"مسحني لأبشر المساكين" (أش 61:1).
قيل عنه في تلك النبوءة "روح السيد الرب علي. لأن الرب مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأعصب منكسري القلوب. لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق.." (أش 61: 1). ولعلنا نسأل: من هم أولئك المساكين الذين قد جاء الرب ليبشرهم؟ إنهم كثيرون..
في مقدمتهم تلك البشرية المسكينة كلها، المحكوم عليها بالموت بسبب الخطية، وتحتاج إلى الفداء.
ولذلك قيل عن الرب إنه "جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو 19: 10). جاء يبشر كل هؤلاء بالفداء الذي سيقدمه عنهم، "لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16). وهكذا وقف الملاك في يوم ميلاد الرب يبشر الرعاة قائلًا "ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. إنه ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب" (لو 2: 10، 11).
جاء السيد المسيح أيضًا لكي يبشر بالخلاص أبرار العهد القديم الذين رقدوا على الرجاء.
أولئك الذين قيل عنهم إنهم "لم ينالوا المواعيد، بل من بعيد نظروها وصدقوها وأقروا أنهم غرباء ونزلاء على الأرض" (عب 11: 13). جاء يبشرهم أن باب الفردوس الذي أغلق منذ خطيئة اَدم، سوف يفتح بعد الصليب، وسيدخل كل أولئك الأبرار في الفردوس.. وسوف يدخل معهم أيضًا اللص اليمين (لو 23: 43).
جاء يبشر البشرية التي أضلها القادة العميان من الكتبة والفريسيين (مت 23) بقدوم التعليم السليم.
فسوف يخرجهم من الحرفية التي نادي بها أولئك الذين جلسوا
على كرسي
موسى، فأغلقوا باب
الملكوت. لا هم دخلوا،
ولا جعلوا
الداخلين يدخلون (مت 23: 13). وهكذا جلس
المعلم الصالح على الجبل،
وقال للجموع عظته العجيبة التي كرر فيها عبارة "سمعتم إنه قيل
للقدماء.. أما أنا أقول لكم.." (مت 5).
جاء أيضًا يبشر البشرية التي فقدت الصورة الإلهية التي خلقت بها (تك 1:
27) بأن أعاد لهم تلك الصورة ليحاكوها.
وهكذا ترك لهم مثالًا في كل فضيلة وفي كل بر، حتى كما فعل هو يفعلون هم أيضًا (يو 13: 15). وهكذا نصح القديس يوحنا الرسول قائلًا "من قال إنه ثابت فيه، ينبغي أنه كما سلك ذاك، يسلك هو أيضًا" (1 يو 2: 6).
جاء الرب يبشر المساكين. وكان من قبل، حتى في العهد القديم، يهتم بالمساكين.
وهكذا قال الرب لموسى حينما دعاه إلى الخدمة "إني قد رأيت مذلة شعبي.. وسمعت صراخهم بسبب مسخريهم. إني علمت أوجاعهم، فنزلت لأنقذهم" (خر 3:7،. وهكذا فعل الرب أيضًا في عصر القضاة.. فأقام لهم القضاة.. وخلصهم من أيدي أعدائهم.. من أجل أنينهم بسبب مضايقهم وزاحميهم" (قض 2: 18). إنه الرب الذي باستمرار يعين المساكين..
وهكذا أيضًا وقف الرب مع يعقوب في مسكنته ضد أخيه عيسو المتجبر.
عيسو الذي قال "أقوم وأقتل يعقوب أخي" (تك 27: 41). ولكن الله ظهر ليعقوب أثناء هروبه وعزاه برؤيا السلم الواصل بين السماء والأرض. وقال له "ها أنا معك، وأحفظك حيثما ذهب، وأردك إلى هذه الأرض" (تك 28: 15). وكما وقف الله إلى جوار المساكين، وقف أيضًا ضد العتاة القساة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وقال لقايين أول قاتل من بني البشر "صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض.." (تك 4: 10). وفي كل هذا ما أجمل قول الكتاب:
"يقاوم الله المستكبرين. أما المتواضعين فيعطيهم نعمة" (يع 4: 6).
وقف الله مع إيليا النبي، لما كان في موقف المسكنة، هاربًا من بطش الملكة إيزابل، وهو يقول للرب".. تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف. وبقيت أنا وحدي. وهم يطلبون نفسي ليأخذوها" (1 مل 19: 14). ووقف الرب مع داود الشاب في مسكنته، وهو هارب من شاول الملك الذي يطارده من مكان إلى أخ. ولكنه وقف ضد داود الملك لما تسلط وتقسي قلبه على أوريا الحثي، فعاقبه (2 صم 12: 9- 12). ووقف الله مع ليئة الضعيفة العينين التي تفتقد محبة زوجها، وأعطاها نسلًا أكثر من راحيل المحبوبة المدللة، لأن الرب يبشر المساكين..
ووقف الله مع الأمم المحتقرين من إسرائيل.
الذين كانوا "بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد" (أف 2: 12). فقربهم إليهم، وطعمهم في الزيتونة الأصلية (رو 11) وقال "يأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون في أحضان إبراهيم، بينما بنو الملكوت يطرحون في الظلمة الخارجية". ومدح الرب قائد المائة الأممي، وقال: لم أجد في إسرائيل كلها إيمانًا مثل إيمان هذا الرجل". ومدح أيضًا المرأة الكنعانية المتذللة قدامه..
