س 1669: هل هذه صفات إله أم صفات مصارع شرس: "قُمْ يا رب تَقَدَّمْهُ. اِصْرَعْهُ. نَجِّ نَفْسِي مِنَ الشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ مِنَ النَّاسِ بِيَدِكَ يا رب مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا... بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَدًا.." (مز 17: 13، 14) (وأيضًا مز 18: 39، 40)..؟ وكيف يملأ الله بطون الدنيا بذخائره مع أنه غاضب عليهم؟!
ج: عندما أحاطت بداود الشدائد والضيقات، وكاد أعدائه الأشداء أن يقضوا عليه، لم يجد مناصًا من الصراخ لإلهه، ومن بين هذه الصرخات الاستغاثية:
† " قُمْ يا رب تَقَدَّمْهُ. اِصْرَعْهُ. نَجِّ نَفْسِي مِنَ الشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ. مِنَ النَّاسِ بِيَدِكَ يا رب مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَدًا وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ" (مز 17: 13، 14).
† " تُمَنْطِقُنِي بِقُوَّةٍ لِلْقِتَالِ. تَصْرَعُ تَحْتِي الْقَائِمِينَ عَلَيَّ. وَتُعْطِينِي أَقْفِيَةَ أَعْدَائِي وَمُبْغِضِيَّ أُفْنِيهِمْ" (مز 18: 39، 40).
1- هذه ليست صرخات فريدة انفرد بها داود وحده، فعندما طارد فرعون بني إسرائيل صرخ موسى لله: "فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى مَالَكَ تَصْرُخُ إِلَيَّ" (خر 14: 15) وتدخل الله " وَأَزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ. وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتِهِمْ... فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ نَهْرُبُ مِنْ إِسْرَائِيلَ. لأَنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ" (خر 14: 24، 25)، وعندما ترنّم موسى بهذه النصرة قال: "بَارِكْ يا رب قُوَّتَهُ، وَارْتَضِ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. احْطِمْ مُتُونَ مُقَاوِمِيهِ وَمُبْغِضِيهِ حَتَّى لاَ يَقُومُوا" (تث 33: 11).
وقال المُرنّم في سفر المزامير: "اِقْضِ لِي يَا اَللهُ وَخَاصِمْ مُخَاصَمَتِي مَعَ أُمَّةٍ غَيْرِ رَاحِمَةٍ وَمِنْ إِنْسَانِ غِشٍّ وَظُلْمٍ نَجِّنِي" (مز 43: 1)، وقال الرب في سفر إشعياء: "الرَّبُّ كَالْجَبَّارِ يَخْرُجُ. كَرَجُلِ حُرُوبٍ يُنْهِضُ غَيْرَتَهُ. يَهْتِفُ وَيَصْرُخُ وَيَقْوَى عَلَى أَعْدَائِهِ" (إش 42: 13).
2ــ هذه التعبيرات التي صدرت من قلب داود تعكس مدى الضيقات التي حلَّت به من جراء مضايقات أعدائه له ومطاردة الملك شاول الذي كان مصرًا على القضاء على داود بأي ثمن كان، ويقول "فخري عطية": "هذه صرخة عاجلة إلى الله لكي يسرع بالتدخل. أنه يدعو إلهه أن يقـوم (مز 12: 10) ويتقدم العدو، يسبقه قبل أن يفعل شيئًا، ويصرعه، فهو أقوى منه وفي متناول يده، لا يستطيع الهروب أو الإفلات منه. وإن كان داود يرى عدوه يطارده ويطلب نفسه، فأنه يرى من الناحية الأخرى إلهه يحارب عنه، يرى رئيس جند الرب وسيفه مسلول ضد أعدائه (يش 5: 13، 14)، فلا بد إذًا من اندحار الأعداء ونجاة نفسه منهم" (190).
