محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29
كعادته يبدأ الرسول افتتاحيّته بالشكر لله من أجل عمله مع شعبه، خاصة الذين يبعث إليهم الرسول رسالته. وهو في هذا يعبّر عن شوقه الدائم لحياة الشكر والتسبيح، كما يسند الكنيسة في ضعفاتها ويبعث فيهم روح الرجاء.
يكشف لنا عن سمو شخصية السيّد المسيح، موضّحًا مركزه بالنسبة للآب ومركزه بالنسبة للخليقة، وأخيرًا بالنسبة للكنيسة. وأن هذا الكشف هو لحساب الكنيسة التي هي جسده، تتمتّع بما هو لرأسها. وحين يتحدّث عن الكنيسة يهدف نحو كل عضوٍ فيها، فإن غاية الرسالة، بل وغاية كل عمله الرسولي هو اكتشاف المؤمن وإدراكه إمكانيّاته ليحيا كاملًا في المسيح، وفي هذا كمال الكنيسة(17).
هو وحده القادر أن يدخل إلى أعماقنا، فيحل مشاكلنا في أعماقها، حلًا جذريًا، لا بتغيير الظروف الخارجيَّة، بل بمصالحتنا مع الآب، فننعم بالأحضان الإلهيَّة، فلا يردّنا إلى جنّة عدن، بل إلى خالق الفردوس نفسه.
هو وحده بكونه واحدًا مع الآب السماوي، في ذات الجوهر، قادر أن يهبنا الملء. ينزع فسادنا ويهبنا عدم فساده، ويغفر خطايانا، ويهبنا برّه.
يعالج مشكلة الألم في أعماقها التي أفسدت الحياة البشريَّة في كل الأجيال، لا بإزالة الألم، بل بدخوله طريق الآلام، فنجد لذّة وفرحُا في شركتنا معه وسط الآلام.
1 - 14. |
|||
1 - 2. |
|||
3 - 8. |
|||
9 - 14. |
|||
15 - 19. |
|||
15 - 17. |
|||
18. |
|||
19. |
|||
20 - 29. |
|||
20 - 21. |
|||
22 - 23. |
|||
24 - 25. |
|||
26 - 27. |
|||
28 - 29. |
|||
|
|
|
1 بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وَتِيمُوثَاوُسُ الأَخُ، 2 إِلَى الْقِدِّيسِينَ فِي كُولُوسِّي، وَالإِخْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 3 نَشْكُرُ اللهَ وَأَبَا رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، مُصَلِّينَ لأَجْلِكُمْ، 4 إِذْ سَمِعْنَا إِيمَانَكُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتَكُمْ لِجَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، 5 مِنْ أَجْلِ الرَّجَاءِ الْمَوْضُوعِ لَكُمْ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّذِي سَمِعْتُمْ بِهِ قَبْلًا فِي كَلِمَةِ حَقِّ الإِنْجِيلِ، 6 الَّذِي قَدْ حَضَرَ إِلَيْكُمْ كَمَا فِي كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا، وَهُوَ مُثْمِرٌ كَمَا فِيكُمْ أَيْضًا مُنْذُ يَوْمَ سَمِعْتُمْ وَعَرَفْتُمْ نِعْمَةَ اللهِ بِالْحَقِيقَةِ. 7 كَمَا تَعَلَّمْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَبَفْرَاسَ الْعَبْدِ الْحَبِيبِ مَعَنَا، الَّذِي هُوَ خَادِمٌ أَمِينٌ لِلْمَسِيحِ لأَجْلِكُمُ، 8 الَّذِي أَخْبَرَنَا أَيْضًا بِمَحَبَّتِكُمْ فِي الرُّوحِ. 9 مِنْ أَجْلِ ذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا، مُنْذُ يَوْمَ سَمِعْنَا، لَمْ نَزَلْ مُصَلِّينَ وَطَالِبِينَ لأَجْلِكُمْ أَنْ تَمْتَلِئُوا مِنْ مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ، فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْمٍ رُوحِيٍّ 10 لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضىً، مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ، وَنَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ، 11 مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ، لِكُلِّ صَبْرٍ وَطُولِ أَنَاةٍ بِفَرَحٍ، 12 شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، 13 الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، 14 الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا.
"بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله،
وتيموثاوس الأخ" [1].
غالبًا لم تكن كنيسة كولوسي قد تعرّفت على الرسول بولس بالوجه، وها هو يكتب لهم كرسولٍ مرسلٍ لا من إنسانٍ، بل حسب مشيئة الله. فهو ليس بمتطفّل، لكنه يكتب خلال دوره كرسولٍ من قِبل الله.
"وتيموثاوس الأخ": وإن كان القدّيس تيموثاوس لم ينل نعمة الرسوليّة، لكن قد وُهب له أن يكون شريكًا للقديس بولس في خدمته وجهاده. اشترك معه في كثير من رحلاته الكرازيّة، كما ناب عنه فيها، واشترك معه في كتابة عدّة رسائل، وهو في العشرين من عمره، وتحمّل مسئوليّة الأسقفيّة في أفسس، وسُجن معه. كتب عنه: "أُرسل إليكم سريعًا تيموثاوس... لأن ليس أحد نظير نفسي يهتم بأحوالكم بإخلاص، إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم، لا ما هو ليسوع المسيح. وأمّا اختباره فأنتم تعرفونه أنه كولدٍ مع أبٍ خدم معي في الإنجيل" (في2: 2-19).
والإخوة المؤمنين في المسيح.
نعمة لكم وسلام من الله أبينا،
والرب يسوع المسيح" [2].
هنا يدعوهم "إلى القديسين في كولوسي" [2]، بينما يعود فيكتب إليهم: "فاطرحوا عنكم أنتم أيضًا الكل: الغضب، السخط، الخبث، التجديف، الكلام القبيح من أفواهكم" (كو 3: 8)؛ فكيف يدعوهم قديسين؟
1. كلمة "مقدس" معناها مُفرز لعمل معين، أي مُفرز من بين الآخرين ليُنسب لله القدوس. فمع ما لهم من ضعفات، لكن الرب أفرزهم لحساب ملكوته، ويلزمهم أن يحرصوا بالنعمة الإلهية أن يحملوا السمات اللائقة بهم كقديسين.
2. كلمة "مقدس" تحمل معنى النقاوة والطهارة، حيث يتأهل المؤمن لرسالته كشخصٍ مفرزٍ لعمل إلهي. هذه القداسة هي عطية إلهية وليس من عندنا. "لكن اغتسلتم، بل تقدستم، بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1 كو 6: 11). ونحن ملتزمون أن نجاهد بالنعمة حتى ننمو في الحياة المقدسة وإلا نفقدها.
يرى العلامة أوريجينوس أن تعبير قديسين يُستخدم ليس فقط لمن بلغ القداسة، وإنما لمن يشتهي القداسة، ويسعى وراءها بإخلاص، طالبًا أن تعمل نعمة الله فيه.
اخبرني، منذ متى صرت قديسًا؟ أليس ذلك لأنك آمنت بالرب يسوع، ومتى صرت أخًا مؤمنًا؟ بالحقيقة لم تظهر نفسك حافظة للأمانة، لا بالقول ولا بالفعل ولا بما بلغت إليه. ومتى صرت موضع ثقة حتى يستودعك الرب أسراره تلك التي لم تعرفها الملائكة من قبل؟
كل مؤمن هو قديس بالرغم من كونه إنسانًا يعيش في العالم، إذ يقول (الرسول) "لأن الرجل غير المؤمن مقدس في المرأة، والمرأة غير المؤمنة مقدسة في الرجل" (1 كو 7: 14). انظر كيف يقيم الإيمان القداسة؟ فإن رأينا علمانيًا (واحدًا من الشعب) في ضيقة يلزمنا أن نمد يدنا إليه، فلا نكون غيورين تجاه سكان الجبال وحدهم، فإن هؤلاء بحق هم قديسون في سلوكهم كما بالإيمان، أما الأولون فقديسون بإيمانهم والكثير منهم بالسلوك أيضًا. إذن ليتنا لا نذهب إلى راهب ملقى في السجن بينما نمتنع عن الذهاب إلى واحد من الشعب. فالأخير قديس وأخ(18).]
