محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
يشوع: |
إذ نقف بكل إجلال وتقدير أمام العظيم في الأنبياء، موسى مُسْتَلِم الناموس، وأول قائد لشعب الله، الذي أخرجهم من عبودية فرعون القاسية بذراع قوية ويدّ رفيعة، ولكنه كممثل للناموس عجز عن أن يدخل بهم إلى أرض الموعد، لينعموا بمدينة الملك العظيم أورشليم، ويقيموا هيكل الرب. كان لا بُد أن يجتاز بهم البرية، ولكنه يقف عند حافة نهر الأردن، على جبل موآب، ينظر أرض الميعاد من بعيد دون أن يدخلها، حتى يظهر القائد الجديد يشوع كممثل يسوع ربنا القادر وحده أن يحقق ما عجز عنه الناموس، فيدخل بنا إلى الميراث، وبه تتحقق المواعيد التي طال انتظار البشرية لها.
خلال هذه النظرة الإنجيلية نرى في سفر يشوع إنجيلًا مفتوحًا، يستمد قوته من عمل ربنا يسوع المسيح الخلاصي، وفي نفس الوقت يكشف أسرار العهد الجديد ويبرزها بغنى فائق.
ليت إلهنا الصالح يسوع يستخدم هذا العمل ليدفعنا خلاله للاشتياق نحو التمتع بميراثنا الأبدي فيه، خلال عمل روحه القدوس الناري.
دير مارمينا العجائبي بمريوط، سبتمبر 1982 م.
- مقدمة |
أولًا: شخص يشوع
كلمة "يشوع"
يشوع ومعركة رفيديم
يشوع كجاسوس
يشوع خادم موسى
يشوع خليفة موسى
يشوع والاستعداد للعبور
يشوع والجاسوسان
يشوع وعبور الأردن
يشوع وسرّ الراحة
ثانيًا: سفر يشوع
كاتب السفر
موضوعه
مركز السفر
سمات السفر
سفر يشوع والحروب
يشوع ويسوع
كنعان والكنعانيون
وفيما يلي فكرة مختصرة عن بعض هذه القبائل
1. العناقيون
2. الرفائيون
3. الأموريون
4. الجبعونيون
5. الحويون
6. الحثيون
7. اليبوسيون
8. الفرزيون
9. الجرجاشيون
سفر يشوع وعلم الآثار
أقسام السفر
لكي نتفهم سفر يشوع يليق بنا أن نتلمس شخصية يشوع بن نون، خاصة في فترة التصاقه بموسى النبي، قبل استلامه قيادة الشعب ليدخل بهم إلى أرض الموعد المقدسة... وإن كنا قد سبق فتعرضنا لها أثناء دراستنا لسفر الخروج والعدد.
"يشوع" كلمة عبرية تعني "يهوه هو الخلاص"، أو "الله مخلص". اسمه في الأصل "هوشع" (عد 13: 8)، أو "يهوشوع" (1 أي 7: 27).
لما كان اسم "يشوع" هو بعينه "يسوع" في العبرية، لذلك أضفى هذا الاسم على السفر جاذبية خاصة، بكونه يمثل رمزيًا شخص يسوع كمخلص البشرية وأعماله معنا، مما جعل الآباء يسجلون في تأملاتهم كل كلمة وكل تصرف ورد في السفر بكونه رمزًا لعمل يسوع المسيح لخلاصنا.
إن اسم "يسوع" كما يقول الرسول بولس يفوق كل اسم، أُعطي لكلمة الله المتجسد "لكي تجثوا باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض" (في 2: 9-10)... ولما كان يشوع بن نون هو أول من حمل هذا الاسم، فإن هذا لم يتم مصادفة ولا بدون هدف، إنما ليُعلن عمل ربنا يسوع المسيح القيادي حيث يدخل بنا إلى أورشليم العليا، بعد أن يعبر بنا في الأردن، لننعم بالأرض الجديدة، ونتناول الحنطة الجديدة، ونتعبد في هيكل الرب بطقس تعبدي فائق.
يقول العلامة أوريجانوس [إن أحدًا من الأجيال القديمة الأولى لم يحمل هذا الاسم سوى يشوع بن نون. هابيل لم يُدعى بهذا الاسم، وكذلك ليس الذي بميلاده "ابْتُدِئَ... يُدْعَى بِاسْمِ الرَّبِّ"(*) (تك 4: 26)، لكنه لم يتأهَّل لنوال الاسم. ونوح تأهل وحده في كل جيله أن ينال نعمة في عيني الله (تك 6: 8-9) ومع هذا لم ينعم بالاسم. حتى إبراهيم الذي وُعد بنوال العهد، وإسحق ابن الموعد، ويعقوب مختلس البركة (تك 27: 36). وموسى الآمين في كل بيت الله (عد 12: 7، عب 3: 2)، هؤلاء جميعًا لم يستحق أحدهم التمتع بهذا الشرف(1)].
يشوع بن نون، من سبط أفرايم، وُلد في مصر، وخرج مع موسى النبي إلى البرية، وتتلمذ على يديه، ولكننا لم نسمع عنه في الكتاب المقدس إلاَّ في معركة رفيديم حيث عَيَّنَهُ موسى النبي كقائد للشعب في المعركة الأولى بعد الخروج وكانت ضد عماليق (خر 17: 9)، وكان عمره آنئذ حوالي 44 عامًا.
في دراستنا لسفر الخروج تعرضنا لهذه المعركة، وما تحمله من رموز(2)، ولكنني ما أريد تأكيده هنا هو أن ذكر يشوع أولًا في هذه المعركة كبداية تعارف معه إنما يحمل فهمًا خاصًا يود الوحي الإلهي تقديمه. لقد قيل: "وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم، فقال موسى ليشوع: انتخب لنا رجالًا وأخرج حارب عماليق، وغدًا أقف أنا على رأس التلة وعصا الله في يدي، ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق" (خر 17: 8-10). لعل الوحي أراد تأكيد أن لقاءنا مع مع رب المجد يسوع إنما يكون أولًا خلال معركة الصليب، خلالها ينتخب مؤمنيه كرجال أقوياء يحاربون إبليس وكل جنوده، فينعمون به على النصرة الروحية ضد قوات الظلمة. إننا في تعرفنا على يسوعنا الحيّ سواء في البشارة بتجسده أو ميلاده أو ختانه أو صومه أو تجربته أو عماده أو خدمته إلخ... إنما نراه خلال الصليب.
إننا نلتقي بيشوع بن نون لأول مرة كقائد جيش غالب، أما سرّ غلبته فهو حمله اسم "يشوع" غالب الشيطان. يقول الأب لكتانتيوس: [لقد أُختير قائدًا للجيش ضد عماليق المهاجم لبني إسرائيل، لكي يغلب العدو خلال رمز اسمه. ويقود الشعب إلى أرض الميعاد(3)].
لماذا طلب موسى من يشوع أن ينتخب رجالًا ويحارب عماليق؟ قلنا أن موسى يمثل الناموس، ويشوع يمثل يسوع المسيح واهب النعمة، وكما يقول الإنجيلي: "لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1: 17). كأن الناموس ممثلًا في موسى قد كشف عن عماليق العدو العنيف وأوضح خطورة الموقف، لهذا صرخ ليسوع المسيح القادر وحده أن يختار رجالًا روحيين يهبهم إمكانية النصرة. كشف الناموس عن عماليق الحقيقي، كقول الرسول: "لم أعرف الخطية إلاَّ بالناموس فإنني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته" (رو 7: 7)، لكنه لم يقدر أن ينزعها، لذا قدمني ليسوع غالب الخطية، كقول الرسول نفسه: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4). وكأن عمل الناموس مزدوج: الكشف عن خطورة المعركة مع عماليق (الخطية)، والإعلان عن الحاجة إلى يسوع كقائد للمعركة الروحية وواهب الغلبة.
