محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
أيوب: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34
الآن وقد قدم كل من أصدقاء أيوب الثلاثة حججهم ضده، كل في دوره، يجيب أيوب على الخطاب الثاني لصوفر. وفي رده لم يعد يحمل ذات الانفعال القديم، إنما عالج في موضوعية حال الأشرار في هذا العالم: هل هم دائمًا في حالة بؤسٍ وشقاء؟ وهل التجارب علامة قاطعة على شر من يسقط تحتها؟
توسل أيوب إلى أصحابه أن يصغوا إلى كلامه ولا يقاطعوه، وأن يعتبروا هذا الإصغاء تعزيتهم له. بالمقابل سوف يصغي إليهم ولن يقاطعهم عندما يأتي دورهم في الكلام.
بعد ذلك يعلن لهم أن شكواه ليست مقدمة إلى إنسانٍ، وإنما إلى الله ليكون هو القاضي بينه وبين أصحابه.
في صراحةٍ يشعر أيوب بصعوبة عندما يبحث عن سرّ نجاح الأشرار. إنهم يبيتون في رخاء ونعيم، بيوتهم آمنة، ومواشيهم وقطعانهم تزداد، وأولادهم يرون أيامًا سعيدةً، ويموتون بهدوءٍ دون أن يتألموا من مرضٍ مثل أيوب. يرفضون الله، ومع ذلك ينجحون، بل ويأتي نجاحهم من الله. مع هذا يرفض أيوب مبادئ الأشرار ويقول: "لتُبعد عني مشورة الأشرار" [16].
أخيرًا يقوم أيوب بهدم أساس انتقاداتهم العنيفة له، إذ يبين إن هلاك الأشرار محفوظ للعالم الآخر، وأنهم كثيرًا ما ينجون حتى نهاية هذا العالم [27-34].
1 -5. |
||
6 -13. |
||
14 -16. |
||
17 -21. |
||
22 -26. |
||
27 -34. |
||
من وحي أيوب 21 |
1 فَأَجَابَ أَيُّوبُ وَقَالَ: 2 «اِسْمَعُوا قَوْلِي سَمْعًا، وَلْيَكُنْ هذَا تَعْزِيَتَكُمْ. 3 اِحْتَمِلُونِي وَأَنَا أَتَكَلَّمُ، وَبَعْدَ كَلاَمِي اسْتَهْزِئُوا. 4 أَمَّا أَنَا فَهَلْ شَكْوَايَ مِنْ إِنْسَانٍ، وَإِنْ كَانَتْ، فَلِمَاذَا لاَ تَضِيقُ رُوحِي؟ 5 تَفَرَّسُوا فِيَّ وَتَعَجَّبُوا وَضَعُوا الْيَدَ عَلَى الْفَمِ.
فَقَالَ أَيُّوبُ: [1]
اِسْمَعُوا قَوْلِي سَمْعًا،
وَلْيَكُنْ هَذَا تَعْزِيَتَكُمْ [2].
يتوسل أيوب إلى أصحابه أن يسمعوا له بروح المحبة، وأن يضعوا في ذهنهم أن يدركوا مقاصده عوض الحكم عليه بتسرعٍ. يتكلم الآن بلغة الصداقة والهدوء، معتبرًا أن تعزيتهم له في وسط آلامه هي إنصاتهم له بروح طيبة. ولعله يقصد أيضًا أنهم إذ يستمعون له هكذا يستريح هو فيتعزون، وبتعزيته يتعزون هم ويستريحون. وكأن إنصاتهم هذا له منفعة مزدوجة له ولهم.
حقًا الإنصات إلى كلمات المتألمين فيه نفع للطرفين. فمن جانب يشعر المتألم بحنو إخوته ومشاركتهم له، ولو بمجرد الإنصات. ومن جانب آخر إذ يستريح المتألم يتعزَّى إخوته لراحته ولو إلى درجات معينة.
ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الكنيسة المتألمة -في شخص أيوب- تدعو الهراطقة وأهل العالم أن يسمعوا لأقوالها، فإنها قادرة بمسيحها المصلوب أن تقدم لهم خلال الآلام بشكرٍ تعزيات إلهية فائقة. يوجه القديس بولس أنظار المتألمين إلى صليب رب المجد يسوع، لا ليمتلئوا بالتعزية فحسب، وإنما يصيرون مصدر تعزية للآخرين. يقول: "الذي يعزينا في كل ضيقتنا، حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزَّى بها من الله" (2 كو 1: 4)، وأيضًا: "كما أنتم شركاء في الآلام، هكذا في التعزية أيضًا" (2 كو 1: 7).
تتمثل الكنيسة المتألمة بمسيحنا المصلوب، إذ قد تألم مجرَبًا يقدر أن يعين المُجرَّبين (عب 2: 18). ونحن إذ نثبت فيه نتمتع بشركة آلامه، فنُصلب معه، لنصير به مصدر تعزيات لا تتوقف.
* يفرح بولس في آلامه، إذ يرى الثمار العجيبة التي تجلبها الآلام في الشعب مثل مسيحيي كورنثوس(966).
اِحْتَمِلُونِي وَأَنَا أَتَكَلَّمُ،
وَبَعْدَ كَلاَمِي اسْتَهْزِئُوا! [3]
سألهم ألا يقاطعوه في كلامه وأن يحتملوا حديثه، عندئذ إن أرادوا فليسخروا به كما يريدون. يقول هذا أملًا في أن إنصاتهم بنية صادقة يجعلهم يقبلون كلماته، ويقتنعون بحججه، فيغيرون لهجتهم.
لم يكن يشغل ذهن أيوب سخرية أصدقائه به، لكن ما يشغله أن يسمعوا له، ويحتملوا كلماته لأجل خلاصهم وبنيانهم وتعزيتهم. هكذا لا يشغل الكنيسة كرامتها الزمنية، ولا تبرير نفسها، وإنما ما يشغلها هو خلاص كل نفسٍ، حتى بالنسبة لمقاوميها ومضطهديها. فإن المحبة لا تطلب ما لنفسها، بل ما هو للغير.
* واضح أنه عندما ينصح أحد آخر وفي نفس الوقت يتألم أكثر من الذي يوبخه، يفعل هذا لا ليسبب حزنًا للغير، بل يقدم محبة عميقة له. بينما من ينتهر آخر بغير هذا الشعور فإنه في الواقع يطأ بقدميه على مشاعر أخيه(967).
أمبروسياستر* هنا (2 كو 1:4) يُظهر بولس أنه يتألم ليس بأقل من أولئك الذين أخطأوا، بل أكثر منهم. إنه يصعب عليه جدًا أن يحتمل آلام خطأ أهل كورنثوس الذي لحق به(968).
القديس يوحنا الذهبي الفمسمة الكنيسة كعريسها هي الحب الصادق العملي، حيث تشتهي إن أمكن أن يتمتع العالم كله بشركة المجد الأبدي.
لا تستطيع سخرية الناس أن تحطم المؤمن أو تؤذي الساخرين أنفسهم، ومع هذا فبروح التواضع يتكلم أيوب، سائلًا إياهم أن يحتملوه، لكي يكسبهم لله، فيرجعوا عن أذية أنفسهم.
لقد احتمل المرتل سخرية المتكبرين، هذه التي لم تستطع أن تهزّ أعماقه فيحيد عن شريعة الله، إذ يقول: "المتكبرون استهزأوا بي إلى الغاية، عن شريعتك لم أمل" (مز 119: 51). تصرخ الحكمة قائلة: "إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل؟ والمستهزئون يسرون بالاستهزاء؟ والحمقى يبغضون العلم؟" (أم 1: 22). فضمَّت الجهلاء مع المستهزئين والحمقى في فئة واحدة، إذ جميعهم يقتنون لأنفسهم الدمار. هذا ويؤكد الحكيم: "إن كنت حكيمًا فأنت حكيم لنفسك، وإن استهزأت فأنت وحدك تتحمل" (أم 9: 12).
والعجيب أنه في وسط ثورتهم عليه يتكلم بروح الوداعة والتواضع، متوسلًا إليهم أن يحتملوا كلماته، فمن جانبه سيقبل كل سخرية تُوجه إليه، لكن لأجل نفع الطرفين يسألهم التزام الهدوء.
*كأنه يقول: "احسبوني شريرًا. لكنني لم أنتفع شيئًا من هذه الملاحظات، وأنا أعلم أنكم تسخرون بي. على أي الأحوال، لا استسلم". يقول: "لماذا؟ هل يسخر بي إنسان؟" هذا معناه أنه لا يقدر إنسان أن ينتهرني، فإنني لست أصارع مع إنسانٍ!
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن توسل أيوب أمام أصحابه باحتمال كلماته إنما لأنه وهو يتكلم ينطق بما هو لنفعه كما لنفعهم لكنّهم إن أرادوا. إنه لا يتكلم من كرسي المعلم، لكن من وسط المزبلة، لعله يجد نفعًا له وهو يتكلم بروحٍ هادئة في جو من الهدوء!
*عندما ينطق الصالحون يلاحظون أمرين في حديثهم: أن يكون الحديث لنفعهم هم ولسامعيهم أو لنفعهم وحدهم إن لم يكن ممكنًا أن يكون لنفع السامعين. عندما تُسمع الأمور الصالحة التي ينطقون بها بهدفٍ صالحٍ، ينتفعون بها هم وسامعوهم، ولكن إن سخر بهم سامعوهم ينتفعون هم بها لأنهم تجنبوا خطية الصمت (على الخطأ)... وهكذا إن كان أصدقاؤه يرغبون في التعليم فليسمعوا، وإن كانوا مستعدين للسخرية فليحتملوا ما يُقال، فإن التعليم المقدم في تواضعٍ لذهنٍ متكبرٍ له وزنه الخطير والشاق.
* يقول: "أسالكم"، مظهرًا كيف يتكلم بتواضٍع، إذ يتوسل إلى أشخاصٍ يبتلعهم الكبرياء ضده، وذلك لكي يردهم إلى التفكير في تعليم الحق المُنقذ. القديسون الذين في حظيرة الكنيسة الجامعة مستعدون ليس فقط لتعليم ما هو حق، بل وأن يحتملوا ما يُمارس ضدهم ولا يخشون السخرية بهم.
* التواضع يجذب نعمة الله إلى النفس... وهذه تعتقها من هذين الألمين الخطيرين (الغضب على الغير أو غضب الغير علينا)، لأنه أي شيء أخطر من أن تغضب من أخيك أو تُغضبه؟! ولكن ماذا أقول: هل التواضع يحرر النفس من هذين الألمين فقط؟ لا بل ويحررها من كل ألمٍ (شهوة) وكل تجربةٍ.
عندما رأى القديس أنطونيوس شِبَاك الشيطان منصوبة، تنهد وسأل الله قائلًا: "من يقدر أن يهرب منها؟" فأجابه الله: "المتواضع يهرب منها... بل ولا تقدر أن تقترب إليه".
