محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18
تحدث الرسول بولس في الأصحاح السابق عن الحب المتبادل بين الراعي والرعية وبين الرعية وبعضها البعض، وقد طلب منهم إن يمَّكنوا للخاطئ التائب المحبة الصادقة العملية. الآن يكشف الرسول عن خدمة العهد كخدمة روح تهب الحياة، لا خدمة الحرف القاتل، مقدمًا مقارنة بين إنجيل العهد الجديد وحرفية الناموس، دون الإساءة إلى الناموس ذاته. اظهر أيضًا ما لهذه الخدمة من مجدٍ لا يُقارن بمجد العهد القديم، وطلب منهم إن يرفعوا البرقع الذي لم يعد له حاجة، حتى يدركوا أعماق مجدها.
1 - 5. |
|||
6 - 11. |
|||
12 - 18. |
|||
من وحي 2 كو 3 |
1 أَفَنَبْتَدِئُ نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا؟ أَمْ لَعَلَّنَا نَحْتَاجُ كَقَوْمٍ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ إِلَيْكُمْ، أَوْ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ مِنْكُمْ؟ 2 أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ. 3 ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ. 4 وَلكِنْ لَنَا ثِقَةٌ مِثْلُ هذِهِ بِالْمَسِيحِ لَدَى اللهِ. 5 لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئًا كَأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِنَا، بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ اللهِ،
أم لعلنا نحتاج كقوم رسائل توصية إليكم،
أو رسائل توصية منكم" [1].
يعلن لهم الرسول بولس أنه ليس في حاجة إلى توصية شفهية أو كتابية إليهم من كنائس أخرى، أو منهم إلى كنائس أخرى. فإن خدمته هي خدمة العهد الجديد العظيمة والمكرمة، فلا يحتاج إلى مديح من إنسان ليهب كرامةً أو مجدًا. خدمته إلهية وتذكيته من قبل اللَّه نفسه الذي دعاه لهذه الخدمة. إنه لن يتشك في دعوة اللَّه له، وفي إخلاصه للخدمة، ونصرته بالمسيح يسوع، ومعية اللَّه له.
يقول القديس ديديموس الضرير أن الرسول بولس يُظهر برقّةٍ دهشته أن الكورنثيين كانوا لا يزالوا لا يدركون ما وراء استخدامهالسلطان الرسولي[138]. فإنه لا يتحدث هنا للافتخار، وإنما لكي لا يخدعهم أحد.
مكتوبة في قلوبنا،
معروفة ومقروءة من جميع الناس" [2].
هم الرسالة التي لم يقرأها بفمه، ولا يبعث بها إلى الكنائس الأخرى، إنما يقرأها بقلبه، فتتهلل أعماقه الداخلية من أجل غنى نعمة اللَّه العاملة فيهم. ليس من يبهج قلب الخادم أكثر من أن يقرأ عمل اللَّه في حياة مخدوميه. فيهم يتعرف على ما بلغه من نجاح بالنعمة الإلهية.
إنهم في قلب بولس الرسول حيث شعلة نيران الحب المتقدة، لا يحتاج إلى من يذكره بهم، كأنهم موضوع محبته الفائقة. أينما ذهب يقرأ الحاضرون ما حمله لهم من حبٍ، دائم الحديث عنهم أو عن عمل اللَّه معهم خلاله.
* كان خلاص الكورنثيين في قلب بولس وقلوب من معه، فهو دائم التفكير في هذا[139].
يقارن القديس يوحنا الذهبي الفمبين رسالة القديس بولس الرسول ورسالة العظيم بين الملائكةرئيس الملائكةميخائيل، فيقول:
* كانت رسالة ميخائيل (رئيس الملائكة) هي الاهتمام بشعب اليهود (دا 1:12)، أما مهمة بولس الرسول فكانت للأرض والبحار، المسكونة منها وغير المسكونة، هذا لا يعني التقليل من رسالة الملائكة! حاشا! لكنني اوضٌح أن الإنسان يمكنه التمتع بشركة الملائكة، بل يصير في نفس الرتبة والمكانة[140].
"ظاهرين أنكم رسالة المسيح مخدومة منّا،
مكتوبة لا بحبر، بل بروح اللَّه الحي،
لا في ألواح حجرية،
بل في ألواح قلب لحمية" [3].
كأنه يقول ما حاجتي إلى رسائل توصية وأنتم أنفسكم بحياتكم الجديدة رسالة توصية، منقوشة لا بحبر على ورق، لكنها بالروح في قلوبنا، تشهدون لعملي أمام ضميري كما أمام الناس. حياتكم هي خير خطاب مفتوح دومًا ومقروء.
إنهم رسالة المسيح، أما بولس وغيره من الرسل والخدام فمجرد خدام لهم، آلات يعمل بالسيد المسيح فيهم، مصدر كل صلاح فيهم.
في العهد القديم قدم لهم اللَّه الوصايا على الواح حجرية (خر 31: 18؛ تث 9: 10)، الآن حلّ عهد النعمة، ونزع عنهم الطبيعة الحجرية، وسجل شريعته بروحه القدوس على الواح القلب اللحمية. وكما سبق فوعد في حزقيال: "أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحمٍ، وأجعل روحي في داخلكم". (حز 36: 26-27) هكذا يقيم اللَّه من قلب المؤمن ما هو أشبه بتابوت العهد الذي يضم بداخله لوحي الشريعة والإنجيل مكتوبين بإصبع اللَّه، أي بروحه القدوس.
يرى الرسول في نفسه أشبه بالحبر الذي به يُسجل إصبع اللَّه، أي الروح القدس، إنجيله في داخل قلوب الملايين
هكذا إذ يتحدث الرسول بولس عن خدمته في وسطهم يعلن مجدها العجيب كالآتي:
أولًا: إنهم رسالته [2] التي سجلها الرسول بولس بغنى نعمة اللَّه فيه مع جهادٍ وميتاتٍ كثيرة.
ثانيًا: إنهم رسالة المسيح، إذ صاروا إنجيلًا عمليًا مقروءً من الجميع.
ثالثًا: يسجل روح اللَّه الحيّ إنجيل المسيح في قلوبهم.
رابعًا: تحولت قلوبهم إلى تابوت عهد جديد يحوي إنجيل النعمة.
خامسًا: صار الرسول أشبه بالحبر الذي يكتب به الروح في قلوبهم.
سادسًا: إنجيل المسيح مُسجل في قلوبهم حيث عواطفهم ومشاعرهم ونياتهم وأفكارهم ممتصة بالكامل لحساب ملكوت اللَّه.
* نقرأ أن الشريعة كتبت بإصبع اللَّه، وأعطيت خلال موسى، خادمه المقدس. يرى الكثيرون إصبع اللَّه أنه الروح القدس[141].
"ولكن لنا ثقة مثل هذه بالمسيح لدى اللَّه" [4].
لدى الرسول بولس كمال اليقين بأن اللَّه قد قبل خدمته، وعلامة القبول هي قبول الأمم للإيمان بتمتعهم بعمل المسيح الخلاصي. هذا دليل صدق خدمته ونجاحها.
"ليس أننا كفاة من أنفسنا،
إن نفتكر شيئًا كأنه من أنفسنا،
بل كفايتنا من اللَّه" [5].
هذا اليقين في قبول الخدمة لدى اللَّه وإثمارها في حياة الأمم، خاصة أهل كورنثوس، لم يدفع الرسول إلى العجرفة ولا ينسب لنفسه إمكانية إنارة الذهن أو تجديد القلب، إنما يدرك أنه أداة في يد اللَّه. فاللَّه وحده هو الذي يهب الإرادة المقدسة والفكر النقي والعواطف الطاهرة والأحاسيس المباركة. هو مصدر كل قوة وبركة ونعمة.
*أن يكون لنا السلطان أن نكون أبناء اللَّه (يو 12:1) هذا لا يقوم على قوة بشرية، بل على قوة اللَّه. يتقبلونه من اللَّه الذي يوحي في القلب البشري بالأفكار المقدسة، خلالها نهتم "بالإيمان العامل بالمحبة" (غل 6:5)... فإنه "ليس أننا كفاة من أنفسنا بل كفايتنا من اللَّه"، الذي في سلطانه قلوبنا وأفكارنا[142].