يعلق العلامة أوريجانوس على هذا النص الكتابي (خر 17: 8-10)، قائلًا: [اعترف موسى بعدم قدرته على تحريك الجيش. اعترف بعجزه عن قيادته، ومع أنه هو الذي صنع الخروج من أرض مصر (خر 32: 11). لهذا يقول الكتاب أنه نادى يشوع وقال له: "انتخب لنا رجالًا وأخرج"، تُرى على من وقعت مسئولية محارية عماليق؟!(4)].
يا لها من صورة رمزية رائعة، إذ يقول موسى ليشوع: "انتخب لنا رجالًا وأخرج". وكأنه صوت الناموس الموسوي الذ هيأ الطريق للمخلص، وها هو يصرخ إليه، سائلًا إياه أن يختار مؤمنيه كرجال ناضجين (1 كو 16: 3)، ليس فيهم عجز الطفولة ولا تدليل النساء(5). يخرجون إلى الحرب الروحية معه وبه، ذاك الذي بتجسده وإخلائه ذاته خرج إلينا لكي يغلب بالنيابة عنا، باسمنا ولحسابنا. لقد رآه يوحنا الحبيب: "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2). لقد خرج في طاعة للآب محب البشر حتى الموت (في 2: 8)، ومن أجل محبته ليّ (غل 2: 20). ليحمل الموت عن كل واحدٍ منا، مصارعًا عماليق الحقيقي!
في دراستنا لسفر العدد تحدثنا عن يشوع كجاسوس مختار عن سبطه، قدم لنا هو وكالب رفيقه تقريرًا صحيحًا عن أرض الموعد، ينبع عن إيمانها بمواعيد الله الصادقة. رأينا ضرورة التحام يشوع بكالب (قلب) كعلامة التقاء إيماننا بيسوع كمخلص بإخلاص القلب وقداسته لنوال المواعيد الإلهية(6).
يقول الكتاب: "فقام موسى ويشوع خادمه، وصعد موسى إلى جبل الله" (خر 24: 13). فإن كان موسى يُشير إلى الناموس العاجز عن تقديم الخلاص كيف يمكن أن يُقال عن يشوع وهو رمز ليسوع المسيح أنه خادم موسى؟
يوضح العلامة أوريجانوس مفهموم كلمة (خادم) هنا، قائلًا: [كيف كان يخدمه؟ ليس كتابع له، أو كمن هو أقل منه، وإنما كمعين وحامي له(7)].
كيف يحسب يسوع المسيح ربنا خادمًا أو معينًا له. لقد حقق الناموس ما كان يهدف إليه، وقد عجز عن تحقيقه، ألا وهو خلاص البشرية. لقد كشف الناموس الداء لكنه لم يقدر أن يقدم العلاج سوى أن يسلمنا إلى السيد المسيح كطبيب حقيقي للنفس. أو بمعنى آخر، ما قد فعله الناموس هو أنه أعلن حكم الموت علينا مؤكدًا ضرورة اعدامنا، كالقائد الذي يضع طاقية الإعدام على المجرم فينتظر الكل تنفيذ الحكم، فالناموس دان الخطية فينا، فصرنا جميعًا تحت لعنة الناموس، عوض التمتع بالخلاص تأكدت اللعنة وصرنا تحت حكم الموت. لهذا جاء ربنا يسوع المسيح لينزع "طاقية الإعدام" ويبدد سلطان الموت لا بالكلام والأوامر إنما بالحب العملي، فحمل جسدنا ليقبل الموت فيه، ويحمل دينونتنا في جسده، هذا الذي لا يقدر الموت أن يحبسه ولا الإدانة أن تثبت عليه، فيقوم ليقيمنا في جسده أبرارًا، لا تقدر بعد اللعنة أن تملك علينا. لهذا يقول الرسول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غل 3: 13). كما يقول: "لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه في ما كان ضعيفًا بالجسد فالله أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو 8: 3). وكأن السيد المسيح قد حقق مقاصد الناموس، أي خلاصنا، بحمله الدينونة في جسده محررًا إيانا من الحكم. لقد صارت تحت الناموس لكي يحررنا نحن من حرفيته القاتلة. يقول العلامة أوريجانوس: [ربما تسأل: كيف أن يسوع ابن الله، كان خادمًا لموسى؟ لأنه عندما "جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس" (غل 4: 4) (8)].
يتحدث البابا كيرلس الكبير عن كيفية خضوع السيد المسيح للناموس لكي يفتدينا من لعنته، قائلًا: [الآن نجده مطيعًا لناموس موسى، وبعبارة أخرى نجد الله المشّرع ينفذ القانون الذي شاء فسّنه! أو كما يقول الحكيم بولس: "لما كنا قاصرين كنا مستعبدين تحت أركان العالم، ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني" (غل 4: 3-5). وكيف افتدانا...؟ بحفظه وصايا الناموس. وبعبارة أخرى، أطاع المسيح الفادي عوضًا عنا الله الآب طاعة تامة. كما هو مكتوب: "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبرارًا" (رو 5: 19). سّلم المسيح نفسه للناموس أسوة بنا، لأنه يليق به أن يكمل كل برّ، واتخذ صورة عبد، وأصبح واحدًا منا، نحن الذين بطبيعتنا تحت نير الناموس، بل دفع نصف الشاقل، وهو المقدار الذي فرضته الحكومة الرومانية على أفراد الشعب... فإذا رأيت المسيح يُطيع الناموس فلا تتألم ولا تضع المسيح الحرّ في زمرة العبيد الأرقاء، بل فكر في عمق السرّ العظيم، سرّ الفداء والخلاص(9)].
أعلن موسى النبي إقامة يشوع خلفًا له في حضرة ألعازر رئيس الكهنة وقدام كل الجماعة (عد 27: 18-23). وكأن الناموس يُعلن لشعب الله خلال العمل الكهنوتي الحاجة إلى يسوع كقائد جديد يدخل بهم إلى الميراث الأبدي.
كان لا بُد أن يموت موسى (يش 1: 2). ليتسلم يشوع القيادة، فإن كانت النفس قد ارتبطت بالناموس الموسوي كرجلها فلا يمكن لها أن ترتبط بيسوع إلاَّ بعد موت الرجل الأول. يقول الرسول بولس: "أَمْ تَجْهَلُونَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ -لأَنِّي أُكَلِّمُ الْعَارِفِينَ بِالنَّامُوسِ- أَنَّ النَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى الإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيًّا؟ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَحْتَ رَجُل هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِالنَّامُوسِ بِالرَّجُلِ الْحَيِّ. وَلكِنْ إِنْ مَاتَ الرَّجُلُ فَقَدْ تَحَرَّرَتْ مِنْ نَامُوسِ الرَّجُلِ. فَإِذًا مَا دَامَ الرَّجُلُ حَيًّا تُدْعَى زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُل آخَرَ... إِذًا يَا إِخْوَتِي أَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ، لِكَيْ تَصِيرُوا لآخَرَ، لِلَّذِي قَدْ أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ لِنُثْمِرَ للهِ" (رو 7: 1-4).