أرأيت قوة هذه الفضيلة؟! حقًا إنه لا يوجد أعظم من التواضع، لأنه لا يوجد شيء يقدر أن يغلبه. فإن حلّت بعض الأحزان بإنسانٍ متواضعٍ، للحال يلوم نفسه على أنه يستحقها، ولا يلوم غيره أو يوبخه. وهكذا فإنه يحتمل كل ما قد يحدق به بهدوءٍ كاملٍ، دون أن يضطرب أو يحزن. بهذا لا يغضب من أحدٍ ولا يُغضب أحدًا.
الأب
دوروثيؤسإن كان أيوب لم يشغله أن يسخروا منه، قائلًا: "وبعد كلامي استهزئوا"، فإن الرسول بولس رأى سيده قد قبل السخرية والاستهزاء بفرحٍ من أجل خلاص العالم (لو 23: 35؛ عب 13: 13). كما يقول عن موسى النبي: "بالإيمان موسى لما كبر أبَى أن يُدعى ابن ابنة فرعون... حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر" (عب 11: 24، 26). ويتحدث عن الرسل: "كأننا محكوم علينا بالموت، لأننا صرنا منظرًا للعالم، للملائكة والناس" (1 كو 4: 9). "يُفترى علينا فنعظ، صرنا كأقذار العالم ووسخ كل شيءٍ إلى الآن" (1 كو 4: 13).
* يأمرنا المسيح أن نحتمل الإهانات بوداعة، لكي ننمو في الفضيلة، ونجعل المقاومين في خزي (مت 5: 10-12). هذا الأمر يتحقق لا بتوبيخنا لهم، بل بالصمت(969).
* يقول بولس إن النقطة الرئيسية ليس أنه هو وزملاءه الرسل يتألمون، فإن هذا أمر عام بالنسبة للكل. لكن ما هو مزيد في الرسل أنهم يتألمون بلا يأسٍ ولا غضبٍ، بل على العكس هم مملوءون فرحًا، بهذا يؤكدون أن الشرور التي تحل بهم تتحول للخير(970).
* الذين يحبون المسيح ليسوا جهالًا كما يظنهم العالم (1 كو 4: 10)(971).
الأب
أمبروسباسترأَمَّا أَنَا فَهَلْ شَكْوَايَ مِنْ إِنْسَانٍ.
وَإِنْ كَانَتْ، فَلِمَاذَا لاَ تَضِيقُ رُوحِي؟ [4]
يؤكد لهم أنه لا يقدم شكواه إلى إنسانٍ، لأن هذا غير مُجْدٍ. إنما يقدم شكواه لله، وإليه يستأنف الحكم. هو القاضي والديان، فاحص القلوب والكُلى، أمامه يقف كل بشرٍ على قدم المساواة، ينصت إلى الجميع، ويهتم بالكل.
يؤكد لهم لو أن شكواه مقدمة لإنسانٍ لانزعجت روحه في داخله، لأن الإنسان قد لا يبالي بأخيه، ولا يدرك ما في قلبه ونيته، فيصدر حكمًا غير عادلٍ. أما الله فطويل الأناة يسمع للإنسان، ويعامله بحنوٍ. فإلى الله يرفع المؤمن شكواه لا للنقمة من مقاوميه، وإنما لكي يرضي الله لا الناس. يقول داود النبي: "لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب، صخرتي ووليي" (مز 19: 14). ويقول الرسول بولس: أفأستعطف الآن الناس أم الله، أم أطلب أن أرضي الناس، فلو كنت بعد ارضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح" (غل 1: 10).
* "أفأستعطف الآن الناس أم الله...؟ فلو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح" (غل 1: 10)... ليتنا لا نظن أن الرسول يعلمنا خلال الاقتداء به الاستخفاف بأحكام الآخرين... لكن إن حدث أنه يمكننا إرضاء الآخرين والله، فلنرضي الآخرين... لكن بقوله: "الآن" أدرجت بصفة خاصة هنا ليُظهر أن الناس يرضون أو لا يرضون حسب الظروف (وليس حسب الحق)(972).
القديس جيروم* عندما يرضي أحد الآخرين من أجل الحق، فإنه الذي يُرضَى هو الحق لا الذي أعلنه(973).
القديس أغسطينوس
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن في عتابه لأصدقائه بأن الحوار معهم أحزن قلبه، فضاقت روحه، اعتراف ضمني بضعفه البشري. فمن يركز عينيه على الله لا يمكن للحزن أن يتسلل إلى قلبه، ولا الضيق إلى روحه. فالله مصدر الفرح يرفع القلب إلى ما فوق الأحزان أيَّا كان مصدرها، ويهب الروح اتساعًا.
*من يطلب أن يسر الله لا يكون لاستياء الإنسان منه أي أساس لحزنه. فإن كان في إرضاء الإنسان لا يرضي الله، أو يظن أنه لا يرضي كلًا من الله والإنسان معًا، فإن الحزن لا يحل عليه، لأنه قد أكد أنه غريب عن سمو الحكمة. الآن فإن الطوباوي أيوب يعترف أنه لم يرضِ الله في وسط ضرباته، ولهذا عاد بعقله إلى الحزن.
تَفَرَّسُوا فِيَّ وَتَعَجَّبُوا،
وَضَعُوا الْيَدَ عَلَى الْفَمِ [5].
كلما كان أيوب يفكر في قضيته يقف في ذهولٍ ورعدةٍ. كلما تذكر الأحداث المتوالية بسرعة غير طبيعية، والضربات التي حلَّت به من كل جانب تنتابه رعدة. إنه حائر، غير قادر على تفسير ما حلّ به.
*تأملوا فيما أفعله، وتعجبوا مما أعانيه من الضربات. بعد ذلك يقول: "وضعوا أصبعكم على فمكم". وكأنه يقول بصراحة: إذ تعلمون الأمور الصالحة التي أمارسها، وتنظرون الآلام التي أسقط تحتها، تحفَّظوا من أن تخطئوا بالكلمات، بسبب ضرباتي، لكن لتخشوا من جراحاتكم... يليق الحذر بالأصابع. لذلك قيل بالمرتل: "مبارك الرب إلهي الذي يعلم يديّ القتال، وأصابعي الحرب" (مز 144: 1). يشير بالأيدي إلى العمل وبالأصابع إلى التعقل.
تطالب الكنيسة أهل العالم أن يتفرَّسوا فيها، فلا يحكموا عليها بتسرُّعٍ، بل يلزمهم أن يفكروا في روية وتعقُّلٍ. يرون وراء ضيق الكنيسة الشديد والاضطهادات المنصبًّة عليها سلام الله الفائق الذي يملأ كيانها، وخطة الله العجيبة من نحوها، وعمل الله خلال آلامها لتحقيق رسالتها وشهادتها لإنجيله المفرح. تطالب الكنيسة الذين في الخارج أن يضعوا أياديهم على أفواههم في تعجبٍ أمام الحقيقة المُدهشة: عمل الله الفائق في كنيسته المتألمة.
* يقول بولس: إذ أُسر بهذه الجراحات "أحمل في جسدي سمات المسيح" [راجع غل 6: 17]. لقد خضع بطيب خاطرٍ لضعفاته في كل هذه المتاعب، حيث تكمل قوة المسيح في الفضيلة (راجع 2 كو 4: 10؛ 12: 9)(974).
* جميلة هي قيود بولس!(975)
* لقد تألم من أجل أعدائه. هذه هي التقدمة ذات الرائحة الزكية، الذبيحة المقبولة. وأنتم إن تألمتم من أجل أعدائكم كتقدمة زكية تصيرون ذبيحة مقبولة، حتى إن متُّم. هذا ما يعنيه بقوله تمثلوا بالله (أف 5: 1)(976).
أفاض الآباء في الحديث عن عمل احتمال الآلام والإهانات والسخرية بفرحٍ، ليس فقط في حياة المتألم، وإنما أيضًا في حياة الساخرين أنفسهم. وقد طبَّق القديس يوحنا الذهبي الفم ذلك على علاقة الرجل بزوجته متى كانت تسبب له آلامًا، إذ يقول: [حتى إن التزم الأمر أن تقدم حياتك لأجلها فلا ترفض ذلك. وإن التزم الأمر أن تحل بك متاعب لا حصر لها من أجلها، وتعاني كل أنواع الآلام والمتاعب، لا ترفض. فإنك وإن احتملت كل هذا لاتزال لم تفعل ما صنعه المسيح لأجل الكنيسة... وإن رأيتها تتطلع إليك باستخفافٍ، دائمة الشكوى مع احتقارها لك فإنك تستطيع أن تكسبها بحبك العظيم وحنوَّك عليها(977).]
6 «عِنْدَمَا أَتَذَكَّرُ أَرْتَاعُ، وَأَخَذَتْ بَشَرِي رَعْدَةٌ. 7 لِمَاذَا تَحْيَا الأَشْرَارُ وَيَشِيخُونَ، نَعَمْ وَيَتَجَبَّرُونَ قُوَّةً؟ 8 نَسْلُهُمْ قَائِمٌ أَمَامَهُمْ مَعَهُمْ، وَذُرِّيَّتُهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ. 9 بُيُوتُهُمْ آمِنَةٌ مِنَ الْخَوْفِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ عَصَا اللهِ. 10 ثَوْرُهُمْ يُلْقِحُ وَلاَ يُخْطِئُ. بَقَرَتُهُمْ تُنْتِجُ وَلاَ تُسْقِطُ. 11 يُسْرِحُونَ مِثْلَ الْغَنَمِ رُضَّعَهُمْ، وَأَطْفَالُهُمْ تَرْقُصُ. 12 يَحْمِلُونَ الدُّفَّ وَالْعُودَ، وَيُطْرِبُونَ بِصَوْتِ الْمِزْمَارِ. 13 يَقْضُونَ أَيَّامَهُمْ بِالْخَيْرِ. فِي لَحْظَةٍ يَهْبِطُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ.
عندما أتذكر ارتاع،
وأخذ جسدي رعدة [6].
لِمَاذَا تَحْيَا الأَشْرَارُ وَيَشِيخُون؟
نَعَمْ وَيَتَجَبَّرُونَ قُوَّةً [7].
أفاض الأصدقاء الثلاثة في الحديث عما يحل بالأشرار من نكبات وبؤس، أما أيوب فيدهش وينتاب جسده رعدة لما يراه أحيانًا من تمتع الأشرار بالخيرات حتى بلوغهم الشيخوخة، ولما ينالونه من قوة وسلطة وهم في تجبرٍ وقسوةٍ على الغير.
لا ينكر أيوب حدوث هذا مع الأشرار أحيانًا. إنهم يحيون وهم سالمون (1 صم 25: 6)، بل وتمتد حياتهم حتى الشيخوخة، ويصير لهم أبناء وأحفاد، ويجمعون ثروات ضخمة، فنسمع في سفر إشعياء "الخاطئ يُلعن ابن مئة سنة" (إش 65: 20). ليس فقط قد تمتد أعمارهم إلى الشيخوخة، وإنما "يتجبرون قوة"، أي يرتفعون إلى مناصب السلطة والرئاسة.
يسيء بعض الأشرار فهم طول أناة الله عليهم، ويحذرنا الكتاب المقدس من ذلك: "لا تقل قد أخطأت فأي سوء أصابني؟ فإن الرب طويل الأناة" (سيراخ 5: 4). "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة" (رو 2: 4).
