الفصل الثامن: شركة الروح القدس
وذلك لأن الروح القدس يعمل في الجميع. يعمل فينا وبنا، ويبقى أن نعمل نحن معه . الروح القدس في سر المعمودية منحنا نعمًا كثيرة، منها التجديد والتبرير والولادة الجديدة.
ولكن نعم الروح القدس لم تسلبنا مطلقًا نعمة الحرية:
فنحن أحرار تقبل الروح القدس فينا أو لا تقبل. نقبل الشركة معه أو نرفض ذلك. وفي هذه النقطة بالذات يبدو الخلاف بين القديسين والخطاة. الروح القدس يتقدم ليعمل في كليهما. والأبرار هم الذين يقبلون الشركة معه، من أجل خلاصهم وخلاص الآخرين أيضًا.
وكل عمل يرون أن الروح القدس لا يشترك معهم فيه، يرفضونه تمامًا.
وهكذا لا يعملون أي عمل بمفهم، بل بشركة روح الله معهم. كما نصلي في الكنيسة قائلين: اشترك في العمل مع عبيدك، في كل عمل صالح. ونتيجة لهذا، تصبح حياتهم كلها حياة روحية: صلواتهم صلوات روحية، وخدمتهم خدمة روحية، وحلهم للمشاكل يكون بحلول روحية، وتصرفاتهم روحية، وأهدافهم روحية، ومحبتهم للآخرين محبة روحية. الروح القدس العامل فيهم يعطي كل أعمالهم طابعًا روحيًا ...
عليك إذن أن تراجع كل أعمالك وتفحصها، لترى هل اشترك فيها معك روح الله القدوس .
وتقول للروح القدس في صلواتك: أنا يا رب أريد أن أعمل معك وتعمل معي. لا أريد أن أفارقك أو تفارقني. الأعمال التي لا توافق عليها، أعطني القوة أن أرفضها وابعد عنها. ما الفائدة أن أكون هيكلًا للروح القدس، وأنا لا اشترك مع الروح القدس في العمل.
حتى ونحن في حالة الخطية، نطلب الروح القدس لكي يساعدنا على التوبة:
إنسان خاطئ يقول: أنا قررت أن أتوب. أنا عاهدت الله أن أتوب... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). حسنة يا أخي هي نيتك الطيبة... ولكن الوصول إلى التوبة، لا يتم بمجرد قراراتك وتعهداتك، ولا بمجرد ما تضعه لنفسك من تداريب روحية. وإنما توبتك تأتي بعمل الروح القدس فيك. كما يقول الكتاب "توبني يا رب فأتوب" (أر31: 18).
ولنضع أمامنا كمثال: صلوات داود النبي لأجل التوبة:
ولنسمعه في المزمور الخمسين وهو يقول "انضح على بزوفاك فاطهر. واغسلني فأبيض أكثر من الثلج". ولم يقل أنا يا رب سوف أتوب، وإنما أنت الذي تضطرني وتغسلني. وهكذا يقول أيضًا " اغسلني كثيرًا من إثمي، ومن خطيئتي تطهرني. أنا عارف بإثمي، وخطيتي أمامي في كل حين. ولكن أنت يا رب الذي تغسلني منها وتطهرني. لأني لا أستطيع بضعفي أن أطهر منها. وعندما تسألني يا رب: أتريد أن تطهر. أحببتك نعم ولكن...
الإرادة حاضرة عندي، ولكن أن أفعل الحسنى لست أجد (رو7: 18).
فأنا "أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية"، "لأني لست أفعل الصالح الذي أريده. بل الشر الذي لست أريده، إياه أفعل"، "ويحي أنا الإنسان الشقي" (رو7: 23، 19). إذن إرادتي وحدها لا تكفي. وبدونك يا رب لا أستطيع أن أفعل شيئًا (يو15: 5).
إن لم ينشلني روحك القدوس، فلن أستطيع أن أتوب...
أنا يا رب مثل ذلك المريض، الذي مَرَّت عليه 38 سنة، لا يجد إنسانًا يحمله ليلقيه في البركة ليبرأ (يو5: 7). أو أنا مثل بطرس الذي لم تمسك به يدك، لا يستطيع أن يمشي فوق الماء (مت14: 30). هدفي في التوبة هو أنت. ووسيلتي في التوبة هي أنت. روحك القدوس هو الذي يبكتني على الخطية (يو16: 8). لأن تبكيتي لنفسي أضعف من أن يقودني إلى التوبة. تبكيت الروح القدس هو القوي والمؤثر.
وأيضًا روحك هو المُرْشِد في الطريق الروحي.