ويقول العلامة أوريجانوس: [كان يلزم أن يموت الناموس حتى لا يُتهم المؤمنون بالزنا(10)]. كما يقول: [إن لم نفهم كيف يموت موسى لن نقدر أن نفهم كيف يملك يسوع. إن كنت ترى أورشليم قد تهدمت والمذبح زال، فلا تنظر تقدمات أو الذبائح أو إراقة دم ولا كهنة ولا أحبارًا ولا طقوسًا دينية (يهودية)، إن رأيت هذا كله قد توقف فقل إن موسى عبد الرب مات (يش 1: 2). إن وجدت أنه ليس أحد يأتي [ثلاثة مرات سنويًا أمام وجه الرب] (خر 23: 17)، ولا من يقدم عطايا في الهيكل، ولا من يذبح فصحًا ولا من يأكل فطيرًا أو يقدم بكورًا أو يقدس الأبكار (تث 15: 19)... قل [موسى عبد الرب مات]. لكنك إذ ترى الأمم يدخلون الإيمان والكنائس تُقام والمذابح غير المغطاة بدم حيوانات بل مقدسة بدم المسيح الكريم (1 بط 1: 19)... فقل إن يشوع احتل مركز موسى ونال الرئاسة، لكن ليس يشوع بن نون، بل يسوع ابن الله. عندما نرى [الْمَسِيحَ فِصْحَنَا قَدْ ذُبحَ] (1 كو 5: 7)، وترانا نأكل فطير الطهارة والحق (1 كو 5: 8)، وتنظر ثمر الأرض الصالحة يتضاعف في الكنيسة ثلاثين وستين ومئة (مت 13: 8-23)... عندما ترى "أبناء الله الذين كانوا متفرقين قد اجتمعوا معًا" (يو 11: 52) وترى شعب الله يقدس السبت لا بالامتناع عن أعمال الحياة اليومية وإنما بالكف عن أعمال الخطية، عندما ترى هذا كله فقل إن موسى عبد الرب مات وأن يسوع ابن الله نال الرئاسة(11)]. ويمكننا في اختصار أن نردد كلمات الأب لكتانتيوس: [لقد خلف يشوع موسى ليظهر أن الشريعة الجديدة التي تُعطى خلال يسوع المسيح تخلف الناموس القديم الذي أُعطي خلال موسى(12)].
هذا ولا يمكننا تجاهل الدور الرئيسي الذي قام به موسى النبي في تلمذته ليشوع، حتى أعتبره القديس أمبروسيوس مثلًا حيًا للتلمذة الحقيقية، إذ يقول: [حسن جدًا أن يلتصق الإنسان برجل صالح. إنه لمفيد للغاية أن يتبع الشاب رجالًا عظماء وحكماء، لأن من يعيش في صحبة الحكماء يكون هو أيضًا حكيمًا، من يرتبط بالأغبياء يُحسب غبيًا. الصداقة مع الحكماء هي عون عظيم يسندنا في تعليمنا، وبرهان أكيد على استقامتنا. فالأحداث عادة يمتثلون بسرعة بمن يلتصقون بهم]. هذه الفكرة لها أساسها في الواقع العملي، حيث ينشأ الأحداث مشابهين بمن يلتقون بهم خلال علاقات كاملة.
يشوع بن نون صار عظيمًا هكذا: لأنه كان في وحدة مع موسى! وكانت هذه الوحدة هي الوسيلة ليست فقط لتثقيفه بمعرفة الناموس وإنما أيضًا لتقديسه وناواله نعمته! فعندما كانت عظمة الرب تشرق في الخيمة خلال الحضرة الإلهية، كان يشوع في الخيمة! عندما كان موسى يتحدث مع الله كانت السحابة المقدسة تغطي يشوع (خر 24: 12 إلخ). لقد كان الكهنة والشعب يقفون أسفل الجبل بينما كان يشوع وموسى يصعدانه عند استلام الشريعة... وعندما نزل عمود السحابة وتحدث الله مع موسى وقف يشوع كخادم أمين بجانبه، ولم يخرج الشاب من الخيمة بينما وقف الشيوخ من بعيد مرتعبين.
في كل موضع كان يشوع يحتفظ بالوحدة مع القديس موسى وسط هذه الأعمال العجيبة والأسرار الرهيبة. لهذا صار في صحبته عند حديث الله معه، وخلفه في السلطة (تث 34: 9)...
جميلة هي هذه الوحدة التي قامت بين الشيخ والشاب، واحد يقدم شهادة، والآخر يعطي راحة، واحد يرشد والآخر يعطي بهجة! (13)].
لا أريد الإطالة في الحديث عن بقية حياة يشوع وأعماله، خاصة وأن ما سيرد بعد ذلك يتكلم عنه بشيء من التفصيل أثناء دراستنا للسفر نفسه، مكتفيًا هنا بوضع الخطوط العريضة حتى يسهل ربط السفر معًا.
لقد أعطى يشوع الشعب ثلاثة أيام لإعداد الزاد من أجل عبور الأردن والدخول إلى أرض الموعد (يش 1: 10-11)، وكأنه يرينا يسوع المسيح الذي يهبنا إمكانية القيامة معه (اليوم الثالث) كزاد ننعم به في حياة الأردن لنرث الحياة الجديدة، ونتمتع بالطعام الروحي الجديد.
أرسل يشوع جاسوسين على ملك أريحا، فآوتهما راحاب الكنعانية الزانية، وخبأتهما بين عيدان الكتان على السطح. إنها صورة رمزية رائعة لإرسالية تلاميذ المسيح إلى الشعب الأممي ليتقبلوا الإنجيل في حياتهم الخفية، وتستتر كلمة الكرازة بين عيدان الكتان، أي في العمل الكهنوتي (لأن الكتان رمز النقاوة، ومنه تصنع ملابس الكهنة) الذي يرتفع روحيًا على السطح.
لقد طاردهما ملك أريحا، وكأنه بالجسد الذي يشتهي ضد الروح (غل 5: 17)، فيطلب أن تنزل النفس من الأعالي (السطح) إلى الهاوية، لا تستتر ببر المسيح وأعماله الكهنوتية (عيدان الكتان).
لعل عبور نهر الأردن يمثل أحد الأعمال الرئيسية ليشوع بن نون، وقد جاء في صورة بهية خاصة إن قورن بعبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى، الأمر الذي نترك الحديث عنه إلى تفسير الأصحاح الثالث.
إن كان سفر يشوع يسميه البعض [سفر الحروب والنصرة]، فإننا نستطيع أن نلقبه بسفر "الراحة" إذ جاء فيه: "استراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23). وحينما أراد الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين أن يقارن بين يسوع ويشوع إنما تحدث عن "الراحة". فإن يشوع دخل بالشعب إلى الراحة المؤقتة في أرض الموعد، لكن بقيت الراحة الحقيقية في شخص المسيح. الذي فيه يجد الآب راحته إذ يجدنا أولاده موضع سروره، وفيه نجد نحن أيضًا راحتنا إذ نرى الآب آبانا فاتحًا أحضانه الأبدية لنستقر فيها خلال دخولنا في المسيح يسوع ربنا.
أخيرًا أترك الحديث عن هذا القائد العظيم، يشوع رمز يسوعنا الحيّ، أثناء دراستنا للسفر، خاصة تقسيم أرض الميعاد الذي يُشير إلى تمتعنا بالميراث الأبدي بالمسيح يسوع ربنا.
يؤكد التلمود اليهودي أن يشوع بن نون هو كاتب السفر، فيما عدا العبارات الخمس الأخيرة، التي غالبًا ما أضافها فينحاس بن العازر بن هرون (يش 24: 33)، وجاء أغلب الدارسين يؤكدون أن الكاتب هو يشوع فيما عدا الفقرات التي حدثت بعد موت يشوع.
