س 1670: كيف يشبه داود الله بآلهة الأساطير: "صَعِدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ، وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ. طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ. رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ. جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ حَوْلَهُ مِظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ.." (مز 18: 8-15)؟، وهل الله يستتر بالظلمة (مز 18: 11) أم أنه يسكن في النور (1تي 6: 16) وهو نور ليس فيه ظلمة البتة (1يو 1: 5)؟ (أيضًا راجع مز 29: 3 - 10).
يقول "أحمد ديدات" هل يعقل أن الله يمتطــي ملاكًا أو طفلًا جميلًا " كاروب" (مز 18: 11). (راجع عتاد الجهاد ص 21).
ويقول "د. حسن الباش" عن المزمور (18): "فنلاحظ في هذا المزمور صدى كلام التوراة في سفر الخروج وغيره من الأسفار، والسمة الغالبة على معانيه وألفاظه التجسيد الأسطوري البعيد عن سمات الذات الإلهيَّة. لاحظ قوله دخان صعد من أنفه ونار آكلة من فمه. وجمر أتقد منه، فهذه صفات الآلهة الأسطورية التي استقاها كتبة التوراة من الأساطير الكنعانية الخاصة بالإله الوثني بعل.
ونلاحظ كيف تكررت صورة نزول الله في الغمام في هذا المزمور وفي سفر الخروج. وكذلك ركوب الله على كروب ثم طيرانه على أجنحة الرياح. كل ذلك مثبوت بصريح العبارة في سفر الخروج خاصة عند الحديث عن تلقي موسى رسالة السماء...
تلاحظ قوله مثلًا: أعماق البحر انكشفت. فهي تدل دلالة واضحة على حادثة الخروج من مصر عبر البحر وليس لها علاقة بالواقع التاريخي الذي يعيش فيه النبي داود. ونستنتج مما سبق أن هذا المزمور هو أقرب إلى التأليف الذي عمل عليه كتبة التوراة بعد داود بعشرات السنين، وليس هـو كلام داود عليه السلام، وطالما كذلك فإن علاقة هذا المزمور (18) بالزبور مفقودة ولا صلة بينهما، لأن الزبور مُنزَّل من الله وليس هو من صنع داود" (196) (راجع أيضًا د. محمد على البَار - أباطيل التوراة والعهد القديم (2) - الله والأنبياء في التوراة والعهد القديم ص 399، 400).
ج: أولًا: 1ــ قلنا مرارًا وتكرارًا أن سفر المزامير سفر شعري، والشعر هو ميدان البلاغة بصورها المختلفة من كنايات واستعارات وتورية... وقد كتب داود هذا المزمور بعد أن مَلَكَ على أورشليم، وقد خلصه الله من جميع أعدائه، بل وأرسل له يوناثان النبي ليقول له: "أَنَا أَخَذْتُكَ مِنَ الْمَرْبَضِ مِنْ وَرَاءِ الْغَنَمِ لِتَكُونَ رَئِيسًا عَلَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. وَكُنْتُ مَعَكَ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ وَقَرَضْتُ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ مِنْ أَمَامِكَ وَعَمِلْتُ لَكَ اسْمًا عَظِيمًا كَاسْمِ الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ" (2صم 7: 8، 9)، فسبح داود الله بهذا المزمور، وفاض قلبه بالشكر لله، ولم يفتخر داود بقوة جيشه وعظمة مملكته بل افتخر بالرب الذي عظم الصنيع معه، وبدأ المزمور بعبارته الرائعة: "أُحِبُّكَ يا رب يَاقُوَّتِي. الرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي. إِلهِي صَخْرَتِي بِهِ أَحْتَمِي. تُرْسِي وَقَرْنُ خَلاَصِي وَمَلْجَإِي" (مز 18: 1، 2) فمن بداية المزمور يستخدم التشبيهات العديدة فيشبه الله بالصخرة والحصـن والتـرس والملجأ.
ويقول "الأب متى المسكين" تعليقًا على المزمور (29): "نظرة الرجل الإسرائيلي للطبيعة كانت نظرة عميقة دينية، فهو لا يتأمل عجائبها وجمالها وأصنافها من أجل ذاتها، بل الكل يحدثه عن الله وقوته ومجده ومنافعه. تمده بشعارات ورموز وصور لصفات الله وأعماله. فالرعد هو صوت الله (7) وكل مظاهر العاصفة تعبير عن مجد وسلطان الله على العالم، أنظر (إش 30: 27، 28): "هُوَذَا اسْمُ الرَّبِّ يَأْتِي مِنْ بَعِيدٍ غَضَبُهُ مُشْتَعِلٌ وَالْحَرِيقُ عَظِيمٌ. شَفَتَاهُ مُمْتَلِئَتَانِ سَخَطًا وَلِسَانُهُ كَنَارٍ آكِلَةٍ، وَنَفْخَتُهُ كَنَهْرٍ غَامِرٍ يَبْلُغُ إِلَى الرَّقَبَةِ. لِغَرْبَلَةِ الأُمَمِ بِغُرْبَالِ السُّوءِ وَعَلَى فُكُوكِ الشُّعُوبِ رَسَنٌ مُضِلٌّ ". ومن أجل أن الطبيعة هيَ استعلان الله أنظر مزامير 8 و 19 و 105. وينبغي أن نتذكر أن العواصف في فلسطين هيَ غالبًا أكثر حدة وعنفًا وشديدة الوطأة أكثــر من عواصف الريف" (197).
2ــ لقد دعَىَ داود الرب والرب استجاب له: "فِي ضِيقِي دَعَوْتُ الرَّبَّ وَإِلَى إِلهِي صَرَخْتُ. فَسَمِعَ مِنْ هَيْكَلِهِ صَوْتِي وَصُرَاخِي قُدَّامَهُ دَخَلَ أُذُنَيْهِ" (مز 18: 6)، ويصف داود تدخل الله لإنقاذه بأسلوب قوي، وكأن الطبيعة كلها اهتزت، فهذا التدخل مصحوب بالدخان والضباب والبروق كما حدث عند حلول الرب على جبل سيناء، وقال بولس الرسول: "لأَنَّكُمْ لَمْ تَأْتُوا إِلَى جَبَل مَلْمُوسٍ مُضْطَرِمٍ بِالنَّارِ وَإِلَى ضَبَابٍ وَظَلاَمٍ وَزَوْبَعَةٍ. وَهُتَافِ بُوق وَصَوْتِ كَلِمَاتٍ اسْتَعْفَى الَّذِينَ سَمِعُوهُ مِنْ أَنْ تُزَادَ لَهُمْ كَلِمَةٌ" (عب 12: 18، 19).. " وَكَانَ الْمَنْظَرُ هكَذَا مُخِيفًا حَتَّى قَالَ مُوسَى: "أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ" (عب 12: 21).