* إن كنا لا نسقط تحت تأديب ولازلنا مستمرين في سلوكنا ذاته، فلنستخدم كلمة الرسول التي تسحرنا: "إن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة، ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب" (رو 2: 4-5)(978).
* "غير عالمٍ أنَّ لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة، ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب" (رو 2: 4-5). إن قلبك قد تقسَّى مثل قلب فرعون، لأن عقوبتك قد تأجلت، ولم تُضرب في الحال! أُرسلت الضربات العشرة على فرعون ليس كما من الله الغضوب، وإنما كما من أبٍ يحذر، وقد طال يوم الحنو عليه حتى رجع عن توبته (بعد كل ضربة). لكن حلّ به القصاص عندما اقتفى أثر الشعب في البرية، وفي حماسه دخل أيضًا البحر نفسه وراءهم. فكان هذا الطريق الذي به يتعلم الدرس أنه كان يلزم أن يهاب الله الذي تطيعه حتى عناصر الطبيعة(979).
يستخدم القديس جيروم هذه العبارة (رو 2: 4) في الرد على أتباع بيلاجيوس ليؤكد تقديس الله واهتمامه بحرية الإرادة الإنسانية، فمع سبق معرفة الله عن الشرير الذي يستهين بطول أناته ولطفه، لكنّه يقدم له الحنو العظيم والرحمة في طول أناة يعطيه الفرصة للتوبة، فإذ يستهين الشرير بذلك لا يكون السبب هو معرفة الله السابقة لاستهانته، وإنما إصرار الشرير على شره(980).
يطالبنا القديس أمبروسيوس ألاَّ نحكم على البشر حسب الخيرات المقدمة لهم من قبل مراحم الله الذي بالحق يعتني بالكل؛ لأن هذا لا يعني أن الله لا يبالي بتصرفاتهم، أو أنه يجهل ما يفعلونه سرًا، أو لا يدرك ما في ضمائرهم، لكن ما يؤكد أنه مع فيض الخيرات التي توهب للأشرار إلاَّ أنهم بائسون لا يعرفون السعادة(981).
نَسْلُهُمْ قَائِمٌ أَمَامَهُمْ مَعَهُمْ،
وَذُرِّيَّتُهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [8].
يشير أيوب إلى بعض الخطاة الذين يتمتعون برؤية نسلهم المتكاثر.
كثيرًا ما ينشغل المؤمنون وأيضًا حتى غير المؤمنين بالتساؤل: لماذا يسمح الله للأشرار بالصحة وطول العمر والغنى، وأيضًا التمتع بالسلطة والمراكز القيادية. هذا مع تمتعهم برؤية نسلهم يشاركونهم كل هذه البركات الزمنية. فإن الإنسان بسبب قصر حياته يظن أن عدالة الله يلزم أن تتحقق في هذا العالم، ويصعب عليه أن ينتظر يوم الرب العظيم ليرى تحقيق العدالة الإلهية. هذا وأنه يصعب للفكر البشري أن يتقبل طول أناة الله الفائقة، الذي ينتظر رجوع الأشرار عن شرورهم والعودة إلى الأحضان الإلهية.
*يقدم أيوب إعلانه هذا لأصدقائه: "إن كنت أعاني من هذا الطريق بسبب خطاياي، فلماذا يحيا الأشرار؟ إنهم يشيخون في غنى أيضًا، نسلهم حسب مسرتهم، ذريتهم أمام أعينهم، بيوتهم في رخاءٍ، ليس فيهم خوف، لا تسقط عليهم عصا الله"(982).
بُيُوتُهُمْ آمِنَةٌ مِنَ الْخَوْفِ،
وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ عَصَا اللهِ [9].
إن كان صوفر قد أشار إلى مخاوف الخطاة المستمرة وانزعاجهم الدائم، إلاَّ أن أيوب يشير إلى بعض الخطاة الذين يحظون ببيوتٍ آمنة من المخاطر والمخاوف، والذين لا يمد الله عصاه عليهم.
إذ تنشغل قلوب الأشرار بالبيوت المصنوعة من الطين والحجارة، وما تضمه من أثاثات، وما يُحفظ فيها من كنوزٍ، يعطيهم الرب سؤل قلوبهم، فيهبهم السلام الزمني المؤقت، ولا يقترب أحد إلى ممتلكاتهم وكنوزهم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). أما الأبرار فإن ما يشغلهم البيت السماوي والمساكن العلوية، فيعطيهم الرب أيضًا سؤل قلوبهم. الأولون ينالون بفيضٍ من البركات الزمنية والأمان الوقتي، بينما الآخرون ينالون ميراثًا أبديًا لا يفسد ولا يفنى، ومجدًا سماويًا خالدًا. إنهم يتهللون، إذ يسمعون الصوت الإلهي: "أنا أمضي لأُعد لكم مكانًا، وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا معي" (يو 14: 2-3). لهذا يقول المرتل: "يعطيك (الرب) سؤل قلبك" (مز 37: 4). "شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه سلاه" (مز 21: 2).
ثَوْرُهُمْ يُلْقِحُ وَلاَ يُخْطِئُ،
بَقَرَتُهُمْ تُنْتِجُ وَلاَ تُسْقِطُ [10].
بعض الخطاة أغنياء ومقتنياتهم في تزايد، حتى ثيرانهم تنجح في تلقيح البقر لكي تحبل وتلد بكثرة، وحيواناتهم تتكاثر ولا تموت سريعًا بأمراضٍ مفاجئةٍ.
شهوة قلب الشرير أن تلد حيواناته الكثير، ولا يكون بينها سقط واحد. أما أولاد الله فشهوة قلوبهم أن يتمتعوا بأبناء كثيرين في الرب، ولا يكون بينهم أحد هالكًا. إنهم يترقبون يوم الرب ليترنموا: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب" (إش 8: 18).
أولاد الله ليس بينهم عقيم، بل الكل متائم، أي يلد كثيرين. ففي خطاب الرسول بطرس يوم العنصرة اِنضم إلى الكنيسة حوالي ثلاثة آلاف قبلوا الإيمان، وقدموا توبة، وتمتعوا بالميلاد الجديد بالمعمودية. ففي يوم واحد صار لبطرس الرسول آلاف من الأبناء ولدهم بإنجيل المسيح. وماذا نقول عن الرسول بولس الذي يكاد كل يوم أن يضم كثيرين إلى حظيرة الإيمان خلال كرازته بالقلب الناري الملتهب. إنه لا يكف عن أن يلد حتى وسط القيود، فيقول عن العبد الهارب اللص أنسيموس: "ولدته في قيودي" (فل 10).
إن كانت الحيوانات في الكتاب المقدس غالبًا ما تشير إلى الجسد، فإن ما يشغل أهل العالم هو الأمور الجسدية لا الروحية.
ينشغل الشرير بولادة الحيوانات، وينشغل المؤمن الحقيقي بميلاد البشر الروحي ليصيروا أبناء الله القدوس، حتى وإن كانت التكلفة هي القيود والسجن أو الموت.
* كان أنسيموس يستحق كرامة عظيمة، إذ وُلد في صراعات بولس نفسها، في محنة من أجل المسيح(983).
* لاحظوا التهاب قلب بولس. لقد كرز بالإنجيل وهو مقيد وتحت الجلد. آه، يا لطوباوية القيود، كيف تعمل بجهدٍ عظيمٍ في تلك الليلة، وكيف ولدت أبناء! حقًا يقول عنهم: "قد ولدْتُهم في قيودي".
لاحظوا كيف يتمجد بولس! قد صار له أبناء خلال هذا الطريق يُحسبون في شهرة عظيمة.
يا لمجد هذه القيود التي لا يُعبر عنها، إذ تهب بهاءً ليس فقط للذين ولدهم، بل وللذين وُلدوا بواسطته في هذه الظروف(984).
القديس يوحنا الذهبي الفميُسْرِحُونَ مِثْلَ الْغَنَمِ رُضَّعَهُمْ،
وَأَطْفَالُهُمْ تَرْقُصُ [11].
يَحْمِلُونَ الدُّفَّ وَالْعُودَ،
وَيُطْرِبُونَ بِصَوْتِ الْمِزْمَارِ [12].
يحيون هم وأبناؤهم، يزداد عدد الأطفال الصغار حتى يسيروا بين جيرانهم كالغنم بلا عدد، ويقضي الأطفال أوقاتهم في رقصٍ ومرحٍ. يعزف الكبار على آلات الموسيقى ويرقص الصغار. لا ينشغل الآباء بسلوك أولادهم في طريق الرب كما أوصى إبراهيم أبناءه (تك 18: 19)، ولا يحثونهم على العبادة لله، بل كل ما يشغلهم هو اللهو والطرب والتمتع بالملذات الزمنية.
كثيرًا ما حذر القديس يوحنا الذهبي الفم الوالدين من الإهمال في تربية أبنائهما، مظهرًا مدى خطورة هذه الخطية التي يحسبها أحد الخطايا الخطيرة للغاية، فلم يتردد عن أن يدعوها قتلًا للأطفال.
* لا يأتي فساد الأطفال من فراغ، بل من الجنون الذي يلحق بالآباء نحو الاهتمامات الأرضية. الاهتمام بالأرضيات وحدها، واعتبار كل شيء غيرها ليس بذي قيمة، يدفعهم لاإراديًا نحو إهمال نفوس أطفالهم. أقول، إن هؤلاء الآباء (ولا يظن أحد أن هذه الكلمات تتولد فيَّ عن غضب)، أشر من قتلة الأبناء. الأول يفصل الجسم من النفس، أما الآخر فيطرح كليهما معًا في نيران جهنم. الموت أمر محتم حسب النظام الطبيعي، أما المصير الثاني فيُمكن للآباء تجنبه لو لم يؤدِ إهمال الآباء إليه. الموت الجسماني يمكن أن ينتهي في لحظة بالقيامة حينما تحل، لكن لا توجد مكافأة تنتظر النفس المفقودة. إنها لا تنعم بالقيامة، بل تعاني آلامًا أبدية. هذا يعني أنه ليس بغير عدلٍ ندعو هؤلاء الآباء أشر من قتلة الأبناء. إنه ليس بالأمر القاسي أن تسن سيفًا وتمسك به باليد اليمنى لتغرسه في قلب طفلٍ مثلما أن تحطم النفس وتذلها، فإنه ليس من شيءٍ يعادل النفس(985).
القديس يوحنا الذهبي الفميظن الأشرار أنهم ينعمون بالحياة من أجل كثرة أبنائهم، دون مبالاة بسلوكهم وحياتهم الداخلية وتمتعهم بالمجد الأبدي. أما الأبرار فيشعرون أنهم مع أسرهم مُحاطون بالقديسين كسحابةٍ خفيفة سماوية، لهم شركة مع الآباء والأنبياء والرسل والشهداء وكل المؤمنين سواء الذين رحلوا أو المعاصرين لهم، بل ولهم شركة مع الطغمات السمائية. حياتهم وليمةٍ سماويةٍ لا تنقطع، وعيدٍ مفرحٍ على مستوى فائق! تتحول قلوبهم وأفكارهم إلى أوتارٍ لقيثارات روحية، يعزف عليها روح الله القدوس، فتتهلل السماء، ويفرح السمائيون بأناشيد الفرح الروحي.