ومما يؤكد أن يشوع هو الكاتب أن السفر يسجله لنا شاهد عيان لكثير من الأحداث، فيقول: "عِنْدَمَا سَمِعَ جَمِيعُ مُلُوكِ الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ غَرْبًا، وَجَمِيعُ مُلُوكِ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ عَلَى الْبَحْرِ، أَنَّ الرَّبَّ قَدْ يَبَّسَ مِيَاهَ الأُرْدُنِّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى عَبَرْنَا، ذَابَتْ قُلُوبُهُمْ" (يش 5: 1) [راجع يش 5: 6]، وأن راحاب كانت حيّة أثناء كتابة السفر، إذ يقول الكاتب: "وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم" (يش 6: 25). وإن السفر سجل قبل سليمان كما يظهر من (يش 16: 10) بمقارنته ب (1 مل 9: 16)، ففي سفر يشوع يذكر أن بني إفرايم لم يقدروا أن يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، بينما في ملوك الأول يذكر أن فرعون مصر أخذ جازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين فيها وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان. بل وكتب السفر قبل داود النبي إذ جاء فيه أن بني يهوذا لم يقدروا على طرد اليبوسيين من أورشليم إلى ذلك اليوم (يش 15: 63)، بينما جاء في (2 صم 5: 5-9) أن داود ضرب اليبوسيين الذين في أورشليم. سُجل السفر قبل القرن 12 ق.م حيث فيه يذكر اسم الصيدونيين (يش 13: 4-6). وقد صار "الفينيقيين" في القرن الثاني عشر بعد أن صعدت صور على صيدون؛ وقبل سنة 1200 ق.م. أي قبل غزو الفلسطينيين للأرض، إذ لم يُذكر الفلسطينيون بين سكان المنطقة أيام غزو يشوع (يش 12).
أما الحوادث التي تحققت بعد يشوع فهي موته (يش 24: 29، 30)، وغلبة كالب على حيرون (يش 15: 13، 14؛ قض 1: 20)، وعثينيئل على دبير (يش 15: 15- 19؛ قض 1: 11- 15)، ودان على لشم (يش 19: 47؛ قض 18)... ولعل هذه الفقرات أضافها رئيس الكهنة بعد نياحة يشوع بن نون.
عند سفح جبل موآب، وقف شعب بني إسرائيل بخيمة الاجتماع وتابوت العهد مع كهنة الرب واللاويين يتطلعون إلى أرض الموعد عبر الأردن التي طالما كانوا يترقبون نوالها، يأملون في القائد الجديد يشوع أن يعبر بهم إليها فتتحقق فيهم مواعيد الله لآبائهم حقًا لقد استطاع موسى في عهده أن ينعم بأرض جلعاد شرقي الأردن، وهي أرض تصلح لرعاية الغنم، وطلب السبطان والنصف (رأوبين وجار ومنسى) أن يمتلكوها، ولكن لم يكن ممكنًا أن ينال أحد شبرًا واحدًا من الميراث سواء شرقي الأردن أو غربه في أيام موسى، بل كان يلزم أن ينتظر الكل القائد الجديد الذي وحده له حق تقديم الميراث. وكأن هذا السفر هو سفر الميراث يعلن أن بيسوع المسيح وحده ينال رجال العهدين القديم والجديد الميراث الأبدي.
يشمل هذا السفر تاريخ نحو 31 عامًا من موت موسى إلى موت أليعازر بن هرون، أي بعد موت يشوع بحوالي 6 سنوات. وبحسب التقليد الكنسي تمت هذه الأحداث حوالي عام 1450 ق.م. وقد رأى البعض أن ذلك تم في حدود 1200 ق.م(14) بحجة أن بعض المستندات الأثرية تكشف عن أن هذه المنطقة كانت خاضعة لفرعون سنة 1600 ق.م. وأيضًا سنة 1200 ق.م... لكن بعض الدارسين يرون أن الغزو المصري كان يتم في فترات متقطعة على مناطق محددة، فيمكن أن يكون قد حدث غزو سابق لامتلاكهم الأرض في أيام يشوع، وأن غزوًا جديدًا قد حدث على مناطق معينة بعد عصر يشوع.
في الدراسات العلمية للعهد القديم يضع بعض الدارسين هذا السفر مع أسفار موسى الخمسة كمكمل لها، حيث تسمى بالسداسيات أما في التقسيم العبري فينقسم العهد القديم إلى أسفار موسى الخمسة، وأسفار الأنبياء الأولين الذي يفتتح بهذا السفر، ثم الأنبياء المتأخرين.
ويلاحظ أن هذا السفر يبدأ بكلمة "وكان" وكأنه يربط ما بينه وبين السفر السابق "التثنية" بحرف العطف "الواو". على أي الأحوال يعتبر هذا السفر يمثل حلقة متكاملة مع الأسفار الخمسة خاصة سفري الخروج والعدد. فإن كان الخروج يمثل العبور من أرض العبودية إلى البرية متجهين نحو كنعان، فإن سفر العدد هو سفر الجهاد في البرية بقصد التمتع بالميراث. وإذ يأتي سفر يشوع يحقق غاية الخروج وغاية العدد بقصد الدخول إلى أرض الموعد وتوزيع الميراث على الأسباط. يمكننا أن نقول أن سفر يشوع هو سفر "القيامة مع المسيح" الذي لا ينفصل عن سفر الخروج الذي يمثل "صلب السيد"، ولا عن سفر العدد الذي يمثل "الجهاد"!
مركز هذا السفر بالنسبة لأسفار موسى الخمسة كمركز سفر الأعمال بالنسبة للأناجيل الأربعة. فإن كانت الأسفار الخمسة في جوهرها إنما تقدم وعود الله للآباء بامتلاك الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا، وقد قدمت الشريعة الموسوية ليمارس المؤمن الطاعة لله ويتعرف على العبادة الحقة والخلاص خلال الذبيحة، فإن سفر يشوع يعتبر بحق هو بداية تاريخ الكنيسة في أرض الموعد، حيث بدأت فعلًا في نوال الميراث، وتمتعت بشيء من الاستقرار في الأرض المقدسة لتلهج في شريعة الرب وتتعبد له في هيكله المقدس وتقدم الذبيحة بغير انقطاع. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). إنه سفر كنيسة العهد القديم في بدء انطلاقها بعدما استقرت في كنعان لتحيا ممثلة للعبادة الحيّة وسط عالم أممي دنّسته رجاسات الوثنية. إنه يشبه سفر أعمال الرسل بكونه سفر كنيسة العهد الجديد في بدء انطلاقها بعدما استقرت بالروح القدس في المسيح يسوع ميراثها الحق، خلاله تمارس طاعة الشريعة الجديدة التي وردت في الأناجيل الأربعة وتمارس العبادة بالروح والحق، وتقدم ذبيحة المسيح الفريدة! إنها تنعم بما حملته إلينا الأناجيل المقدس من بشارة الفرح الجديدة!
1. شمل هذا السفر أعمال بني إسرائيل في بدء حياتهم الجديدة حيث عبروا نهر الأردن واستقروا في أرض الموعد، حتى يحين الوقت لإقامة هيكل الرب الذي يقدم ظلًا للسماويات. حقًا لقد ضم هذا السفر الحروب العديدة عن دخولهم الأرض ونصرتهم على الأمم ليملكوا هناك، لكن في الحقيقة هو سفر "أمانة الله" في تحقيق مواعيده للإنسان بالرغم من عدم أمانتنا. لقد رأينا في سفري الخروج والعدد عصيان الإنسان المستمر ومقابلته عطايا الله بجحود ومرارة، واستخدم الله كل وسيلة لإعلان غضبه ليس انتقامًا لنفسه ولكن عدم قبوله كقدوس رجاساتهم وعصيانهم، وأخيرًا اضطر أن يحرم الجيل الأول كله من التمتع بالميراث عدا يشوع وكالب (عد 14: 30). ومع ذلك فبفرح حقق الله وعده مع أبنائهم، مُقدمًا لهم كل ما سبق فوعد به آبائهم. إن الله يبقى أمينًا بالرغم من عدم أمانتنا، وَيَتَرَجَّى خلاصنا، ويشتهي مجدنا بالرغم من جحودنا المستمر.