3ــ الذين ادَّعوا أن داود شبه إلهه بآلهة الأساطير تغافلوا تمامًا أن داود لم يُشبّه ولم يصوّر الله هنا بإحدى هذه الظواهر، إنما أوضح أن هذه الظواهر تصاحب الله في حضوره، وخلف كل هذه الظواهر معانٍ روحية عميقـة، ويقول "لزلي مكاو": "نلاحظ أنه لا تشبيه لله نفسه في كل هـذا الضجيج (تث 4: 11، 12)، والأفكار المعنوية يُعبَر عنها بأعظم خيال تصويري كما هيَ عادة الكتاب المقدَّس. إن وصف التدخل الإلهي قد يُصوَّر في العقل، ووراء هذه الصوَّر كلها نجد المقارنة بأن الله لا يُلمَس لكنه في الوقت ذاته قدير ولا يُفحص ومع ذلك لا مفر منه. وعمل الله هذا كان شخصيًا بحتًا، وفي قصة خلاص المُرنّم هذه فإن العالم المادي يختفي وراءه. حتى أن أعداءه الأقوياء يذكرهم عرضًا فقط لأن هذا الخلاص كان خاصته وحده. لذلك نجد تكرار ضمير المتكلم والغائب، والعجيبة النهائية أن الرب خلَّصه من كل ضيقاته لأنه سرَّ به" (198).
4ــ شتان بين إيمان داود بإلهه وإيمان الشعوب الوثنية بآلهتها الأسطورية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقد آمنت تلك الشعوب بآلهة مرئية ملموسة محسوسة قد صنعتها أيدي البشر من معادن أو أحجار، كما آمنت بالظواهر الطبيعية على أن لكل ظاهرة إله أو أكثر، فهناك إله للمطر والعواصف، وآخر للزرع والضرع، وآخر للشمس، وآخر للمياه... إلخ، وهذه الآلهة في نظرهم تأكل وتشرب وتنام وتستريح وتتزاوج وتنجب وتتكاثر، وتتصارع وتتناحر، وتموت... إلخ. أما داود فكان إيمانه صحيحًا قويًا بإله واحد، ووحدانية الله في فكر داود وحدانية مُطلقة، فلا يوجد أي إله آخر غيره ينازعه السلطة، وهذا الإله غير محدود وغير متناه مالئ كل زمان ومكان بلاهوته، وهو أيضًا غير مرئي، فقد قال لموسى رئيس الأنبياء: "لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي. لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ" (خر 33: 20)، وهذا الإله غير المرئي متى أظهر ذاته في مكان صاحبته بعض المظاهر، فجاء في القرآن: "وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَـالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ" (الأعراف 7: 143). وهو الإله القادر على كل شيء ولا يقوى عليه شيء قط، قال لأبينا إبراهيم: "أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ" (تك 17: 1) وقال لأبينا يعقوب: "أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. أَثْمِرْ وَاكْثُرْ" (تك 35: 11)، فهو مصدر كل البركات، فقد قال إسحق ليعقوب: "وَاللهُ الْقَدِيرُ يُبَارِكُكَ وَيَجْعَلُكَ مُثْمِرًا" (تك 28: 3)، وقال الله لموسى أنه: "الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (خر 6: 3) وقـال موسى لشعبه: "لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ الإِلهُ الْعَظِيمُ الْجَبَّارُ الْمَهِيبُ" (تث 10: 17)، وبالطبع لا يُفهم من قول موسى هذا أنه يوجد آلهة أخرى وأرباب آخرين، ولكن المقصود هم من دعوهم الأمم بأنهم آلهة وهو ليسوا بآلهة... وفي ظهور مجد الرب لموسى على الجبل: "كَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (خر 24: 17)، وقــال داود النبي: "لأَنَّهُ مَنْ هُوَ إِلهٌ غَيْرُ الرَّبِّ؟!" (مز 18: 31).." جَمِيعُ عِظَامِي تَقُولُ يا رب مَنْ مِثْلُكَ الْمُنْقِذُ الْمِسْكِينَ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَالْفَقِيرَ وَالْبَائِسَ مِنْ سَالِبِهِ" (مز 35: 10).. " لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يا رب وَلاَ مِثْلَ أَعْمَالِكَ" (مز 86: 8) وقال المُرنّم: "يَا اَللهُ مَنْ مِثْلُكَ" (مز 71: 19)، وقــال إيثان الأزراحي: "لأَنَّهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يُعَادِلُ الرَّبَّ. مَنْ يُشْبِهُ الرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ اللهِ... يا رب إِلهَ الْجُنُودِ مَنْ مِثْلُكَ قَوِيٌّ رَبٌّ وَحَقُّكَ مِنْ حَوْلِكَ" (مز 89: 6، 8)، ويراقب الله كل شيء ويضبط كل شيء، لذلك قال المُرنّم: "لِمَاذَا يَقُولُ الأُمَمُ أَيْنَ هُوَ إِلهُهُمْ. إِنَّ إِلهَنَا فِي السَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ. أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. لَهَا أَيْدٍ وَلاَ تَلْمِسُ. لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا. مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا" (مز 115: 2 - 8).. فهل بعد كل هذا يقول أحد أن داود شبَّه إلهه بآلهة الأمم الأسطورية؟!!
أما قول "د. حسن الباش" بأن الزبور غير المزامير، وأن الزبور منزَّل من الله ولم يكتبه داود، فقد سبق مناقشة هذا الموضوع فيمكــن الرجـوع إلى س 1627.
