الباب الأول: ما هي التوبة؟؟
* ما دامت الخطية هي انفصال عن الله، فالتوبة إذن هي رجوع إلى الله(1).
والرب يقول في ذلك "ارجعوا إلي، أرجع إليكم" (ملا 3: 7). والابن الضال حينما تاب، ورجع إلى أبيه (لو 15: 18، 20). حقًا أن التوبة هي حنين الإنسان إلى مصدرة الذي أخذ منه. وهي اشتياق قلب ابتعد عن الله، ثم شعر انه لا يستطيع أن يبعد أكثر...
* وما دامت الخطية خصومه مع الله، تكون التوبة هي الصلح مع الله(1) وهذا ما ذكره معلمنا القديس عن عمله الرسولي، قال "إذن نسعى كسفراء عن المسيح: تصالحوا مع الله" (2 كو 5: 20).
والتوبة لا تقتصر على الصلح، إذ بها يعود اله فيسكن الله في قلوبهم حيث تسكن الخطية ؟ والكتاب يقول "أية شركة للنور مع الظلمة؟" (2 كو 6: 14).
* والتوبة أيضًا هي يقظة روحية(1).
لأن الإنسان الخاطئ هو إنسان غافل، لا يحس ما هو فيه. لذلك يخاطبه الكتاب قائلًا "إنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم" (رو 13: 11).
ولعله بهذا المعنى اعتبرت التوبة هي رجوع الإنسان إلى نفسه.
أو هي رجوع النفس إلى حساسيتها الأولى، ورجوع القلب إلى حرارته ورجوع الضمير إلى عمله. وحسنًا قيل عن الابن الضال في توبته "فرجع إلى نفسه" (لو 15: 17). أي أنه عاد إلى وعيه، وإلى تفكيره السليم، وإلى إدراكه الروحي.
* وما دامت الخطية تعتبر موتًا روحيًا، كما يقول الكتاب عن الخطاة أنهم "أموات بالخطايا" (أف 2: 5)، تكون التوبة إذن انتقالًا من الموت إلى الحياة حسب تعبير القديس يوحنا الإنجيلي (1 يو 3: 14). وفي ذلك يقول القديس بولس الرسول "استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضئ لك المسيح" (أف5: 14). والقديس يعقوب الرسول يؤكد نفس المعنى إذ يقول "مَن رد خاطئًا عن طريق ضلاله، يخلص نفسًا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا" (يع 5: 20).
إن التوبة قيامة للروح، لأن موت الروح هو انفصال الروح عن الله، كما قال القديس أوغسطينوس...
* التوبة هي قلب جديد طاهر، يمنحه الرب للخطاة، يحبونه به.
هي عمل إلهي يقوم به الرب في داخل الإنسان، حسب وعده الإلهي القائل "أورش عليكم ماء طاهرًا، فتطهرون من كل نجاستكم... وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم... وأجعلكم تسلكون في فرائضي، وتحفظون أحكامي وتعلمون بها" (حز 36: 25 - 27).
* التوبة هي التحرر من عبودية الخطية والشيطان...
ومن أغلال العادات الخاطئة، ومن السير وراء الشهوات...
ولا يمكن أن ننال هذه الحرية بدون عمل الرب فينا. ولذلك يقول الإنجيل "إن حرركم الابن، فبالحقيقة أنتم أحرار" (يو 8: 36). إنها حقًا حرية لأن "كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية" (يو 8: 34).
نحصل على هذه الحرية، إن كنا بالتوبة نثبت في الحق، وليس في الباطل والحق يحررنا (يو 8: 32).
* التوبة إذن هي ترك الخطية، ولكن من أجل محبة الله.
ومن أجل محبة البر. لأنه ليس كل ترك للخطية يعتبر توبة. فقد يبتعد الإنسان عن الخطية بسبب الخوف، أو الخجل، أو العجز، أو المشغولية (مع بقاء محبتها في القلب)، أو بسبب أن الظروف غير متاحة. ولا تعتبر هذه توبة...
أما التوبة الحقيقية، فهي ترك الخطية عملًا وفكرًا وقبلًا، حبًا في الله ووصاياه وملكوته وحرصًا من التائب على أبديته...
* التوبة الحقيقية هي ترك الخطية، بلا رجعة.
وهكذا تروي قصص القديسين الذين تابوا، مثل القديس أوغسطينوس، والقديس موسى الأسود، والقديسات مريم القبطية وبيلاجية وتاييس وسارة... إن التوبة كانت في حياة كل هؤلاء وغيرهم، هي نقطة تحول نحو الله، استمرت مدى الحياة، بلا رجعه إلى الخطية.