وبشر الرب الخطاة المساكين، المذلين في توبتهم، وأدان الأبرار المتعجرفين في برهم.
فعل ذلك في مثل الفريسي والعشار. لم ينظر إلى الفريسي المتكبر، الذي وقف يصلي بانتفاخ قلب ويقول "أشكرك يا رب إني لست مثل سائر الناس الظالمين الخاطفين الزناة، ولا مثل هذا العشار. أنا أصوم يومين في الأسبوع، وأعشر جميع أموالي. بينما نظر الرب إلى العشار المسكين الذي في مذلة لم يستطع أن يرفع نظره إلى فوق، بل قرع صدره في انسحاق وهو يقول ارحمني يا رب، فإني خاطي". فخرج مبررًا دون ذاك (لو 18: 9 – 14).
كذلك فعل الرب مع الخاطئة التي بللت قدميه بدموعها، وفضلها على الفريسي الذي أدانها (لو 7).
لقد بشر هذه المسكينة بالمغفرة، وقال لها "مغفورة لك خطاياك.. اذهبي بسلام".
ونفس الوضع فعله مع مسكينة أخرى ضبطت في ذات الفعل، وأذلها القساة طالبين أن ترجم حسب الشريعة. ولكن الرب خلصها من بين أيديهم، وطلب منهم أن يلتفتوا إلى خطاياهم، قائلًا لهم "من كان منكم بلا خطية، فليرجمها بأول حجر" (يو 8: 7). وقال للمسكينة "وأنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا".
وقال الرب عن الخطاة "ما جئت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة.
وبشر كل أولئك بالخلاص عن طريق التوبة. وقال إنه يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة" (لو 15: 7). وضرب في نفس الأصحاح ثلاثة أمثال لقبول التائبين، وفرح الرب بعودتهم إليه. هي مثل الابن الضال، ومثل الخروف الضال، ومثل الدرهم المفقود. وما أجمل حبوه في الشفقة على أولئك الخطاة المساكين في عودتهم، حينما قال عن الخروف الضال: "وإذ وجده، حمله على منكبيه فرحًا" (لو 15: 5).
ومن المساكين الذي جاء الرب يبشرهم. المرضي والمصروعين من الشياطين.
وقد قيل عنه في ذلك إنه "كان يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب.. فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة، والمجانين والمصروعين والمفلوجين، فشفاهم" (مت 4: 23، 24)، هكذا كان إشفاقه على المساكين من المرضي، وبخاصة الأمراض المستعصية التي يعجز أمامها الأطباء، أو التي تطول مدتها مثل مريض بيت حسدا الذي قضي في مرضه 38 سنة، وهو مسكين ليس له إنسان يلقيه في البركة (يو 5: 2-9). فتقدم الرب وشفاه.
إن هذا يعطينا درسًا في الإشفاق على المرضي.
إن كنا لا نستطيع أن نشفيهم، أو نساهم في علاجهم، فعلي الأقل نزورهم حسب وصية الرب (مت 25: 36)، ونقدم لهم كلمة عزاء، ونرفع من معنوياتهم، ولا ننساهم في آلامهم.
ومذل ذلك مرضي الروح أيضًا، الذين يئسوا من خلاصهم..
هم يحتاجون إلى مَنْ يبشرهم بالخلاص، إلى من يقول لهم ما قاله الرب لزكا العشار "اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت، إذ هو أيضًا ابن لإبراهيم" (لو 19: 9).
انظروا عمل الرب بعد القيامة: جاء يبشر بطرس الذي بكي بكاء مرًا بسبب إنكاره للمسيح وقت صلبه (مت 26: 75) فجاء يبشره في مسكنته ومذلة نفسه، ويقول له "أرع غنمي. أرع خرافي" (يو 21: 15، 16). كما جاء يفتقد توما في شكوكه ويعيد إليه الإيمان (يو 20: 27).
ما أجمل عبارته في تبشيره للمساكين:
"من يقبل إلي، لا أخرجه خارجًا".
هو جاء أيضًا يبشر المساكين من المحتاجين. ويقول لهم "اطلبوا تجدوا، اسألوا تعطوا، اقرعوا يفتح لكم" (مت 7: 7). ويعطينا بذلك مثالًا أن نعطي للمحتاجين ما يعوزهم، عالمين أننا في ذلك إنما نعطي الرب نفسه الذي قال: "مهما فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغِر، فبي قد فعلتم" (مت 25: 40). جميل أن نذكر هذا الأمر في مناسبة العيد، ونبشر المساكين وجميل أن نتذكر قول الرب في تبشيره للمساكين:
"تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقلي الأحمال، وأنا أريحكم" (مت 11: 28).
ليتنا نفعل مثله أيضًا، ونعمل بكل جهدنا على إراحة المتعبين والثقلي الأحمال. وفي نفس الوقت نحترس من أن نزيد ثقلًا على أحد، أو ننتقد إنسانًا في تعبه. وكذلك نشفق على اليائسين الذين انقطع رجاؤهم. ويقول لكل منهم "أنا معك. لا يقع بك أحد ليؤذيك" (أع 18: 10). وبالنسبة إلى كل هؤلاء، يوصينا الرسول قائلًا:
"شجعوا صغار النفوس. اسندوا الضعفاء تأنوا على الجميع" (1 تس 5: 14).
فليكن الرب مع كل هؤلاء، يقويهم، ويقودهم في موكب نصرته، ويبشرهم بالخلاص، له المجد من الآن وإلى الأبد آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/5rtfxj9