فيما يلي نذكر الآيات التي قال عنها النُقَّاد أن داود قد اقتبسها من الآلهة الأسطورية، ونوضح معناها ومغزاها بحسب الوقت القليل المتاح:
صَعِدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ
رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ
جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ. حَوْلَهُ مِظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ
مِنَ الشُّعَاعِ قُدَّامَهُ عَبَرَتْ سُحُبُهُ، بَرَدٌ وَجَمْرُ نَارٍ
أَرْعَدَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاوَاتِ، وَالْعَلِيُّ أَعْطَى صَوْتَــهُ، بَرَدًا وَجَمْرَ نَارٍ
صَوْتُ الرَّبِّ مُكَسِّرُ الأَرْزِ وَيُكَسِّرُ الرَّبُّ أَرْزَ لُبْنَانَ
وَيُمْرِحُهَا مِثْلَ عِجْل. لُبْنَانَ وَسِرْيُونَ مِثْلَ فَرِيرِ الْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ
صَوْتُ الرَّبِّ يُزَلْزِلُ الْبَرِّيَّةَ. يُزَلْزِلُ الرَّبُّ بَرِيَّةَ قَادِشَ
عبَّر قديمًا موسى عن الرجل الذي يغضب عليه الرب بسبب عبادته الأوثان: "لاَ يَشَاءُ الرَّبُّ أَنْ يَرْفَقَ بِهِ بَلْ يُدَخِّنُ حِينَئِذٍ غَضَبُ الرَّبِّ وَغَيْرَتُهُ عَلَى ذلِكَ الرَّجُلِ فَتَحِلُّ عَلَيْهِ كُلُّ اللَّعَنَاتِ.." (تث 29: 20) فهـل عندما قال موسى " يُدَخِّنُ حِينَئِذٍ غَضَبُ الرَّبِّ" اقتبس هذا من صفات الآلهة الأسطورية؟!، وكيف يقتبس من صفات هذه الآلهة وهو يهاجمها بشدة ويزدري بها ويعدها أنها من الأرجاس، فقال لشعبه عن عبادات المصريين: "وَرَأَيْتُمْ أَرْجَاسَهُمْ وَأَصْنَامَهُمُ الَّتِي عِنْدَهُمْ مِنْ خَشَبٍ وَحَجَرٍ وَفِضَّةٍ وَذَهَبٍ" (تث 29: 17).
وقول داود " صَعِدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ" مقتبس من نزول الرب على جبل سيناء حيث: "أَنَّهُ صَارَتْ رُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَسَحَابٌ ثَقِيلٌ عَلَى الْجَبَلِ وَصَوْتُ بُوق شَدِيدٌ جِدًّا... وَكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ. وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا" (خر 19: 16، 18)، وهذه حقيقة مؤكدة ويعترف بها الجميع من يهود ومسيحيين ومسلمين.
وقال آساف: "لِمَاذَا رَفَضْتَنَا يَا اَللهُ إِلَى الأَبَدِ. لِمَاذَا يُدَخِّنُ غَضَبُكَ عَلَى غَنَمِ مَرْعَاكَ" (مز 74: 1).. فهل آساف اقتبس هذا من الأساطير؟!! وعندما رأى إشعياء مجد الرب قال: "فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا" (إش 6: 4).. فهل اقتبس إشعيـاء هذا أيضًا من الأساطير؟! وكما أن الدخان يشير إلى وجود نار، وهو مقدمة للنار، فهكذا يسبق غضب الله تأديباته وعقوباته، والدخان يشير للدينونة، ويقول "القس وليم مارش": "أن الدخان كأنما هو نَفَسْ النار يتصاعد كما يتصاعد تنفس الإنسان. وهنا يؤكد وجود الله والجمر المشتعل. فغضب الله عامل فتاك يحرق ويبيد ولذلك فالخاطئ يجب أن يخاف ويرتعب ولا يستطيع أن يستمر على حالته بدون مبالاة. تعطي النار تحذيرًا بوجود الدخان وتنتهي بوجود الجمــر الذي هو كمال الاشتعال" (199).
وقول داود " وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ" مقتبس من قول موسى النبي عندما نهى شعبه عن عبادة آلهة الأمم، قائلًا لهم: "لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ نَارٌ آكِلَةٌ، إِلهٌ غَيُورٌ" (تث 4: 24)، وقول داود "جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ" هو ما رآه حزقيال النبي في رؤياه: "فَنَظَرْتُ وَإِذَا بِرِيحٍ عَاصِفَةٍ جَاءَتْ مِنَ الشِّمَالِ. سَحَابَةٌ عَظِيمَةٌ وَنَارٌ مُتَوَاصِلَةٌ وَحَوْلَهَا لَمَعَانٌ وَمِنْ وَسْطِهَا كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ اللاَّمِعِ مِــنْ وَسْطِ النَّارِ" (حز 1: 4).. " وَكَلَّمَ الرَّجُلَ اللاَّبِسَ الْكَتَّانِ وَقَالَ ادْخُلْ بَيْنَ الْبَكَرَاتِ تَحْتَ الْكَرُوبِ وَامْلأْ حَفْنَتَيْكَ جَمْرَ نَارٍ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبِيمِ وَذَرِّهَا عَلَـى الْمَدِينَةِ" (حز 10: 2)، وقال السيد المسيح: "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ" (لو 12: 49)، وحلَّ الروح القدس على التلاميذ يوم الخمسين على شكل ألسنة نار.
قال داود النبي: "طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ" تعبير مجازي يعبر عن اقتراب الله من الإنسان المتألم، إذ تنحني السموات تحته، والنـزول هنا ليس نزولًا مكانيًا، لأن الله مالئ الكل بلاهوته، وهذا يُذكّرنا بما حدث عند بناء برج بابل إذ قال الرب: "أَنْزِلُ وَأَرَى. هَلْ فَعَلُوا بِالتَّمَامِ حَسَبَ صُرَاخِهَا الآتِي إِلَيَّ" (تك 18: 21)، وهو الإله العالِم بكل شيء، لكنها صورة تصويرية تُظهِر مدى انشغال الله بالإنسان واهتمامه به وخوفه عليه، فربما سقط البرج عليهم فأهلكهم، وخاطب الرب موسى في العليقة قائلًا: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ. فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ" (خـر 3: 7، 8)، ودعا داود الله قائلًا: "يا رب طَأْطِئْ سَمَاوَاتِكَ وَانْزِلِ الْمِسِ الْجِبَالَ فَتُدَخِّنَ" (مز 144: 5).. وقال ميخا النبي: "فَإِنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ وَيَنْزِلُ وَيَمْشِي عَلَى شَوَامِخِ الأَرْضِ. فَتَذُوبُ الْجِبَالُ تَحْتَهُ وَتَنْشَقُّ الْوِدْيَانُ كَالشَّمْعِ قُدَّامَ النَّارِ. كَالْمَاءِ الْمُنْصَبِّ فِي مُنْحَدَرٍ" (مي 1: 3، 4).. فهل أُخذ كل هذا من أساطير الأولين؟! وقال "القس وليم مارش": "وهكذا فإن السموات التي هيَ كرسي الله تُطأطئ، وكأنما تنزل، وهنا خيال للشاعر رحيب، فأنه طالما رأى الغيوم تسوقها الرياح وتذهب بها آنى شاءت. والضباب لا يكون عاليًا كالسحاب لذلك فهو يتناسب أن يكون في مكان رجليه فقط. والحق يُقال أنه لمنظر أخاذ ووصف بديع للغاية" (200).