يَقْضُونَ أَيَّامَهُمْ بِالْخَيْرِ.
فِي لَحْظَةٍ يَهْبِطُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ [13].
مع هذا كله فهم ناجحون، يقضون أيامهم في رغد الحياة؛ ليس للفقر موضع عندهم.
أما عن ثمرة شرورهم ففي لحظة يهبطون إلى الهاوية، دون إنذار. لعله يقصد أنهم أحيانًا في موتهم لا يعانون من أمراض مستعصية وآلام، وإنما في لحظة يموتون ويهبطون إلى القبر. وكما يقول المرتل: "بعد قليل لا يكون الشرير، تطلع في مكانه فلا يكون" (مز 37: 10). كما يقول الحكيم: "كعبور الزوبعةٍ، فلا يكون الشرير، أما الصديق فأساس مؤبد" (أم 10: 25).
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الحديث هنا لا يعني بالضرورة سقوط الأشرار في لحظات، وانهيارهم، وفقدانهم للخيرات الزمنية، إنما قد يعني أن ما يتمتعون به في هذا العالم مهما طالت حياتهم إنما يتمتعون كما إلى لحظة، حيث يعبر العمر كله في لحظة، فيجدوا أنفسهم أمام الديان، وقد أعدوا لأنفسهم طريق الهاوية أو جهنم الأبدية.
*نعم، أيها الطوباوي، لقد أسهبت في وصف مباهجهم. كيف تعلن الآن أنهم في لحظة يهبطون إلى الهاوية، إلاَّ لأن كل هذا الزمن الطويل لحياتهم الحاضرة يُعرف أنه ليس إلا لحظة عندما تبلغ إلى النهاية.
14 فَيَقُولُونَ للهِ: ابْعُدْ عَنَّا، وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرُّ. 15 مَنْ هُوَ الْقَدِيرُ حَتَّى نَعْبُدَهُ؟ وَمَاذَا نَنْتَفِعُ إِنِ الْتَمَسْنَاهُ؟ 16 «هُوَذَا لَيْسَ فِي يَدِهِمْ خَيْرُهُمْ. لِتَبْعُدْ عَنِّي مَشُورَةُ الأَشْرَارِ.
فَيَقُولُونَ لله: ابْعُدْ عَنَّا.
وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرُّ [14].
يسيء الأشرار استخدام كل ما وُهب لهم من غنى أو سلطة أو نجاح، ويبلغ بهم الأمر إلى تحدي الله نفسه ورفض الوصية. يفزعون من حضرة الله. "يقولون لله: أبعد عنا". لا يريدون أن يزعجوا أنفسهم بأنهم تحت عينيه، ولا يودون أن يصدهم الخوف منه عن تفكيرهم. يشعرون بأنهم ليسوا في حاجة إليه، ويرفضون معرفته التي لا يجدون فيها أية مسرة، إذ معرفته توبخهم على تمردهم وكما يقول السيد المسيح "وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله" (يو 3: 19-20). وفي يوم الرب يهبهم الرب سؤل قلوبهم، إذ يقول لهم: "أبعدوا عني... لأني لا أعرفكم" (مت 25: 41). فمن لا يحتمل رؤية الله بالإيمان هنا في هذا العالم، لن يقدر أن يحتمل رؤيته في يوم الدين. "يقولون للجبال أسقطي علينا، وللآكام غطينا من وجه الجالس على العرش" (هو 10: 8؛ لو 23: 30). "ينظرون إليّ الذي طعنوه وينوحون عليه" (زك 12: 10).
يتهلل كل كيان المؤمن الحقيقي برؤية ذاك الذي اشتهى أن يلتقي معه وجهًا لوجه (1 كو 13: 12)، أما الشرير فلا يحتمل البقاء أمام الله، بل تُخرجه أعماله إلى الظلمة الخارجية.
لا يُسر الأشرار بمعرفة طرق الله، ولا يُسر الله بطرق الأشرار. فإن الظلمة لا تطيق النور، والنور لا يُسر بالظلمة. وكما يقول الرسول بولس: "لأنه أية خلطة للبرَ والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟" (2 كو 6: 14)
* "فيقولون لله: أبعد عنا!" لا يجسر حتى الأغبياء أن يقولوا هذا بالكلام، ومع هذا فإن كل الأشرار يقولون لله بسلوكهم لا بكلماتهم: "أبعد عنا". فإن الذين يمارسون أعمالًا يمنعها الله القدير ماذا يفعلون سوى أنهم يغلقون أنفسهم ضد القدير؟ كما أن التفكير في وصاياه هو دخول لله في الإنسان، هكذا مقاومة وصاياه هي إبعاد الله عن السكنى في القلب...
"فإننا لا نُسر بمعرفة طرقك"، الأمر هكذا: إنهم لا يبالون أن يطلبوا معرفته.
يقول الحق: "وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده، ولا يستعد، ولا يفعل إرادته، فيُضرب كثيرًا، ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلًا" (لو12: 46-47). يختار البعض ألا يعرفوا ما ينبغي أن يفعلوه، ويحسبون أنهم يُضربون أقل إن كانوا يجهلون ما ينبغي أن يفعلوه.
لكن أن لا يعلم شيء، وأن يختار الإنسان ألا يعلم شيء آخر. فإن البعض يريدون أن يعلموا لكنهم غير قادرين، هؤلاء لا يعلمون. أما الذي يُبعد أذنه عن صوت الحق حتى لا يعْلَم، فمثل هذا ليس في جهلٍ بل هو مستخف.
الآن "طريق" الله هو السلام، طريق الله هو التواضع، طريق الله هو طول الأناة. لكن الأشرار لا يبالون بهذا كله، ويقولون: "لا نُسر بمعرفة طرقك". أنهم يتشامخون في كبرياء في هذه الحياة. أنهم مُبتلعون بالكرامات حتى يقتنوها، فإنهم يطمعون فيها. إنهم يتجاهلون طرق الله في أفكار قلوبهم.
* الجالس في الظلمة في الليل لا يجري وراء نور الشمس ما دام لا يراها. ولكن حين يحل الفجر ويبدأ بهاء الشمس يشرق عليه للحال يتبع نورها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغزٍ، لكن حينئذ وجهًا لوجهٍ (1 كو 13: 12). هذا ما يراه فعلًا الملائكة الذين يُدعون ملائكتنا. إنّهم ملائكتنا بمعنى أنه ما أن نخلص من قوة الظلمة، حتى ننال عربون الروح وننتقل إلى ملكوت المسيح، فنبدأ ننتسب للملائكة(986).
القديس أغسطينوس
مَنْ هُوَ الْقَدِيرُ حَتَّى نَعْبُدَهُ،
وَمَاذَا نَنْتَفِعُ إِنِ الْتَمَسْنَاهُ! [15].
في جسارة غير لائقة يحتجون عليه قائلين: "من هو القدير حتى نعبده؟ وماذا ننتفع إن التمسناه؟" يتشبهون بفرعون القائل: "من هو الرب حتى أسمع لقوله؟" (خر 5: 2) يرون في الله شخصية مجهولة ينسب البعض له القدرة مع أنه في نظرهم لا ينفع في شيء، لذا لا يريدون أن يكون له شأن بهم، ولا هم لهم شأن به.
يتطلعون إلى العبادة كواجبٍ سقيم الحملِ، أو كنوعٍ من العبودية الشاقة، إذ يتساءلون: "حتى نعبده؟" ينظرون أنهم سادة أقوياء مقتدرون لا يقبلون الخنوع لله: "لماذا قال شعبي قد شردنا (نحن أسياد)، لا نجيء إليك بعد" (إر 2: 31).
يقولون: "عبادة الله باطلة، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره..." (مل 3: 13-14)، فلا حاجة للالتجاء إلى الله، فإن الصلاة في نظرهم لا نفع لها، بل هي مضيعة للوقت والطاقة.
قد يدرك الأشرار بفكرهم قدرة الله، ويعرفون إمكانية عمله في حياة البشر، لكن خلال تمتعهم بالملذات الجسدية وانشغالهم بمباهج العالم يسكِّنون ضمائرهم بالادعاء أن الله يتجاهل البشرية، ولا يدرك حقيقة احتياجاتهم، فيظهر كمن هو في ضعفٍ وعجز عن مساندتهم. هذا ومن جانب آخر فإن الوقت بالنسبة لهم ثمين لجمع ثروات ونوال كرامات زمنية موضوع حبهم. كل عبادة لله - في نظرهم - هي مضيعة للوقت. هذا ويتذمرون لأن الله كثيرًا ما يؤجل استجابة طلباتهم حتى يهبهم ما هو حسب فكره الإلهي أن يقتنوه هو، خالق كل العطايا والخيرات.
* إذ يتوجه ذهن الإنسان ببؤس نحو الخارج، ينغمس في ملذات الأمور الجسدية، فلا يعود إلى أعماقه، ولا يقدر أن يفكر في ذاك الغير منظور... هكذا مكتوب: "قال الجاهل في قلبه، ليس إله" (مز 14: 1؛ 53: 1)...
كثيرًا ما يحدث أن يجعل الناس هدفهم أن يخدموا بالأكثر زملاءهم المخلوقين الذين يرونهم بالبصر الجسدي عن أن يخدموا الله الذي لا يرونه. فإنهم في كل ما يفعلونه، يمتدون إلى حيث تبلغ عيونهم، وإذ لا يستطيعون أن يبلغوا إلى الله بعيونهم، إما يستخفون بتقديم الولاء له، أو إذا ما بدأوا في ذلك يمتلئون قلقًا...
ولكن عندما ينسحب من أمامهم ما هو منظور... فإن أعين الجسد بالحق تكون مفتوحة لكنهم لا يقدرون أن يروا أو يدركوا... يذهب عنهم الإحساس بالصبر، لأن الساكن فيهم قد تركهم، وبقي بيت الجسد فارغًا. الروح غير المنظورة التي اعتادت أن ترى خلال نوافذ الجسد قد رحلت.
لهذا فإن الأمور غير المنظورة أفضل من المنظورة. يليق بكل الجسديين أن يبلغوا إلى قرارٍ من أجل أنفسهم، وبسلم التأمل يصعدون إلى الله. إنه هو الله في كونه يبقى غير منظورٍ، ويستمر السامي حيث لا يمكن إدراكه. لكن يوجد البعض الذين لا يشكون في أن الله موجود، وأنه لا يمكن إدراكه، لكنهم يطلبون منه ولا يطلبونه هو، إنما يطلبون عطاياه الخارجية.
"وماذا ننتفع إن صلينا إليه". أثناء الصلاة إن لم يكن الله نفسه هو موضوع طلبتنا، يضطرب الذهن للحال في الصلاة... يشتاق الله أن يكون هو نفسه المحبوب أكثر من الأمور التي خلقها، وأن تُطلب الأمور الأبدية لا الأمور الوقتية. كما هو مكتوب: "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلها تُزاد لكم" (مت 6: 33).