2. كشف لنا هذا السفر "مفهوم الخلاص"، فإن كان الله قد عبر بالشعب الأردن إنما ليملكوا مع يشوع عوض الأمم أصحاب الرجاسات. إنها بحق صورة حيَّة لمفهوم الخلاص، ألا وهو أننا بالرب نطرد من قلبنا كل الرجاسات لنتحرر من سلطان الخطية كمن يطرد ملوكًا من مدنهم ويهدم حصونهم ويبدد جيشهم ويغتصب أرضهم، أما غاية هذا العمل فهو أن يملك يشوع الحقيقي كملك الملوك، يملك فينا فنصير نحن به ملوكًا، وأصحاب سلطان في الرب. يعبر القديس يوحنا الدرجي عن هذا السلطان الذي يصير لنا بالرب، قائلًا: [كن متسلطًا على قلبك مثل ملك، لكنك تجلس في عمق الاتضاع! تأمر الضحك أن يذهب فيذهب، وتدعو البكاء العذب أن يأتي فيأتي، والجسد العبد العاصي أن يفعل هذا فيفعل (مت 8: 9)(15)].
الله لا يُريد أن يملك فينا لكي يستعبدنا، ولا يطلب عبادتنا كعبيد أو حتى كأجراء، ولكنه وهو يملك يجعلنا ملوكًا... يُريدنا أبناء أصحاب سلطان داخلي في النفس إنه ليس كما صوره الوجوديين يُريد أن يحطم حريتنا أو يكتم أنفاسنا.
3. أبرز هذا السفر "قداسة الله" إذ لا يطبق الخطية، ولا يقدر أن يهادنها. لقد استخدم شعبه في تأديب الوثنيين المصريين على الرجاسات المُرّة، هؤلاء الذين قال عنهم الرسول: "
لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ... الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ بِالْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ
" (رو 1: 21- 25). وفي نفس الوقت ألزم شعبه كأداة تأديب أن يكونوا مقدسين، أن انحرفوا عن قداسته سقطوا تحت التأديب ليس لمجرد عقابهم وإنما بغية تقديسهم بالعودة إلى "سرّ قداستهم".4. يُشير هذا السفر إلى الخلاص بيسوع المسيح ربنا بدخل الإنسان إلى الحياة الجديدة تحت قيادة قائد جديد في أرض جديدة وينعم بطعام جديد. إنه سفر الميراث الذي ننعم بعربونه هنا خلال تمتعنا بالحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع، والذي وهبنا سلطانًا على قوات الشر وإمكانية طرد كل شر وشبه شر لننعم بالراحة السماوية فيه. وكأننا نقول مع الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع، ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع" (أف 2: 6، 7).
5. إن كان هذا السفر هو "سفر الخلاص المجاني" حيث يحقق الله وعوده من أجل أمانته ولأجل اسمه الذي دعي علينا، لكنه هو سفر الطاعة لله، فلا نصرة بدون طاعة، ولا تمتع بالميراث خلال العصيان! إيماننا بنعمة الله المجانية يجب أن يلتحم بالطاعة لله، فيُعلن كإيمان حيّ عامل بالمحبة.
6. يعتبر سفر يشوع أيضًا هو سفر قبول الأمم، فإن كان لا بُد للشعب أن يرث كنعان بعد طرد الوثنيين، لكن الله لا يرفضهم، إنما يرفض وثنيتهم وشرهم، وحينما أعلنت راحاب الكنعانية الزانية إيمانها تمتعت وعائلتها بالخلاص، وصار لها الشرف الذي حُرم منعه كثير من العبرانيات أن من نسلها يأتي المسّيا المخلص. لقد سُجل اسمها في سلسلة نسب السيد (مت 1: 5)، الأمر الذي حُرم منه كثير حتى من أبطال الإيمان والأنبياء! الله لا يرفض إنسانًا في البشرية، بل يطلب خلاص الجميع: "يُريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4).
7. معاملات الله مع الإنسان حملت وسيلة جديدة. قبلًا كان الله يتحدث مع أولاده خلال الأحلام والرؤى وخدمة الملائكة، أما الآن فقد تسلم موسى الشريعة، لذا صار حديث الله مع شعبه خلال الوصية المُسَلَّمة أو المكتوبة. كان الوصية الرئيسية للقائد الجديد هي: "كن متشددًا وتشجع جدًا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي. لا تمل عنها يمينًا أو شمالًا لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك..." (يش 1: 7، 8). وعندما زحف يشوع إلى أرض الموعد اختار جبل عيبال كمركز لهم في ذلك الحين، عليه بنى مذبحًا للرب وكتب على الحجارة نسخة من توراة موسى (يش 8: 32)، ثم "قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب ما كُتب في سفر التوراة، ولم تكن كلمة من كل ما أُمر بها موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأصفال والغريب السائر في وسطهم" (يش 8: 34-35).
8. بدأ سفر يشوع بموت موسى كممثل الناموس حتى يتسلم يشوع القيادة ويدخل بهم إلى أرض الموعد، كما انتهى السفر بموت يشوع ليعلن أنه لا يمكن التمتع بالميراث ولا الاستقرار والراحة إلاَّ بموت ربنا يسوع عنا فنموت معه ونحيا معه وبه.
لقد أثارت الحروب المذكورة في سفر يشوع تسؤلات: أما كان يمكن الله أن يهب هذا الشعب الميراث دون إلزامهم بقتل الشعوب القاطنة هناك؟
1. أظهرت الاكتشافات الحديثة حالة المجتمع في كنعان في ذلك الحين، وَصَوَّرَت مدى الانحطاط الخلقي الذي بلغه الإنسان، والفساد الذي لا يُعبر عنه، فقد عبد الإنسان الإله ملوخ والإلهة عشتاروت، والتزمت النساء بارتكاب الشر كتقدمة للآلهة مع أمور أخرى غير لائقة(16). لقد حمل الفساد موتًا روحيًا وهلاكًا أبديًا لا يمكن أن يُعَبَّر عنه، فما صدر من حكم إلهي يُحَقِّقه شعب الله، لم يكن إلاَّ كشفًا عن بشاعة ثمرة الخطية وتدميرها للحياة. لقد اختارت هذه الشعوب الهلاك لنفسها بنفسها، فالله في قداسته لا يطيق الفساد ولا يقبله، وحينما يأمر بإبادته فإنه لا ينتقم لذاته وإنما يحقق ما اختاره الإنسان لنفسه.
2. ما حدث لم يكن لصالح شعب إسرائيل وحده، وإنما في الحقيقة هو لصالح البشرية عامة، فإن هذه المنطقة كانت مركزًا هامًا للتجارة، وكان التجار يحملون في أسفارهم مع معاملاتهم التجارية الفساد وكأنه "الموت الأسود" ليتحرك في كل اتجاه في العالم المعروف حينئذ(17). لقد أراد الرب أن يعطي للبشرية درسًا، وأن يحمي العالم من هذا الوباء. هذا ومن جانب آخر إذ كان الله يعد الشعب اليهودي ليكون خميرة للعالم في الشهادة له أمر بإبادة كل فساد حولهم حتى ينشأوا في جو نقي. يقول الوحي الإلهي: "لِكَيْ لاَ يُعَلِّمُوكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا حَسَبَ جَمِيعِ أَرْجَاسِهِمِ الَّتِي عَمِلُوا لآلِهَتِهِمْ، فَتُخْطِئُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ" (تث 20: 18).
ارتبطت شخصية يشوع بربنا يسوع المسيح بكونه الرمز الذي يسبق المرموز إليه، أم أوجه الشبه فكثيرة نذكر منها:
1. جاء يشوع بعد موسى مستلم الناموس، كرمز لربنا يسوع المسيح الذي جاء بعد الناموس يحقق ما عجز عن أدائه، يقول الرسول بولس: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن، لأن موسى يكتب في البر الذي بالناموس إن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها" (رو 10: 4-5). كما يقول: "فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئًا، ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله (عب 7: 18، 19).
2. يشوع قاد الشعب قديمًا إلى النصرة كرمز لربنا يسوع المسيح واهب الغلبة على الخطية والموت وكل قوات الظلمة. يقول الرسول: "الذي نجانا من موت مثل هذا وهو يُنجي" (2 كو 1: 10)، "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14).