6 الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ الْحَرْفِ بَلِ الرُّوحِ. لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي. 7 ثُمَّ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ الْمَوْتِ، الْمَنْقُوشَةُ بِأَحْرُفٍ فِي حِجَارَةٍ، قَدْ حَصَلَتْ فِي مَجْدٍ، حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى وَجْهِ مُوسَى لِسَبَبِ مَجْدِ وَجْهِهِ الزَّائِلِ، 8 فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ بِالأَوْلَى خِدْمَةُ الرُّوحِ فِي مَجْدٍ؟ 9 لأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ الدَّيْنُونَةِ مَجْدًا، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا تَزِيدُ خِدْمَةُ الْبِرِّ فِي مَجْدٍ! 10 فَإِنَّ الْمُمَجَّدَ أَيْضًا لَمْ يُمَجَّدْ مِنْ هذَا الْقَبِيلِ لِسَبَبِ الْمَجْدِ الْفَائِقِ. 11 لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الزَّائِلُ فِي مَجْدٍ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا يَكُونُ الدَّائِمُ فِي مَجْدٍ!
"الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهدٍ جديدٍ،
لا الحرف بل الروح،
لأن الحرف يقتل،
ولكن الروح يحيي" [6].
إذ حاول المعلمون الكذبة التسلل إلى الكنيسة في كورنثوس ركزوا على الالتزام بالتطبيق الحرفي للناموس الموسوي لمقاومة الرسول بولس المُتهم بكسره للناموس.
سبق أن سأل: "من هو كفوء لهذه الأمور؟" (2 كو 16:2)، وقد جاءت الإجابة هنا أن اللَّه جعله هو والعاملين معه كفاة أن يكونوا خدامًا لعهدٍ جديدٍ.
دعاه اللَّه لخدمة العهد الجديد، به يخدم بالروح لا بالحرف القاتل. هنا يقارن الرسول بين خدمة العهد القديم التي اتسمت بالحرف وخدمة العهد الجديد التي يلزم ممارستها بالروح. الخدمة الأولى إذ يغلب عليها الحرف قاتلة، لأنها لا تتعدى الكشف عما بلغ إليه الإنسان من فسادٍ، دون تقديم إمكانية البلوغ إلى عدم الفساد. ليس الناموس في ذاته قاتل، إنما هو مرآة تكشف عن الموت الذي حلّ بالخاطي بسبب عصيانه، أما خدمة العهد الجديد فتقدم العلاج
لم يتحدث الرسول هنا كمن يضاد خدمة العهد القديم، إنما يحذر من الحرف حتى إن تمسك بها خدام العهد الجديد. فإن كان اليهود برفضهم الفهم الروحي للناموس لم يتمتعوا بخلاص المسيح هكذا أيضًا خدام العهد الجديد إن رفضوا الفهم الروحي للإنجيل يتعثرون.
* يلزمنا أن نسبَح مع الطوباوي داود قائلين: "قوتي وترنمي" ليس بإرادتي الحرة ذاتها. ولكن بواسطة "الرب، وقد صار لي خلاصًا". لم يكن معلم الأمم جاهلًا بهذا عندما أعلن أنه قد صار كُفوء ليكون خادمًا للعهد الجديد، ليس بحسب استحقاقه وجهاده بل برحمة اللَّه، "ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئًا كأنهُ من أنفسنا، بل كفايتنا من اللَّه الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهد جديد" (2 كو 5:3، 6)[143].
الأب بفنوتيوس
* الحرف يعني ما هو مادي، والروح ما هو عقلي، والذي ندعوه روحيًا[144].
* صرنا كفاة باللَّه خادم العهد الجديد، الذي يقود برهان الروح والقوة، حتى متى اتفق المؤمنون معه يصير إيمانهم لا بحكمة البشر بل بقوة اللَّه[145]
* بحق يقول بولس: "الحرف يقتل والروح يحيي". فالحرف يختن جزءً صغيرًا من الجسم، إما الروح المُدرك فيحفظ ختان النفس والجسد بالكامل، فتُحفظ الطهارة، ويُحب التدبير، وتُنزع الأجزاء غير الضرورية (إذ ليس شيء غير ضروري مثل رذيلة الطمع وخطايا الشهوة، هذه التي لا تنتمي للطبيعة، إنما جاءت ثمرة للخطية). الختان الجسداني هو رمز، ولكن الختان الروحي هو الحقيقة، الواحد يقطع عضوًا والثاني ينزع الخطية[146].
* يعطي الروح الحياة. لكن يجب أن تفهموا أن وهب الحياة الذي من عمل الآب والابن والروح القدس لا ينقسم، ولتتعلموا وحدة وهب الحياة خلال الروح، إذ يقول بولس: "الذي أقام يسوع المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم" (رو11:8)[147].
* كان الناموس روحيًا لكنه لم يَمنح الروح. كان لدى موسى الحرف لا الروح، بينما أودع لدينا منح الروح[148].
* كيف يُعطي الروح الحياة؟ بأن يتمم الحرف فلا يقتل[149].
* لتشتاقوا إلى المسيح، اعترفوا للمسيح، آمنوا بالمسيح، فإن الروح يُضاف إلى الحرف، فتخلصون. فإن نزعت الروح عن الحرف فإن "الحرف يقتل". وإذ قتل، فأين الرجاء؟ "لكن الروح يحيي"[150]
* يا من تخافون الرب سبّحوه، لتعبدوه لا كعبيدٍ بل كأحرارٍ.
تعلموا أن تحبوا من تخافوه، فتستطيعون أن تُسبحوا من تحبونه.
خاف رجال العهد القديم اللَّه بسبب الحرف الذي يُرعب ويقتل ولم يكن لهم الروح الذي يحيي، فكانوا يجرون نحو الهيكل بالذبائح ويقدمون ضحايا دموية. كانوا يجهلون ما كان ظلًا خلالها، مع أنه كان رمزُا للدم القادم الذي به نخلص[151].
* يأمر اللَّه بالعفة، وهو الذي يهب العفة. يأمر بالناموس، ويعطي الروح، لأن الناموس بدون النعمة يجعل الخطية تزداد (رو20:5). والحرف بدون الروح يقتل. إنه يأمر لكي يعلمنا كيف نسأل عون النعمة حينما نحاول الطاعة لوصاياه وفي ضعفنا نسقط بقلقٍ تحت الناموس. وأيضًا لكي يجعلنا شاكرين له من أجل عونه لنا، إن كنّا نستطيع أن نحقق أي عمل صالح[152].
* إن نزعتم الروح كيف ينفع الناموس؟ تحدث مراوغة. لهذا يقول الكتاب: "الحرف يقتل". الناموس يأمر، وأنتم لا تطيعونه. توجد أمور ممنوعة، وأنتم تمارسونها. انظروا فإن الحرف يقتل[153].
* ليرتبط الروح بالناموس، فإنكم إذ تستلمون الناموس وليس لديكم عون الروح لا تتممون ما جاء في الناموس... ليكن لكم الروح، ليعينكم حتى تتممون ما تؤمرون به. متى كان الروح غائبًا يقتلكم الحرف... لا تستطيعون أن تعتذروا بحجة الجهل ما دمتم قد تسلمتم الناموس. الآن، إذ تعلمتم ما يجب أن تفعلوه ليس لكم أن تعتذروا بالجهل... لكن لماذا يقول الرسول: "الحرف يقتل والروح يحيي"؟ كيف يعطي الروح الحياة؟ لأنه يجعل الحرف يتحقق فلا يقتل. المقدّسون هم الذين يحققون ناموس اللَّه حسب عطية اللَّه. يمكن للناموس أن يأمر، لكنه لا يقدر أن يعين. الروح يُضاف كمعينٍ، فتتم وصايا اللَّه بفرحٍ وبهجة. بلا شك كثيرون يلاحظون الناموس عن خوفٍ، ولكن الذين يحفظونه خشية العقوبة يفضلون لو أن الذي يخافونه غير موجودٍ. وعلى العكس، فإن الذين يحفظون الناموس بحبهم البرّ يفرحون ويحسبونه ليس غريبًا عنهم[154].
* بناموس الأعمال يقول لنا اللَّه: "اصنعوا ما آمركم به"، ولكن بناموس الإيمان نقول للَّه: "أعطنا ما أوصيت به"[155].
* لم يقل بولس "خدمة الناموس"، بل قال "خدمة الموت"، متحدثًا بالأحرى عن نتائجه لكي يقلل من جاذبيته[156].
* يظهر بولس نتائج الخدمتين، فبينما في الأولى يركز على نتائجها وهو الموت والفصل عن اللَّه؛ يركز في الخدمة الثانية على الروح نفسه[157].