هو الذي يستنير به ضميري، وتقوى خطواتي. وإن لم استرشد به سأضل.
عيبنا الأول في حياتنا الروحية، أننا نعتمد على أنفسنا، وليس على روح الله بينما الكتاب يقول "وعلى فهمك لا تعتمد" (أم3: 5).
نحن لا نتوب، لأننا لم نطلب من روح الله معونة لتوبتنا.
كذلك خدمتنا لا تنجح، إن لم يعمل روح الله فيها. فالخدمة ليست مجرد حكمة بشرية، ونجاحها لا يتوقف على الذراع البشري. إنما تنجح الخدمة إن كانت شركة مع الروح القدس. نذكر فيها باستمرار قول المزمور:
إن لم يبن الرب البيت، فباطلًا تعب البناءون (مز127: 1).
ولهذا في الكنيسة أيام الرسل، كان يشترط حتى في الشماس أن يكون مملوءًا من الروح القدس (أع6: 3). لأن الروح القدس هو الذي في خدمته، وليس مجرد مجهوده البشري. ولهذا نجحت الخدمة تمامًا لآن روح الله هو الذي كان يعمل من خلال الخدام، الذين كانوا مجرد أو أدوات في يديه.
إذن من جهتنا، لابد أن نقبل روح الله، ونشترك معه، وننمو في هذه الشركة ولكن إلى أي مدى؟
يقول الكتاب "امتلئوا بالروح" (أف5: 18).
ويحكي لنا الكتاب أمثلة من حالات الامتلاء بالروح القدس، لعل من أشهرها بيت زكريا الكاهن: فقد امتلأت أليصابات زوجته بالروح القدس (لو1: 41) وزكريا أيضًا امتلأ بالروح القدس (لو1: 67) وابنهما يوحنا من بطن أمه امتلأ من الروح القدس (لو1: 15). وفي يوم الخمسين "امتلأ الجميع من الروح القدس" ( أع2: 4).
وقيل عن المجتمعين للصلاة "ولما صلوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أع4: 31). ولما وقف بطرس أمام رؤساء الكهنة، قيل عنه إنه "امتلأ من الروح القدس وقال لهم..." (أع4: 8). كذلك اسطفانوس الشماس (أع7: 55). وشاول الطرسوسي (أع9: 17؛ 13: 9). ونسمع يوحنا الحبيب في رؤياه يقول "كنت في الروح في يوم الرب" (رؤ1: 10 ). ولما رأى العرش الإلهي قال قبلها "وللوقت صرت في الروح" (رؤ4: 2).
إن كان مطلوبًا منا أن نمتلئ بالروح، فالمفروض أن نعد أنفسنا لذلك...
نسير في الخطوات الروحية التي تجعلنا مستحقين لهذه النعمة. وتكون قلوبنا مستعدة في كل حين لعمل الروح فينا. وأول الخطوات أن تكون لنا الحياة الروحية والسلوك بالروح. كما قال الرسول "اسلكوا بالروح، فلا تكلموا شهوة الجسد" (غل5: 16). وإن بدأنا بذلك، نستمر فيه. ولا نكون كالغلاطيين الذين وبخهم الرسول قائلًا "أبعد ما ابتدأتم بالروح تكلمون بالجسد؟!" (غل3: 3). ثم ننمو في الحياة بالروح...
ونبعد عن كل ما يحزن روح الله، أو يطفئ الروح فينا، ولا نقاوم الروح القدس...
وقد قال الرسول في كل ذلك "لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم" (أف4: 30). وقال "لا تطفئوا الروح" (1تس5: 19). وقد وبخ القديس اسطفانوس اليهود قائلًا "يا قساة القلب... أنتم دائمًا تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم، كذلك أنتم" (أع7: 51).
الروح القدس مستعد أن يعمل فينا. ولكننا نحزنه، حينما نرفض عمله، ونرفض الشركة معه، وبهذا نسقط في الخطية. والروح القدس باستمرار يهبنا يدعونا دائمًا إلى حياة القداسة، ولكننا نقاوم عمله فينا وربما في الآخرين أيضًا.
إننا إن اشتركنا مع الروح القدس، نكون لذلك نتائج واضحة في حياتنا.
لعل أبرزها ما قاله الرب في سفر حزقيال النبي "أعطيكم قلبًا جديدًا، واجعل روحًا جديدة في داخلكم وانزع قلب الحجر من لحمكم. وأعطيكم قلب لحم. واجعل روحي في داخلكم. وأجعلكم تسلكون في فرائضي، وتحفظون أحكامي وتعلمون بها" ( حز36: 26، 27).