هو نفسه جعلنا قدّيسين، لكنّنا مدعوّون أن نبقى قدّيسين. القدّيس هو من يحيا في الإيمان، بلا لوم ويسلك حياة بلا لوم(19).
* من يتنقّى من الشر والخطية (خلال الصليب) يدعى قديسًا. وهكذا فإن غياب الشر عن الإنسان هو كمال أعظم للنفس ويرضي الله جدًا.
هذا ويلزمنا التمييز بين استخدام هذا التعبير للمجاهدين بالنعمة ليصيروا قديسين، وبين استخدامه بالنسبة للذين تمموا خلاصهم فعلًا بالنعمة وانطلقوا إلى الفردوس، بعد أن بلغوا النصرة النهائية. كما يلزمنا التمييز بين القداسة وبين السلوك بلا عيب عن ضعفٍ.
* الأطفال (الصغار) هم بلا عيب، لأن أجسادهم طاهرة، ولا يرتكبون خطيّة، لكنّهم ليسوا قدّيسين، لأن القداسة لا تتحقّق بدون إرادة وجهاد. من لا يفعل خطيّة هو بلا لوم، لكن الشخص القدّيس هو من يمتلئ بالفضائل(20).
"وإلى... الإخوة المؤمنين"، يعني بالإخوة حافظي الإيمان، أو الثابتين فيه.
"من الله أبينا، والرب يسوع المسيح" [2]، هكذا يعلن الرسول أن الله الآب والرب يسوع المسيح هما واحد في اللاهوت، وهما مصدر ذات النعمة والسلام. ليس كما ادّعى بعض الغنوسيّين أن يسوع المسيح جاء ليخلّص العالم من إله العهد القديم العنيف، خالق المادة. إنّما هو واحد معه.
"نشكر الله وأبا ربنا يسوع المسيح،
كل حين مصلين لأجلكم" [3].
ما كان يشغل الرسول بولس وأيضًا من معه حتى في سجنه أن يقدموا تسبحة شكر لله من أجل امتداد ملكوته في العالم.
الشكر بالنسبة للرسول بولس ليس بندًا من بنود العبادة فحسب، لكنّه يمثّل خطًا جوهريًّا في كل حياته. فمع التزاماته الكثيرة ومشاركته لآلام مخدوميه سواء بسبب الاضطهادات من الخارج أو الانقسامات في الداخل أو المعاناة من أصحاب الأفكار الخاطئة إلاّ أن رسائله تحمل دومًا رائحة الشكر والتسبيح والفرح. بل وفي أكثر من موضع يوصي بالشكر الدائم كما بالصلاة بغير انقطاع. الشكر بالنسبة له ذبيحة حب مقدّمة دومًا باسم ربّنا يسوع المسيح، يشتمّها الآب رائحة رضا وسرور.
إن عُصر الرسول بولس تفيض عروقه شكرًا وفرحًا وتسبيحًا لا ينقطع!
خدمة التسبيح والشكر هي طعام النفس الدسم المشبع لها. "شفتاي تسبحانك. هكذا أباركك في حياتي، باسمك أرفع يدي، كما من شحم ودسم تشبع نفسي" (مز 63: 3-5). وهي أنشودة النصرة على العدو الحقيقي الذي يطلب تحطيم الإنسان بروح اليأس: "من أفواه الأطفال والرضع هيأت سبحًا لإسكات عدو ومنتقم" (مز 8: 2).
يقدّم الكاتب التشكّرات (في صيغة الجمع كما في 1 تس 1: 2)، وقد اعتاد الرسول في أغلب رسائله أن يفتتحها بتسبحة الشكر لله (رو 1: 8، 1 كو 1: 4؛ أف 1: 16؛ في 1: 3؛ 2 تس 1: 3؛ 2 تي 1: 3؛ فل 4).
بدأ بالشكر لله من أجل عمله معهم: إيمانهم به، وحبّهم للقدّيسين، ومن أجل رجائهم في السماويّات. هكذا يتطلّع الرسول إليهم بروح إيجابي مفرح؛ فلا يبدأ بالحديث عن السلبيّات المحزنة، بل بالإيجابيّات المفرحة. بهذا يدفعهم للاستماع إليه بقلب مفتوح، ويملأهم رجاء في النموّ الدائم بلا يأس.
