُنع يديك الصالحتين.
لتبدد الفساد الذي تسلل إليه،
ولتقدس الجسد الذي خلقته، وتود أن تمجده!
وأنت هو الكلمة الأزلي صرت جسدًا،
لكي بتجسدك تقدس كل كياني.
فلا أستخف بالجسد، إذ هو شريك للنفس في المجد!
لك المجد يا من تكرم أجسادنا فيك!
كرَّمت جسدي، لأنه من صنع يديك!
وإذ أهنته أنا بخطاياي، تجسدت أنت لتمجد ما خلقته!
* إني صنع يديك، أنت تعتز بي!
إني واثق من عنايتك الفائقة، مهما ثارت الأمواج ضدي.
لكن يبقى فكرى في ضعفه، عاجزًا عن إدراك حكمتك!
أكشف لي عن سرّ محبتك، فلا أتعثر!
عرفني أحكامك، فألهج في حبك!
* عجيب أنت في رعايتك لي،
فإني إن أخطأت تراقبني، كي لا انحرف بالأكثر،
تقودني بعصا التأديب، لكي لا أسقط في جب الذئاب.
تجتنذبني بالحب المملوء حزمًا، والحزم المملوء ترفقًا!
* سرعان ما أتطلع إلى صليبك،
وأعبر معك إلى قبرك يا مخلصي.
فيصير الموت لي لا عن يأس وقنوط،
بل شركة حب لمن مات من أجلي،
بل أشتهي أن أموت معك حبًا فيك وفي محبوبيك.
لا أتطلع بعد إلى سني حياتي،
لكني أترقب خلاص العالم كله!
لا أخشى الأحداث، لكني أتهلل بخلاص الكثيرين!
عجيب أنت في حبك،
يا من تحول حتى الموت إلى عطية مفرحة!
* لن انشغل بعد بضيقاتي.
لن اصرخ بعد في غباوة، قائلًا:
ارفع يدك عني، فقد غصت في وسط مرارتي
لن اصرخ إليك كجاهل،
حاسبًا أن الموت راحة لي من أتعابي.
* لتشرق يا شمس البرّ عليّ وعلى البشرية،
فتبدد ظلمة أفكارنا،
وتخرجنا من قبورنا الداخلية،
وتحول عظامنا الجافة إلى جيش عظيم جدًا جدًا.
لأنعم مع حزقيال برؤيا قيامة البشرية بك (حز 38)
فلا تكون في حياتي ظلمة،
ولن أعاني بعد من ليل!
بل في نورك أدرك أسرار خلاصك،
وانعم ببهجة معرفة تدبيرك العجيب.
وأصير دوما ابن النور، وابن النهار!
_____
(430) في مديح بولس: عظة 2.
(431) يسوع والمفلوجان: للقديس يوحنا الذهبي الفم، ترجمة القمص تادرس يعقوب ملطي، 1966، ص 35 إلخ.
(432) The Prayer of Job and David, Book 1, 6:17.
(433) On Ps. 125.
(434) راجع تعليق البابا غريغوريوس (الكبير) على هذه العبارة، وأيضًا القديس كيرلس الأورشليمي (عظة 12: 26).
(435) In 2 Cor. hom 10:3.
(436) Concerning Statues, homily 11.
(437) The Prayer of and David, 6:17, 18.
(438) The Holy Spirit, 3: 5:33.
(439) Commentary on Ps. 139.
(440) The Prayer of Job and David, Book 4: 6: 22.
(441) Death is Good, 3: 12.
(442) Catechetical Lectures, 12:26.
(443) Catechetical Lectures, 9:15.
(444) The Prayer of Job and David, Book 1, 6:18.
(445) The Divine Providence, 5.
(446) عظة للموعوظين عن قانون الإيمان.
(447)Catech. Lect. 10:5.
(448)Catech. Lect. 10:13.
(449) The Prayer of Job and David, Book 1, 6:19.
(450) The Prayer of Job and David, 6:19-20.
(451) Alfred Edersheim: Sketches of Jewish Social Life, 1994, ch. 10.
(452) Ber 28b.
(453) للدراسة بتوسع راجع كتابنا: رجاؤنا في الحياة ما بعد الموت؛ الكتاب الثاني: الأخرويات في الكتاب المقدس وفي الفكر اليهودي؛ 1998.
(454) Demonstrations, 22:6.
(455) Treatise 7 On the Mortality, 15.
(456) Treatise 7 On the Mortality, 4.
(457) In Rom. hom. 31:4.
(458) In Matt. hom. 43 (44):4; cf. In Hebr. hom. 31:4.
(459) In Phil. hom 13:4; In Matt. hom. 23(24):8; In Eph. hom. 3:3.
(460) In Matt. hom. 75 (76):5.
(461) In 1 Cor. 23:4; In 2 Cor. 10:4; In 2 Thes. 3:1.
(462) In 1 Thes. hom.; cf. 2 Cor. 10:4; In 2 Thes. 3:1.
(463) In 1 Tim hom. 15:3.
(464) In Rom. hom. 31:4.
(465) In Ps 7:12.
(466) De Principiis 2:9:8 (Cf. Butterworth).
(467) عظة3:40.
(468) عظة4:40.
← تفاسير أصحاحات أيوب: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير أيوب 11 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير أيوب 9 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/rcwvhf5