* خدم الناموس الموت لكنه لم يكن هو السبب. الذي سبب الموت هو الخطية، ولكن الناموس جلب العقوبة، وأظهر ما كانت عليه الخطية... لم يخدم الناموس لإيجاد الخطية أو الموت، وإنما لاحتمال العقوبة بواسطة الخاطي، حتى أنه بهذا صار أكثر تدميرًا بالخطية[158].
"ثم إن كانت خدمة الموت المنقوشة بأحرف في حجارة
قد حصلت في مجد،
حتى لم يقدر بنو إسرائيل إن ينظروا إلى وجه موسى
لسبب مجد وجهه الزائل" [7].
يقصد بخدمة الموت هنا الناموس الذي ثبت عقوبة العصاة، وبه تعرفنا على الخطية فاشتهيناها. هذه الخدمة (الوصايا العشرة) قد سُجلت على ألواحٍ حجرية وهي خدمة مجيدة مملوءة سموًا. ففي استلام الشريعة دخن الجبل وظهرت بروق وحدثت رعود، وأشرق وجه موسى مستلم الشريعة. البهاء الصادر عن ملامح موسى النبي يكشف عن مجد الشريعة التي تسلمها.
* كان المجد الذي ظهر على وجه موسى رمزًا للمجد الحقيقي، وكما لم يستطع اليهود أن ينظروا إلى وجه موسى، هكذا فإن المسيحيين يحصلون على مجد النور في داخل نفوسهم. أما الظلمة فتضمحل وتهرب، إذ لا تحتمل لمعان النور[159].
* الأمور التي وُعد بها هي أبدية، ولذلك قيل أنها مكتوبة بروح اللَّه، على خلاف الأمور الوقتية المكتوبة بحبرٍ، والتي تذبل وتفقد قوتها لتسجل أي شيء[160].
* اللَّه هو الذي كتب ذاك الناموس، ولكن بولس وأصحابه هيأوهم لقبول الكتابة. وذلك كما أن موسى قطع الحجارة واللوحين (خر1:34-4) هكذا شكل بولس نفوسهم[161]
* يظهر بولس أفضلية نعمة الروح عن الناموس، وسموّ كرازة الرسل عن تدبير الأنبياء[162].
* كتب اللَّه بهذا الإصبع على اللوحين الحجريين اللذين استلمهما موسى. فإن اللَّه لم يُشكّل الحروف التي نقرأها بإصبع جسدي؛ إنما بالروح أعطي الناموس...
فإن كانت رسالة الرسول كُتبت بالروح ماذا يقف في طريق التزامنا بالاعتقاد بأن ناموس اللَّه كُتب ليس بحبرٍ بل بروح اللَّه هذا الذي لا يُشين أسرار قلوبنا وأذهاننا بل ينيرهما؟[163]
* كما أن القلم هو أداة للكتابة متى حركته يد شخصٍ مختبرٍ ليسجل ما يُكتب، هكذا أيضًا لسان البار عندما يحركه الروح القدس يكتب كلمات الحياة الأبدية في قلوب المؤمنين. يغمسه لا في حبرٍ، بل في "روح اللَّه الحيّ". لذلك فإن الكاتب هو الروح القدس، لأنه حكيم ومعلم قدير للكل. ويكتب الروح بسرعة لأن حركة عقله سريعة. يكتب الروح الأفكار فينا، "لا على ألواح حجرية بل على ألواح القلب اللحمية". يكتب الروح حسبما يناسب حجم القلب أكثر أو أقل، إما أمورًا واضحة للكل أو أكثر غموضًا، حسب نقاوة القلب السابقة. وبسبب سرعة الكتابة تنتهي الكتابة، يمتلئ العالم الآن بالإنجيل[164].
* هذه هي نواميس العقل، كلمات تهب وحيًا، مكتوبة بإصبع الرب، ليست على ألواح حجرية بل منحوتة في قلوب البشر. إنها تسند فقط الذين قلوبهم لم تلتصق بالفساد. لذلك فإن ألواح القلب القاسي تنكسر، وإيمان الأصاغر يتشكل في أذهانٍ حسّاسة.
كِلا الناموسين خدما الكلمة كوسيلة لتعليم البشرية، واحد خلال موسى، والآخر خلال الرسل[165].
* ربما يكون رب البيت هو يسوع نفسه الذي يُخرج من كنزه، حسب وقت تعليمه، أشياء جديدة روحية، تتجدد دائمًا بواسطته في الإنسان الداخلي للأبرار، هؤلاء الذين يتجددون يومًا فيومًا (2 كو 16:4). وأيضًا يخرج عتقاء منقوشة على حجارة، في القلوب الحجرية للإنسان العتيق، حتى أنه بمقارنة الحرف باستعراض الروح يغني الكاتب الذي يصير تلميذًا لملكوت السماء، ويجعله على شبهه حتى يصير التلميذ كمعلمه. يتمثل أولًا بمن يتمثل بالمسيح، ثم يتمثل بالمسيح نفسه، وذلك كما قال بولس: "تمثلوا بي كما أنا أيضًا بالمسيح" (1 كو 2:11)[166]
* إذ يُفهم أمران بخصوص الناموس، خدمة الموت المنقوشة في حروف، والتي ليس لها علاقة بالروح. وأيضًا خدمة الحياة التي تُفهم في الناموس بالروح، هؤلاء القادرون بقلبٍ مخلصٍ أن يقولوا: "نحن نعلم أن الناموس روحي" (رو 14:7). ولهذا فإن الناموس مقدس، والوصية مقدسة وبارة وصالحة" (رو 12:7)، وهي الغرس الذي غرسه الآب السماوي[167].
"فكيف لا تكون بالأولى خدمة الروح في مجد؟" [8]
"لأنه إن كانت خدمة الدينونة مجدًا،
فبالأولى كثيرًا تزيد خدمة البرّ في مجد" [9].
يقصد بخدمة الدينونة الناموس الذي يتحقق من الخطية ويدينها، بينما يقصد بخدمة البرّ إنجيل العهد الجديد الذي يبرر من يؤمن بالرب يسوع البار، فيحمل المؤمن برِّ المسيح.
عظيم هو الناموس ومجيد ومهوب للغاية، وذلك لمقاومته للخطية ومناهضة مملكة الظلمة، فكم بالأكثر الإنجيل الذي يهب البرّ، ويقيم فينا مملكة النور. ما يبغيه الناموس ويعجز عن تحقيقه يقدمه لنا الإنجيل بفيضٍ؛ قدم الناموس ظلًا للحق وجلب الإنجيل الحق ذاته.
* يدين الناموس الخطاة، وأما النعمة فتتقبلهم وتبررهم بالإيمان. إنها تقودهم إلى المعمودية المقدسة وتهبهم غفران الخطايا[168].
* وصايا موسى هي "خدمة الدينونة"، أما النعمة بالمخلص فيدعوها "خدمة البرّ" التي فاقت في المجدٍ...
الناموس الذي يدين أُعطي بموسى، وأما النعمة التي تبرر، فقد صارت بواسطة الابن الوحيد. فكيف لا يكون المسيح فائق المجد وبما لا يمكن مقارنته؟[169]
* لقد فسر بأكثر وضوح ما هو معنى "الحرف يقتل" قائلًا هكذا... اظهر الناموس الخطية، لكنه لم يسببها. "بالأولى كثيرًا تزيد خدمة البرّ في مجدٍ"، لأن هذين اللوحين بالحق أظهرا الخطاة وقاما بمعاقبتهم؛ أما هذه الخدمة فليس فقط لم تعاقب الخطاة بل جعلتهم أبرارًا، فإن هذا ما ينعم به العماد[170].
* بفضل مجد الروح الذي أشرق على وجه موسى والذي لم يستطع إنسان ما أن يحتمل التطلع إليه ظهر بهذه العلامة كيف تتمجد الأجساد بقيامة الأبرار. هذا المجد عينه سيحسب النفوس الأمينة أهلًا لنوال الأمجاد في الإنسان الداخلي، إذ نتأمل في مجد الرب بوجه مكشوف، أي في ذات الإنسان الداخلي، يتجلى من مجدٍ إلى مجدٍ حسب ذات الصورة[171].
* يقول بولس هذا لأنه لا يوجد مجد أعظم من الخلاص من الموت.