فهل تشعر في داخلك أن روح الله قد غَيَّر حياتك ومشاعرك، وأعطاك قلبًا جديدًا، ومنحك السهولة التي تسلك بها في وصاياه وتحفظ أحكامه...؟
* ومن علامات عمل الروح فينا، أن نكون "حارين في الروح" (رو12: 11).
لأن روح الله عندما يحل في الإنسان يشعله بالحرارة، كما ألهب الرسل عندما حل عليهم في سوم الخمسين (أع2) على هيئة ألسنة من نار. وتحول العالم المسيحي كله إلى شعله من نار، في الخدمة والكرازة، في الغيرة والحماس، في المحبة التي شبهها الكتاب بالنار وقال "إن مياهًا كثيرة لا تستطيع أن تطفئها" (نش8: 7).
إذا دخل روح الله في قلبك، ينطبق عليك قول المزمور "غيره بيتك أكلتني" (مز119). وتشمل الحرارة كل حياتك الروحية. وإذا لم تشترك مع عمل الروح فيك ، تصاب بالفتور. ولهذا يأمرنا الرسول قائلًا "لا تطفئوا الروح" (تس5: 19). أي احتفظوا بحرارة الروح دائمًا فيكم . وكونوا كذبيحة المحرقة، تشتعل فيها النار باستمرار، نار دائمة لا تطفأ" (لا6: 12، 13).
هل تسلمت من الروح القدس هذه النار المقدسة، وهل توقدها باستمرار في قلبك؟
كما قيل عن ذبيحة المحرقة "ويشعل عليها الكاهن حطبًا كل صباح..." (لا6: 12 ). هل تشعل محبة الله في قلبك بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمًا ومرتلًا في قلبك للرب" (أف4: 19)، وبقراءات روحية من النوع الذي يلهب مشاعرك الروحية؟
أنت هيكل لله، وينبغي أن تكون النار المقدسة في الهيكل باستمرار:
السيدة العذراء شبهت بالمجمرة الذهبية، شورية هارون، لن الروح القدس حل عليها كجمر نار...
فهل الروح القدس أشعل فحماتك السوداء، فالتهبت وصاحت في فرح "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم" (نش1: 5). إن النار منحت الفحم توهجًا، فصار جمرًا. ونسى طبيعتي السوداء إذ صار رغبة عالمية خاطئة، وتصبح حارًا في روحياتك. وماذا أيضًا:
* روح الله هو روح القداسة. إن حل فيك، واشتركت في العمل معه، يمنحك القداسة:
ما دمت تَنْقَاد بروح الله (رو8: 14)، ولا تحزن روح الله بانحراف إرادتك عن توجيهه (أف4: 30)، فهل أنت تحيا حياة القداسة، التي بدونها لا يعاين أحد الرب؟! أم أنت ترفض عمل روح الله فيك، وتقاوم الروح؟ وما نهاية مقاومتك هذه؟
إن كنت بسكنى الروح القدس فيك، قد صرت هيكلًا لله، فاذكر قول المرتل في المزمور "بيتك تليق القداسة يا رب" (مز93: 5). واذكر قول الكتاب "نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضًا قديسين في كل سيرة. لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس" (1بط1: 15، 16).
* وإن اشتركت مع الروح القدس في العمل، ستكون قويًا في كل شيء.
فهكذا وعد الرب تلاميذه القديسين قائلًا: ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكونون لي شهودًا" (أع1: 8). والإنسان القوي ينتصر على كل فكر خاطئ، وعلى كل رغبة غير مقدسة. ويكون أيضًا قويًا في خدمته، وقويًا في تأثيره على الآخرين. وتصبح القوة صفة مميزة لشخصيته في كل عمل صالح. فهل تشعر بهذه القوة، قوة عمل الله فيك؟ إن كنت ضعيفًا في روحياتك، فاعلم أنك لم تَشترِك مع روح الله...
* وإن دخلت في شركة الروح، فهو يمنحك المحبة الحقيقية.
هذه المحبة التي قال عنها الرسول "... محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعْطَى لنا" (رو5: 5). "وهكذا تحب الله من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل نفسك" (مت22: 37). وتحل أيضًا قريبك كنفسك.
وبهذه المحبة الإلهية التي من الروح، ترتفع عن مستوى الخوف، وتثبت في الله، والله فيك، لأن الله محبة (1يو4:18، 16).
وبروح الله العامل فيك، وبالمحبة التي سكبها في قلبك، يمكنك أن تربح كثيرين للرب. وكل من يتعامل معك، يقول حقًا هذا الإنسان فيه روح الله...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/54d939r