ويقول "أحد رهبان دير المحرق": "هنا يصرخ إلى الله أن يلاقي هذا العدو والمهاجم بدلًا منه، وأن يتغلَّب عليه ويصرعه بسيفه وما أقوى سيف الرب الذي هو سيف غضبه (إر 12: 12، إش 27: 11). حين استعمله أهلك الخليقة في أيام نوح (تك 7: 10 - 24)، وأهلك سدوم وعمورة أيام لوط (تك 19: 24-25) وأهلك 185000 من الأشوريين أيام حزقيا الملك (2مل 19: 35، إش 37: 37)، وسيظهر واضحًا يوم الدينونة (مت 24: 30)، فالنبي يطلب من الرب أن يظهر غضبه على الأشرار لئلا يُهلكون نفسه. فهنا يقرُّ المُرنّم أنه ضعيف لا يستطيع الخلاص وأنه متكل على ربنا الذي سيخلصه" (191).
3ــ هذه التعبيرات التي استخدمها داود هيَ رد فعل للصور الوحشية التي ظهر بها أعدائه كأسود ضارية، ويقول "القس بطرس جرجس": "ولما نظر داود الصورة الوحشية التي واجهه بها أعداؤه خاف لئلا يقع في شرهم بتدبير المكائد الشيطانية ضده. فلم يكتفِ بطلب العناية لحفظه، بل طلب سرعة نجدة الله اله... متوسلًا أن يعرقل الله مساعيهم الشريرة ويرد عليهم نواياهم الخبيثة بسيف عدله وينجي نفس عبده بعضده وألاَّ يتمهل عن تشتيت شملهم وتفريق قوتهم لئلا يتفاقم شرهم ويستخدموا طول أناة الله لازدياد تمردهم لا للرجوع عن غيتهم" (192).
4ــ اعتاد داود حياة الحرب، وكان قائدًا شجاعًا طالما خاض غمـار الحروب، ولأنه كتب المزامير بأسلوب شعري لذلك كثر استخدامه للصور البلاغية من استعارات وكنايات وغيرها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولذلك استخدم داود المصطلحات الحربية في شعره مثل المجن والترس (مز 35: 1 - 3) وصوَّر الله على أنه البطل المصارع الذي لا يُقهر (مز 17: 13، 14) ويستجير داود بإلهه قائلًا: "احْفَظْنِي مِثْلَ حَدَقَةِ الْعَيْنِ. بِظِلِّ جَنَاحَيْكَ اسْتُرْنِي" (مز 17: 8) وبالطبع نسبة حدقة العين والجناحين لله نوع من الصور البلاغية... أنه يطلب من الأسد الخارج من سبط يهوذا أن يحطم إبليس الأسد الزائر الذي يلتمس أن يبتلع داود وكل ماله.
5ــ تُعبّر المزامير عن الصراع الدائر بين الشر والخير في صوُّر عديدة، فمثلًا تصوّر المزامير الأعداء:
أ - مثل الأسد الكامن للفريســة: "يَكْمُنُ فِي الْمُخْتَفَى كَأَسَدٍ فِي عِرِّيسِهِ" (مز 10: 9).. " مَثَلُهُ مَثَلُ الأَسَدِ الْقَرِمِ إِلَى الافْتِرَاسِ وَكَالشِّبْلِ الْكَامِنِ فِي عِرِّيسِهِ" (مز 17: 12).
ب - مثل الحية والأفعوان: "سَنُّوا أَلْسِنَتَهُمْ كَحَيَّةٍ حُمَةُ الأُفْعُوَانِ" (مز 140: 3).. " عَلَى الأَسَدِ وَالصِّلِّ تَطَأُ. الشِّبْلَ وَالثُّعْبَانَ تَدُوسُ" (مز 91: 13).
جـ - مثل الكلب: "أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي" (مز 22: 20).
