كتب معلمنا متى الإنجيلي عن تعاليم السيد المسيح في الموعظة على الجبل وقال: "ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدّم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلّمهم قائلًا: طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات" (مت5: 1-3).
اختار السيد المسيح أن يصعد إلى الجبل لكي يعلّم تلاميذه والجموع بأقوال روحانية سامية جدًا.. صعد إلى الجبل، لكي يرتفع بأنظارهم وعقولهم نحو السماء بعيدًا عن الأرضيات، واهتمامات العالم الباطلة.
وكما أعطى الرب شريعته لموسى قديمًا على جبل حوريب في برية سيناء.. هكذا أعطى السيد المسيح شريعة العهد الجديد على جبال أورشليم.
وفي حديثه عن الشريعة كان يقارن بين القديم والجديد.. "سمعتم أنه قيل للقدماء.. أما أنا فأقول لكم.." (مت5: 21، 22، 27، 28، 33، 34).
الجبل في مفهوم الكتاب المقدس يعطينا فكرة عن سمو الله وعظمته وعدم تغيره، ويعطينا إحساسًا بالخشوع أمام رهبة الجبل المرتفع الكبير.
وقد استخدم السيد المسيح الجبال في صومه وتجربته على الجبل وفي موعظته، وفي تجلّيه أما أعين تلاميذه بعد أن أخذهم على انفراد إلى الجبل ليصلّي، وفي صلبه على جبل الجلجثة، وفي صعوده بعد القيامة.
لهذا يقول المزمور "أساساته في الجبال المقدسة، يُحب الرب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب" (مز 87: 1).
على جبل التجلي ظهر مع السيد المسيح موسى وإيليا محاطين بمجد الابن الوحيد.. والثلاثة؛ أي موسى وإيليا والسيد المسيح هم جميعًا من رجال الجبل، والبرية، والصوم الأربعيني على الجبل والصلاة.
الجبل يشير إلى حياة الصلاة.. ومن أراد أن يفهم وصايا الله المقدسة، ينبغي أن يصلّي ويرفع نفسه وعقله إلى الله مرددًا مع المرنم "رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرب" (مز 121: 1، 2).
ينبغي أن يطلب الإنسان معرفة شرائع الله وأحكامه ووصاياه، ويفهمها ويحفظها مثل قول المرنم: "اكشف عن عيني، فأتأمل عجائب من ناموسك، غريب أنا في الأرض، فلا تُخْفِ عني وصاياك. اشتاقت نفسي إلى اشتهاء أحكامك في كل حين" (مز 119: ق. 3). وقوله أيضًا "ضع لي يا رب ناموسًا في طريق حقوقك، فأتبعه كل حين. فهمني فأبحث عن ناموسك، وأحفظه بكل قلبي. اهدني في سبيل وصاياك فإني إياها هويت. أمل قلبي إلى شهاداتك، لا إلى الظلم" (مز 119: ق. 5).
إن الإنسان يصلي لكي يكشف له الرب وصاياه، ويصلي أيضًا مرددًا وصاياه مثل قول المزمور: "ولهجت بوصاياك التي أحببتها جدًا، ورفعت يدي إلى وصاياك التي وددتها جدًا، وتأملت فرائضك" (مز 119: ق. 6).
وقوله: "حقوقك كانت لي مزامير في موضع مسكني" (مز 119: ق. 7). وكذلك قوله: "في نصف الليل نهضت لأشكرك على أحكام عدلك" (مز 119: ق. 8).
وإذ يدرك الإنسان صلاح الله وخيريته يدعوه أن يتفضل ويعلّمه وصاياه بهذه الخيرية وهذا الصلاح فيقول: "صالح أنت يا رب، فبصلاحك علمني حقوقك" (مز 119: ق. 9).
وإذ يتأمل في قدرة الله كخالق، في خلقته العجيبة للإنسان العاقل يتوسّل بقوله: "يداك صنعتاني وجبلتاني، فهّمني فأتعلّم وصاياك" (مز 119: ق. 10). إن كنت يا رب قد صنعتني كخالق فليس عسيرًا عليك أن تقود ذهني وروحي إلى فهم وصاياك في عمقها وروعتها وجلالها.
إن الوصية الإلهية لا حدود لمعانيها وأبعادها. لهذا يحتاج الإنسان إلى عمل الله لكي يفهمها.. وعن اتساع الوصية الإلهية يقول المرنم: "لكل تمام رأيت منتهي، أما وصاياك فواسعة جدًا" (مز 119: ق. 12).
وفي حروبه الروحية مع الشياطين يشعر أن الوصية تحميه ويقول: "كثُر عليَّ ظُلم المتكبرين، وأنا بكل قلبي أبحث عن وصاياك" (مز 119: ق. 9). ويقول أيضًا: "وليخز المتكبرون، لأنهم خالفوا الشرع عليَّ ظلمًا. وأنا كنت مثابرًا على وصاياك" (مز 119: ق. 10).