على أي الأحوال بعدلٍ يحكم القاضي على المذنب ويدينه، لكنه يستحق كرامة أعظم إن أظهر الرحمة، إذ يُعطى للمذنب فرصة لتصحيح طرقه[172].
* نحتاج أولًا إلى المجد الذي سيزول، وذلك من أجل المجد الفائق. وذلك كما نحتاج إلى المعرفة الجزئية التي تزول عندما تحل المعرفة الكاملة[173]
"فإن الممجد أيضًا لم يمجد من هذا القبيل لسبب المجد الفائق" [10].
اختفى مجد الناموس الممجد إلى حين أمام عظمة بهاء مجد الإنجيل الفائق. قدم البرّ والقداسة والصلاح والرحمة، وأعلن عن عظمة وغنى نعمة اللَّه الفائقة.
* لم يكن ناموس موسى أكثر مجدًا من أجل البهاء الذي على وجهه (خر 29:34-35). هذا البهاء لا يفيد أحدًا وليست له مكافأة مجد. إنه بالحق أعاقه ليس خلال خطأ فيه بل خلال خطأ الخطاة[174].
* لم يحط بولس من قدر العهد القديم بل مدحه بطريقة سامية، حيث أن المقارنة بين اثنين في الأساس متشابهين في النوع[175].
* نور السراج يشرق ببهاء في ظلمة الليل، أما في الظهيرة فبالكاد يُرى بل ولا يُظن أنه نور[176].
فبالأولى كثيرًا يكون الدائم في مجد" [11].
يقدم لنا مقارنة بين الناموس والإنجيل، الأول مؤقت ينتهي بحلول الثاني. أما الأخير فيتعدى الزمن ويدخل بنا إلى الأبدية. بهاء وجه موسى زال بموته، أما بهاء مجد المسيح فإلهي ذاتي قائم إلى الأبد.
12 فَإِذْ لَنَا رَجَاءٌ مِثْلُ هذَا نَسْتَعْمِلُ مُجَاهَرَةً كَثِيرَةً. 13 وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعًا عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ الزَّائِلِ. 14 بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاق غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي الْمَسِيحِ. 15 لكِنْ حَتَّى الْيَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، الْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ. 16 وَلكِنْ عِنْدَمَا يَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ يُرْفَعُ الْبُرْقُعُ. 17 وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ. 18 وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ.
يليق بخدام الإنجيل إلا يضعوا برقعًا على وجوههم كما فعل موسى النبي بل يكشفوا الحق الإنجيلي في كمال بهائه، فإن التدبير الإنجيلي واضح ومُقدم للجميع بروح البساطة، لا في رموزٍ ولا في ظلالٍ، بل في النور الإلهي الذي جاء إلى العالم ليراه الكل.
"فإذ لنا رجاء مثل هذا نستعمل مجاهرة كثيرة" [12].
فتحت بركات الإنجيل أمامنا باب الرجاء، وقدمت لنا يقينًا بأن الوعود الإلهية قد تحققت، وصار لنا إن ننالها، فهي للجميع. ويبقى اللَّه عاملًا وسيعمل على الدوام لحساب الكل.
مع الثقة واليقين بسمة الإنجيل بالوضوح وعدم الغموض، إذ لا يخفي عن المؤمن شيئًا. يليق بخدام العهد الجديد إن ينطقوا بالحق الإنجيلي في بساطة ووضوح حتى يمكن للكل إن يتمتعوا به.
* يقول بولس الرسول أن لنا رجاء في رؤية المجد، لا من النوع الذي على وجه موسى، بل الذي رآه التلاميذ الثلاثة على الجبل حينما أعلن الرب عن نفسه (مت 1:17-2؛ مر 2:9-3) (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). لهذا يليق بنا أن نتجاوب مع حب اللَّه قدر ما نستطيع بأن نكون حارين في حبنا له، ذاك الذي إذ يطهرنا من خطايانا يهبنا هذه الثقة. الآن يلزم أن تزيد ثقتنا، لأن ما نراه أخيرًا سيكون متناسبًا مع ما نؤمن به الآن[178].
* أي رجاء لنا؟ الرجاء بأن نعمة الروح لن تبطل مثل الناموس، بل تبقى حتى بعد القيامة[179].
"وليس كما كان موسى يضع برقعًا على وجهه،
لكي لا ينظر بنو إسرائيل إلى نهاية الزائل" [13].
لم يتأهل شعب بني إسرائيل إن يتطلعوا إلى بهاء وجه موسى، وهو مجد مؤقت وزائل. وقد سمح اللَّه لهم بذلك حتى يطلبوا ما هو أعظم: المجد الأبدي غير الزائل.
* يقول بولس بأنه لا حاجة لنا أن نغطي أنفسنا كما فعل موسى (خر 33:34)، إذ نحن قادرون أن نرى المجد الذي يحيط بنا حتى وإن كان أكثر بهاءً من الأول[180].
* لماذا يقول هذا؟ لأن من يقطن في المعنى الحرفي المجرد، ويشغل نفسه بحفظ الناموس، يكون كما لو أن قلبه قد تغلف بقبول الحرف اليهودي مثل برقع موضوع عليه. هذا يحدث له بسبب جهله بأن الحفظ الجسدي للناموس قد بطل بحضور المسيح، وذلك من أجل أن الرموز تتحول إلى حقائق للمستقبل...
ذاك الذي له القوة أن يتطلع إلى أعماق معنى الناموس، وبعد ذلك يعبر خلال غموض الحرف كما من خلال برقع لكي يصل إلى الأمور التي لا يُنطق بها يكون مثل موسى الذي ينزع البرقع عندما يتحدث مع اللَّه. هذا يرجع عن الحرف إلى الروح.
هكذا ينطبق البرقع الذي على وجه موسى على غموض تعليم الناموس، وينطبق التأمل الروحي على الرجوع إلى الرب. مثل هذا... يصير بالأكثر مثل موسى الذي يتمجد وجهه بإعلان اللَّه.
وكما أن الأشياء التي توضع بالقرب من الألوان البهية هي نفسها تحمل مسحة من البهاء المشرق حولها، هكذا ذاك الذي يركز نظره بثبات على الروح. فإنه يمجد الرب إلى حدٍ ما يتجلى إلى سمو أعظم، ويستنير قلبه كما بنورٍ ينسكب من الحق الذي للروح. هذا هو "التحول" إلى مجد الروح، ليس إلى درجة شحيحة أو باهتة أو غير واضحة، وإنما كما نتوقع بالنسبة لذاك الذي يستنير بالروح[181].
* الحقيقة بأن العهد القديم لجبل سيناء أنتج أبناء العبودية، الآن لا يهدف سوى للشهادة للعهد الجديد. وألا تكون كلمات الرسول غير صادقة: "حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة موسى يوضع على قلوبهم"، ولكن عندما يتوجه إنسان من العهد القديم إلى المسيح "يُرفع البرقع". ما يحدث هو أن النسمات العميقة التي لأولئك الذين يحدثون تغيرًا بالتحول من العهد القديم إلى الجديد، يبدأون في التطلع إلى السعادة الروحية أكثر من الأرضية[182].
* يوجد بلا شكٍ برقع في العهد القديم، يُرفع حالما يأتي الإنسان إلى المسيح. عند الصلب انشق حجاب الهيكل (مت51:27) ليعني ما قاله الرسول عن برقع العهد القديم، ففي المسيح قد أُبطل[183].
*ليس العهد القديم هو الذي أُبطل في المسيح، بل البرقع الذي يحجب، حتى يُفهم بالمسيح. بمعنى أنه يصير ظاهرًا مكشوفًا، وبدون المسيح يكون مخفيًا وغامضًا.
يضيف نفس الرسول في الحال: "عندما يرجع إلى الرب يُرفع البرقع". لم يقل: "يُزال الناموس أو العهد القديم". الأمر ليس كذلك! بنعمة الرب ما كان مُغطّى يُزال لعدم نفعه، يُزال الغطاء الذي يخفي الحق النافع.
هذا ما يحدث للذين يطلبون بشغفٍ وتقوى، وليس بكبرياءٍ وشرٍ، معنى الكتب المقدسة. بالنسبة لهم يُشرح لهم بوضوح نظام الأحداث وسبب الكلمات والتصرفات والتوافق بين العهدين القديم والجديد، فلا تبقى نقطة واحدة بدون اتفاقٍ تامٍ.
مثل هذه الحقائق السرية بلغت خلال الرموز، عندما تُحضر إلى النور. بتفسير الحقائق يُلزم الذين يرغبون في النقد إلى التعلم[184].