ويذكرنا هذا بقول القديس شيشوي "لا أتذكر أن الشياطين قد أطغوني في خطية واحدة مرتين"... ربما الخطية الأولى كانت عن طريق جهل، أو تهاون، أو ضعف، أو عدم دراية بحيل الشياطين، أو عدم حرص. أما بعد التوبة واليقظة، فهناك كل التدقيق في الحياة، والاحتراس من الخطية.
أما الذي يترك الخطية ثم يعود إليها، ثم يتركها ثم يعود... فهذا لم يتب بعد. إنما هذه مجرد محاولة للتوبة، كلما يقوم فيها الخاطئ تشده الخطية إلى أسفل. إن صك حريته لم يكتب بعد...
* التوبة هي صرخة من الضمير، وثورة على الماضي.
إنها اشمئزاز من الخطية، وندم شديد، ورفض للحالة القديمة، مع خجل وخزي منها. لذلك قيل عن التوبة إنها "قاضٍ لا يستحي".
* التوبة هي تغيير لحياة الإنسان.
ليست هي انفعالًا وقتيًا نحو الله، إنما هي تغيير جدي وجذري في حياة الإنسان فيه يشعر هو وكل من يعاشره أن حياته قد تغيرت، وأفكاره تغيرت وكذلك مبادئه وقيمه ونظرته إلى الحياة، وطباعه وأسلوبه في الحديث، ومعاملاته للناس، وعلاقته بالله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ونفسه أيضًا من الداخل قد تغيرت. وأصبح قلبًا رافضًا للخطايا السابقة التي كان يحبها. ودخلت محبة الله إلى قلبه. وصار له منهج روحي يشعر فيه بلذة روحية.
ولهذا كله، قيل بصدق عن التوبة:
* التوبة هي استبدال شهوة بشهوة.
هي شهوة للحياة مع الله، بدلًا من شهوة الخطية والجسد.
وهنا لا تقتصر التوبة على الجانب السلبي، الذي هو ترك الخطية ومحبتها إنما تدخل من الناحية الإيجابية في محبة الله وملكوته وطرقه...
إنها حرارة لا تسري في الإنسان، وتشعله بالرغبة في حياة طاهرة.
ولهذا قيل عن التوبة أيضًا:
* التوبة تجديد للذهن.
تجديد الطبيعة يكون في المعمودية (رو 6: 4). أما تجديد الذهن فإنه يكون في التوبة، عملًا بقول الرسول "تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة" (رو 12: 2).
* التوبة هي المفتاح الذهبي، الذي يفتح به باب الملكوت.
أو هي الباب الحقيقي الموصل إلى السماء أو إلى الملكوت. لأنه بدون التوبة لا يملك الله في قلوبنا... أن التوبة هي زيت في مصابيح العذارى، يجعلهن أهلًا للدخول إلى العرس (متى 25).
* والتوبة هي القناة التي توصل استحقاقات الدم من الصليب.
إن الطريقة الوحيدة التي تمحي بها خطايانا بعد المعمودية. لذلك قال البعض عنها إنها "معمودية ثانية"... إنها جحد للشيطان مرة أخرى. أنها فض للشركة التي بين الخاطئ والشيطان، ليدخل في شركة مع الروح القدس (2 كو 13: 14).
* التوبة جمرة نار يلقطها أحد السارافيم من فوق المذبح.
ويمحو بها إثم الخاطئ قائلًا له "قد انتزع إثمك، كفر عن خطيبتك" (أش 6: 7). إنها الوسيلة الوحيدة التي تمحي بها خطايانا من كتاب دينونتنا... وما أجمل قول الرب في ذلك: أنساها "لا أذكر خطيئتهم بعد" (أر 31: 34).
ومن أهمية التوبة في نوال المغفرة، قول الرب "إن لم تتوبوا فجميعكم هكذا تهلكون" (لو 13: 3).
* التوبة هي طريق الهروب من الغضب الآتي.
على شرط أن تكون توبة حقيقية، وأن تتناسب مع خطورة الخطية.
إن توبة أهل نينوى، استطاعت أن توقف حكم الله عليهم بالهلاك. ففلما تابوا رجع الله عن حكمة، وعن الشر الذر أراد أن يفعله بهم فلم يفعله (يون 3: 10).
وهكذا في أحكام أخرى لله (أر 26: 13؛ خر 18: 21، 22).
حقًا ما أجمل قول أحد القديسين: إن الله سوف لا يسألك: لماذا أخطأت؟ إنما سيسألك: لماذا لم تتب؟
* التوبة إذن هي إبقاء الله عليك وعدم أخذك في خطيتك.
إن الله من عمق محبته، أعطى الكل فرصًا للخلاص، مهما كانت خطاياهم. فالله لا يأخذ أحدًا في وضع هالك، قبل أن يعطيه فرصه ليتوب.
