الباب الرابع: محبتنا للناس
الفصل الأول: محبتنا للناس
عندما تحدث عن الوصية العظمى، أعني المحبة، ذكر أنها تشمل فضيلتين هامتين: الأولى أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك... ثم قال "والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت 22: 36-40). وأود هنا أن أترك عبارة (و الثانية مثلها) مجالًا لتأملك الخاص. وأتحدث معك عن محبة القريب.
ومحبة القريب، هي محبة لكل الناس. لأن البشر كلهم أقرباؤك. كلهم أبناء آدم وحواء.
لقد خلق الله العالم كله من أب واحد وأم واحدة، ليكونوا جميعًا أسرة واحدة تربطهم رابطة الدم، وبالتالي رابطه الحب. وحتى هذه الأم الواحدة، أخذها من أحد أضلاع الرجل الأول، لكيما يحبها، ويقول "هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمى" (تك 2: 23).
لهذا كله كان عدم الحب بين البشر أمرًا غير طبيعي.
وهو في نفس الوقت لا يتفق مع الصالح العام، كما لا يتفق مع مشيئة الله. والعجيب أن أول إيذاء حدثنا عنه الكتاب المقدس، كان من إنسان ضد إنسان، ولم يكن من وحش افترس إنسانًا!! لقد قام على هابيل أخيه وقتله. وبدأت البغضة والقسوة بين الناس. ولم تستطع البشرية أن تحتفظ بالحب بين أفراد الأسرة الواحدة...
فيوسف الصديق، قام عليه أخوته وألقوه في البئر، ثم باعوه كعبد (تك 37: 37). ودبت الغيرة ودب التنافس بين ليئة وأختها راحيل حول إنجاب البنين (تك 30: 8). وعيسو نافس أخاه يعقوب على نوال البركة وقال "أقتل يعقوب أخي" (تك 27: 41). وأبشالوم قام على أبيه داود وحاربه (2صم 15).
وتتابعت مأساة فقدان الحب في تاريخ البشرية:
وكثرت قصص العداوة والبغضاء، وقصص الحسد وتصادم الأغراض، والنزاعات والحروب، والتنافس على الرزق وعلى السلطة والمناصب. واكتست الأرض بدماء بريئة ودماء غير بريئة. وأصبح الأخ يعتدي على أخيه، والأخ يخاف أخاه. حتى قال أحد الشعراء:
عَوَى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عَوَى وصوَّت إنسانٌ، فكدتُ أطير
وكان لا بُد من وصايا إلهية لتعالج الحال...
وكان لا بُد من إعادة المحبة بين الناس، وتقديم القدوة في ذلك، ومعالجة الأسباب التي أوصلت البشرية إلى التخاصم والعداوة والقسوة. مع العمل على ترميم بناء المحبة المنهدم. فتدخل الله لوضع أسس قوية للتعامل بين الناس.
واستلزم الإصلاح أساسين: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي:
أما الأساسي الإيجابي، فهو مشاعر الود والتعاطف والتعاون. وأما العنصر السلبي فهو الكف عن الكراهية والاعتداء. لأن الكراهية هي المشاعر الكامنة داخل القلب. والاعتداء هو التعبير الظاهر عن تلك المشاعر الداخلية. والمطلوب هو الارتقاء بكل مشاعر الإنسان، للوصول بها إلى مستوى الحب.
والحب هو القمة التي تصل إليها المشاعر البشرية.
والله في يوم الدينونة العظيم، سيفحص كل أعمالنا وعواطفنا، ويستخلص ما فيها من حب، ليكافئنا عليه. وكل خير نفعله، ولا يكون فيه حب، لا يعتبره الله خيرًا على الإطلاق. على أن هذا الحب وقواعد ينبغي أن نعرفها، لكيما يكون حبنا سليمًا ومقبولًا.
فأولًا ينبغي أن تكون محبتنا للناس داخل محبتنا لله. لا تكون ضدها، ولا تزيد عليها...
فلا تحب أحدًا عن طريق كسر وصية من وصايا الله. فالأم التي تحب ابنها بأن تدللـه تفسده، أو أن تغطي على أخطائه بحيث لا يعرفها أبوه، لا تكون محبتها حقيقية ولا نافعة. بل لا نسميها حبًا وإنما تدليلًا...
والصديق الذي يحب صديقه، بحيث يجامله في كل خطأ، ويخشى أن يقدم له نصيحة مخلصه لئلا يجرح شعوره... هذا لا يحبه بالحقيقة... لذلك أيضًا فالأب الذي يحب ابنه يؤدبه (عب 12: 6).
وقد قال الرب "من أحب أبا أو أما أكثر مني، فلا يستحقني. ومن أحب ابنًا أو ابنه أكثر مني، فلا يستحقني..." (مت 10: 37).
شرط آخر، هو أن يكون الحب عمليًّا.
يقول القديس يوحنا الرسول في هذا "يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1يو 3: 18)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهكذا قال عن محبتنا للناس تظهر عمليًّا في معاملاتنا لهم. في إخلاصنا لهم، ومشاركتنا الوجدانية، ووقوفنا معهم في وقت الشدة، وتخليصنا لهم من ضيقاتهم. ومحبتنا للفقراء في عطفنا عليهم، وإعطائهم ما يلزمهم، وليست مجرد كلام العطف أو الدعاء...
وهكذا ارتبط الحب عمومًا بالعطاء وبالبذل.
وقيل عن محبة الله لنا "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16).