وقول داود " ضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ" لأن الضباب رمز القوة والجلال، وهو قول مُقتبس من سفر الخروج يوم حلَّ الرب على جبل سيناء: "فَوَقَفَ الشَّعْبُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَمَّا مُوسَى فَاقْتَرَبَ إِلَى الضَّبَابِ حَيْثُ كَانَ اللهُ" (خر 20: 21)، وقال سليمان الملك: "قَالَ الرَّبُّ إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي الضَّبَابِ" (1مل 8: 12)، وقال المُرنّم: "السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ" (مز 97: 2)، فالضباب يشير للحضرة الإلهيَّة وعلامة تدل على الظهور الإلهي.
والضباب يشير أيضًا للغموض الذي لفَّ سر التجسد الإلهي وعدم قدرة العقل البشري على استيعاب هذا الأمر، غير المحدود يتحد بالمحدود، وغير المرئي يتحد بالمرئي، وفي الناسوت يحل كل ملء اللاهوت، ويحجب الله لاهوته بناسوته... من يدرك هذا السر العظيم، سر التقوى؟! لذلك فإن هذه الآية حملت بُعدًا نبويًا إذ تشير للتجسد الإلهي في ملء الزمان، وجاءت في صيغة الماضي تأكيدًا على حدوثها في المستقبل.
ويقول "القس بطرس جرجس": "في عدد (9) إشارة نبوية إلى سر التجسد الإلهي، وكيف أن هذا السر العجيب جعل السموات تدنو من الأرض والعظيم يتنازل بهذا المقدار ويصير حلقة اتصال بين السمائيين والأرضيين، وتصف كل العبارات الواردة في هذه الأعداد جلال الأقداس ورهبته العظيمة وقدرته الفائقة بما لا يمكن لعقول بشرية أو حواس جسدية أن تدرك كنهه، وفي هذا الوصف الرائع برهان قاطع على خضوع الطبيعة لربها وباريها، وعلى أن جميع الأكوان والعناصر المختلفة رهينة سلطانه المُطلق. فمن ذا يستطيع أن يقف أمام جبروت القهار وقوة الجبار الذي مركبته السحاب، وجنوده نار تلتهب، والظلمة حجابه، والمياه مظلته والبروق والعواصف سهام يرمي بها أعداءه بسرعة. وليس من ثم مبالغة في هذا الوصف المُختفي بقدرة الله الغير محدودة وشدة هول تهديداته للأشرار التي ترجف أكثر من الرعد وجمر النار، بل إذا غضب على قوم سخطهم وأبادهم بأسرع من وميض البرق، أذكر حادثة الطوفان وما حاق بسدوم وعمورة، واستحالة امرأة لوط إلى عمود ملح في لحظة، وابتلاع الأرض لبني قورح، وضربات مصر إلى غيــر ذلك مما ورد في الكتاب" (201).
الكروبيم طغمة من الطغمات السمائية المملوءة أعينًا علامة المعرفة، فتعبير " رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ" يُظهر معرفة الله التي تفوق كل معرفة، ونحن نذكر عندما طُرد رئيس جنسنا من الفردوس " أَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ" (تك 3: 24) وأوصى الرب موسى قائـلًا: "وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ الْغِطَاءِ" (خر 25: 18)، وأصعد داود تابوت العهـد من بعلة يهوذا التي هيَ قرية يعاريــم: "الَّذِي يُدْعَى عَلَيْهِ بِالاسْمِ، اسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ الْجَالِسِ عَلَى الْكَرُوبِيمِ" (2صم 6: 2) فقد كان على غطاء التابوت كاروبين من ذهب، وفي المسافة بينهما (الشاكيناه) كان يُستعلن مجد الله، فالتابوت يُمثل الحضرة الإلهيَّة ويُمثل عرش الله في مُلكه على شعبه، ويقول حزقيال النبي: "ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا عَلَى الْمُقَبَّبِ الَّذِي عَلَى رَأْسِ الْكَرُوبِيمِ شَيْءٌ كَحَجَرِ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ كَمَنْظَرِ شِبْهِ عَرْشٍ" (حز 10: 1)، وليس الكروبيم هُم الذين يقودون مركبتهم بل الله الجالس على هذه المركبة هو المتحكم في كل شيء، فيقود المركبة الشاروبيمية كما يقود القائد عربته، وقال المُرنّم: "الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ" (مز 104: 3).. " يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ اصْغَ يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ، يَا جَالِسًا عَلَى الْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ" (مز 80: 1). أما عن تساؤل أحمد ديدات: هل يمتطي الله ملاكًا أو طفلًا جميلًا (كروب)، فقد سبق الرد عليه، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ9 س 1217.
وقول داود " طَارَ وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ" قول مجازي يُعبر عن سرعة استجابة الله للمظلومين، وهو وصف مُستوحى من سرعـة الطير في طيرانه، وقال الله لشعبــه: "وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ" (خر 19: 4) وحذرهم من الارتداد لئلا: "يَجْلِبُ الرَّبُّ عَلَيْكَ أُمَّةً مِنْ بَعِيدٍ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ كَمَا يَطِيرُ النَّسْرُ" (تث 28: 49). كما حملت هذه الآية بُعدًا نبويًا إذ أنها تشير لصعود السيد المسيح للسماء جسديًا: "وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ" (أع 1: 9)، وكما صعد هكذا سيأتي ليدين الكـل: "وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ" (مر 13: 26).
قول داود: "جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ" قول مجازي يعبّر عن الله المحتجب الذي لا يراه أحد كقول أليفاز التيماني: "السَّحَابُ سِتْرٌ لَهُ فَلاَ يُرَى وَعَلَى دَائِرَةِ السَّمَاوَاتِ يَتَمَشَّى" (أي 22: 14)، وقال أليهو: "فَهَلْ يُعَلِّلُ أَحَدٌ عَنْ شَقِّ الْغَيْمِ أَوْ قَصِيفِ مِظَلَّتِهِ. هُوَذَا بَسَطَ نُورَهُ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ يَتَغَطَّى بِأُصُولِ الْيَمِّ" (أي 36: 29، 30) وقال إشعياء النبي: "حَقًّا أَنْتَ إِلهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلهَ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصَ" (إش 45: 15).. فالله يتسامى فوق العقل البشري، فمن يدرك كنهه أي جوهره وطبيعته؟! من يقدر أن يحارب ذاك الذي مركبته في السحاب، والظلمة حجابه، والبروق والصواعق سهامه؟!
