الفصل الحادي عشر: علامات محبتنا لله
تحدثنا كثيرًا عن كيف تحب الله، وبقى أن نذكر ما هي علامات هذه المحبة، وما نتائجها في حياتك؟
العلامة الكبرى هي أن محبة الله في قلبك، تنسيك كل شيء، فلا تشعر بلذة شيء سواه.
كل ملاذ العالم تبدو بلا طعم لمن ذاق محبة الله.
يبدو كل شيء تافها وضئيلا، كما قال سليمان الحكيم "الكل باطل وقبض الريح" (جا 1: 14). وهكذا كلما تنمو في محبة الله، على هذا القدر تزهد مغريات العالم كلها، وتردد مع القديس بولس الرسول "خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح، وأوجد فيه" (في 3: 8، 9).
تصوروا إنسانًا نال درجة الدكتوراه في الرياضيات، أتراه يجد لذة في مراجعة مبادئ علم حساب والجمع والطرح؟! أم هذه الأمور تبدو تافهة جدًا في نظره، لا يفكر فيها! هكذا أمور العالم بالنسبة إلى من امتلأ بمحبة الله
بل الإنسان الذي انشغل بمحبة الله، ينسى حتى نفسه في هذه المحبة --- لا يشعر بوجودها، بل بوجود الله فيه...
وهكذا يقول مع القديس بولس الرسول "أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في" (غل 2: 20). عجيبة حقًا هذه العبارة "لا أنا...". هنا إنكار الذات في أعمق صورة... هناك من ينكر ذاته في تعامله مع الناس. ولكن الأعمق هو إنكار الذات في محبة الله...
وإن وجد ذاته، يجدها في الله، مثل الغصن الذي في الكرمة. إنه يحيا طالما هو ثابت في الكرمة، تَسْري فيه عصارتها (يو 15).
وهنا بالمحبة يصل إلى الثبات في الله...
كما قال الرب نفسه "أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت في وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير" (يو 15: 5). وكيف نثبت فيه؟ لقد شرح ذلك بقوله "اثبتوا في محبتي" (يو 15: 9). وعلامة ثباتنا في محبته، أن نثبت في كلامه، في وصاياه. وقد قال في ذلك "إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي" (يو 15: 10)
على أن الثبات في الله، له معنى آخر أعمق.
الغصن حينما يثبت في الكرمة، يشعر أنه أحد أعضاء هذه الكرمة. هكذا أنت إن كنت ثابتًا في الرب، تشعر أنك عضو في جسد المسيح... حقًا إن هذا السر عظيم (أف 5: 32).
لماذا إذن تشعر بالغربة عن الله... وتقول مثل عذراء النشيد في وقت بعدها عنه "لماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك" (نش 1: 7).
إنك يا أخي، لست غريبًا عن الله. وليس الله غريبًا عنك.
أنت في قلبه، وهو في قلبك، أنت فيه، وهو فيك، أنت فيه، كالغصن في الكرمة. وهو فيك لأنك هيكل لروحه القدوس، وروحه القدوس يسكن فيك (1كو 3: 16). وقد قال أيضًا عن سكناه هو والآب فيك "إن أحبني أحد، يحفظ كلامي. ويحبه أبي. وإليه تأتي وعنده نصنع منزلًا" (يو 14: 3)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. إنه يعبرنا إخوته، ويعتبرنا كشخصه ولذلك حينما اضطهدت الكنيسة من شاول الطرسوسي، قال له الرب "لماذا تضطهدني؟!" (أع 9: 4)... معتبرًا اضطهاد الكنيسة اضطهادا له هو. وقال في مناسبة أخرى " مهما فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 15: 40).
من علامات محبتنا لله التصاق نفوسنا به.