إذ وجد في السجن، مقيدًا في حركته جسديًا، تبقى نفسه منطلقة للعمل بالصلاة الدائمة في يقظة، تطلب خلاص كل نفس. كان في السجن كأسدٍ غالب، كما جاء في إشعياء النبي: "ثم صرخ كأسدٍ: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائمًا في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي" (إش 21: 8).
ما سمعه عنهم من أبفراس ألهب قلبه بالفرح من أجل ما تمتّعوا به روحيًا، وحثه على الصلاة والشفاعة من أجلهم حتى يصيروا كاملين، مدركين مشيئة الله، ومتمتّعين بالمعرفة الإلهيَّة.
ليس بالأمر العجيب أن يربط الرسول بين شكره لله وصلاته الدائمة من أجل شعبه، فإن كان الله يطلب منّا ذبيحة الشكر والتسبيح، كذبيحة مقبولة لديه، فإن محبّتنا له وتسبيحنا لا ينفصل عن حبّنا لإخوتنا وصلواتنا من أجلهم بلا انقطاع.
حمل الرسول أبوّة صادقة نحو كل مخدوميه، فكان باسمهم لا يكف عن أن يقدّم الشكر لله من أجل عمله معهم.
وضع (بولس) نفسه في مركز الأب، الشاكر كل حين من أجل أولاده، من أجل ما يمارسونه(21).
* كل صلاة نقدّمها لله إمّا تُقدّم بشكر لما نلناه، أو بتوسّل لننال ما هو أكثر. لكي يشجعنا أن نطلب عن أنفسنا وعن من نحبّهم، يقول بولس: "ذاكرًا إيّاكم في صلواتي" (أف 1: 16)(22).
"إذ سمعنا إيمانكم بالمسيح يسوع،
ومحبتكم لجميع القديسين" [4].
إن كان الابن الوحيد الجنس قد تجسد، وقدم نفسه ذبيحة عن حياة العالم، فإننا نقدمها للابن الوحيد الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا. فالخلاص هو عمل الثالوث القدوس.
سمع الرسول عن إيمانهم الذي هو ثمرة جهاد تلميذه أبفراس، فقدم ذبيحة الشكر لله، لأن هذا الإيمان ليس هو عمل الرسول بولس ولا تلميذه، بل عطية الله. "لأنكم بالنعمة مخلصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطية الله" (أف 2: 8). "ونحن بقوة الله محرسون بإيمان لخلاص مستعد أن يُعلن في الزمان الأخير" (1 بط 1: 5).
"ومحبتكم لجميع القديسين" [4]: لم يكن إيمانهم عقيدة ذهنية مجردة أو فكرًا فلسفيًا جافًا، لكنه إيمان حي عامل بالمحبة. إيماننا بالمخلص محب البشرية يترجم عمليًا بحبنا لإخوتنا في الرب: "بهذا قد عرفنا المحبة، أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة" (1 يو 3: 16). حمل المؤمنون الحب لجميع القديسين ليس ثمرة روابط بشرية اجتماعية، إنما بكونه أول ثمر الروح (غل 5: 22). المحبة التي تتغنى بها العروس المؤمنة: "قوية كالموت، وسيول كثيرة لا تقدر أن تطفئها" (نش 8: 6-7).
"من أجل الرجاء الموضوع لكم في السماوات،
الذي سمعتم به قبلًا في كلمة حق الإنجيل" [5].
إن كنا نسبح الله ونشكره على عطية الإيمان الذي يسحب قلوبنا وأذهاننا لندرك خطة الله الأزلية من نحونا، قبلما أن نوجد، ونسبحه على عطية الحب لكي نمارسها بروحه القدوس في حاضرنا العملي، فإننا أيضًا نشكره على عطية الرجاء الذي لا يعني أمنية نشتهيها قد تتحقق أو لا تتحقق، إنما الرجاء الذي يفتح أبواب السماء لنختبر عربونها، وندرك حقيقة الأبدية والمجد المُعد لنا، وسرور الله بشركتنا فيه. نرى مسيحنا يحدث الآب: "أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا" (يو 17: 24). هذا هو رجاؤنا الذي لا يخزى (رو 5: 2-5).