فالتوبة هي منحه إلهية وهبها الله للخطاة، لكي تطهرهم، وتريح ضمائرهم المثقلة بخطاياهم. وتعيد إليهم السلام الداخلي، وتردهم إلى رتبتهم الأولى التي كانت لهم قبل الخطية.
* إنها يد الله الممدودة، يطلب أن يصالحك.
إنها فرصة لصفحة جديدة يفتحها الله في علاقته معك، يغفر لك الماضي كله ويغسلك فتبيض أكثر من الثلج (مز 50). فرصة تقوِّي فيك الرجاء، وتبعد عنك اليأس مهما ساءت حالتك.
ولذلك قيل عن التوبة إنها باب الرحمة، وإنها باب الغفران، وأنها باب الحياة، وإنها جسر يوصل بين الأرض والسماء.
هذا من جهة عمل الله فيها وما يقدمه من مغفرة. أما من جهة الإنسان فنقول عنها:
* التوبة هي استجابة من الإنسان لدعوة الله إليه.
إنها استجابة من الضمير، لصوت الله فيه.
واستجابة من الإرادة، لعمل النعمة معها.
إنها عدم مقاومة للروح الذي يعمل فينا لخلاصنا (أع 7: 51)، وعدم إحزان للروح (أف 4: 30)، وعدم إطفاء للروح (1 تس 5: 19).
* سئل ماراسحق عن التوبة، فقال: هي قلب منسحق.
إنها النفس المنسحقة الراجعة إلى الله: إنها الركب الجاثية، والعيون الدامعة والقلوب المنكسرة. إنها أم الدموع والانسحاق والاتضاع، لأن التوبة تلد كل هؤلاء... تحطم كبرياء الخاطئ، وتفتت قلبه الصخري، وتدخله إلى الحياة الاتضاع.
قال مار اسحق أيضًا: ذبيحة التوبة التي نقدمها لله، هي القلب الذي اتضع وانسحق، وانكسر بدموع الصلاة أمام الله، طالبًا المغفرة عن ضعفه وميل طبيعته أو ليس هذا أيضًا ما قيل في المزمور الخمسين -مزمور التوبة- "الذبيحة لله روح منسحق. القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله".
* قال الشيخ الروحاني: التوبة هي عذاب عظيم للشيطان مضادها.
لأنها تخلص وتعتق المسبيين الذين سباهم بشره. وتعبه في سنين كثيرة، تضيعه التوبة في ساعة واحدة. زرع الشوك الذي زرعه بأرضنا، وربي بحرص في سنين كثيرة، في يوم واحد تحرقه وتطهر أرضنا.
إنها تجعل الزناة بتولين.
مَن لا يحبك أيتها التوبة -يا حاملة جميع التطويبات- إلا الشيطان، لأنك غنمت غناه كل ما اقتناه.
يا أم الغفران، أن الآب المملوء رحمة، لا يغضبك إذا طلبت إليه، لأنه وهبك أن تكون شفيعة للخطاة، وسلم لك مفاتيح الملكوت.
بعد أن زار يوحنا الدرجي دير التائبين، ورأى انسحاق نفوسهم بالتوبة، وشدة جهادهم، وحرارة صلواتهم، قال:
طوَّبت الذين أخطأوا وتابوا نائحين، أكثر من الذين لم يسقطوا ولم ينجحوا على أنفسهم.
التوبة هي فرح في السماء، وعلى الأرض.
لأنه مكتوب "يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب" (لو 15: 7، 10). فإن أردت أن تفرح السماء، تُب...
وهي فرح على الأرض أيضًا: فرح للتائب وللراعي وللكنيسة كلها.
التوبة فرح لأنها دعوة للمأسورين بالإطلاق (أش 61: 1).
إنها فرح بالتحرر من عبودية الشيطان والخطية، وفرح بلذة الحياة الجديدة النقية، وفرح بالمغفرة...
* وفرح لأن التوبة هي حياة النصرة أو أنشودة الغالبين.
فيها ينشد التائب مع داود: "مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم... نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر، ونحن نجونا "(مز 124: 6، 7).
على أن التوبة ليست هي الغاية في الحياة الروحية، وغنمًا:
* التوبة هي بداية رحلة طويلة إلى حياة النقاوة.
التوبة هي بداءة مع العلاقة مع الله. هي بداءة طريق طويل غايته القداسة والكامل. فالذي لم يبدأ التوبة حتى الآن، أي لم يبدأ أول الطريق، كيف تراه سيصل إذن إلى نهايته.
والذي يؤجل أول خطوة إلى حين الشيخوخة أو ساعة الموت، كيف تراه يصل إلى قول الرب "كونوا انتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (متى 5: 48).
_____
(1) انظر كتاب "الرجوع إلى الله"، وكتاب "اليقظة الروحية"، فكل موضوعاتهما مُرَكَّزة على هذه النقط وحدها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/s8v976q