* يقول بولس أن الناموس يخفت، ويقصد بذلك أنه ينتهي في المسيح، الذي سبق فتنبأ الناموس عن مجيئه[185].
لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باقٍ غير منكشف،
الذي يبطل في المسيح" [14].
إذ عكفوا على الحرف لا الروح، وأغمضوا أعينهم حتى لا يروا نور الإنجيل المُقدم لهم غلظت قلوبهم وامتلأوا غباوة. وكأن البرقع الذي يحجب بهاء وجه موسى عنهم لا زال قائمًا. صار لهم برقع الظلمة والجهالة على قلوبهم، الذي يمنع التطلع إلى مجد الإنجيل من الإشراق عليهم.
* ما حدث مرة في حالة موسى يحدث باستمرار في حالة الناموس. ما يُقال ليس اتهامًا للناموس، وليس له انعكاس على موسى الذي وضع برقعًا، وإنما هو اتهام ضد ضيق أفق المهتمّين بحرفية الناموس اليهودي. فإن للناموس مجده اللائق به، وإنما هم كانوا غير قادرين على معاينته. فلماذا نتعجب من أن اليهود لم يؤمنوا بالمسيح، إذ لم يؤمنوا حتى بالناموس؟[186]
* يوضع البرقع على قلوبهم... بسبب ذهن اليهود الثقيل الجسداني... ألا تروا أنه لم يكن البرقع على وجه موسى بل على البصيرة اليهودية؟ حدث هذا ليس لكي يخفي مجد موسى، وإنما لكي لا يروه، لأنهم لم يجدوا طريقًا للرؤية. فالعيب هو فيهم، هذا لم يجعل موسى مجهولًا في شيء ما[187].
* إذ تقلب (العروس) صفحات الأنبياء كمثال، صفحة فصفحة، تجد المسيح نابعًا منها. الآن إذ زال البرقع الذي غطى هذه الصفحات تدركه يبرز ويظهر من الصفحات التي تقرأها، ويندفع منا في إعلان واضح تمامًا[188]
* "إلى هذا اليوم" لا تعني مجرد إلى وقت بولس، بل وإلى وقتنا أيضًا، وبالحقيقة إلى نهاية العالم[189].
"لكن حتى اليوم حين يُقرأ موسى،
البرقع موضوع على قلبهم" [15].
كان اليهود يغطون رؤوسهم بالكامل ببرقعTaliyt (من الكلمة العبريةTaalal وتعني "يغطي") عند قراءة الناموس. هذا البرقع يبطل ويزول وذلك لأنه بالشركة مع المسيح تزول الظلمة، ويتجلى الحق بفكرٍ روحيٍ صادقٍ.
* وجود البرقع ليس بسبب موسى، بل بسبب أذهانهم الجسدانية الفادحة[190].
* حجاب الهيكل يُمزق، لأن ما قد حُجب في يهوذا صار مكشوفًا لكل الأمم. يُمزق الحجاب، وتُعلن أسرار الناموس للمؤمنين، أما لغير المؤمنين فهي مخفية إلى هذا اليوم عينه. عندما يُقرأ موسى -العهد القديم- بصوتٍ عالٍ بواسطة اليهود في كل سبتٍ حسب شهادة الرسل "يغطى البرقع قلوبهم". إنهم يقرأون الناموس، الذي فيه الحق الكافي، لكنهم لا يفهمون، لأن أعينهم تنمو في ظلامها فلا يقدروا أن ينيروها. إنهم بالحق مثل الذين يقول عنهم الكتاب المقدس: "لهم أعين ولا يرون، ولهم آذان ولا يسمعون"[191].
* غير أن الظلال تجلب الحق، حتى إن كانت ليست الحق تمامًا. بسبب هذا وضع موسى المُوحى إليه إلهيًا برقعًا على وجهه، وتكلم هكذا إلى أبناء إسرائيل جميعًا. لكن بهذا العمل يصرخ بأنه يليق بالشخص أن يتطلع إلى جمال منطوقات لا خلال المظهر الخارجي الرمزي، وإنما بالتأملات الخفية فينا (2 كو 15:3-16). لذلك فلنرفع البرقع عن الناموس، ونجعل وجه موسى متحررًا من كل الأغطية، لنتأمل الحق عاريًا[192].
* ما دام الإنسان لا يصغي للمعنى الروحي، يُوضع برقع على قلبه. وبسبب هذا البرقع الذي هو الفهم المتبلد، يُقال أن الكتاب نفسه موضوععليه برقع. هذا هو تفسير البرقع الذي يُقال أنه يغطي وجه موسى عندما يتحدث مع الشعب، بمعنى عندما يُقرأ الناموس علانية. أما إذا رجعنا إلى الرب، حيث يوجد كلمة اللَّه، وحيث يُعلن الروح القدس المعرفة الروحية، يُرفع البرقع، ونستطيع أن ننظر مجد الرب في الكتب المقدسة بوجهٍ بلا برقعٍ[193].
* إشراق مجيء المسيح بإنارة ناموس موسى ببهاء الحق يرفع البرقع الذي يُغطّي حرف الناموس ويُغلق عليه، وذلك لكل من يؤمن به ويخفي في داخله هذه الأمور الصالحة[194].
يرى العلامة أوريجينوس أن هذا البرقع الذي حجب عن أعين اليهود معرفة ربنا يسوع هو الذي دفعهم لقتله ومقاومة كنيسته.
* لم يقم اليهود حتى الآن ضد الأمم التي تعبد الأوثان وتجدف على اللَّه. إنهم لا يبغضونهم ولا ينقموا منهم، بل هم ناقمون على المسيحيين، ومشتعلون بكراهية لا تخمد تجاه من هجروا الأوثان وتحولوا إلى عبادة اللَّه[195].
* إذ لم يبق لهم مذبح ولا هيكل ولا كاهن، ولم يكن بالتالي تقدمات ذبائح كانوا يشعرون بأن خطيتهم باقية فيهم، وأنه لا سبيل لهم لنوال المغفرة. إن كان الذي قتل الرب يسوع يهوديًا، فإنه لا يزال يتحمل مسئولية هذه الجريمة إلى يومنا هذا، وذلك ثمرة عدم فهمه لما في باطن الناموس والأنبياء[196].
يطالبهم العلامة أوريجينوس أن ينزعوا البرقع حتى تتحول أنظارهم من المفهوم الحرفي للَّهيكل والذبائح إلى المفهوم السماوي:
* يا معشر اليهود، عندما تأتون إلى أورشليم وتجدون إنها خربت، وتحولت إلى تراب ورماد، فلا تبكوا كالأطفال (1 كو4). لا تحزنوا، بل أنشدوا لكم مدينة في السماء بدلًا من تلك التي تبحثون عنها هنا على الأرض. ارتفعوا بأبصاركم، فستجدون في الأعالي أورشليم الحرة التي هي أمنا جميعًا (غلا4: 26).
لا تحزنوا على غياب الهيكل هنا، ولا تيأسوا لافتقاركم إلى كاهن. ففي السماء تجدون مذبحًا وكهنة الخيرات العتيدة، على رتبة ملكي صادق، في موكبهم أمام اللَّه (عب5: 10). فقد شاءت محبة الرب ورحمته أن ينزع عنكم الإرث الأرضي، حتى يتسنى لكم أن تطلبوا السماوي[197].
إن كان شعب اللَّه في العهد القديم دُعي "إسرائيل" ففي رأي العلامة أوريجينوس أن هذه الكلمة تعني "الذهن الذي يعاين اللَّه". لهذا إذ وضع برقع على ذهنهم فلم يروا اللَّهوفقدوا هذا اللقب لكي تتقبله كنيسة العهد الجديد "إسرائيل الجديد" التي رجعت إلى الرب وتمتعت برؤية إلهية فائقة.
هذا البرقع الذي حرم اليهود من الرؤية السماوية وإدراك سرّ الصليب أبقت اليهود عند مارة ليشربوا من مياه الناموس المرة، هذه التي يشرب منها المسيحيون فيجدونها خلال الصليب عذبة.
* ما زال اليهود عند مارة، ما زالوا مقيمين عند المياه المرة، لأن اللَّه لم يريهم بعد الشجرة التي بها يصير الماء عذبًا. ألقى الرب بشجرة في المياه مما جعلها عذبة. أما عندما تأتي شجرة (صليب) يسوع ويسكن في داخلي تعليم مخلصي يصير ناموس موسى عذبًا، ويصير مذاقه لم يقرأه ويفهمه بالحقيقة حلوًا[198].