ويقول "القديس غريغوريوس النيصي": "القديس يوحنا الجليل الذي اخترق الظلمة المنيرة يقول: "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ" (يو 1: 18) مؤكدًا عدم إمكانية بلوغ الجوهر السماوي بواسطة البشر، بل وأيضًا بواسطة كل الخليقة العاقلة. لذلك، عندما نما موسى في المعرفة أعلن أنه رأى الله في الظلام، بمعنى أنه أتى إلى معرفة ما هو إلهي، ما هـو فوق كل معرفة أو إدراك، إذ جاء النص: "أَمَّا مُوسَى فَاقْتَرَبَ إِلَى الضَّبَابِ حَيْثُ كَانَ اللهُ" (خر 20: 21). أي إله؟ ذاك الذي جعل الظلمة حجابه كقول داود، الذي تعرَّف على الأسرار في ذات المقدِس الداخلي" (202).
إذًا ليس معنى قول المزمور هنا: "جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ" أنه يسكن في الظلمة، بل تعني أن الإنسان لا يستطيع أن يطلع على جوهر لاهوته، ولا يمكن للخاطئ أن يعاين نور مجده، فالله نور " اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ" (1يو 1: 5)، وهو ساكن في النور: "سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ" (1تي 6: 16)، وتسبحه ملائكة النور: "الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً" (مز 104: 4)، (عب 1:7)، وقد سبق مناقشة هذا الموضوع فيُرجى الرجــوع إلى مدارس النقد جـ 10 س 1262.
وقال داود النبي: "مِظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ" وهذا يتوافق مع ما جاء في سفر اللاويين إذ " قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى... لأَنِّي فِي السَّحَابِ أَتَرَاءَى عَلَى الْغِطَاءِ" (لا 16: 2)، وقال المُرنّم: "السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ" (مز 97: 2).
وقول داود هنا مقتبس من ضربة البَرد التي حلت بالمصريين: "فَمَدَّ مُوسَى عَصَاهُ نَحْوَ السَّمَاءِ. فَأَعْطَى الرَّبُّ رُعُودًا وَبَرَدًا وَجَرَتْ نَارٌ عَلَى الأَرْضِ. وَأَمْطَرَ الرَّبُّ بَرَدًا عَلَى أَرْضِ مِصْرَ" (خر 9: 23)، وقال المُرنّم: "قُدَّامَهُ تَذْهَبُ نَارٌ وَتُحْرِقُ أَعْدَاءَهُ حَوْلَهُ. أَضَاءَتْ بُرُوقُهُ الْمَسْكُونَةَ" (مز 97: 3، 4) وجاء فيما بعد في سفر الرؤيا: "فَبَوَّقَ الْمَلاَكُ الأَوَّلُ فَحَدَثَ بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَانِ بِدَمٍ وَأُلْقِيَا إِلَى الأرْضِ فَاحْتَرَقَ ثُلْثُ الأَشْجَارِ وَاحْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ" (رؤ 8: 7).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "يرى البعض أن المُرَتِّل هنا يصف البرق، أَسهُم الله التي تنتشر وتهزم أعداء داود، فإن الله لا تنقصه الوسيلة ليحقق غرضه ونشر قوته الخلاصية وكأنه يمزق السحاب إربًا، ويرسل سهامه التي لا يعوقها السحاب بل تقتحم السحاب كأنه غير موجود. تنفتح السماء بأكملها كما يحدث أثناء البرق (حيث يبدو كأنه يُمزق السحب). غالبًا ما يكون البرق مصحوبًا بالبرد والبَرَدْ. وكثيرًا ما يعاقب الله الأشــرار بحجارة من البَرَدْ والنار (خر 9: 24، 25، يش 10: 11، مز 78: 47، 48، 105: 32، حج 2: 17). كأن الله يُحتجب في الضباب يفتح أبواب السماء ليقذف الأشرار المُصرين على شرهم بحجارة من البَرَدْ والنار" (203).
إن كان عند غضب ملوك الأرض ترتج البلاد وتضطرب الدول، فما بالك عندما يعلن الله غضبه من السماء؟!، وقد عبّر داود النبي في صورة شعرية جميلة عن هذا الغضب الإلهي بالرعد، فهو صوت الانتقام من الأشرار، وقال داود في موضع آخر: "صَوْتُ الرَّبِّ عَلَى الْمِيَاهِ. إِلهُ الْمَجْدِ أَرْعَدَ. الرَّبُّ فَوْقَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ. صَوْتُ الرَّبِّ بِالْقُوَّةِ. صَوْتُ الرَّبِّ بِالْجَلاَلِ" (مز 29: 3، 4).
عندما خرج خمسة ملوك وحاربوا يشوع: "فَأَزْعَجَهُمُ الرَّبُّ أَمَامَ إِسْرَائِيلَ. وَضَرَبَهُمْ ضَرْبَةً عَظِيمَةً. وَبَيْنَمَا هُمْ هَارِبُونَ مِنْ أَمَامِ إِسْرَائِيلَ رَمَاهُمُ الرَّبُّ بِحِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ السَّمَاءِ... وَالَّذِينَ مَاتُوا بِحِجَارَةِ الْبَرَدِ هُمْ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالسَّيْفِ" (يش 10: 10، 11)، وبعد نصرة باراق ودبورة على يابين ملك كنعان وسيسرا رئيس جيشه، ترنَّمت دبورة قائلة: "يا رب بِخُرُوجِكَ مِنْ سِعِيرَ بِصُعُودِكَ مِنْ صَحْرَاءِ أَدُومَ الأَرْضُ ارْتَعَدَتِ. السَّمَاوَاتُ أَيْضًا قَطَرَتْ. كَذلِكَ السُّحُبُ قَطَرَتْ مَاءً. تَزَلْزَلَتِ الْجِبَالُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ" (قض 5: 4، 5).. " مِنَ السَّمَاوَاتِ حَارَبُوا. الْكَوَاكِبُ مِنْ حُبُكِهَا حَارَبَتْ سِيسَرَا" (قض 5: 20). وقال داود أيضًا في موضع آخر: "أَبْرِقْ بُرُوقًا وَبَدِّدْهُمْ. أَرْسِلْ سِهَامَكَ وَأَزْعِجْهُمْ" (مز 144: 6).