وفي ذلك يقول داود النبي في المزمور "وأما أنا فخير لي الالتصاق بالرب..." (مز 73: 28). وقال أيضًا "التصقت نفسي بك. تعضدني" (مز 63: 8)
إن التصقنا بالله، نبعد تلقائيا عن الخطية، بل نكرهها، ولا تتفق مع طبيعتنا، لأنه "لا شركة للنور مع الظلمة" (2كو 6: 14). والذي يلتصق بالله، لا يمل من الحديث معه. بل يقول له مع داود "التحقت نفسي وراءك"، "عطشت نفسي إليك" (مز 63: 1). إنه يفرح بالوجود في حضرة الله، كما قالت عذراء النشيد "نبتهج ونفرح بك... بالحق يحبونك"، "لأن حبك أطيب من الخمر" (نش 1: 4، 2).
ومن أجل الفرح بالوجود مع الله، ترك آباؤنا الرهبان كل شيء، لكي ينفردوا في البرية مع الله الذي أحبوه.
أما أنت، إن كنت تسأم من الصلاة بسرعة، وتحب أن تختمها، فاعلم أنك لم تصل إلى محبة الله بعد...
آباؤنا الشهداء القديسون، في وقت استشهادهم: كانت مشاعر حبهم لله هي التي تملك على قلوبهم، أكثر بكثير من شعورهم بالألم. لذلك احتملوا العذابات، بل أحبوها لأنها ستقربهم إلى الوجود الدائم مع الله.
محبة الله، ليست مجرد مشاعر مبهمة، بلا ثمر. إنما تظهر محبتنا لله بحفظنا لوصاياه.
وعن هذا الأمر يتحدث القديس يوحنا الحبيب بوضوح تام فيقول "بهذا نعرف أننا قد عرفناه، إن حفظنا وصاياه، من قال قد عرفته، وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته، فحقا في هذا قد تكلمت محبة الله" (1يو 2: 3-5). إلى أن يقول "فإن هذه هي محبة الله، أن نحفظ وصاياه" (1يو 5: 3).
وهذا واضح جدًا، لأن الذي يكسر وصاياه، لا يكون محبًا له. إنما هو إنسان متمرد عليه، أو شخص يخون الله، وينضم إلى مقاوميه. فحفظ الوصايا علامة أساسية لمن يحبون الله، كما أن الابن الذي الذي يحب أباه بالجسد، يطيع وصاياه.
من علامات المحبة لله أيضًا، أن الذي يحب الله يحب كل ما يتعلق بالله...
يحب كنيسته ويقول "مساكنك محبوبة أيها الرب إله القوات تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب" (مز 84: 1). "واحدة طلبت من الرب وإياها ألتمس، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي انظر إلى جمال الرب، وأتفرس في هيكله" (مز 127: 4). "طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد" (مز 84: 4).
يحب كلام الله، شريعته، ناموسه، وصاياه. ويقول:
"وجدت كلامك كالشهد فأكلته" بل هو "أحلى من العسل والشهد في فمي" (119) "ناموسك هو تلاوتي"، "شريعتك هي لهجي، هي لذتي" فرحت بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة " "سراج لرجلي كلامك، ونور لسبيلي" (مز 119).
الذي يحب الله، يحب أيضًا سماءه وقديسيه وملكوته.
الذي يحب لله، تقوده العاطفة في كل ممارساته الروحية.
هو من أجل الله يقرأ. ومن أجل المتعة به يصلي. من أجل الله يخدم. بل من أجل اللقاء به والتمتع بأسراره المحيية، يدخل إلى الكنيسة. ومن أجله يحضر الاجتماعات الروحية. ومن أجله يجلس مع الناس. من أجله يتكلم لكي يحدث الناس عنه. ومن أجله يصمت ليتأمل صفاته الجميلة. بل من أجله يحيا لكي يخدمه وينشر اسمه. ومن أجله يموت لكي يلتقي به في الفردوس ثم في الملكوت... قائلًا في كل ذلك مع بولس الرسول "إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت. إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت. وإن عشنا أو متنا فللرب نحن" (رو 14: 8).
الذي يحب الله، قد ارتفع عن المصارعة ضد الخطية.
إن عبارة "الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد. وهذان أحدهما الآخر" (غل 5: 17)، إنما هي عبارة للمبتدئين، الذين لم يصلوا إلى حب الله بعد، وما زالت أجسادهم تشتهي أشياء تبعدهم عن الله...