"ولكن عندما يرجع إلى الرب يُرفع البرقع" [16].
يتحدث هنا عن حالة موسى النبي (خر34:34). ولعله يشير هنا إلى رجوع اليهود إلى الإيمان بالسيد المسيح كربٍ وفادٍ، فينزع عنهم برقع الجهالة وعمى الذهن وقسوة القلب، إذ يشرق عليهم النور الحقيقي، ويروا الحق بكل وضوح.
يرى الرسول إن اليهود كجماعة ستقبل الإيمان بالمسيح، ويصيروا مع الأمم قطيعًا واحدًا لراعٍ واحدٍ وأسقف نفوس الكل.
* يلزمنا أن نستعطف الرب نفسه، الروح القدس نفسه، لكي يرفع كل سحابة وكل ظلمة تجعل رؤية قلوبنا غامضة قاسية بوصمات الخطايا، حتى نستطيع أن نرى معرفة ناموسه الروحية العجيبة[199].
* غاية البرقع ليس إخفاء موسى بل منع اليهود من رؤيته، إذ كانوا عاجزين عن فعل هذا. لكن عندما نرجع إلى الرب، فالبرقع يُرفع طبيعيًا.
عندما تحدث موسى مع اليهود كان وجهه مُغطّى، ولكن عندما تحدّث مع اللَّه رُفع البرقع. هكذا عندما نرجع إلى بالرب نرى مجد الناموس ووجه مُسلِّم الناموس غير مغطّيين. ليس هذا فقط، فإننا نحن سنكون في شاكلة موسى[200].
* لنحذر لئلا ليس فقط "عندما يُقرأ موسى" بل وأيضًا عندما يُقرأ بولس يوضع برقع على قلوبنا. إذا ما سمعنا بإهمال، إن كنا لسنا غيورين للتعلم والفهم ليس فقط أسفار الناموس والأنبياء، بل وحتى الرسل والأناجيل تُغطّى ببرقع عظيم.
إني أخشى لئلا بالإهمال العظيم وبلادة القلب ليس فقط تُحجب الأسفار الإلهية بالنسبة لنا بل وتُختم، حتى إذا ما وُضع كتاب في يدي إنسانٍ لا يقدر أن يُقرأ وإذ يُطلب منه أن يقرأ يقول: لا أستطيع القراءة. وإذا وضع في أيدي إنسانٍ قادرٍ على القراءة يقول: إنه مختوم.
لهذا فإننا نرى أنه يلزمنا ليس فقط أن تكون لنا غيرة لتعلم الأدب المقدس، بل ونصلّي إلى الرب ونتوسل إليه نهارًا وليلًا لكي ما يأتي الحمل الذي من سبط يهوذا ويمسك بنفسه السفر المختوم ويفتحه. فإنه هو الذي يفتح الأسفار، ويُلهب قلوب تلاميذه، فيقولوا: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا عندما فتح لنا الكتب المقدسة"؟ ليته الآن يرى أننا نتأهل ليفتح لنا ما أوحي به لرسوله، ويقول: "ولكن الرب هو روح، وحيث روح الرب فهناك حرية"[201].
* يظهر بولس أن الروح واللَّه هما متساويان. حوّل موسى عينيه نحو اللَّه (خر 34:34)، ونحن نحوّل أعيننا نحو الروح القدس. كان يصعب على بولس أن يقول بأن ما يعلنه الروح أعظم مما رآه موسى لو أن الروح مجرد مخلوق وليس هو اللَّه نفسه[202].
* الشخص الذي يتبارك بروح الرب يتحرر من دينونة الناموس، لأن المواهب الروحية تعطي قوتها بالروح. علاوة على ذلك فإن العطية توهب مجّانًا للمستعدين لقبولها[203].
* اليهود هم مثل أولاد تحت إشراف معلم. الناموس هو معلمنا، يُحضرنا إلى السيد، والمسيح هو سيدنا... المعلم نخافه، والسيد يشير إلى طريق الخلاص. الخوف يحضرنا إلى الحرية، والحرية إلى الإيمان، والإيمان إلى الحب، والحب يجلب بنوة، والبنوة تجلب ميراثًا. لذلك حيث يوجد الإيمان تُوجد حرية، لأن العبد يعمل في خوفٍ، والحر يعمل بالإيمان. الأول تحت الحرف، والثاني تحت النعمة. الأول في عبودية والآخر في الروح. "وحيث روح الرب فهناك حرية"[204].
* توجد فائدة لنزع برقع العروس: فعيونها أصبحت حرة بلا نقاب وتتمكن من النظر بدقة لترى محبوبها. ويشير نزع البرقع بلا شك إلى عمل الروح القدس حسب كلام الرسول: "ولكن عندما يرجع إلى الرب يُرفع البرقع. وأما الرب فهو الروح وحيث روح الرب هناك حرّية" (2 كو 16:3، 17)[205].
* ليس في قدرة الإنسان أن يقتني مثل هذه العطية، لكن تختفي النية الإلهية وراء جسم الكتاب المقدس، كما خلف برقع، فبعض الشرائع والقصص التاريخية تغطي الحقائق التي يتأملها الذهن. لهذا يخبرنا الرسول أن الذين يتطلعون إلى جسم الكتاب المقدس ولهم برقع على قلوبهم غير قادرين أن ينظروا مجد الناموس الروحي، إذ هو مخفي وراء البرقع الموضوع على وجه واضع الناموس. لهذا يقول: "الحرف يقتل وأما الروح فيحيي"[206].
* "البرقع موضوع على قلبهم"، فلا يرون أن"الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 17:5) ...
لماذا هي أشياء عتيقة؟ لأنها نُشرت منذ وقت طويل.
ولماذا جديدة؟ لأنها تخص ملكوت اللَّه.
كيف يُنزع الحجاب؟ هذا ما يخبرنا به الرسول: "ولكن عندما يرجع إلى الرب يُرفع البرقع". إذن اليهودي الذي لا يرجع إلى الرب لا يمكن لعيني ذهنه أن تنظران حتى النهاية. وذلك كما في هذا الزمان، أبناء إسرائيل في هذا المثال لا يحملون بصيرة ليعاينوا إلى النهاية، أي إلى وجه موسى. فإن وجه موسى المشرق يحوي رمزًا للحق، والبرقع يعترض الرؤيا، لأن أبناء إسرائيل لم يستطيعوا حتى الآن أن يروا مجد ملامحه.
أي رمز قد بطل؟ هكذا يقول الرسول: "الذي يبطل". لماذا يبطل؟ لأنه إذ يحضر الإمبراطور تبطل صوره[207].
* فان العهد القديم من جبل سيناء يجلب عبودية، ولا ينفع شيئًا ما لم يحمل شهادة للعهد الجديد. ما دام موسى يُقرأ والبرقع على قلوبهم، ولكن إذ يرجع أحد إلى المسيح يبطل البرقع[208].
* كلما ازداد عدد البراقع كرِّم ذاكالذي خلفهاحتى وإن لم تدركه. لأن من هو أكثر كرامة تتدلى بالأكثر البراقع في قصره. تغطي البراقع المحفوظ وراءها مكرمًا سريًا، ومن يكرمها تنزع عنه البراقع، أما الذي يحتقرها فيطرد لكي لا يمسها. فإننا إذ نرجع إلى المسيح، يبطل البرقع[209].
* يقول الرسول نفسهأن كل كنوز الحكمة والمعرفة مخفية فيه. هذه الكنوز لم يخفها لكيتُرفض، إنما لكي يثير الشوق إليها لأنها مخفية. هذا هو نفع الأمور السرية. كرم حتى ما لم تفهمه فيه. وكلما كانت كرامتها أكثر يزداد عدد الستائر التي تخفيها. الإنسان ذو المرتبة السامية يعلق ستائر أكثر في بيته. الستائر تضفي كرامة لما تحفظه سرًا، أما الذين يكرمونها فترفع عنهم الستائر. أما الذين يسخرون من الستائر فيخيبون ويمنعون من الاقتراب إليها. لذلك إذ نرجع إلى المسيح يبطل البرقع[210]
* "ملكوت اللَّه في داخلكم" (لو 21:17) ... وذلك من أجل التوبة عن الحرف إلى الروح الحي؛ "إذ يرجع أحد إلى الرب يُرفع البرقع"[211].