هُوَذَا لَيْسَ فِي يَدِهِمْ خَيْرُهُمْ.
لِتَبْعُدْ عَنِّي مَشُورَةُ الأَشْرَارِ [16].
لن يقبلوا الإيمان بأن ما في أيديهم هو هبة الله لهم، إنما يظنون أنها من صنع أيديهم، وثمرة تعبهم وذكائهم وتخطيطاتهم. بهذا يغلقون قلوبهم على إخوتهم المحتاجين، حاسبين أن العطاء لهم هو سلب لممتلكاتهم، وتبديد لما جاهدوا فيه. يتمسكون بما لديهم حتى لا يضيعون الخيرات من أيديهم.
*يتخيل الإنسان الغني عادة أنه لا يرتكب أية خطية ما دام لا يسلب الفقير ماديًا. لكن تكمن خطية الغني في عدم مشاركته ثروته مع الفقير. احتفاظ الغني بكل ثروته يعني في الواقع ارتكاب نوعٍ من السرقة. والسبب الحقيقي هو أن كل الغنى من الله، فهو ملك الجميع بالتساوي... والدليل على ذلك يحيط بنا في كل مكان.
اُنظر إلى الفاكهة النضرة التي تنتجها الأشجار والأدغال.
اُنظر إلى التربة الخصبة التي تعطي كل عام حصادًا وفيرًا هكذا.
اُنظر إلى العنب الحلو على العناقيد الذي يمنحنا الخمر لنشربه...
ربما يدَّعي الأغنياء أنهم يمتلكون الكثير من الأراضي حيث تنمو الثمار والحبوب، لكن الله هو الذي يجعل البذرة تنبت وتنضج. فواجب الأغنياء أن يشاركوا كل حصاد أرضهم مع كل من يعمل فيها، ومع كل من له احتياج(987).
القديس يوحنا الذهبي الفم
يقدمون هذه الروح لنسلهم وأصدقائهم فيسلكون في ذات الاتجاه، أما أيوب فيعلن: "لتبعد عني مشورة الأشرار".
17 كَمْ يَنْطَفِئُ سِرَاجُ الأَشْرَارِ، وَيَأْتِي عَلَيْهِمْ بَوَارُهُمْ؟ أَوْ يَقْسِمُ لَهُمْ أَوْجَاعًا فِي غَضَبِهِ؟ 18 أَوْ يَكُونُونَ كَالتِّبْنِ قُدَّامَ الرِّيحِ، وَكَالْعُصَافَةِ الَّتِي تَسْرِقُهَا الزَّوْبَعَةُ؟ 19 اَللهُ يَخْزِنُ إِثْمَهُ لِبَنِيهِ. لِيُجَازِهِ نَفْسَهُ فَيَعْلَمَ. 20 لِتَنْظُرْ عَيْنَاهُ هَلاَكَهُ، وَمِنْ حُمَةِ الْقَدِيرِ يَشْرَبْ. 21 فَمَا هِيَ مَسَرَّتُهُ فِي بَيْتِهِ بَعْدَهُ، وَقَدْ تَعَيَّنَ عَدَدُ شُهُورِهِ؟
كَمْ مرة يَنْطَفِئُ سِرَاجُ الأَشْرَارِ،
وَيَأْتِي عَلَيْهِمْ بَوَارُهُمْ،
أَوْ يَقْسِمُ لَهُمْ أَوْجَاعًا فِي غَضَبِهِ [17].
إذ تحدث أيوب بإفاضة عن نجاح الأشرار في هذا العالم يعود فيسأل: "كم مرة ينطفئ سراج الأشرار؟" أما ترونه مرارًا كثيرة يشتعل حتى يتم احتراق شريط الاشتعال، وبعد ذلك ينطفئ تلقائيًا؟
كم مرة ترون أنه "يأتي عليهم بوارهم أو يقسم الله لهم أوجاعًا في غضبه؟ ألا ترون أنه كثيرًا ما استمرت أفراحهم ورفاهيتهم حتى النهاية؟
* يموت البار وهو في قوة بساطته، وفي كامل سيادته على إرادته، له نفس ممتلئة كما من مروجٍ. أما الخاطي وإن كان في رغد العيش، تفوح منه العطور الذكية يختم حياته في مرارة نفسه، ويجتاز يومه الأخير دون أن يأخذ شيئًا من الخيرات التي تنعم بها يومًا ما، لا يحمل شيئًا سوى أجرة شره(988).
*يجيب القديس أيوب: لا تظنوا أنكم سعداء وأنتم منغمسون في الملذات، لأن ضربات الله لم تحل عليكم في هذه الحياة. "سراج الأشرار ينطفئ". إنه يعطي ضوءً إلى زمنٍ، لكنه لا يحمل نورًا أبديًا. وبالرغم من أن العالم يحابي مثل هؤلاء الناس لأنهم يمارسون إرادة الله صاحب السلطان على العالم (يو 14: 30)، لكن عادة ما تحل لحظة التحول في الأحداث، حيث تأتي الأحزان من قبل غضب السماء وسخطها، حيث يُغربَلْ الأشرار "كالتبن قدام الريح". يُغربل الظالمون كالقشٍ، والأبرار كحنطةٍ. التفتوا إلى الرب القائل لبطرس: "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لو 22: 31: 32)(989).
يعتز المؤمن بكلمة الله بكونها السراج الذي ينير له الطريق، حيث يعبر خلالها إلى حضن الآب ليتمتع بالأمجاد على مستوى أبدي. أما الشرير فيرى في الغنى أو السلطة أو التمتع بالملذات الجسدية سراجه الذي يدفع به لا إلى مملكة النور، بل سراجًا يضلله ويدخل به إلى مملكة الظلمة. وكما يقول الرسول بولس إنه حتى الشيطان يظهر كملاكٍ منيرٍ، ليخدع المؤمنين، لعله يأسرهم تحت سلطانه، فيصيروا أبناء ظلمة.
لكن خداعات عدو الخير لن تثبت أمام رجال الإيمان بل تتبدد، كما ينطفئ السراج!
*غالبًا ما يظن الشرير أن الموارد الأرضية بالنسبة له مثل سراج عظيم بالنسبة للنور، لكن إذ يحل به الدمار يفقد الغنى الذي أحبه أكثر من نفسه.
أَوْ يَكُونُونَ كَالتِّبْنِ قُدَّامَ الرِّيحِ،
وَكَالْعُصَافَةِ الَّتِي تَسْرِقُهَا الزَّوْبَعَةُ [18].
يرى أيوب أنه لا يعني حديثه عن نجاح الأشرار أنهم بالحق ناجحون، فهم كالتبن قدام الريح، وكالعُصافة التي تسرقها الزوبعة. أنهم تافهون يفقدون كل قيمة، مهيأون للدمار، فيتعرضون له في عز مجدهم وسطوتهم.
*حين يُرى الشرير في قوة، وحين يكون كمن ليس له من ضابطٍ أو مُقاومٍ لأعماله العنيفة، يحسبه الضعفاء كالصابورة (ثقل يستخدم لموازنة السفينة أو المنطاد). وأنه متأصل في هذا العالم. ولكن إذ يأتي الحكم الحازم من قبل الديان، "يكون الأشرار كالتبن قدام الريح"... "وكالرماد الذي تنثره الزوبعة". حياة الإنسان الشرير في عيني القدير مثل الرماد، هذا الذي قد يبدو أخضر إلى لحظة، لكنه يُرى كمن قد تبدد بالحكم الإلهي، يُترك جانبًا للاحتراق الأبدي. هذا الرماد تبدده الزوبعة. في هذا "يأتي إلهنا ولا يصمت. نار قدامه تأكل، وحوله عاصف جدًا" (مز 50: 3).
الريح الذي لا غنى للأشجار عنه لكي تتعمق جذورها وتكثر ثمارها، هو بعينه الذي يبدد التبن وينثر العصافة، فلا يكون لها موضع استقرار. فما يبني المؤمن يحطم الشرير.
إن كانت الريح تشير إلى الروح القدس، فإن الروح القدس الذي به يتحقق ميلاد المؤمنين كأبناء لله في مياه المعمودية، وبه يتجددون حتى يصيروا بالحق أيقونة المسيح، هو نفس الروح القدس الناري الذي لن تقدر أشواك الخطية أن تقف أمامه، بل تحترق!
اَللهُ يَخْزِنُ إِثْمَهُ لِبَنِيهِ.
لِيُجَازِهِ نَفْسَهُ فَيَعْلَمَ [19].
أحيانا يترك الله الأشرار ينجحون، لكنهم يورثون الفشل لنسلهم. فيرث البنون مع الثروة التي نشأت عن الظلم والإثم اللعنة والدمار.
ربما يتساءل البعض: وما ذنب الأبناء ليرثوا عن آبائهم الشرور المحزنة؟
أولًا: الله ليس بظالمٍ، فلا يعاقب الأبناء من أجل شرور آبائهم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). فإن النفس التي تخطئ هي تموت. إنما أراد الله توبة الآباء ليخزِنوا لأبنائهم البرّ الإلهي. فلا ننكر ما لحياة الآباء من أثر على أولادهم، لكن بعض الأشرار كان أولادهم قديسين، فصارت أكاليل أبنائهم عظيمة، لأنهم لم يكملوا مكيال آبائهم في الشر، بل قبلوا الله أبًا لهم، يسلكون بروحه القدوس. وأيضًا وُجد أبناء أشرار عن آباء قديسين، فصارت قداسة حياة آبائهم علة دينونة بالأكثر.
ثانيًا: يهدد الله الأشرار بما سيحل بأبنائهم بسبب شرورهم، لأن غالبًا ما لا يبالي الإنسان بما سيحل به قدر ما يحزن بشدة على ما يحل بأبنائه. وكأن هذا التهديد غايته توبة الآباء خشية هلاك أبنائهم.
*نحن نعرف أنه مكتوب: "مفتقد إثم الآباء في الأبناء، وفي أبناء الأبناء في الجيل الثالث والرابع" (خر 34: 7). وأيضًا مكتوب: "ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل، قائلين: الآباء أكلوا الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا يقول السيد الرب: لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل. ها كل النفوس هي لي. نفس الأب كنفس الابن كلاهما لي. النفس التي تخطئ تموت" (حز 18: 2-4). هكذا في هاتين العبارتين بالرغم من الاختلاف في المعنى، لكن ذهن المستمع يجب أن يتعلم البحث بعناية فائقة طريق التمييز. لقد ورثنا الخطية الجدية عن والدينا، فإن لم نُحل منها بنعمة العماد، نحمل معنا خطايا آبائنا أنفسهم، متطلعين على أننا لا نزال واحدًا معهم...