3. إذ تعرض الشعب لغضب الله مزق يشوع ثيابه وسقط على الأرض يشفع فيهم أمام تابوت العهد حتى المساء (يش 7: 7-10)، وأيضًا إذ سقطت البشرية تحت الغضب أخلى كلمة الله ذاته ونزل إلى الأرض ليشفع فينا بدمه لدى أبيه. وكما يقول الرسول يوحنا: "إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 1، 2).
4. قام يشوع بتقسيم أرض الميراث، ويقول الرسول عن عمل المسيح فينا: "الذي فيه أيضًا نلنا نصيبًا معينين سابقًا حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته" (أف 1: 11).
لما كان سفر يشوع هو سفر الميراث حيث أعلن تحقيق مواعيد الله لشعبه بدخولهم أرض الميراث، التي هي أرض كنعان، لذلك أشعر بالضرورة تلزمني بالحديث عن هذه الأرض والشعب القاطن فيها.
كنعان هو ابن حام الرابع (تك 10: 6، 1 أي 1: 8)، قطن نسله في الأرض الواقعة غرب الأردن، والتي دعيت باسم كنعان، كما دُعِيَت أيضًا أرض إسرائيل (1 صم 13: 19). والأرض المقدسة (زك 2: 12) وأرض الموعد (عب 11: 9) وأرض العبرانيين (تك 40: 15) نسبة إلى عابر جد إبراهيم. كان الفينيقيون والعبرانيون يعتبرون فينيقية جزءًا من كنعان، سكنها إبراهيم ووُعد بها ملكًا لنسله (تك 12: 5، 8)، ثم سكنها إسحق ويعقوب وأولاده (تك 45: 25)، ولكن يعقوب تركها بسبب المجاعة (تك 46) وذهب مع أولاده إلى مصر.
في أيام يشوع كان الكنعانيون بقبائلهم المختلفة أو شعوبهم غالبًا ما يقطنون في الوديان والمناطق الساحلية حيث يوجد الماء بصورة نسبية أوفر وأسهل مما يوجد على الجبال. كانوا يقطنون في مدن محصنة منتشرة في المناطق السهلة، كل مدينة لها ملك خاص أشبه بدويلة مستقلة، لها حكامها وأشرافها وجيشها ومشاريعها التجارية ومؤسساتها الدينية وعبيدها، ولا توجد حكومة مركزية(18).
يمكننا تقسيم الكنعانيين إلى ثلاثة فئات من الشعوب أو القبائل:
أ. قبائل مستقرة، بلغت درجة من الحضارة مثل الفينيقيين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، هؤلاء الذين صاروا من أهم تجار البحار في العالم القديم. كما توجد قبائل أخرى أصغر مستقرة في الوديان والتلال ما بين البحر الأبيض والأردن مثل الأموريين، أو شرق الأردن مثل الموآبيين وبني عمون.
ب. قبائل تُحسب نصف بدو، مثل بني آدوم وأخرى أصغر منها.
ج. قبائل بدو تمامًا، أي جماعات رحّل، مثل بني مديان والإسماعيليين وعماليق، الذين كانوا يجولون في الصحراء العربية(19).
هم ذرية عناق، يُشير الاسم "عنق" إلى ضخامة الجسم. يصورهم التقليد العبري كجبابرة لطول قامتهم وشدة بأسهم في الحرب (عد 13: 28، 33؛ تث 2: 10، 21؛ 9: 2). أقام ثلاثة من بني عناق في منطقة حبرون (عد 13: 22)، بينما قطن الباقي بالمدن المجاورة خلال التلال. خافهم العبرانيون قبل أن يحاربوهم، حتى حاربهم يشوع بن نون واستولى على ممتلكاتهم وقسمها بين اليهود، وأعطى حبرون لكالب بن يفئة (يش 11: 21-22؛ 14: 12-15). وهم يحسبون من الرفائيين، وكانوا مضرب الأمثال من جهة كثرة عددهم وضخامة جسمهم (تث 2: 10)، ويظن أن جليات الجبار هو واحد منهم(20).
يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "الرفائيين" تعني "أمهات متراخيات"، بينما يراها البعض أنها تعني "أرواح الراحلين" أو "ظلال الموت. وقد استخدم هذا الاسم في العهد القديم بأكثر من معنى:
المعنى الأول: يقصد به إحدى قبائل منطقة كنعان قبل إسرائيل. سبق فضربهم كدرلعومر ملك عيلام (تك 14: 5)، وفي سفر التثنية جاء عن الرفائيين كمجموعة شعوب سابقة لإسرائيل، بعضهم سكن في أرض موآب، وقد دعاهم بني موآب بالإيميين (تث 2: 11)، والبعض كان يقطن في أرض العمونيون، وكان هؤلاء يدعونهم زمرميين (تث 2: 20)، والبعض سكن في باشان وكان عوج آخر ملوكهم (تث 3: 13)، هذا الاتساع من توزيع الرفائيين جعل بعض الدارسين يرون أن كلمة "رفائيين" تعني لغويًا "السالفين" وإن كان هذا التفسير مشكوك فيه، ولكن في رأيهم أن كل شعب يُقيم في منطقة يدعو الشعب السابق له بالرفائيين أي السابقين لهم(21).
المعنى الثاني: يقصد به الأموات(22) الذين في الهاوية، الذين لا يسبحون الله، تُرْجِمَت في سفر الأمثال بـ"اَلأَخْيِلَةُ" (أم 2: 18؛ 21: 16) الذين بلا عمل ولا حياة(23).
المعنى الثالث: تستخدم كلمة "الرفائيين" أو "رفايم" كاسم لوادي قريب من أورشليم وبيت لحم(24)، جنوب غرب أورشليم ووادي هنوم(25)، عرف بخصوبته (أش 17: 5). أخذ اسمه عن الرفائيين الذين غالبًا ما قطنوه فترة من الزمن. يسمى حاليًا "وادي البقاع".
يرى البعض أنها مأخوذة من الكلمة الأكادية "أمر" بمعنى الأمر، أو ربما تعني "حارس أو نصير أو عميل patron"(26).
بداية تاريخهم غامض، لكنهم لعبوا دورًا همًا في منطقة الهلال الخصيب؛ تمتد منطقة نفوذهم من فلسطين إلى الصيصة. خلال الثلاثة آلاف سنة ق.م. دَعَى البابليون سوريا وفلسطين بأرض الأموريين. وكانت الأسرة الأولى لبابل التي أقامها Sumu-la-El حوالي عام 1894 ق.م. أمورية، أهم ملك فيها هو حامورابي Hammurabi (القرن 18/ 17 ق.م.)، انتهت هذه الأسرة عندما نهب الحويون بابل(27).
يُدرج الأموريون مع بقية الشعوب أو القبائل الكنعانية، كأبناء كنعان، وهم من نسل حام، هذا التقسيم يبدو أنه على أساس جغرافي أكثر منه أثنولوغي ethnology (علم الأخلاق والأجناس أو أصول السلالات البشرية)(28). وفي أيام إبراهيم ظهروا بالقرب من البحر الميت في حصون تامار (تك 14: 7)، "وكان ساكنًا عند بلوطات ممرا الأموري أخي أشكول وأخي عاز، وكانوا أصحاب عهد مع إبرام" (تك 14: 13). وفي (تك 48: 22) دُعِيَت شكيم مدينة أمورية(28ب). كان لهم مملكة في شرق فلسطين تحت حكم سيحون التي هزمها الإسرائيليون (عد 21: 21). وفي غرب فلسطين -حسب التقليد اليهودي- سكن الأموريون على الجبال بينما سكن الكنعانيون على سواحل البحر وفي وادي الأردن (يش 13: 9، 10)، وفي سفر يشوع (يش 10: 5) ركز الملوك الخمسة لأورشليم وحبرون ويرموت ولخيش وعجلون كملوك أموريين، غلبهم يشوع عند جبعون... وقد بقى بعض الأموريين في أرض كنعان بعد افتتاحها، وقد كانوا منتشرين على نطاق وأسع، في كل منطقة كنعان، وفي زمن صموئيل النبي صنع معهم العبرانيون صلحًا (1 صم 7: 14)، وقد استخدمهم سليمان في التسخير (1 مل 9: 20-21). هذا ويبدو أنه بسبب أهميتهم كان اسم "الأموريين" يطلق بوجه عام على كل شعب منطقة كنعان (يش 7: 7، قض 6: 10).