"الموضوع لكم في السماوات" [5]، أي محفوظ ومحروس ومضمون "ميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السماوات" (1 بط 1: 4). هذا الرجاء يتثبت فينا خلال الخبرة السماوية التي نعيشها الآن.
"الذي سمعتم به قبلًا في كلمة حق الإنجيل" [5]: لم يكن بعد قد تسلموا الإنجيل مكتوبًا، لكنهم تسلموه شفاها، نقله إليهم ابفراس فتمتعوا بكلمة الحق الإنجيلي. "لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من الله، قبلتموها لا ككلمة أناس، بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله، التي تعمل أيضًا فيكم أنتم المؤمنين" (1 تس 2: 13).
* أعدّ المسيح حياة أخرى لمن لهم رجاء فيه. لأن هذه الحياة معرّضة للخطيّة، أمّا الحياة العليا فمحفوظة كمكافأة لنا(23).
* لكي ما تبلغوا الخيرات السماوية يجب التمسك بالرجاء الثابت في هذه الخيرات وتدعيمه, مزودًا بأن تكون كل التصرفات الصادرة عنكم متناغمة مع هذه الخيرات(24).
* إنّه ليس بدون جهاد نعرف رجاء دعوتنا وغنى ميراث اللَّه في القدّيسين. هذا الجهاد يأتي حقيقة كرد فعل للعطيّة المتجدّدة التي يهبها اللَّه نفسه في قيامة ابنه المجيدة. هذه العطيّة لا يقدّمها مرّة واحدة بل هي عطيَّة مستمرّة... في كل يوم يقوم المسيح من الأموات. في كل يوم يقوم في التائبين(25).
* يكشف لهم بولس أن تدبير الملائكة لا يحقق الرجاء الموضوع أمامنا في القيامة والملكوت, إنما يتحقق بظهور ربنا يسوع المسيح(26).
* إننا فعلًا نرى السماء بعيني الإيمان, إذ نُعد لها في الحاضر بروح غيور(27).
* نبلغ هذه الرؤيا الإلهية التأملية للسماويات بدقة عندما نمارس التداريب الجسمانية والعقلية, فتتقبل المجد الأزلي غير المنطوق به الذي يعزلنا عن هذا العالم وعن أفكارنا فيه. بهذا نحقق الرجاء الموضوع أمامنا ونثبت فيه بكل يقين(28).
* ليس لنا رجاء في المسيح في هذه الحياة وحدها، حيث يمكن للأشرار أن يفعلوا أكثر من الصالحين، والتي فيها يكون الأكثر شرًا أكثر سعادة، والذين يمارسون حياة أثيمة يعيشون في أكثر غنى(29).
الأب مكسيموس أسقف تورينو
"الذي قد حضر إليكم كما في كل العالم أيضًا،
وهو مثمر كما فيكم أيضًا منذ يوم سمعتم
وعرفتم نعمة الله بالحقيقة" [6].
ما تسلموه من أبفراس هو "الحق"، أو "حق الإنجيل"، أي الحق المُفرح. إنه الحق الذي يُبشر به فيهب فرحًا سماويًا. هذه البشارة مقدمة للعالم كله، وليس لفئةٍ معينةٍ من الناس "كما في العالم أيضًا" [6]. الحق الإنجيلي المفرح الذي لا تقف أمامه عقبات الثقافات المتنوعة في العالم ولا عنصرية معينة هو زرع دائم الإثمار متى غُرس في تربة صالحة (مت 13: 23) وهو "مُثمر فيكم منذ سمعتم وعرفتم نعمة الله" [6]
حقا لقد أحب الناس الظلمة أكثر من النور (يو 3: 19)، لكن يبقى الحق عاملًا في الذين تمتعوا به، ولا يستطيعوا أن يحبسوه داخلهم دون الشهادة له، والشوق العملي الحقيقي أن يختبر كل إنسان بهجة الخلاص الإنجيلي.