أما الذي يحب الله، فإنه يمجد الله بجسده وبروحه (1كو 6: 20). وهو "لا يستطيع أن يخطئ" (1يو 3: 9)، "والشرير لا يمسه" (1يو 5: 18). لأن محبة الله ثابتة فيه. وكلما تقترب إليه خطية لتحاربه، يقول "كيف أصنع هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله ؟" (تك 39: 9).
الذي يحب الله، ويتعلق به فكره، يجعل كل شيء يذكره بالله يحبه.
فهو إن رأى السموات، لا يتأمل فقط نجومها وكواكبها، ونور الشمس والقمر، إنما يقول مع داود النبي في المزمور "السموات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 19). ويقول أيضًا "السماء هي كرسي الله، والأرض موضع قدميه" (مت 5: 34، 35). ويقول إن السماء هي مسكن الله مع الناس (رؤ 21). ويتذكر أبانا الذي السموات. ويقول هذه السماء التي أراها ليست شيئًا، فهناك السماء الثالثة التي اختطف إليها القديس بولس الرسول (2كو 12: 2). وهناك سماء السموات التي قال عنها الرب "ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 3: 13).
وإن رأى الطبيعة الجميلة، لا ينشغل فقط بجمالها، بل يمجد الله الذي خلقها بهذا الجمال.
إذ لا يليق أن عطايا الله لنا، تغلنا عن الله الذي أعطاها. بل كل هذه تعطينا فكرة عن حبه وكرمه وقدرته.
وهكذا إذا رأى زنابق الحقل، التي "ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها" يقول في نفسه: ما أعجب قدرة الله الذي "ألبسها هكذا" (مت 6: 28-30). ونفس الوضع بالنسبة إلى الفراشات في ألوانها، والطيور في تغريدها، والنحلة في صنعها للشهد، والنملة في عملها ونشاطها... كيف أن الله وهب كل هذه المخلوقات ما لها من مواهب تثير العجب وإعجاب...
بل حتى إن رأى قطة يطاردها كلب، يعجز عن إمساكها:
يقول في نفسه: عجبًا كيف أن الله في حنوه، أعطى المخلوقات الضعيفة وسيلة تهرب بها من التي هي أقوى منها. فالقطة تستطيع في هربها أن تتسلق شجرة بحيث لا يستطيع الكلب أن يدركها...
والأسد وإن كان أقوى بمراحل من الغزال، إلا أن الله وهب الغزال قوة على الجري بحيث يكون أسرع من السد، ويمكنه أن يهرب منه...
وهكذا يمجد الله في محبته، كلما رأى أسدًا وغزالا.
كذلك يتذكر محبة الله، كلما رأى شجرة تتفض ورقها في الشتاء، وتكسى بالورق في الصيف.
مثل الكرمة على التكعيبة: تنفض ورقها في الشتاء، فتعطيك فرصة أن تتمتع بدفء الشمس وأنت جالس تحتها. وتكتسي الورق صيفًا، فتعطيك فرصة أن تستظل بورقها حين تشتد الحرارة... ونفس الحال مع أنواع أشجار كثيرة.
ما أجمل أن تحول الماديات إلى روحيات، أو تأخذ دروسًا روحية من أمور مادية...
فتعجب كيف أن الله يكسو الدب القطبي أو الثعلب القطبي بفراء جميل يمنحه الدفء في تلك المناطق الجليدية، بينما لا يثقل الجمل أو الحصان بفراء يتعبه في سكنى المناطق الحارة.
هناك أمور عديدة تذكرنا بعمل الله. ولكننا لا نتذكر، لأن محبتنا الله لم تصل إلى مستوَى هذا التأمل!
أما القلوب المحبة له، فكل شيء يذكرها به... ولها "الحواس المدربة" على ذلك (عب 5: 14).
أستأذنك أيها القارئ العزيز في الاكتفاء بهذا القدر عن محبتنا لله، وننتقل إن شاء الله إلى الحديث عن محبة الناس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/love/signs.html
تقصير الرابط:
tak.la/973n62f