على أي الأحوال هذا يمكنه فهمه بطريقٍ آخر أيضًا، أن مَن يتمثل بطريق الشر الذي لأبيه الشرير، يرتبط بخطاياه أيضًا. وأما من لا يتبع شر والده، فإنه لن يتحمل ثقل عصيانه. بهذا فإن الابن الشرير من الأب الشرير لا يلتزم بخطاياه فحسب التي أضافها بل أيضًا بخطايا أبيه، إذ مارس أعمال أبيه الشريرة، هذه التي يعلم أن الله غاضب عليها. إذ لم يخشَ أن يضيف إليها شروره هو... لهذا بحق قيل: "حتى الجيل الثالث والرابع". فإنه يمكن حتى الجيل الثالث والرابع أن يشهد الأبناء لحياة الآباء ويتمثلون بها، فتمتد النقمة حتى إلى الذين يشهدون على ما يتمثلون به لضررهم.
لِتَنْظُرْ عَيْنَاهُ هَلاَكَه،
وَمِنْ حُمَةِ الْقَدِيرِ يَشْرَبْ [20].
لقد أغلق الشرير عينيه عمدًا كي لا يرى نعمة الله ولم تنفتح بصيرته على مراحم الله، فملأ كأسه بتمرده وعصيانه.
كثيرًا ما يغمض الشرير عينيه عما سيحل به أو بنسله بسبب شروره، لكنه حتمًا سيفتح عينيه في يوم الرب ليرى هلاكه الأبدي حال عليه. إنه سيشرب من غضب القدير. هذا هو نصيب كأسه الذي ملأه في أيام غربته في العالم.
* لو كان الإنسان أثناء وجوده في هذه الحياة يرغب في فتح عينيه على خطيته لما كان فيما بعد "يشرب من غضب القدير". أما من يحول عينيه هنا عن رؤية إثمه فلا يقدر أن يتجنب حكم الدينونة.
يدعونا الله بكل وسيلة أن نتمتع باستنارة الروح القدس، فتنفتح أعيننا لنرى الشرور التي أفسدت كياننا، في الوقت الذي فيه ننعم برؤية عمل الله الفائق لغفران خطايانا والتمتع بالاتحاد معه.
إن نظرنا هلاكنا ونحن بعد في هذا العالم نهرب إلى الله نفسه الذي وحده قادر أن يحفظنا من الغضب الأبدي. أما من لا يريد أن يدرك حقيقة شروره فيملأ كأسه بالغضب الإلهي ليشرب منه في يوم الرب العظيم.
فَمَا هِيَ مَسَرَّتُهُ فِي بَيْتِهِ بَعْدَهُ،
وَقَدْ تَعَيَّنَ عَدَدُ شُهُورِهِ؟ [21]
إن كان أيوب قد أفاض في الحديث عن رخاء بعض الأشرار ونجاحهم، لكنه يوضح ماذا يكون هذا النجاح حتى وإن امتد كل أيام حياة الشرير التي هي ليست ألا عدة شهور، فيفتح عينيه فجأة وإذا به يسقط تحت الغضب الإلهي.
في مثل الغني ولعازر أظهر لنا السيد المسيح كيف انزعج على أهل بيته وهو في الهاوية عندما أدرك أن كل الخيرات التي تمتع بها في أيام حياته على الأرض تعجز عن أن تبل لسانه. وتضاعف حزنه وهو يدرك أن أخوته الخمس سيتبعانه (لو 16: 25-28).
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الشرير حتى في العالم العتيد لا ينسى بيته، فقد أخبرنا السيد نفسه عن الغنى الذي رفع عينيه وهو في الهاوية يطلب من أجل إخوته الخمسة (لو 16: 28). لكن لم تعد هذه الطلبة تنفع أهل بيته بعد، إذ ضاعت الفرصة منه.
عملنا كحاملي الرب يسوع -ينبوع الفرح- في داخلنا، أن نفرح ونتهلل ونكون علة مسرة بيوتنا. فإن كنا نفرح هنا بمسيحنا الساكن فينا تفرح السماء بنا، ويفرح كثيرون، فنكون كأعضاء في أسرة شبه سماوية سمتها الفرح الحقيقي. عندئذ حتى بخروجنا من العالم لا نكف عن أن نطلب لأجل مسرة بيوتنا. هذا ما نلمسه عمليًا حيث نرى قديسين يطلبون في الفردوس من أجل فرح العالم كله برجوعه إلى الله، وتمتعه بالفرح الإلهي.
22 «أَاللهُ يُعَلَّمُ مَعْرِفَةً، وَهُوَ يَقْضِي عَلَى الْعَالِينَ؟ 23 هذَا يَمُوتُ فِي عَيْنِ كَمَالِهِ. كُلُّهُ مُطْمَئِنٌّ وَسَاكِنٌ. 24 أَحْوَاضُهُ مَلآنَةٌ لَبَنًا، وَمُخُّ عِظَامِهِ طَرِيٌّ. 25 وَذلِكَ يَمُوتُ بِنَفْسٍ مُرَّةٍ وَلَمْ يَذُقْ خَيْرًا. 26 كِلاَهُمَا يَضْطَجِعَانِ مَعًا فِي التُّرَابِ وَالدُّودُ يَغْشَاهُمَا.
أَاللهُ يُعَلَّمُ مَعْرِفَةً،
وَهُوَ يَقْضِي عَلَى الْعَالِينَ؟ [22]
ليس من إنسان يقدر أن يدرك معرفة الله ديان السماء والأرض، الذي يدين الملائكة الساقطين والبشر في يوم الدين. أحكامه أبعد ما تكون عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. هو وحده الذي يحكم إن كان شرير ما ينجح هنا حتى ولو امتد نجاحه كل أيام حياته أو يفشل. بحكمته الإلهية يدبر ما لا يستطيع إنسان أن يدركه. إذ نعجز عن إدراك معرفة الله وحكمته وخطته ليس لنا أن نحكم على إنسانٍ ما أنه بار أو شرير من خلال ما يحل به من متاعب أو ما يتمتع به من بركات زمنية. عوض الحكم على إخوتنا نحبهم ونصلي من أجلهم لبنيانهم الروحي ونموهم، وأيضًا لأجل توبتهم، حتى يهبنا الله معهم التوبة الصادقة والنمو الروحي الحقيقي.
*أحكام الله القدير علينا غاية في السرية وليست بظالمة. لكن إذ رفعنا أعين أذهاننا إلى العلويات نرى بأعيننا (الداخلية) أنه ليس لدينا ما نشكو به بخصوص العدالة. فإن الله القدير يميز استحقاقات الملائكة، أقام بعضًا منهم ليسكنوا في نورٍ أبدي بدون سقوطِ، والآخرون سقطوا بإرادتهم من الثبات في علوهم، وانحدروا إلى سخط الدينونة الأبدية... إنه يفعل أمورًا عجيبة فوق مستوانا، وواضح بالتأكيد أنه يدبر كل الأمور الخاصة بنا بمعرفة.
هَذَا يَمُوتُ فِي عَيْنِ كَمَالِهِ.
كُلُّهُ مُطْمَئِنٌّ وَسَاكِنٌ [23].
الله وحده الذي يحدد إن كان الإنسان يموت في سلامٍ زمنيٍ ومجدٍ باطلٍ بالرغم من إصراره على خطاياه، وآخر يموت في آلام مُرة وتعاسة وشقاء، مع أن كليهما يلتقيان معًا في الظلمة الخارجية.
قد يموت شرير وهو في عين كماله أو في ملء قوته، لم تضعف قوته بسبب مرضٍ أو شيخوخةٍ، "كله مطمئن وساكن". بكليته هو في راحةٍ وسلامٍ، لا يخشى الموت لأنه لا يفكر فيه ولا ينتظره.
لقد جاء كلمة الله متجسدًا، وحلّ بيننا ليهبنا سلامه الحقيقي وعربون المجد الذي أعده لنا منذ تأسيس العالم. هذا السلام وهذا المجد هما وحدهما يُشبعان النفس. أما سلام العالم المزيف ومجده الباطل فيخدعان الإنسان، لكن إلى لحظة ويزولان.
هنا يليق بنا أن نطلب استنارة الروح القدس حتى نميز نوع السلام الذي نحن فيه، إذ توجد أنواع كثيرة من السلام.
أ. السلام الذي يخدع الأشرار، حيث يشربون الإثم كالماء، وفي استهتار يقولون: ليس إله، ولا دينونة ولا أبدية. "فلنأكل ونشرب فإننا غدًا نموت" (1 كو 15: 32).
ب. السلام الذي ينبع عن صداقات ومشاركة للآخرين، كمشاركتنا لأحبائنا في مناسباتهم المفرحة والمحزنة، لكن لا يشغلنا خلاص نفوسهم ونفوسنا. هذا السلام مؤقت. عن هذا السلام يقول السيد المسيح: "سلامًا أترك لكم" (يو 14: 27). وكأنه يقول: سلامكم هذا لا أنزعه عنكم، بل أتركه لكم لكي ما يتقدس بسلامي الذي أهبكم إياه.
ج. السلام الإلهي الذي وعدنا به السيد المسيح: "سلامي أنا أعطيكم" (يو 14: 27). هذا السلام، الذي هو عطية إلهية، نتمتع به خلال شركتنا معه، وحلوله في وسطنا، ومرافقتنا الدائمة خلال رحلة حياتنا. "ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20).
أَحْوَاضُهُ مَلآنَةٌ لَبَنًا،
وَمُخُّ عِظَامِهِ طَرِيٌّ [24].
يترجمها البعض "ثدياه ملآنان لبنًا، وعظامه طرية بالمخ". وجاءت في ترجمة اليسوعيين "السمنة تكسو جبينه، وتسقي مخ عظامه". بمعنى أنه في صحة جيدة، قوي البنية، لا يبالي بشيءٍ سوى أن يحيا سنوات طويلة في فرحٍ وسرورٍ. آماله عريضة في هذه الحياة حتى يفاجئه الموت بغتة! لعلهم يتحدون الموت في داخلهم، كأنه ليس من نصيبهم.
يتطلع أصدقاء أيوب إليه كإنسانٍ فقد كل ما يملكه من غنى وكرامة، ويحسبون هذا مؤشرًا أكيدًا عن شره، يظنون أنه في عوز داخلي شديد وفراغ لن يمتلئ. أما هو فيرى أشرارًا كثيرين أغنياء وأصحاب سلطة وكرامة زمنية، يحسبون صدورهم (الثدي) مملوءة لبنًا، أي أشبه بالأم التي بين يديها رضيع تقدم له من لبنها، وأن عظامهم مملوءة حيوية لن يتطرق إليها الجفاف. هذه المشاعر التي تسيطر على مثل هؤلاء الأشرار تصدر عن الغنى المؤقت والكرامة الباطلة، لكن إلى لحظة، حيث يأتي الديان، ويكتشفون أنهم كانوا في حلمٍ وقد تبدد.
شتان ما بين اللبن الصادر عن الغنى المؤقت والعظام التي تبدو مملوءة قوة وحيوية بسبب الكرامة الزمنية، وبين اللبن غير الغاش الذي يقدمه الله لأولاده، حيث يرضعون النفوس بكلمة الله الواهبة الحياة، وبالعظام القوية التي تقدمها نعمة الله، فيكون المؤمن أشبه بالصخرة الثابتة التي لن تزعزعها رياح هذا العالم!