د - ينصبون الشباك والفخاخ لاصطياد نفس البار: "لأَنَّهُ هُوَ يُخْرِجُ رِجْلَيَّ مِنَ الشَّبَكَةِ" (مز 25: 15).. " لأَنَّهُمْ بِلاَ سَبَبٍ أَخْفَوْا لِي هُوَّةَ شَبَكَتِهِـمْ" (مز 35: 7).. "هَيَّأُوا شَبَكَةً لِخَطَوَاتِي" (مز 57: 6).. " احْفَظْنِي مِنَ الْفَخِّ الَّذِي قَدْ نَصَبُوهُ لِي، وَمِنْ أَشْرَاكِ فَاعِلِي الإِثْمِ. لِيَسْقُطِ الأَشْرَارُ فِي شِبَاكِهِمْ" (مز 141: 9، 10).
ه - يشهرون أسلحتهم ضد مستقيمي القلوب: "الأَشْرَارُ يَمُدُّونَ الْقَوْسَ. فَوَّقُوا السَّهْمَ فِي الْوَتَرِ لِيَرْمُوا فِي الدُّجَى مُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ" (مز 11: 2).. " الأَشْرَارُ قَدْ سَلُّوا السَّيْفَ وَمَدُّوا قَوْسَهُمْ لِرَمْيِ الْمِسْكِينِ" (مز 37: 14).. " سِهَامَ جَبَّارٍ مَسْنُونَةً مَعَ جَمْرِ الرَّتَمِ" (مز 120: 4).. " الْمُنْقِذُ دَاوُدَ عَبْدَهُ مِنَ السَّيْفِ السُّوءِ" (مز 144: 10).
كما تصوّر المزامير الله كمقاتل جبار وهو يدافع عن أولاده:
† "يُحَدِّدْ سَيْفَـهُ. مَدَّ قَوْسَهُ وَهَيَّأَهَا. وَسَدَّدَ نَحوَهُ آلةَ الْمَوْتِ. يَجْعَلُ سِهَامَهُ مُلْتَهِبَةً" (مز 7: 12، 13).
† "نَجِّ نَفْسِي مِنَ الشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ" (مز 17: 13).
† "أَمْسِكْ مِجَنًّا وَتُرْسًا وَانْهَضْ إِلَـى مَعُونَتِي. وَأَشْرِعْ رُمْحًا وَصُدَّ تِلْقَاءَ مُطَارِدِيَّ" (مز 35: 2، 3).
† "أَبْرِقْ بُرُوقًا وَبَدِّدْهُمْ. أَرْسِلْ سِهَامَكَ وَأَزْعِجْهُمْ" (مز 144: 6).
† "وَأَنْتَ يَا اَللهُ تُحَدِّرُهُمْ إِلَى جُبِّ الْهَلاَكِ" (مز 55: 23).. إلخ.
(راجع الخوري بولس الفغالي - المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 التوراة وعالم الشرق القديم ص 38، 39).
6ــ بينما كان داود يتغنى بمزاميره (مز 18: 39، 40) كان يتذكَّر القوة التي تسانده، ويلوح أمام عينيه كيف أنقذه الله من الأسد والدب وجليات الجبار، فالله هـو الذي صرع القائمين عليه، وجعل أعدائه يفرُّون من أمامه، حتى أنه قال: "تُعْطِينِي أَقْفِيَةَ أَعْدَائِي"، ويقول "القس وليم مارش": "هنا منظر القتال الذي لا هوادة فيه ولا لين، فإما أن تكون القاتل أو تكون القتيل، ولكنه لا ينسب القوة لنفسه بل يُرجعها لله الذي يعطيه إياها. وهنا يصوّر انخذال الأعداء التام فهم منسحقون تحت رجليه لا يستطيعون الدفاع حتى ولا النهوض.
يجعل القوة منطقته ويشد نفسه بها كما تشد المنطقة جسده فيصبح أخف حركة وأسرع جريًا في مطاردة أعدائه وإحراز النصر. وصرع الأعداء لا فضل فيه، بل كل الفضل يعود لله الذي يقويه. وإعطاؤه قفا الأعداء دليل هربهم فلا يستطيعون المجابهة والظهور وجهًا لوجه. انظر (خر 23: 27). وهكذا قد نال ظفرًا حاسمًا وكان حظ المبغضين الفناء التام. انظر (تث 33: 11)" (193).