وحيث روح الرب هناك حرية" [17].
يقدم لنا بركة التمتع بالروح عوض الحرف، مؤكدًا إن مؤمني العهد الجديد سعداء لثلاثة أمور:
أولًا: التمتع بالنور عوض الظلمة.
ثانيًا: التمتع بالحرية الداخلية.
ثالثًا: تجديد الطبيعة حتى نصير أيقونة المسيح.
هنا يتحدث عن الحرية، فإذ يعمل الروح القدس خلال تدبير الخلاص الذي قدمه لنا السيد المسيح يتمتع المؤمن بالحرية من حرفية الناموس وعبودية الفساد، فيجد نفسه ملتصقًا باللَّه، تتناغم إرادته مع إرادة اللَّه. يتحرر القلب من عبودية الأنانية، فيتسع بالحب نحو كل البشرية، ويجري في طريق الوصية الإلهية المتسعة.
يرى البعض إن الرسول يعني بالروح هنا الإنجيل الذي نتمتع به بالروح لا بالحرف. فحيث ننعم بإنجيل الرب ننال بالنعمة الإلهية التي تحررنا ليس فقط من الحرف اليهودي القاتل وإنما أيضًا من الخطية وسلطانها وفسادها وموتها.
* يليق بنا أن نعلم أن نزع هذا البرقع هو نوع من النعمة، لأنه يليق بالعين أن تكون حرة من كل عائقٍ، حتى يمكنها أن تبصر جمال الحبيب[212].
* أي إنسان يسعى إلى الوصول إلى كمال التعليم الإنجيلي، هذا الذي يعيش تحت النعمة، لا يسقط تحت سلطان الخطية، لأن البقاء تحت النعمة معناه العمل بالأمور التي تأمر بها النعمة. أما الإنسان الذي لا يُخضع نفسه للمطالب الكاملة الخاصة بكمال الإنجيل، فيلزمه ألا يجهل أنه وإن كان قد اعتمد، وإن صار راهبًا، لكنه بالرغم من هذا فهو ليس تحت النعمة، إنما مقيد بقيود الناموس ومُثقل بأثقال الخطية. لأن ذاك الذي وهب نعمة التبني ويقبل الذين يقبلونه، يرغب في أن يضيف إلى البناء لا أن يهدمه، إذ أراد أن يكمل الناموس لا أن يهدمه.
إذ لا يفهم البعض هذا الأمر، مهملين نصائح المسيح الرائعة ومواعظه، يتخذون من الحرية فرصة للإهمال والتهور الزائد، حتى أنهم يعجزون عن تنفيذ أوامر المسيح كأنها صعبة جدًا، محتقرين أيضًا وصايا الناموس الموسوي[213] كأمر عتيق، مع أن الناموس قدمها للمبتدئين والأطفال. بهذا ينادون بالحرية الخطيرة التي يلعنها الرسول قائلين "أَنخطئُ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة؟" (رو15:6).هؤلاء ليسوا تحت النعمة، لأنهم لم يتسلقوا قط مرتفعات تعاليم الرب. ولا هم تحت الناموس، لأنهم لم يقبلوا حتى تلك الوصايا البسيطة التي للناموس. هؤلاء إذ هم ساقطون تحت سلطان الخطية المزدوج يظنون أنهم قد قبلوا نعمة المسيح.. ويسقطوا فيما يحذرنا منه الرسول بطرس قائلًا: "كأحرار وليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر" (1 بط16:2). ويقول الرسول بولس الطوباوي: "فإنكم إنما دُعِيتم للحريَّة أيُّها الإخوة. غير أنهُ لا تُصيّروا الحرَّية فرصةً للجسد" (غلا 13:5)، أي دعيتم للتحرر من سلطان الخطية، وليس معنى إبعاد أوامر الناموس بمثابة تصريح بعمل الخطية. ويعلمنا الرسول بولس أن هذه الحرية لا توجد إلا حيث يوجد الرب، إذ يقول: "وأما الربُّ فهو الروح وحيث روح الرب هناك حرّيَّة" (2كو17:3)[214].
"ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآة،
نتغير إلى تلك الصورة عينها،
من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح" [18].
إذ ننعم بالنور الإلهي والحرية الحقيقية تتجدد طبيعتنا وتنمو كل يوم لكي نتشكل ونصير أيقونة المسيح خالقنا. نرتفع كما من مجدٍ إلى مجدٍ. هكذا يتذوق المؤمن خبرة يومية ومعرفة عملية خلال قوة الكلمة المجددة على الدوام.
كان اليهود عاجزين عن التطلع إلى وجه موسى وسيط العهد القديم، فكان لزامًا إن يضع على وجهه برقعًا. أما نحن فصار لنا الوجه المكشوف لنرى كما في مرآة كيف تتشكل طبيعتنا كل يوم حسب الوعود المجيدة التي لإنجيل المسيح وذلك بفعل الروح القدس "الرب الروح".
* يظهر أنه ليس ممكنًا للنفس أن تتحد باللَّه غير الفاسد بأية وسيلة ما لم تصرْ تقريبًا طاهرة خلال عدم الفساد، حتى تنعم الشبه بالشبه، وتقيم نفسها كمرآة تتطلع نحو نقاوة اللَّه، فيتشكل جمال النفس بالشركة في الجمال الأصلي والتمتع بانعكاسه عليها[215].
* مادمنا قابلين للتغيير فالأفضل أن نتغير إلى ما هو أفضل: "من مجدٍ إلى مجدٍ". وهذا يجعلنا نتقدم دائمًا نحو الكمال بالنمو اليومي، مع عدم الاكتفاء بحدودٍ معينة نحو الكمال. يعني عدم التوقف نحو ما هو أفضل، وعدم وضع أيّة حدود نقف عندها في نمونا[216].
* نحن نرى الآن العروس يقودها الكلمة إلى أعلى درجات الفضيلة، إلىعلو الكمال.
في البداية يرسل لها الكلمة شعاعًا من نورٍ من خلال شبابيك الأنبياء وكوى الوصايا. ثم يشجعها على أن تقترب من النور، وتصير جميلة بواسطة تحوّلها إلى صورة الحمامة في النور. وفي هذه المرحلة تأخذ العروس من الخير قدر ما تستطيع. ثم يرفعها الكلمة لكي تشارك في جمال أعلى لم تتذوقه من قبل. وبينما هي تتقدم تنمو رغبتها في كل خطوة، لأن الخير غير محدود أمامها. وتشعر باستمرار مع حلول العريس معها أنها قد ابتدأت صعودها للتوّ فقط. لذلك يقول الكلمة للعروس التي اقامها من النوم: "انهضي". وإذ جاءت إليه يقول لها: "تعالي"، لأن الشخص الذي دعاها للنهوض بهذه الطريقة في استطاعته أن يقودها إلى الارتفاع والنهوض بها إلى مستوى أعلى.
الشخص الذي يجري نحو اللَّه ستكون أمامه مسافات طويلة. لذلك يجب علينا أن نستمر في النهوض، ولا نتوقف أبدًا عن التقرب من اللَّه. لأنه كلما قال العريس: "انهض" و"تعال" فإنه يعطي القوة للارتفاع لما هو أفضل. لذلك لا بُد أن تفهم ما يأتي بعد في النص. عندما يحفز العريس العروس الجميلة لكي تكون جميلة فهو يذكرنا حقًا بكلمات الرسول الذي يطلب منا أن نسلك سلوكًا فاضلًا لكي نتغير من مجدٍ إلى مجدٍ (2 كو 18:3). وهو يعني بكلمة "مجد" ما فهمناه وحصلنا عليه من بركة في وقت من الأوقات، ولا يهم مقدار ما حصلنا عليه من مجدٍ وبركةٍ وارتفاعٍ، لأنه يُعتقد أننا حصلنا على أقل مما نأمل في الحصول إليه. ولو أنها وصلت إلى جمال الحمامة بما قد حققه إلا أن العريس يأمرها بأن تكون حمامة مرة أخرى بواسطة تحوّلها إلى شيءٍ أفضل. فإذا حدث ذلك فإن النص سوف يُظهر لنا شيئا أفضل من هذا الاسم "حمامة"[217].
* لا يشير هذا إلى الأمور التي ستنتهي بل إلى الأمور الباقية. الروح هو اللَّه، ونحن نرتفع إلى مستوى الرسل، لأننا جميعًا سنراه معًا بوجوه مكشوفة. إذ نعتمد تتلألأ النفس أكثر بهاءً" من الشمس. إذ تتطهّر بالروح، ليس فقط نعاين مجد اللَّه، بل ونقبل منه نوعًا من الإشراق[218].