* "أحشاؤه ملآنة سمنة، وعظامه مرطَّبة بالمخ" [24]. فكما أن السمنة تنشأ عن كثرة الطعام، هكذا الكبرياء عن فيض الخيرات، هذه التي تجعل الذهن يسمن بكثرة الغنى، بينما روحه بعجرفةٍ...
يوجد أناس ليس لهم غنى في هذا العالم، لكنهم يشتهونه، ويطلبون أن يُمجدوا، بالرغم من عجزهم عن نوال ما يشتهونه في هذا العالم. بينما ليس لديهم مادة (غنى) ولا كرامة لمساندتهم، لكن بشهواتهم الشريرة يعلن ضميرهم عن جُرمهم في عيني الديان... لاحظوا أنه لذات السبب كيف يفرح الغني بقلبٍ متعجرف. لذلك قيل بحق: "كلاهما يضطجعان في التراب، والدود يغطيهما" [26].
أما الطوباوي أيوب فلم يتكبر حين كان لديه الغنى، ولا اشتهاه بقلقٍ عندما أُخذ منه، كما لم يهلك بسبب الخسائر الخارجية.
وَذَلِكَ يَمُوتُ بِنَفْسٍ مُرَّةٍ،
وَلَمْ يَذُقْ خَيْرًا [25].
يموت آخر بعد الآم مريرة وحالة تعسة، فيلتقي مع من قضى لحظة عبوره في هذا العالم في غنى وأمجاد زمنية. لا يستطيع الغنى ولا المجد، كما ولا الألم أن ينقذ الأشرار في ذلك اليوم، ما داموا لم يرجعوا إلى الرب.
إن كان الله قد سمح لبعض الأشرار بالبركات الزمنية حتى آخر نسمة لهم في هذا العالم، إنما لكي يقدموا ذبيحة شكر لواهب العطايا، ويرجعوا إليه، ويتمتعوا بالشركة معه. وإن كان يسمح لآخرين بالآلام، إنما لكي لا تلتصق نفوسهم بمحبة الزمنيات وتشتاق إلى العبور إلى الله، ويتمتعوا بالمجد الذي أعده لمحبيه. لكن للأسف كثيرون لا ينتفعون بالعطايا ولا يتعلمون بالآلام!
أما بالنسبة لأولاد الله فإن البركات الزمنية تسندهم في تقديم ذبائح شكرٍ لا تنقطع، والآلام تزكيهم في قبولهم إياها كشركة آلام مع مخلصهم.
كِلاَهُمَا يَضْطَجِعَانِ مَعًا فِي التُّرَابِ،
وَالدُّودُ يَغْشَاهُمَا [26].
في القبر يلتقي الأصحاء مع المرضى، والأغنياء مع الفقراء، فإن مات شرير في قصر وآخر في كوخٍ يلتقيان معًا مع جماعة الموتى، ويكون نصيبهما هو ثمر شرهما، الدود الذي لا يموت والنار التي لا تُطفأ.
*مرح الأشرار يعبر إلى الويل، ويعبر ويل النفس البارة من الحزن إلى الفرح. هكذا لا يليق بالغنى أن يرفع النفس ولا بالفقر أن يربكها. لم يتقبل الطوباوي أيوب وسط الأضرار المادية أفكارًا مؤذية، أما الذين احتقروه وهو تحت ضربة العصا فقد انتهرهم قائلًا: "هوذا قد علمت أفكاركم..." [27].
* كيف يمكن للخسائر الخارجية أن تؤذي ذاك الذي لم يفقد ذاك (الإله) الذي أحبه في داخله؟
27 «هُوَذَا قَدْ عَلِمْتُ أَفْكَارَكُمْ وَالنِّيَّاتِ الَّتِي بِهَا تَظْلِمُونَنِي. 28 لأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: أَيْنَ بَيْتُ الْعَاتِي؟ وَأَيْنَ خَيْمَةُ مَسَاكِنِ الأَشْرَارِ؟ 29 أَفَلَمْ تَسْأَلُوا عَابِرِي السَّبِيلِ، وَلَمْ تَفْطِنُوا لِدَلاَئِلِهِمْ؟ 30 إِنَّهُ لِيَوْمِ الْبَوَارِ يُمْسَكُ الشِّرِّيرُ. لِيَوْمِ السَّخَطِ يُقَادُونَ. 31 مَنْ يُعْلِنُ طَرِيقَهُ لِوَجْهِهِ؟ وَمَنْ يُجَازِيهِ عَلَى مَا عَمِلَ؟ 32 هُوَ إِلَى الْقُبُورِ يُقَادُ، وَعَلَى الْمَدْفَنِ يُسْهَرُ. 33 حُلْوٌ لَهُ مَدَرُ الْوَادِي. يَزْحَفُ كُلُّ إِنْسَانٍ وَرَاءَهُ، وَقُدَّامَهُ مَا لاَ عَدَدَ لَهُ. 34 فَكَيْفَ تُعَزُّونَنِي بَاطِلًا وَأَجْوِبَتُكُمْ بَقِيَتْ خِيَانَةً؟»
هُوَذَا قَدْ عَلِمْتُ أَفْكَارَكُمْ،
وَالنِّيَّاتِ الَّتِي بِهَا تَظْلِمُونَنِي [27].
يعود مرة أخرى فيعاتب أيوب أصدقاءه قائلًا لهم إنه يعلم بأنهم متمسكون بآرائهم، خاصة أن الأشرار حتمًا تلاحقهم النكبات. يقول أيوب لأصدقائه: لقد علمت أنكم لا تتفقون معي، وعلمت نيتكم من جهتي، فإنكم تتحاملون عليّ، فكيف يمكنني أن أقنعكم وأنتم مغرضون؟ أدرك أيوب من خلال كلماتهم ما في قلوبهم، وشعر أن الحوار معهم غير مجدٍ.
* "هوذا قد علمت أفكاركم، والنيات التي بها تظلمونني" [27]. وكما هو مكتوب: "لأن مَنْ مِنْ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه" (1 كو 2: 11)... لكن روح الإنسان يكون غير معروفٍ للغير إن لم يظهر بالكلمات أو الأعمال. مكتوب: "من ثمارهم تعرفونهم" (مت 7: 20). بما يحدث في الخارج يُنظر إلى ما هو مخفي في الداخل. هكذا أيضًا بحق قيل بسليمان: "كما في الماء تتلألأ وجوه الناظرين، كذلك قلوب البشر واضحة للحكماء" (أم 27: 19)...
لأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: أَيْنَ بَيْتُ الْعَاتِي؟
وَأَيْنَ خَيْمَةُ مَسَاكِنِ الأَشْرَارِ؟ [28]
كأنه يقول لهم: أنا أعلم أنكم ستجاوبونني قائلين: أين هو بيت المغتصب؟ أين خيمة الأشرار؟ وتقصدونني بالمغتصب كما تقصدون أبنائي بالأشرار. تحكمون عليّ بأني عاتي، وأولادي أشرار.
إن نزعنا نية أصدقاء أيوب الشريرة، ومحاولتهم المستميتة لتشويه شخصيته، فإن ما يقولونه ينطبق فعلًا عن الطغاة العتاة المغتصبين. فإنهم وإن عاشوا كل أيامهم في غنى وكرامة وسلطان، يموتون ويعودون إلى ترابهم. عندئذ بحقٍ يُقال: "أين بيت العاتي؟" الذي يظن أن العالم كله هو بيته المستقر، يسيطر عليه ويحكمه كصاحب بيت يعيش فيه إلى الأبد، ليس من يقدر أن يطرده منه، ولا من يهدم البيت. لقد مات طغاة عبر الأجيال كانوا يحسبون أنفسهم آلهة، لكنهم صاروا ترابًا، وانهدمت ممالكهم تمامًا. في جهالة عاشوا في العالم كما في خيامٍ غير ثابتة، وها هي الخيام قد زالت، وزال سلطانهم معها.
* يُقال عن الأشرار بعد موتهم: "أين خيمة مساكن الأشرار؟" إن أمعنا النظر في هذا، هل تقدرون أن تنكروا بأنه توجد مجازاة من قِبَل العدل الإلهي؟ الأول (البار) تغمر السعادة قلبه، والثاني البؤس. الأول بشهادة نفسه بريء من الذنب، والثاني مجرم. ذاك الإنسان سعيد في رحيله من العالم، والثاني حزين عليه. من يقدر أن ينطق بالبراءة على من هو ليس ببريء في عيني ضميره؟ يقول: "أين غطاء خيمته، تذكاره لن يوجد" (راجع أي 28:21). حياة المجرم حلم. لا، حتى الراحة ذاتها التي للأشرار وهم يعيشون هنا هي وهم، إنهم الآن في الجحيم، إذا ينحدرون إلى جهنم وهم أحياء(990).
* الضعفاء يشتهون النجاح في غنى العالم، ويخشون الضربات كما لو كانت شرورًا غاية في الخطورة، يتعثرون بعقاب أولئك الذين يرونهم مضروبين.
"أفلم تسألوا عابري السبيل، ولم تفطنوا لدلائلهم؟" [29]
انه ليوم البوار يمسك الشرير، ليوم السخط يقادون.
يعلم أيوب أن الحوار غير مجدٍ مع أناس لا يحملون نية صادقة ومخلصة، لهذا يطالبهم أن يسألوا أي إنسانٍ محايدٍ. اسألوا عابري الطريق، حسبما يكون هؤلاء.
لم يقل اسألوا القديسين كما قال أليفاز (أي 5: 1)، فإن الأمر لا يحتاج حتى إلى خبرات القديسين، بل يعرفه كل إنسانٍ غير متحيزٍ، فإن كل البشرية تتفق مع أيوب في أن الخطاة ليس بالضرورة يلقون جزاءهم هنا، بل قد يرجأ إلى يوم الرب العظيم. "إذا زها الأشرار فلكي يُبادوا إلى الدهر" (مز 92: 7).
ولعله يقصد بدعوته أن يسألوا أي عابرٍ للطريق، أن يبحثوا عن أي شخصٍ يدرك حقيقة هذه الحياة الزمنية كطريقٍ عابرٍ، فإن مثل هذا الإنسان حتمًا ينطق بالحق وبحكمة وفي إخلاص. إدراك الإنسان لحقيقة حياته أنها عبور كما على قنطرة تهبه نظرة واقعية للحياة الزمنية والحياة العتيدة الأبدية، فيكون حكمه في الأمور متزنًا وصادقًا!
*يدعوه "عابر سبيل" ذاك الذي يحمل في ذهنه أن الحياة الحاضرة بالنسبة له هي طريق وليست وطنًا. إنه يحسب أمرًا دنيئًا بالنسبة له أن يثبت قلبه في محبة الحال الحاضر العابر، مشتاقًا ألا يستمر منشغلًا بمشاهدة الأمور الوقتية، بل أن يبلغ بقلبه إلى العالم الأبدي...
إذ كان موسى يطلب مجد التأمل السماوي قال: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" (خر 3: 3). فإنه ما لم يسحب أثار قدميه من محبة العالم لا يمكنه أن يفهم الأمور العلوية.