وفي مواعيد الله وكلامه يجد رجاء للخلاص فيتضرع بقوله "تاقت نفسي إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت. كلَّت عيناي من انتظار أقوالك قائلتين متى تعزيني..؟ كم هي أيام عبدك؟ متى تجري لي حكمًا على الذين يضطهدونني؟.. حسب رحمتك أحيني، فأحفظ شهادات فمك" (مز 119: ق.11).
من الأمور الجميلة والنافعة جدًا أن يمزج الإنسان كلام الله بصلاته، وأن يصلّي لكي يعمل كلام الله فيه.. إنها مدرسة الصلاة التي نتعلمها من هذا المزمور الكبير..
"ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه. ففتح فاه وعلمهم قائلًا.." (مت5: 1، 2).
يقول سفر نشيد الأناشيد "مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته" (نش1: 12). حينما جلس السيد المسيح فاحت رائحة الطيب من تعاليمه السامية.. إنها رائحة المسيح الذكية.. لأنه عمل وعلّم كما سجل معلمنا لوقا البشير في سفر أعمال الرسل: "جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلّم به" (أع1: 1).
كذلك قيل عن السيد المسيح في المزمور "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك" (مز 45: 6).
حينما جلس السيد المسيح فإنه جلس على كرسي التعليم الرباني.. وكرسيه ثابت إلى أبد الدهور.
قال السيد المسيح عن تعليم موسى النبي: "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا" (مت23: 2، 3).
والأسقف في الكنيسة يجلس على كرسيه ومن أبرز مهام الأسقف: التعليم، لهذا قيل "يجب أن يكون الأسقف بلا لوم.. صالحًا للتعليم" (1تى3: 2). قيل أيضًا "يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل الله. ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم لكي يكون قادرًا أن يعظ بالتعليم الصحيح ويوبخ المناقضين" (تى1: 7، 9).
ولأن تعليم السيد المسيح هو الحق والاستقامة لهذا قيل عنه: "العدل والحق قاعدة كرسيه" (مز97: 2)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وقيل أيضًا له "قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك" (مز 45: 6).
لما جلس السيد المسيح على الجبل تقدم إليه تلاميذه ليستمعوا إلى أقواله الإلهية الممتلئة نعمة وحياة.. كانوا مثل الأرض المتعطشة إلى مياه الأمطار.. وكانوا كالخراف التي يوردها الرب إلى مياه الراحة فتتقدم لتشرب وترتوي كقول السيد المسيح: "إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب" (يو7: 37).
على جبل سيناء تراءى مجد الرب "وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن" (خر20: 18). ولم يحتمل الشعب سماع صوته إذ ارتعبوا، وقالوا لموسى: "تكلم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت" (خر20: 19). ولكن حينما جاء السيد المسيح متجسدًا، وقد أخلى نفسه، وأخفى مجده، وظهر في الهيئة كإنسان.. تقدّم إليه التلاميذ في ألفة ومحبة وطمأنينة. وهكذا استطاع الإنسان أن يقترب إلى الله بدون خوف ولا رعب، ولكن في مودة ومهابة وخشوع مع طمأنينة في أحضان الله المحب.
حينما فتح السيد المسيح فاه، انفتحت ينابيع الحكمة والحياة إلى أسماع البشر. وقيل عنه في المزمور "انسكبت النعمة على شفتيك" (مز 45: 2). كان السيد المسيح بالنسبة لتلاميذه مثل شجرة التفاح المثمرة. وقالت عنه عروس النشيد: "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين. تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي" (نش2: 3).
"تقدّم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلّمهم".. حقًا لقد تذوق التلاميذ حلاوة تعاليم السيد المسيح. تعاليمًا لم يجسر أحد أن ينطق بها من قبل.. لأنها تعاليم شريعة الكمال التي لا يستطيع أن يقبلها إلا المدعوون إلى نعمة الخلاص والتجديد، بالإيمان بذبيحة الابن الوحيد وشركة الموت والقيامة مع المسيح.
ونظرًا لأن الكنيسة باعتبارها عروس المسيح تنطق نفس كلامه وشريعته وتعاليمه السامية، قال الرب لها في سفر النشيد: "شفتاكِ يا عروس تقطران شهدًا. تحت لسانك عسل ولبن" (نش4: 11). أي أن كلام الكنيسة حلو مثل كلام السيد المسيح.
فكما قيل للعريس: "انسكبت النعمة على شفتيك"، هكذا قيل للعروس "شفتاك يا عروس تقطران شهدًا". إن الكنيسة لا يمكنها أن تُعلِّم تعليمًا آخر بخلاف تعليم السيد المسيح.
وقد وعد السيد المسيح أن يرسل مواهب الروح القدس إلى الكنيسة لكي يأتي تعليمها موافقًا للحق الإلهي. وذلك لأن الروح القدس هو روح الحق الذي من عند الآب ينبثق. وعن هذا الوعد الذي تحقق في يوم الخمسين قالت العروس: "استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب هبي على جنتي فتقطر أطيابها. ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش4: 16).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/sermon.html
تقصير الرابط:
tak.la/24y2ydn