* نتغير من معرفة الناموس إلى نعمة الروح. يجب أن نتذكر أننا نأتي من مجد الروح العامل فينا إلى مجد ميراثنا كأبناء. هذا هو عمل الروح، إذ يليق أن نفهم هنا كلمة "الرب" بمعنى الروح لا ابن اللَّه[219].
* مع أن القول "كما في مرآة" يشير أنه ليس جوهريًا، إلا أنه يظهر بوضوح أننا على أي الأحوال نطلب أن نكون شبهه[220].
* يسير الأمر هكذا: أعلن العهد القديم عن الآب علانية والابن بطريقة أكثر غموضًا. وأعلن العهد الجديد عن الابن وأوحى بلاهوت الروح. الآن الروح نفسه يسكن بيننا ويمدنا ببراهين أوضح عن نفسه. فإنه ليس من الأمان أنه عندما لم يُعرف لاهوت الآب بعد أن يُعلن عن الابن بوضوح، ولا عندما لا نتسلم لاهوت الابن أن نتحمل (أن تجاسرت بهذا التعبير) بالأكثر بلاهوت الروح القدس... لهذا السبب أظن أنه هكذا جاء الروح تدريجيًا ليسكن في تلاميذه، ويملأهم حسب إمكانية قبولهم له: في بدء الإنجيل، وبعد الآلام، وبعد الصعود، وعندئذ جعل قوتهم كاملة، إذ حلّ عليهم وظهر في ألسنة نارية. حقًا قد أعلن يسوع عنه قليلًا كما ستتعلّمون بأنفسكم متى قرأتم بأكثر انتباه[221].
* أتريدون أن تعرفوا طريقًا آخر فيه تُحسبون لعجائب أعظم؟ كان اليهود في أيامهم عاجزين عن رؤية وجه موسى متجليًا مع أنه كان العبد رفيقهم وقريبهم. أنتم ترون وجه المسيح في مجده. لقد صرخ بولس عاليًا، قائلًا: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجوه مكشوفة". في ذلك الوقت كان المسيح يتبع اليهود، أما الآن فهو يتبعنا بالأكثر... الآن هو يتبعنا، فلسنا فقط نشكر موسى (الجديد) بل وشكرًا لاستعداد طاعتكم. لأن اليهود جاءوا في البرية بعد مصر، أما أنتم فستأتون إلى السماء بعد خروجكم. كان موسى قائدًا لهم ورئيسًا ممتازًا، أما نحن فلنا موسى آخر، الرب، يقودنا ويأمرنا[222].
* لست أظن أن هذا أمر مخيف (أقصد بذلك أن طبيعتنا متغيرة). ليكن التغيّر إلى الأفضل، فيكون لنا نوع من الجناح لنطير إلى الأمور الأعظم. لهذا ليته لا يحزن أحد إن رأى في طبيعته ميلًا للتغيّر. لتتغيّر في كل شيء إلى ما هو أفضل. ليتغيّر الشخص من مجدٍ إلى مجدٍ، فيصير أعظم خلال النمو اليومي، والكمال المستمر دون بلوغ حد الكمال بسرعة هكذا. فإن هذا هو الكمال الحقيقي، ألاّ تقف في النمو نحو ما هو أفضل وألا تضع حدًا للكمال[223].
* لم يدعُ الروح الرب فحسب، وإنما اضاف: "حيث روح الرب هناك حرية". هكذا نحن جميعًا بوجه مكشوف، بانعكاس مجد الرب نتشكل من جديد إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح، بمعنى نحن الذين قد رجعنا إلى الرب، كما بفهمٍ روحيٍ لكي نرى مجد الرب، كما في مرآة الكتب المقدسة، الآن نتغير من ذاك المجد الذي يردنا إلى الرب، إلى المجد السماوي[224].
* تعبير الرسول "وجها لوجه" لا يلزمنا أن نعتقد أننا سنرى اللَّه بوجه جسدي فيه عينا الجسد، إذ سنراه بدون توقف في الروح. لو لم يشر الرسول إلى الوجه في الإنسان الداخل ما كان يقول: "ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآةٍ، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما في الرب". فإنه بالإيمان نقترب إلى اللَّه، والإيمان هو عمل الروح لا الجسد[225]
نلاحظ أن الرسول في هذا الأصحاح تحرك من الدفاع عن رسوليته ونجاح خدمته في كورنثوس كما في أماكن أخرى إلى إبراز عظمة خدمة العهد الجديد ومجدها لكي يتمتع بها كل المؤمنين:
أولًا: خدمة العهد القديم مجيدة كما حدث عند استلام موسى النبي للشريعة على جبل موسى، لكن الشعب خشي الموت، وطلبوا ألا يتحدث اللَّه معهم حتى لا يموتوا (خر19:20؛ تث 16:18) فنالوا روح العبودية للخوف (رو 15:8). إما نحن فنلنا روح القوة والحب (2 تي 7:1)، روح التبني للَّه الآب (2 كو 12: 18-24).
ثانيًا: موسى الذي أضاء وجهه كان خادمًا لناموس منقوش على لوحي حجارة، أما الرسل فهم خدام العهد الجديد أو إنجيل المسيح المنقوش بالروح القدس في قلوب المؤمنين اللحمية لا الحجرية.
ثالثًا: قدم موسى الحرف الذي يقتل، أما الرسل فقدموا الإنجيل بالروح الذي يحيي.
رابعًا: نال موسى مجدًا، وأشرق وجهه لكن إلى حين، إما المجد الذي نناله من المسيح فهو دائم النمو، به نرتفع من مجدٍ إلى مجدٍ حتى نبلغ الأمجاد الأبدية.
خامسًا: كان الناموس مُعلنًا خلال رموز وظلال غامضة، أما إنجيلنا فجاء واضحًا وبسيطًا.
سادسًا: رأى اليهود مجد موسى الزائل في الخارج عنهم، أما المسيحيون فيرون شخص المسيح ساكنًا فيهم. هم رأوه في وجه موسى، إما نحن فنراه في داخلنا كما في مرآة تعكس بهاء مجد السماوي.
* رأيتك يا مخلصي في قلوب شعبك.
لمست نعمتك الغنيّة في أعماقهم.
كغارسٍ ألقي ببذار كلمتك على مسامعهم،
وأنت يا واهب الحياة تقدم لهم النمو!
* إنجيلك مفرح للغاية.
يشعل قلبي بنار الحب لك ولكل البشرية.
وهبتني أن اقرأ عملك في قلوب شعبك.
لست أقرأ حروفًا مكتوبة بالحبر،
ولا منقوشة على حجارة.
بل هي لغة روحك القدوس الناري.
تقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم.
تسجل إنجيلًا حيًّا يقدس النفس والجسد معًا.
* قلبي متهلل، لأنك دخلت بي إلى عهد النعمة.
نعمتك تهبني تقديسًا فائقًا.
نعمتك تسندني فلا أكسر الحرف.
لا يعود الحرف يقتلني، لأن روحك يحييني.
* استلم موسى النبي ناموسك،
فأشرق وجهه ببهاء سماوي فائق.
وضع الشعب الإسرائيلي برقعًا على وجه موسى.
إذ لم يستطيعوا معاينة إشراقاتك على وجهه.
الآن وهبتني نعمتك.
تتجلّى في قلبي كما على جبل تابور.
وتتملئ أعماقي بأنوار فائقة.
أدخلتني إلى أمجاد فائقة.
نزعت الحجاب لكي أدخل مقادسك،
هناك التقي بك يا واهب المجد!
* أرجع دومًا إليك،
فلا يكون للبرقع موضع فيّ.
لا تقدر قوة أن تحجب بهاء مجدك عن بصيرتي.
لا يمكن لأحدٍ أن يخفي الحق الإلهي عن أعماقي!
* إنجيلك صار مفتوحًا أمامي.
وأبواب السماء تفيض عليّ بأسرارك.
اتطلّع إلى مجدك بوجه مكشوف كما في مرآة.
تحملني من أمجاد إلى أمجاد،
حتى تدخل بي إلى يوم مجيئك العجيب.
لك المجد يا واهب المجد لمحبيك!
← تفاسير أصحاحات كورنتوس الثانية: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير كورنثوس الثانية 4 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير كورنثوس الثانية 2 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7ky6g7v