وأيضًا قول داود: "أَرْسَلَ سِهَامَهُ فَشَتَّتَهُمْ وَبُرُوقًا كَثِيرَةً فَأَزْعَجَهُمْ" فالسهام تشير إلى خدام الله الأمناء الذين ينفذون مشيئته، والبروق تشير للملائكة الذين يسرعون لتنفيذ أوامره: "بَارِكُوا الرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ. بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ خُدَّامَهُ الْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ" (مز 103: 20، 21).
عند عبور بني إسرائيل البحر الأحمر انشقت المياه فظهرت اليابسة فمشوا عليها ونجوا من يد فرعون وكل جنوده الذين غرقوا في مياه البحر، ورنَّم موسى قائلًا: "وَبِرِيحِ أَنْفِكَ تَرَاكَمَتِ الْمِيَاهُ. انْتَصَبَتِ الْمَجَارِيَ كَرَابِيَةٍ. تَجَمَّدَتِ اللُّجَجُ فِي قَلْبِ الْبَحْرِ" (خر 15: 8)، فانكشفت أعماق المياه، وحدث هذا أيضًا مع يشوع بن نون عند عبوره نهر الأردن (يش 3: 16)، كما حدث مع إيليا وأليشع وهما يعبران النهر، ثم أليشع بمفرده أثناء عودته وبعد انخطاف معلمه من فوق رأسه.
ويقول "الأب متى المسكين": "مياه البحر رجعت إلى الوراء وقاع البحر انكشف وخفايا أساسات الأرض رُؤيت لتعلن ربها وسيدها. مثل القديم أيام الخروج وانغلاق المياه وظهور القاع الذي سار عليه وتقدَّم بنو إسرائيل بقيادة موسى حينما انتهرها الرب" (204).
ومزمور (29) هو مزمـور للعبادة وتقديم الحمد للرب القادر على كل شيء، لذلك بدأ بقوله: "قَدِّمُوا لِلرَّبِّ... قَدِّمُوا لِلرَّبِّ" (مز 29: 1، 2)، وقال القديس أُغسطينوس: أن داود النبي كتب هذا المزمور بعد اكتمال خيمة الاجتماع الجديدة في أورشليم ووصول تابوت العهد واستقراره في أحضانها، ودُعي هذا المزمور بمزمور "صوت الرب" حيث تكررت هذه العبارة سبع مرات، والسبعة عدد الكمال، وإن كان الإنسان الوثني رأى في العاصفة الرعدية قوة الإله "حداد" الإله الوهمي، وإن كان عالم الطبيعة يرى في هذه العاصفة ظاهرة طبيعية، لكن الإنسان المؤمن يرى فيها صوت الله: "أَرْعَدَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْعَلِيُّ أَعْطَى صَوْتَهُ بَرَدًا وَجَمْرَ نَارٍ" (مز 18: 13)، وقال موسى النبي لشعبه: "فَكَلَّمَكُمُ الرَّبُّ مِنْ وَسَـطِ النَّارِ وَأَنْتُمْ سَامِعُونَ صَوْتَ كَلاَمٍ وَلكِنْ لَمْ تَرَوْا صُورَةً بَلْ صَوْتًا" (تث 4: 12).. " هذِهِ الْكَلِمَاتُ كَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ كُلَّ جَمَاعَتِكُمْ فِي الْجَبَلِ مِنْ وَسَطِ النَّارِ وَالسَّحَابِ وَالضَّبَابِ وَصَوْتٍ عَظِيمٍ" (تث 5: 22) وصوت الرب هو الذي شتت المديانيين من أمام جدعون (قض 7: 21، 22)، وقالت حَنَّة أم صموئيل النبي في صلاتها: "مُخَاصِمُو الرَّبِّ يَنْكَسِرُونَ. مِنَ السَّمَاءِ يُرْعِدُ عَلَيْهِمْ" (1صم 2: 10)، " وَبَيْنَمَا كَانَ صَمُوئِيلُ يُصْعِدُ الْمُحْرَقَةَ تَقَدَّمَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ لِمُحَارَبَةِ إِسْرَائِيلَ. فَأَرْعَدَ الرَّبُّ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَأَزْعَجَهُمْ فَانْكَسَرُوا أَمَامَ إِسْرَائِيلَ" (1صم 7: 10).
والإنسان الروحي يرى في صوت المياه الكثيرة والأمواج الهادرة صوت الرب، كقول المُرنّم: "رَفَعَتِ الأَنْهَارُ يا رب رَفَعَتِ الأَنْهَارُ صَوْتَهَا. تَرْفَعُ الأَنْهَارُ عَجِيجَهَا مِنْ أَصْــوَاتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غِمَارِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ الرَّبُّ فِي الْعُلَى أَقْدَرُ" (مز 93: 3، 4)، وقال يوحنا الرائي: "وَصَوْتُهُ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ" (رؤ 1: 15). وجاء في "الموسوعة الكنسية":
(1) شعر داود أن الصوت الخارج من تلاطم المياه هو صوت الله الخالق هذه المياه، سواء في البحار أو الأنهار، معلنًا سيطرته عليها، فهو الذي يضبط البحار بخاصة المد والجذر، ولا يدعها تغطي اليابسة.
(2) قبل بدء الخليقة كان العالم عبارة عن مياه وظلمة وروح الله يرف على وجه المياه، وهو الذي خلق السماء والهواء، وجميع المياه في مجتمعات وأظهر اليابسة، فروح الله هو سر حياة كل الخليقة، وهو يرعد بقوته أنه هو الخالق" (205).
أما "القس وليم مارش" فأنه يرى أن المقصود بالمياه هيَ السُحب والغيوم والضباب وليس مياه الأنهار والبحار فيقول:
(3) هنا يبدأ المُرنّم بأن يرينا وصفًا دقيقًا لماذا يعطي المجد لله. هنا تبدأ العاصفة بمياهها العظيمة وبرقها ورعدها وزوابعها. وقوله الرب فوق المياه فليست المياه هنا لتعني المياه السفلى أو البحر المتوسط، بل هيَ تجمع الغيوم المتلبدة التي تحمل الأمطار وتنقلها من مكان لآخر. وصوته الأول في الرعد العاصف، فهو ممجد في العلى.
(4) ونكاد نسمع في هذا العدد استمرار الرعد فهو لم يحدث مرة فقط بل مستمر بشدة حتى يكاد يزلزل السموات بصوته، ولكنه صوت ظاهر بالجلال والعظمة لا يستطيع البشر أن يقلدوه أو يفعلوا مثله. وهوذا الرعد يقترب وينحدر نزولًا حتى يصل إلى كل مكان" (206).