7ــ قال داود النبي: "نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ" أي أن حياتهم كلها مركّزة في هذه الحياة الزمنية الحاضرة، وقد استوفوا خيراتهم في حياتهم: "الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ الَّذِينَ إِلهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ" (في 3: 19)، مع أن جميع الخيرات التي يتمتعون بها هيَ من نعم الله عليهم... وقال أيضًا داود النبي: "يَشْبَعُونَ أَوْلاَدًا وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ" أي أن أولادهم يرثون خيراتهم، ولكنهـم يشبُّون على شر الآباء، وينسجون على منوالهم، فتحل بهم الضربات ويسقطون تحت الغضب الإلهي.
ويقول "القس وليم مارش": "الناس يُقصد بهم الذين يعيشون لهذه الدنيا وفي سبيلها فقط لا ينظرون للآخرة وما فيها من دينونة. قد يكون المعنى أن هؤلاء الناس لهم كل خيرات الدنيا يمتعون بها أنفسهم ولهم أولاد كثيرون يورثونهم إياها حينما يُنقلون من هذه الدنيا، فهم أناس ماديون بكل معنى الكلمة، آلهتهم بطونهم ولا يعرفون غيرها، ومع ذلك لا يهتمون لما يأتي به المستقبل لأنهم يحسبون أن كل شيء هو لهم فما يفضل عنهم يتركونه لأولادهم. يعيشون بخير الله وينكرون فضله.
إن كان أولئك الأشرار منكري جميل الله لهم، شبعهم في هذه الدنيا، فالمرنم ليس كذلك لأن شبعه أن ينظر وجه الرب (راجع عد 12: 8، وأيضًا خر 33: 20) وهو يستيقظ كأنما يرى شبه الرب في الرؤيا فتنكشف أمامه رحمة الرب ويتحقق نعمته في حياته وحينئذ يطمئن به كل الاطمئنان أبدًا" (194).
ويقول "د. مراد أمين موسى": "يلقب داود أعداءه بالناس وترد في الأصل بمعنى الناس الزائلين، إشارة إلى ضعفهم وزوالهم، أمام دوام الله وقدرته الفائقة، العاملة لأجله. ويسميهم "أهل الدنيا" كما يسميهم ربنا المبارك "أبناء هذا الدهر" (لو 16: 8). ونصيبهم في حياتهم، هو اهتمامهم بأمور هذه الحياة فقط، وليس لهم من الله سوى ملء بطونهم بذخائـره الأرضية (راجع أي 12: 6، مز 73: 3 - 12). عادة الناس أن يجمعوا الثروة لأولادهم لأنهم يجدون في أولادهم استمرارًا لحياتهم في هذا العالم" (195).
8ــ استخدم القرآن تعبيرات قريبة الشبه من تعبيرات المزامير، فصوَّر الله كأنه قائد له جنـود فقال: "وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات 37: 173).. " وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ" (الفتح 48: 4، 7).. " وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" (المدثر 74: 31).. " وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا" (التوبة 9: 26)، وأن الله يستهزئ بالأعداء: "اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" (البقرة 2: 15)، وأيضًا صوَّر القرآن إبليس أنه قائد له جنوده: "وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ" (الشعراء 26: 95).
_____
(190) دراسات في سفر المزامير جـ 1 ص 241.
(191) إعداد راهب من دير المحرق - تفسير سفر المزامير جـ 1 ص 207.
(192) الكوكب المنير في تفسير المزامير جـ 1 ص 163.
(193) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 43.
(194) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 37.
(195) شرح سفر المزامير ص 109.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1669.html
تقصير الرابط:
tak.la/t8kk3wp