إذ توسل إرميا من أجل حزن قلبه ليكون موضع اعتبار قال: "يا جميع عابري الطريق، تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني" (مز 1: 12). فإن أولئك الذين لا يعبرون خلال الحياة الحاضرة كما لو كانت طريقًا، بل يظنونها وطنهم، ليس لهم خبرة ليروا بعيني الذهن حزن قلب المختارين. هؤلاء يتطلع إليهم النبي لعلهم ينظرون حزنه؟
مَنْ يُعْلِنُ طَرِيقَهُ لِوَجْهِهِ،
وَمَنْ يُجَازِيهِ عَلَى مَا عَمِلَ؟ [31]
يحمل الشرير نوعًا من الجسارة والجبروت، فلا يجد من يقف أمامه ويواجهه بشره، ولا من يعاقبه على أفعاله. فهو يخطئ ويغتصب وهو مطمئن. ليس من يوبخه ولا من يرعبه. يقول الحكيم: "راحة الجهال تبيدهم" (أم 1: 22)، إذ يحسبون أنفسهم فوق القانون، ليس من يقدر أن يواجههم بشرهم، ولا من يدفعهم نحو التوبة والرجوع إلى الله الحق.
لاحظ البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب تحول حديثه عن الأشرار من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد. فيرى في الجمع (الأشرار) إشارة إلى البشر الذين صاروا أشبه بأعضاء كثيرة لجسد إبليس، وفي صيغة المفرد (الشرير) إشارة إلى إبليس بكونه رأس الأشرار. كما أن المؤمنين هم أعضاء جسد المسيح الرأس القدوس، هكذا الأشرار هم أعضاء جسد إبليس الرأس الشرير!
* "من يستنكر طريقه لوجهه؟ ومن يجازيه على عمله؟" [31]... بينما كان أيوب يتحدث عن كل الأشرار فجأة حول كلماته إلى رئيس كل الأشرار. فقد رأى في نهاية العالم الشيطان يدخل في إنسان، هذا الذي يدعوه الكتاب المقدس "ضد المسيح"، الذي يرتفع متشامخًا، يسنده بسلطان كهذا بأن يرفعه بآيات وعجائب مظهرًا قداسة (غاشة)، ولا يمكن اتهامه بواسطة إنسان. بسلطان الرعب يوَّحد علامات القداسة المظهرية. يقول: "من يستنكر طريقه لوجهه؟" بمعنى مَنْ مِن البشرية يجسر وينتهره...؟ لكن إيليا وأخنوخ وحدهما يحضران للحال لتوبيخه. فيوبخ كل المختارين طريقه في وجهه، مظهرين استخفافًا؛ وبينما هو متشامخ في الفكر يقاومون شره. وإذ هم يفعلون هذا بالنعمة الإلهية وليس بقوتهم الذاتية، بحق يُقال الآن: "من يستنكر طريقه لوجهه؟" من يفعل هذا سوى الله الذي بعونه ينال المختارون سلطانًا ليقفوا أمامه؟ لأن الرب وحده له أن يفعل ذلك بقوته. بحق قيل عنه: "الذي الرب سيبيده بنفخة فمه، ويبطله بظهور مجيئه" (2 تس 2: 8)...
"من يجازيه على عمله؟" بحق من سوى الرب، الذي وحده سيجازي ذلك الإنسان الهالك على ما يفعله بدينونة أبدية؟
هُوَ إِلَى الْقُبُورِ يُقَادُ،
وَعَلَى الْمَدْفَنِ يُسْهَرُ [32].
يعلم الشرير أنه سيموت حتمًا كسائر البشر، لكنه يُعد لنفسه العظمة حتى في موته، فيقيم نصبًا تذكاريًا على القبر الذي يعده لنفسه، ويهيئ لنفسه موكبًا جنائزيًا فخمًا.
بينما يهتم كثير من الأشرار بالكرامة الزمنية حتى بعد عبورهم من هذا العالم، يهتمون بأجسادهم بعد موتها أو المقبرة أو إقامة تذكار لهم، إذا بالأبرار لا يشغلهم شيء سوى اللقاء مع العريس السماوي. يشتهون الانطلاق ليكونوا مع المسيح، هذا أفضل لهم من كل عملٍ مهما كان ذا قيمة.
* "هو إلى القبور يُقاد، وعلى كومة الأجسام الميتة يسهر" [32]... توجد في العالم ندرة للصالحين وجمهور من الأشرار. لهذا بحق قيل: "كومة الأجسام الميتة" حيث تشير إلى جمهور الأشرار. "لأنه واسع الباب، ورحب الطريق الذي يؤدي على الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه" (مت 7: 13). هكذا يسهر الشيطان على كومة الأجسام الميتة، بممارسته خداعات شره في قلوب أبناء الهلاك.
حُلْوٌ لَهُ طِينُ الْوَادِي.
يَزْحَفُ كُلُّ إِنْسَانٍ وَرَاءَهُ،
وَقُدَّامَهُ مَا لاَ عَدَدَ لَهُ [33].
إذ يشير إلى ضد المسيح بكونه ممثلٍ لإبليس الشرير، هذا الذي يقيم نفسه إلهًا في هيكل الرب، يراه أيوب أنه ليس إلا بالإنسان المائت الذي يصير ترابًا ورمادًا.
بقوله "حلو له طين الوادي". يرى أيوب أن موته ورجوعه إلى التراب أفضل له من حياته، لأنه يغتصب المجد الإلهي، ويحسب نفسه خالدًا، ويتزعم حركة تمر واضطهاد لكنيسة السيد المسيح.
لعله يشير هنا إلى إعداد الشرير كل شيء خاص بتحنيط جسمه وسكب الأطياب على جثمانه مع أنه ليس له إلا طين الوادي المدفون فيه. لا يتعظ من الموت، ولا يذكر أنه ليس بالشخص الوحيد الذي يواجه الموت، إنما يسبقه أعداد لا حصر لها، ويأتي بعده كل إنسان، الجميع يموتون دون استثناء.
* "يجتذب كل إنسانٍ وراءه، وقدامه ما لا عدد له" [33]. في هذا الموضع كلمة "إنسان" تعني من يتذوق الأمور البشرية... عدونا القديم إذ يدخل في إنسان الهلاك، يسحب كل الجسدانيين الذين يجدهم تحت نير سلطانه.
فَكَيْفَ تُعَزُّونَنِي بَاطِلًا،
وَأَجْوِبَتُكُمْ بَقِيَتْ خِيَانَةً؟ [34].
يختم أيوب حديثه بالرجوع إلى استخدام صيغة الجمع، أي إلى الحديث مع الأشرار. فما يحل بالشرير من هلاك ودمار لن يعفيهم من الدينونة.
إن كان الأشرار يدَّعون الرغبة في تعزية المتألمين، فتعزيتهم باطلة.
يرفض أيوب حوارهم وبراهينهم لأنها تصدر عن قلوب غير مخلصة، بل تحمل روح الخيانة للصداقة، ولأن مزاعمهم باطلة، إذ يركزون على توبته لكي يتمتع بالرجوع إلى حالة الرخاء التي كان عليها قبل حلول النكبات.
لا مجال للتعزية متى صدرت من قلوبٍ لا تحمل حبًا!
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن حوار هؤلاء الأصدقاء تسبب له آلامًا، وعوض تضميد جراحاته تزداد الجراحات. فمن جانت يتألم البار لعدم أمانتهم وإخلاصهم، ليس من أجل الاتهامات في ذاتها، ولكن من أجل عدم إخلاصهم، وخيانة الصداقة التي قامت بينه وبينهم.
تتألم نفسه وتتمرر، لأنه محب للحق، ويشتهي خلاص الكل، فيجد رائحة الخطية التي للموت تفوح من أعماقهم. تئن نفسه على هلاكهم أكثر من مرارته على توجيه الاتهامات ضده!
* "فكيف تعزونني باطلًا، وأجوبتكم تظهر أنها ضد الحق" [34]. لم يستطع أصدقاء أيوب أن يعزوه، هؤلاء الذين في حوارهم يقاومون الحق. عندما دعوه مرائيًا أو شريرًا ارتكبوا جريمة خطية الكذب، وبالتأكيد أضافوا متاعب للبار، وجراحاته. فإن أذهان القديسين الخاضعة للحق تتألم بسبب خطايا خداع الآخرين. قدر ما يدركون بقوة أن جريمة البطلان خطيرة، يكرهونها ليست فقط إن ارتكبوها هم بل وأيضًا إن ارتكبها الآخرون.
* كثيرون ينشغلون بالتساؤل: لماذا ينجح الله طريق الأشرار؟
أما أنا فما يشغلني هو أبديتهم!
نعم، قد ينجح الأشرار ويزدهرون،
قد يتمتعون بمناصب قوة!
يظنون أنهم في آمان،
وأنهم فوق كل قانون!
كل ما هو حولهم يهبهم طمأنينة وسلامًا.
* نفسي تحزن لا لنجاحهم،
وإنما لأنهم يهينون طول أناة الله وإمهاله.
يحسبون العبادة إضاعة لوقتهم وطاقاتهم.
حياتهم ليست في يد القدير.
لكنني أرى سراجهم ينطفئ فجأة.
* يئن قلبي إذ يراهم كالتبن قدام الريح،
وكعصافة في وسط زوبعة!
تعبر أيامهم كلحظة عابرة،
تنهار خيامهم تمامًا.
* تُرى كيف يقفون أمام كرسي الدينونة؟
مساكين هؤلاء الذين فقدوا المجد!
يطلبون من الجبال أن تسقط عليهم،
ومن الآكام أن تغطيهم!
مع إرميا النبي أصرخ:
جدران قلبي توجعني!
ذاب كالشمع في داخلي.
شروري تعطيني لذة وقتية، يصحبها دمار لكل كياني.
_____
(966) Homilies on Cor. 40:3.
(967) Commentary on Paul’s Epistles (2 Cor 1:4).
(968) Hom. On Cor 4:3.
(969) Homilies on Cor. 13:2.
(970) Homilies on Cor. Hom. 13:2
(971) Homilies on Cor. Hom. 12:6.
(972) Epistle to Gal. 1:1:10.
(973) Epistle to Gal. 5 PL 35:2109.
(974) Oration 12 on Song of Songs 5:7.
(975) Hom. On Ephes. 9:4:1-3.
(976) Homilies on Ephesians, homily 17:4.
(977) Homily on Eph. 20:5:25.
(978) Homilies on John, homily 28:2.
(979) Letter 147:1.
(980) cf Against the Pelagians, Book 3:6.
(981) cf Duties of the Clergy, Book 3:12.
(982) Duties of the clergy, 1: 12.
(983) Homilies on Philemon, 2.
(984) Homilies on Ephesians, 8.
(985) راجع مقاله عن "تنشئة الأطفال والمجد الباطل" في كتاب "الحب الأخوي".
(986) City of God, 22:29.
(987) ترجمة الدكتورة نورا العجمي.
(988) Duties of the Clergy 1:12:4.
(989) St. Ambrose: The Prayer of Job and David, 5: 17, 18.
(990) Duties of the Clergy, 1:12:44.
← تفاسير أصحاحات أيوب: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير أيوب 22 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير أيوب 20 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/ydd7p5s