وأحيانًا تشير المياه الكثيرة إلى الأعداء في كثرتهـم، كقول داود النبي: "سُيُولُ الْهَلاَكِ أَفْزَعَتْنِي... أَرْسَلَ مِنَ الْعُلَى فَأَخَذَنِي. نَشَلَنِي مِنْ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ" (مز 18: 4، 16).. " خَلِّصْنِي يَا اَللهُ لأَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي... وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي" (مز 69: 1، 2).. " أَرْسِلْ يَدَكَ مِنَ الْعَلاَءِ. أَنْقِذْنِي وَنَجِّنِي مِنَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ مِنْ أَيْدِي الْغُرَبَاءِ" (مز 144: 7)، وصوَّر إشعياء النبي هجوم الأعداء وانتهار الرب لهم بضجيج البحر قائلًا: "آهِ ضَجِيجُ شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ تَضِجُّ كَضَجِيجِ الْبَحْرِ وَهَدِيرِ قَبَائِلَ تَهْدِرُ كَهَدِيرِ مِيَاهٍ غَزِيرَةٍ. قَبَائِلُ تَهْدِرُ كَهَدِيرِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ. وَلكِنَّهُ يَنْتَهِرُهَا فَتَهْرُبُ بَعِيدًا وَتُطْرَدُ كَعُصَافَةِ الْجِبَالِ أَمَامَ الرِّيحِ وَكَالْجُلِّ أَمَامَ الزَّوْبَعَةِ" (إش 17: 12، 13).
ويشير الأرز إلى الأشوريين في كبريائهم وتشامخهم، وذكر المُرَتِّل جبل لبنان لأن فوقه كثرت العبادات الوثنية التي ارتفعت بمبانيها، وانتشرت، حتى أن إشعياء النبي قال: "فَإِنَّ لِرَبِّ الْجُنُودِ يَوْمًا عَلَى كُلِّ مُتَعَظِّمٍ وَعَال وَعَلَى كُلِّ مُرْتَفِعٍ فَيُوضَعُ. وَعَلَى كُلِّ أَرْزِ لُبْنَانَ الْعَالِي الْمُرْتَفِعِ وَعَلَى كُلِّ بَلُّوطِ بَاشَانَ" (إش 2: 12، 13).
وفي هذه الآية نلمس القدرة الإلهيَّة التي تبدو مظاهرها في العواصف التي تطيح بالأشجار حتى لو كانت في ارتفاع وثبات وقــوة شجـر الأرز، وجاء في "التفسير التطبيقي": "كان شجر لبنان شجرًا عملاقًا يمكن أن ترتفع الشجرة إلى أكثر من خمسة وثلاثين مترًا، ويبلغ محيط جذعها نحو تسعة أمتار. والصوت الذي يمكن أن يشق أرز لبنان، لا بد أن يكون صوتًا قويًا حقيقيًا، وهذا هو صوت الله" (207).
وقول المزمور " يُمْرِحُهَا" أي يهشمها ويسحقها، كما تطرح العجول أنفسها على العشب فتسحقه وتمرحه، ويعد " لبنان" و "سريون" أشهر جبلين في هذه المنطقة، وجبل سريون هو جبل حرمون الشامخ (الآن جبل الشيخ) ويصل ارتفاعه إلى 3000م حتى أن الثلوج تغطي قممـه، وقــال موسى النبي عنه: "وَالصَّيْدُونِيُّونَ يَدْعُونَ حَرْمُونَ سِرْيُونَ" (تث 3: 9)، وقال عنه المُرنّم أنه يقفز مثل فرير أي صغير البقر الوحشي كقول المُرنّم: "الْجِبَالُ قَفَزَتْ مِثْلَ الْكِبَاشِ وَالآكامُ مِثْلَ حُمْلاَنِ الْغَنَمِ. مَالَكَ أَيُّهَا الْبَحْرُ قَدْ هَرَبْتَ وَمَالَكَ أَيُّهَا الأُرْدُنُّ قَدْ رَجَعْتَ إِلَى خَلْفٍ. وَمَا لَكُنَّ أَيَّتُهَا الْجِبَالُ قَدْ قَفَزْتُنَّ مِثْلَ الْكِبَاشِ وَأَيَّتُهَا التِّلاَلُ مِثْلَ حُمْلاَنِ الْغَنَمِ" (مز 114: 4 - 6).
وهذه العبارة تشبه ما ذُكر سابقًا " وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ" (مز 18: 8)، وعندما نقدح حجرين معًا فإن الشرار يتطاير بينهما، والترجمة الحرفية لكلمة "يقدح" هيَ "يقطع" أو "يقسّم" والإشــارة هنـا للبرق.
ويقول "القس وليم مارش": " (7) وبعد كل رعد كان يعقبه ومض برقٍ يملأ الفضاء البعيد، فهو يشغل الحاستين الهامتيــن فــي الإنسان وهما السمع والبصر" (208).
وقال آساف المرنّم عن يوم الدينونة: "يَأْتِي إِلهُنَا وَلاَ يَصْمُتُ. نَارٌ قُدَّامَهُ تَأْكُلُ وَحَوْلَهُ عَاصِفٌ جِدًّا. يَدْعُو السَّمَاوَاتِ مِنْ فَوْقُ وَالأَرْضَ إِلَى مُدَايَنَةِ شَعْبِهِ... لأَنَّ اللهَ هُوَ الدَّيَّانُ" (مز 50: 3-5)، ولا ننسى أن البروق أحيانًا تحمل صواعق تحرق وتدمر، مثلها مثل البراكين التي تقذف حممًا، والله يستخدم هذه وتلك أحيانًا ضد الأشرار، كما حدث مع سدوم وعمورة إذ احترقت بنار وكبريت (راجع تك 19: 24) كما خرجت نار من عند الرب وأحرقت قورح ومعه مئتين وخمسين رجلًا لأنهم تعدوا على الكهنوت (راجع عد 16: 35)، وهذه جميعها صوُّر مصغرة من الدينونة العامة.
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "يرى القديس باسيليوس الكبير" أن صوت الرب في يوم الدينونة يقطع لهيب النار بالنسبة للأبرار فيبقى ضوؤها، أما بالنسبة للأشرار فيبقى حريقها بلا ضوء. أما كلمة " يقطع " فتعني هنا يفصل أو يميز أو يفرز، لأن صوت الرب يفصل الأبرار عن الأشرار في يوم الدينونة، فيتمتع الأبرار مباركو الآب بالميراث المجيد ويُلقى الأشرار في النار المُعدة لإبليس وملائكته.