هذه هي خبرة إرميا النبي القائل: "كلمة الرب صارت لي للعار وللسخرة كل النهار، فقلت لا أذكره، ولا أنطق باسمه، فكان في قلبي كنارٍ محرقةٍ محصورةٍ في عظامي، فمللت من الإمساك ولم استطع" (إر 20: 8-9). هذه هي نار الروح القدس الذي يلهب القلب بالحب المفرح الذي لا يمكن حبسه، بل يفيض بغير انقطاع.
* ليس فقط يُعرف الإيمان في كل العالم, بل وينمو كل يوم... وإذ ينمو ممتدًا كل يوم ينمو أيضًا في العمق بينكم(30).
* يشير ثمر الإنجيل إلى أولئك الذين يسمعون الإنجيل، ويتجاوبون معه بالحياة المستحقة للمديح(31).
* مع أن الإنجيل لم يكن بعد قد ضم العالم كله يقول (الرسول) أنه يثمر وينمو في كل العالم ليُظهر إلى أي مدى سيمتد حاملًا ثمارًا ونموًا. إن كان مخفيًا عنا حتى سيمتلئ كل العالم بالكنيسة مثمرًا وناميًا, فإنه دون شك مخفي عنا متى ستكون النهاية, لكن ما هو أكيد أن النهاية لن تأتي قبل كون العالم يمتلئ بالكنيسة(32).
يرى العلامة ترتليان وهو يقاوم مرقيون أنه مهما فعل الهراطقة فإن إنجيلنا هو الذي ينتشر في كل موضع وليس إنجيل الهراطقة(33). ويرى القديس أغسطينوس أن هذا الرجاء الثابت في تمتع العالم كله بالإنجيل يتحقق بناء على قول ابن الله بفمه الإلهي: "وتكونوا لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع 1: 8)(34).
* كرِّم الكنيسة المقدسة وحبها وأمدحها, أمك أورشليم السماوية, مدينة الله. إنها تلك التي في هذا الإيمان الذي تقبله تحمل ثمرًا وتنتشر في كل العالم. إنها كنيسة الله الحي, عمود الحق وقاعدته (1 تي 3: 15), التي في منحها للأسرار تحتمل الأشرار الذين في وقت ما يُعزلوا ويُستبعدوا(35).
"كما تعلمتم أيضًا من أبفراس العبد الحبيب معنا،
الذي هو خادم أمين للمسيح لأجلكم" [7].
"الذي اخبرنا أيضا بمحبتكم في الروح" [8].
يقدم لنا الرسول خطوات عملية للصعود إلى التمتع ببهجة الخلاص وقوته، أو لنوال خبرة المجد، هذا السلم الذي يليق بنا أن نصعد عليه درجاته هي الآتي(36):
1. الشكر مع الصلاة بلجاجة من أجل الكنيسة لدخول كل مؤمنٍ إلى المجد [9].
2. الامتلاء بمعرفة مشيئة الله [المعرفة - الحكمة - الفهم الروحي].
3. السلوك بما يليق بأولاد الله بسرور [10]
4. النمو الدائم في العمل والمعرفة الروحية [10]، أو الثمر المتكاثر.
5. خبرة قوة الله المجيدة العاملة فينا.
6. إدراك حياة النصرة على عدو الخير.
7. الدخول في ملكوت ابن محبته.
8. في المسيح ننعم ببهجة الفداء ومغفرة الخطايا.
"من أجل ذلك نحن أيضًا منذ يوم سمعنا،
لم نزل مصلين وطالبين لأجلكم،
أن تمتلئوا من معرفة مشيئته،
في كل حكمةٍ وفهمٍ روحيٍ" [9].
إذ سمع القديسان بولس وتيموثاوس عن قبولهم الإيمان على يد ابفراس قدما الشكر لله وتهللت نفسيهما بالتسبيح [1]، لكنهما شعرا بالالتزام من نحوهم، ألا وهو الصلاة الدائمة والطلبة عنهم حتى يصعدوا على سلم الخلاص المفرح بلا توقف، والذي يقوم لا على الجهالة بل على الامتلاء المستمر بمعرفة مشيئة الله، والتمتع بالحكمة السماوية والفهم الروحي الصادق. هذا الدور حيوي في خدمة الرسول من أجل كل الشعوب إذ يقول: "أحنى ركبتي لدى ربنا يسوع المسيح" (أف 3: 14).