بنفس الوضع ينبغي أن نحب بعضنا البعض، حبًا باذلًا. ويصل البذل إلى قمته ببذل الذات. وبالعطاء من الأعواز (مر 12: 44). وبالاستعداد للتضحية والفداء كما قال القديس بولس الرسول عن أكيلا وبريسكلا "الذين وضعا عنقيهما من أجل حياتي" (رو 16: 4).
ومن شروط المحبة أيضًا أن تكون طاهرة.
فليست محبة حقيقية. أن شابا يحب فتاة لكي يفسد عفتها، ويضيع أبديتها، ويفقدها سمعتها في المجتمع الذي تعيش فيه...! مثل هذا الشاب إنما يهتم بنفسه وإشباع شهواته، ولا يهتم بالفتاة صالحها وأبديتها. وقد قلت من قبل في الفارق بين المحبة والشهوة "إن المحبة تريد دائمًا أن تعطي. وبينما الشهوة تريد دائمًا أن تأخذ...".
ومن شروط المحبة الحقيقية أن تكون للجميع... وإلا صارت تحيزًا أو لونًا من القبلية...
هي محبة للكل، لا تفضيل بسبب الجنس أو اللون أو الدين. محبة بلا تحيز ولا انحياز. إن يعقوب أبا الآباء لما ميز ابنه يوسف عن باقي أخوته، وأعطاه قميصا ملونا، تسبب ذلك في حسدهم له، وجر عليه الكثير من الضيقات. ولما أحب راحيل أكثر من ليئة، تسبب ذلك في تنازع هاتين الشقيقتين وتنافسهما في صراع طويل...
لهذا أيضًا ينبغي أن تكون المحبة عادلة، وتكون المكافأة ملتزمة بالحق وبالموضوعية.
وينبغي أن تكون المحبة أيضًا صادقة وروحانية.
وكما قال الكتاب "المحبة فلتكن بلا رياء" (رو 12: 9). فالرياء تدل على أنها ليست محبة صادقة. ويدخل في ذلك كلام الملق والمديح الكاذب، مثلما قال الشعب لهيرودس إن صوته إلى، فضربه ملاك الرب، فمات (أع 12: 21، 23). ومثل ملق الشعب لرحبعام، بأن خنصره أغلظ من متني أبيه!! فأضاعوا منه الشعب وغالبية المملكة (1مل 12: 8 - 16).
ومن جهة الروحانية، لم تكن محبة إيزابل لزوجها الملك آخاب محبة روحانية، حينما ساعدته على تنفيذ رغبته الآثمة في امتلاك حقل نابوت اليزرعيلي باتهامه كذبًا وقتله (1مل 21) مما أدى إلى هلاكها وهلاكه كذلك لم تكن محبة أخيتوفل لأبشالوم محبة روحانية، حينما أشار عليه مشورة لإهلاك أبيه داود (1صم 17)
إن الذي يحب شخصًا محبة روحانية، يحب أن يسعى باستمرار على أبديته وخلاص نفسه، ولا يشاركه في خطأ، ولا يوافقه عليه، ولا ينصحه به...
القلب المُحِب لا يعرف البغضة مطلقًا. والقلب الذي تسكنه البغضة، لا يسكنه الله لأن الله محبة.
ولهذا يقول الكتاب "كل من يبغض أخاه، فهو قاتل نفس. وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس، ليست له حياة أبدية ثابتة فيه" (1يو 3: 15)... ذلك لأنه قاتل لذلك الإنسان في قلبه. وينبغي معالجة قلبه أولًا. ويقول الكتاب في ذلك "لا يفرح بسقوط عدوك. ولا يبتهج قلبك إذا عثر" (أم 24: 17).
والقلب المُحِب لا ينتقم لنفسه.
فالانتقام لون من الكراهية والعداوة. ويدخل في (محبة) الذات لا في محبة الغير والكتاب يقول "لا تجاوزا أحدًا عن شر بشر"، "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء" بل "إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقة" (رو 12: 17، 19، 20).
ومحبة الناس لها مجالات عديدة.
منها محبة الأبوة والأمومة، ومحبة البنوة والأخوة. ومحبة الأزواج، ومحبة الأصدقاء، ومحبة العشيرة، ومحبة الكنيسة، ومحبة الخدام والمخدومين، ومحبة المجتمع عمومًا... وتوجد المحبة العامة التي تشمل العالم أجمع. وما أكثر ما نقرأ عن الهيئات العالمية التي تعمل في نطاق الخير والإغاثة والإنقاذ لأي شعب على وجه الأرض.
وفي ذلك تظهر أيضًا محبة الغرباء.
وقد أوصَى الله كثيرًا الغرباء. فقال: "أحبوا الغريب، لأنكم الغريب، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر." (تث 10: 19). وقال أيضًا "عاكفين على إضافة الغرباء" (رو 12: 13). وأيضًا "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون" (عب 13: 2).
ترتفع المحبة إلى أعلى قممها، فتصل على محبة الأعداء.
وقال الرب في ذلك "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (مت 5: 43، 44). وعلل ذلك بقوله "لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم ؟ أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك!"
قد يقول البعض "من الصعب على أن أحب عدوِّي فماذا أفعل؟" أقول لك: "على الأقل لا تبغضه... على الأقل اغفر له في قلبك، وانس إساءته إليك". تدرَّج في الفضيلة إلى أن تصلي من أجله أن يصلِحهُ الله، ويقوده إلى التوبة، ويغفر له... وهكذا تَصِل إلى محبته.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/love/people.html
تقصير الرابط:
tak.la/wk2ft9t