(ويقول القديس باسيليوس الكبير): "{أعتقد أن النار المُعدة لعقاب الشيطان وملائكته تنقسم بواسطة صوت الرب. وهكذا توجد قدرتان في النار، قدرة للأحراق وأخرى للإنارة. قوة عقاب النار الصارمة تنتظر من يستحقون الحرق، أما إشعاعاتها واهبة الاستنارة فتُحفظ ليتمتع بها الفرحون}" (209).
تقع برية قادش في الجزء الشرقي من أرض سيناء، وهيَ منطقة متاخمة لحدود أدوم، وقد عبرها بنو إسرائيل قبل دخولهم أرض كنعان، وقال موسى النبي: "فَصَرَخْنَا إِلَى الرَّبِّ فَسَمِعَ صَوْتَنَا وَأَرْسَلَ مَلاَكًا وَأَخْرَجَنَا مِنْ مِصْرَ. وَهَا نَحْنُ فِي قَادَشَ مَدِينَةٍ فِي طَرَفِ تُخُومِكَ" (عد 20: 16)، ومعنى كلمة " قَادَشَ" أي "مقدَّس".
ويقول "القس وليم مارش": " (8) هنا يمتد المُرنّم ببصره إلى القفر البعيد وإلى بريَّة قادش فيرى أن صوت الرب يزلزل البرية ويرجفها حتى برِّيَّة قادش أي العربة. فهو يطال أعالي الجبال الشوامخ كما يطال السهول والبراري ولا شيء يستطيع أن يقف في وجهه أو يقول له ماذا تفعل. أن للطبيعة روعتها وجلالها فيجب أن يكون الذي أوجدها أجمل وأروع" (210).
1ــ الأيائل هيَ نوع من الغزلان، فهيَ شديدة الحذر والخوف تسرع للهرب من أي حركة تخشاها، ولذلك فأنك تجد دائمًا قطيع الأيائل كثير الاضطراب لا يستقر على حالٍ، وبالرغم من صعوبة ولادة الأيائل، فأنها عندما ترى وميض البرق الخاطف وتسمع دوي الرعد فأن هذا يُعجل بولادتها فتلد قبل حلول موعد ولادتها.
2ــ الوعور هيَ الغابات الكثيفة المتشابكة حتى أنها تحجب ضوء الشمس عن أرضها، فتصير مرتعًا للثعابين والزواحف، وبالرغم من قوة هذه الأشجار فإن العواصف القوية تقتلعها، ويقول "لزلي مكاو": "أن الأعداد (3 - 9) وهيَ لباب المزمور تصف مرور عاصفة من مياه البحر الغربي قاطعة تلال فلسطين الشمالية المكسوة بالغابات حتى براري قادش في أقصى حدود أدوم (عد 20: 16).. وهذه الحادثة موصوفة ليس كإيضاح للقوة الطبيعية ولكنها نشيد الحمد للخالق الذي يشترك بحق بصوت الرعد (قابل مز 18: 13).
أن القسم الوصفي في هذا المزمور يقسَّم إلى ثلاثة أدوار متساوية تتجاوب على تكوُّن العاصفة وقدومها وعبورها، ولكنه يؤكد دائمًا خضوع الظواهر الطبيعية للقوى الروحية.
أ- اقتراب العاصفة (ع 3، 4): السيول الجارفة على التلال الساحلية وتكرار هذه العبارات تشبه أصوات الرعد البعيدة حيث ينصب المطر، والتأثير العام هو الموضوع لأن النشاط قد إختفى. إله القوة (3) لم يظهر بعد وصوته قد أُخفت.
ب– قدومها (ع 5-7): قوله " بالقوة " يعلن مرحلة جديدة هيَ مشهد من الفاعلية المتزايدة بينما يُكسّر أغصان الأشجار العظيمة ويجعلها تتمرجح ثم يقطعها بصدمات عنيفة تترك الجذوع عارية ومحطمة (ع 5، 6)، وذروة العاصفة موصوفة بوضوح فتحمل أثر القوة العاتية كما يفعل العجل أو الثور الذي يتمرَّغ بشدة حمقاء (ع 6)..
جـ - عبور العاصفة (ع 8، 9): الفاعلية تنخفض والرجة تحدث في البرية البعيدة. الوعول الخائفة تلد قبل أوانها، وقد اُقتلعت أشجار كثيرة من جذورها حتى أن ما بقى من غابات على التلال لم تعد كافية لتغطي الأغصان والجذوع المتناثرة والمتساقطة، وما بقى من أثر فهو عدم التنفس كأنما كل هيكل الطبيعة يعطي صداه بهمس التمجيد للرب الذي إذا تكلم يفعل وإذا أعطى صوته ذابت الأرض (قابل مز 46: 6).
هذه المشاهد الثلاثة تُلمّح إلى الطاقة الصاخبة تصفها سيول الأمطار والغابات المحطمة والرياح الراقصة بعيدًا" (211).
بالرغم من سلطان المياه الطاغي وهذا ما رأيناه في الطوفان الذي أزاح كل شيء من الوجود، إلاَّ أن سلطان الله فوق سلطان الطوفان، فهو الذي حفظ الحياة من خلال نوح وسفينته، وقول المزمور أن الرب جلس بالطوفان، أي أنه قضى على كل الشرور والآثام، وأعطى حياة جديدة للأمناء المتمثلين بنوح وأسرته.
_____
(196) الكتاب والتوراة - عندما باع الحاخامات موسى عليه السلام ص 100.
(197) المزامير - دراسة وشرح وتحليل جـ 2 ص 298.
(198) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 3 ص 104.
(199) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 39.
(200) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 39.
(201) الكوكب المنير في تفسير المزامير جـ 1 ص 169.
(202) تفسير المزامير جـ 2 ص 292.
(203) تفسير المزامير جـ 2 ص 292، 293.
(204) المزامير - دراسة وشرح وتفسير جـ 2 ص 181.
(205) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد القديم جـ 10 ص 318.
(206) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 72، 73.
(207) التفسير التطبيقي ص 1165.
(208) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 73.
(209) تفسير المزامير جـ 3 (مز 21 - 30) ص 477.
(210) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 73.
(211) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 3 ص 123، 124.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1670.html
تقصير الرابط:
tak.la/km6dcsp