"جبعون" اسم عبري يعني "تل"، وهي المدينة الرئيسية للحويين من أهل كنعان، ينتمون أيضًا إلى الأموريين (2 صم 21: 2)، وكانوا يمتلكون كغيرة وبئيروت وقرية يعاريم (يش 9: 17).
حاليًا هي قرية الجيب تقوم على قمة هضبة في شمال غرب أورشليم، على بعد حوالي 8 أميال من أورشليم، بجوار رأس وادي عجلون(29). غير أن المدينة القديمة كانت أكثر اتساعًا وارتفاعًا عن التل المجاور الذي تقوم عليه القرية الحالية. قام J. B. Pritchard باكتشافها على أربعة فصول ابتداء من عام 1956، وقد أكدت اكتشافاته ما جاء في الكتاب المقدس عنها كمدينة ملوكية عظيمة (يش 10: 2). وأكدت الاكتشافات أن جبعون في أيام الحكم الإسرائيلي كانت أعظم مركز لتصنيع الخمور، حتى دعوا هذه المنطقة بالمناطق الصناعية(30).
لقد صارت جبعون من نصيب بنيامين (يش 18: 25)، وقد أُعطيت هي ومسارحها لبني هارون كإحدى مدن اللاويين (يش 21: 17).
في العبرية חַוָּה (Hawwa) وتعني "قرية من الخيام" وفي العربية خواء تعني مجموعة خيام. أحد أجناس كنعان قبل غزو العبرانيين (تك 10: 17، خر 3: 17، يش 9: 1) وقد انتشروا في مجتمعات متعددة، ولم يكونوا مختونين. سكن بعضهم في شكيم في أيام يعقوب (تك 33: 18؛ 34: 2، 14-24) وظل لسلالتهم تأثير في المدينة لأجيال عديدة بعد الغزو (قض 9: 28). والبعض سكن في جبعون وما يجاورها وقد حصلوا على عهد سلام مع يشوع (يش 9). كان لهم مقر واسع، ربما كان في سفح جبل لبنان، من جبل حرمون إلى مدخل حماة (يش 11: 3، قض 3: 3). وكانت لهم قرى يملكونها في هذه المناطق الجبلية الشمالية إلى أيام داود (2 صم 24: 7). الذين كانوا في فلسطين استخدمهم سليمان في التسخير (1 مل 9: 20- 22؛ 2 أي 8: 7-8).
ربما يسأل البعض إن كان الحويون كشعب لهم وجود حقيقي مستقل. في الواقع إن الحوريين Horites, Hurrians عاشوا في وسط فلسطين وسوريا في تاريخ مبكر، ويرى البعض أن لبسًا قد حدث بين الكلمتين "حويين" و"حوريين" في النص العبري. ففي سفر التكوين (تك 36: 2) ذُكر أن صبعون حوّي، بينما في نفس الأصحاح (تك 36: 20، 29) أنه حوري. وجاءت كلمة "حوّي" في العبرية في (تك 34: 2) مترجمة في السبعينية "حوري"... والاحتمال القائم هو أن قسمًا من الحوريين يُعرف بالحويين، وأن كلمة "حوري" هي الأصل(31).
منذ عام 1871 م. عندما اكتشفت نقوش في كركميس بدأت معرفتنا بالحثيين الذين يمثلون إمبراطورية شرقية عظيمة بجوار إمبراطور بني وادي النيل ووادي دجلة والفرات، أزدهرت الإمبراطورية الخاصة بالحثيين في آسيا الصغرى ما بين (1900 ق.م، 1200 ق.م.) تقريبًا، ولا يُعرف على وجه التحقيق العنصر الذي ينتمي إليه الحثيون، فهناك جنس منهم يشاهد في آثار مصر له أنف كبير، ويبدو أن الأرمن الحديثين هم سلالة جماعة من الأمة.
كلمة "حثيون" تستخدم على الأقل في ثلاثة معانٍ:
أ. المواطنون الذين قطنوا في منتصف الأناضوليا. (Hattians)
ب. المواطنون الذين عاشوا حول عاصمة حاتوشاش (Nesians) أي الناسيون.
ج. الذين عاشوا في جنوب الإمبراطورية، يتحدثون بلغة محتفظ بها في الهيروغليفية.
من الناحية التاريخية يجب وضع حد فاصل يميز بين الإمبراطورية الحثية، والولايات الحثية في شمال سوريا وجنوب شرق آسيا الصغرى، وبحسب علم الحفريات، تنطبق كلمة حثيين على بقايا ثقافة شهيرة فريدة موجودة في آسيا الصغرى، شمال سوريا وشمال المصيصة Mespotamia. وبالرغم من المشابهة بين آثار حثي آسيا الصغرى، وتلك التي في شمال المصيصة وشمال سوريا (بما في ذلك منطقة طورس)، فهناك بعض العوامل التي تبين انفصالًا عامًا بين الجماعتين. ويظهر أن ثقافة الحثيين الأناضوليين قد تركزت في كبادوكية، التي تبين أوانيها الفخارية صلات نسب كثيرة لطروادة Troy.
على أي الأحوال جاء المفتاح الحقيقي لمشكلة الحثيين باكتشاف 10,000 لوحة طينية في تركيا ببوغاز كوي (موقع حتوشاش القديم)، منقوشة بحروف أشورية إسفينية أو مسمارية Cuneiform، وهي تمثل عددًا من اللغات: السومرية والأكادية والحثية. والنقوش على الآثار الحثية مكتوبة بالحروف الحثية الهيروغليفية، وهي تمثل اللسان الثاني في الأهمية لدى الإمبراطورية. وهي تبدو آرية "هندية أوروبية". كانت مستخدمة في الإمبراطورية الحثية من سنة (1600- 700 ق.م.)
يقسم المؤرخون المحدثون تاريخهم إلى ثلاث مراحل(33): المملكة القديمة والمملكة الحثية، الممالك الحثية الجديدة، الأمور التي يطول الحديث عنها.
جاء في العهد القديم عن الحثيين أنهم ذرية حث ثاني أبناء كنعان. ونقرأ عن إبراهيم أنه اشترى مغارة المكفيلة من عفرون الحثي (تك 23: 10-18)، وأن عيسو اتخذ إمرأتين حثيتين (تك 26: 34)، وأن العبرانيين قد تزاوجوا فيما بعد معهم (قض 3: 5-6). وكان لداود أصدقاء حثيون (1 صم 26: 6)، وتزوج بتشبع امرأة أوريا الحثي (2 صم 11: 2-27). وكان لسليمان نساء حثيات (1 مل 11: 1) وقد استخدم الحثيين في التسخير (1 مل 9: 20-22). وقد اعتبرهم العبرانيون شعبًا قويُا معروفًا، اعترفوا بأرضهم (يش 1: 4)، يذكرونهم مع ملوك آرام (1 مل 10: 29)، ويضعونهم في مرتبة واحدة مع المصريين كدليل على عظمتهم (2 مل 7: 6).
يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "يبوس" تعني "يدوس بالأقدام"، فتحمل معنى رمزيًا لمن يدنس الشيء وينجسه بقدميه.
تظهر كلمة "يبوس" كاسم مدينة أورشليم في (قض 19: 10؛ 1 أي 11: 4)(33ب)، وإن كان بعض الدارسين يرونها تضم أيضًا الجبال المحيطة بها بينما يرى آخرون أنها تنحصر فقط في صهيون أو مدينة داود القائمة في الجبل الشرقي.
ظهر اليبوسيون كإحدى القبائل القاطنة في كنعان (تك 15: 21؛ عد 13: 29؛ تث 7: 1؛ يش 3: 10؛ قض 3: 5؛ 1 مل 9: 20؛ نح 9: 8). وهم من سلالة كنعان (تك 10: 16؛ 1 أي 1: 14)، أخضعهم يشوع لكنهم لم يتركوا أورشليم (يش 15: 63؛ قض 1: 21)، وبقوا فيها حتى أيام داود، وقد استخدمهم سليمان الملك في التسخير (1 مل 9: 20-21)، وبقى البعض في اليهودية إلى ما بعد رجوع السبي (عز 9: 1-2).
يرى بعض الدارسين أنها تعني "أهل قرية مفتوحة"، ويرى العلامة أوريجانوس أنها تعني "الثمر الكثير".
لاحظ البعض أن الفرزيين يحصون أحيانًا وحدهم مع الكنعانيين (تك 13: 7؛ 34: 30؛ قض 1: 4) مما جعلهم ينظرون إليهم كالرفائيين من السكان الأصليين للمنطقة، عنصرهم مختلف عن الكنعانيين وأقدم منهم في البلاد. وقد أحصوا مع السبعة شعوب الذين أكد الرب على شعبه ألا يقطع معهم عهدًا أو يصاهروهم (تث 7: 2-3)، ولكنهم مع هذا صاهروهم (قض 3: 5-6). وقد استخدم سليمان الحكيم في التسخير (1 مل 9: 20-21).
أُحصي الجرجاشيون مع القبائل الكنعانية (تك 15: 21، تث 7: 1، يش 3: 10؛ 24: 11، نح 9: 8)، وهي من القبائل التي لا نعرف عنها شيئًا.
يجب ألا نخلط بينهم وبين الجرجسيين المذكورين في العهد الجديد (مت 8: 28-33؛ مر 5: 1)، إذ لا ارتباط بينهم.
بفضل عمليات التنقيب التي قام بها بروفيسير سيلين Prof. Sellin في منطقة أريحا وما حولها ظهر التطابق بين ما ورد في سفر يشوع والاكتشافات الأثرية(34). يرى أن أساسات الأسوار التي بناها الكنعانيون حول مدنهم بسهولة يمكن التعرف عليها، فقد استخدموا حجارة كثيرة الأضلاع والزوايا أما الإسرائيليون فكانوا يستخدمون الحجارة المربعة الجوانب. لا تزال حطام أسوار أريحا محفوظة وبقايا منزل على السور ارتفاعه ستة أقدام قائمًا.
يقول الدكتور جون إلدر(35) أن أعمال التنقيب قد دلت على أن أريحا من أقدم المدن في العالم، وترجع أسسها إلى حوالي عام 6700 ق.م.، وأن مواصفات المدينة تتفق مع (يش 2: 15) يحيط بها جداران يتصلان من أعلى بوصلات عرضية مقامة عليها منازل سكنية، والجداران الآن ساقطان على الأرض في مكانهما، وللمدينة مدخل واحد (يش 2: 5-7). ويلاحظ على الآثار أن المدينة كلها محروقة بالنار كما تُشير طبقة الرماد وبقايا الأخشاب المحترقة (يش 6: 24)، ولكن الدلائل كلها تُشير إلى أن المدينة لم تُنهب قبل إحراقها فالقمح والعدس والبصل والبلح وجد في صوامع من الطين، حتى العجين اُكتشف في أوانية لأن يشوع قد حّرم أخذ شيء من المدينة (يش 6: 17-18). أخيرًا فإن الدلائل تُشير إلى أن المدينة المحترقة قد تركت كما هي بدون بناء لعدة قرون، هذا يتفق مع لعنة يشوع (يش 6: 26، 1 مل 16: 34) وتثبت أيضًا أن خراب المدينة قد تم حوالي عام 1500 ق.م.، وهذا يتفق مع تقرير الوحي.
أولًا: الحروب الروحية والنصرة |
|||
1. الاستعداد للميراث |
|||
2. ميراث القسم الأوسط |
|||
3. ميراث الجنوب |
|||
4. ميراث الشمال |
|||
ثانيًا: تقسيم الأرض |
|||
ثالثًا: مدن اللاويين ومدن الملجأ |
|||
رابعًا: وصايا وداعية |
_____
(1) راجع أوريجانوس: عظات على يشوع عظة 1: 1 ترجمة أمال إبراهيم.
(*) توضيح من الموقع: كان مكتوبًا: "حقًا إن هابيل بميلاده "ابْتُدِئَ... يُدْعَى بِاسْمِ الرَّبِّ" (تك 4: 26)، لكنه لم يتأهَّل لنوال الاسم"، ولكن يبدو أن الترجمة غير دقيقة، حيث يقول النص:
"Abel was not named Jesus, nor the one who “began to call upon the name of the Lord God".
لذا تم التعديل من قِبَل الموقع.
(3) Lactantius: Divine Inst. 4: 17.
(4) In Jos. Hom. 1: 1.
(6) المرجع السابق، ص 77-84.
(7) In Jos. Hom. 1: 2.
(8) Ibid 2:2.
(9) الحب الإلهي، ص 269، 270.
(10) In Jos. Hom. 1: 3.
(11) Ibid 2:1.
(12) Divine Inst. 4: 17.
(13) Duties of Clergy 2: 20.
(14) Peak's Comm. On the Bible, 1920, p.
(15) Ladder, step 7: 39.
(16) J. M. Gray: Comm. On the Whole Bible, 1971, P 166.
(17) Ibid.
(18)C. M. Laymann: Interpreter's one-volume Comm-on the Bible, P 123.
(19) Peak's Comm., p. 3.
(20) New Westminister Dict. Of Bible, P 41.
(21) John L. Mckenzie: Duct. Of Bible, 1972, P 730.
(22) Ibid.
(23) في اللغة الـugaritic.
(24) New Westminister Dic. Of Bible, P 798. Josuiph. Antiq. 7: 4: 1; 2 Sam. 23: 13-14.
(25) Jos. Antiq. 15: 18; 18; 16.
(26) Strong: Dict of the Hebrrew Bible, P. 4.
(27) New Westminster Dict. Of Bible, word Amorites.
(28) Mckenzie, P 26.
(28ب) توضيح من الموقع: الشاهد (تك 48: 22) يذكر كيف وهب يعقوب ليوسف "سَهْمًا وَاحِدًا.. أَخَذْتُهُ مِنْ يَدِ الأَمُورِيِّينَ بِسَيْفِي وَقَوْسِي"، وهناك أكثر من جانب في الشرح:
في (تك 33: 19) نرى كيف ابتاع يعقوب قطعة حقل في تلك المنطقة "مِنْ يَدِ بَنِي حَمُورَ أَبِي شَكِيمَ"، وهنا الربط ما بين أمور وشكيم.
وفي شرح آخر نرى رأيًا بأن هذه هي معلومة غير مذكورة في النص الكتابي توحي بأنه استولى على بعض الأراضي من الأموريين، ليس فقط القطعة التي اشتراها.
ونرى كذلك في تفسير آخر للشاهد كيف من الممكن تفسير النص كنبوة لما سيحدث لاحقًا.
(29) Ibid, P 307.
(30) Ibid.
(31) New Westminster Dict., P 400.
(32) Ibid, P 398-400.
(34) J. M. Gray, P 180.
(35) الأحجار تتكلم للدكتور جون إلدر، تعريب د. عزت زكي، قصل 7.
← تفاسير أصحاحات يشوع: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/rsznnw2