كثيرًا ما يشير القدّيس بولس عن نفسه كرجل صلاة من أجل خلاص الناس. لا يقف الأمر عند الرغبة في خلاصهم، وإنّما يحني ركبتيه ويتوسّل بقلبه وفكره كما بكل كيانه لأجلهم. هنا يعلّق الأب ماريوس فيكتورينوس قائلًا: [بالركوع نحقق الشكل والكامل للصلاة والتضرّع. لذا نحني ركبنا. يلزمنا أن نميل إلى الصلاة ليس فقط بأذهاننا وبأجسادنا. حسنًا نحني أجسامنا لئلاّ نخلق فينا نوعًا من التشامخ ونحمل صورة الكبرياء(37).]
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس يكرر كلمة "كل"، لكي يدرك المؤمنون أنهم لن يكفوا عن النمو الدائم حتى يبلغوا كل حكمة وبكل رضا (سرور)، ويمارسوا كل عمل صالح.
ما معنى الامتلاء من معرفة مشيئته؟ أي إدراك سرّ المسيح، الذي وحده يعرف الآب ويعلن معرفته لمن يريد. لا يكف المؤمن عن الطلب حتى ينال ملء المعرفة، باكتشافه سرّ المسيح؛ وبكل حكمة حيث يتحد مع المسيح حكمة الله؛ ويكون له كل فهمٍ روحيٍ حيث يقوده الروح القدس ويدخل به إلى حضن الآب.
* هذه هي مشيئة الله أن نعرفه ونعرف أنه لا يمكننا أن نخلص بواسطة الملائكة وإنما فقط بيسوع المسيح. إذن كيف يمكننا أن نعرف ذلك؟ بالحكمة الروحية لا الزمنية(38).
* ليست بركة ما يُمكن أن تكمل إلا بإلهام الروح القدس.لذلك لم يجد الرسول شيئًا أفضل يتمناه لنا أكثر من هذا, إذ يقول: "لم نزل مصلين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي, لتسلكوا كما يحق للرب". لقد علمنا أن هذه هي مشيئة الله إنه بسلوكنا في أعمال وكلمات ومشاعر صالحة نمتلئ بمشيئة الله الذي يضع روحه القدوس في قلوبنا(39).
"لتسلكوا كما يحق للرب في كل رضى،
مثمرين في كل عمل صالح،
ونامين في معرفة الله" [10].
يطلب منّا الرسول ترجمة إيماننا إلى سلوك حيّ. هذا السلوك ليس مجرد فضائل اجتماعيّة نلتزم بها، لكنه سلوك من نوع فريد:
* سلوك "كما يحق للرب" [10]، نمارسه بكوننا أولاد الله، أيقونة المسيح، حاملين روح الرب فينا. دافعه أننا سفراء المسيح ونحمل وكالة السماء.
"في كل رضى"، خلال سلوكنا هذا نرى في الطريق الضيق الذي للصليب مسرّة الله ومسرّتنا نحن، إذ نشارك مسيحنا صليبه، وننعم بشركة الطبيعة الإلهية.
"مثمرين في كل عملٍ صالحٍ"، ليس فقط في العطاء المادي والمعنوي للآخرين، إنما في ممارستنا عمل الرب محب كل البشريَّة، الباذل حياته لخلاص العالم. "كل ما فعلتم، فاعملوا من القلب، كما للرب ليس للناس" (كو3: 23). بهذا ندرك إن أكلنا أو شربنا فلمجد الله، وفي نومنا قلبنا متيقّظ، حياتنا بكل الكبائر والصغائر تحمل مسحة الروح لحساب ملكوت الله.
لقد أُمرنا أن نفعل الخير عندما يُقال: "أترك الشر واصنع الخير" (مز27:37), لكننا نصلي، لكي نفعل الخير إذ قيل: "لم نزل مصلين وطالبين", ومن بين الأمور التي يسألها بولس يشير إلى: "لتسلكوا كما يحق لله في كل رضى, مثمرين في كل عمل صالح"فكما عرفنا الدور الذي تقوم به الإرادة عندما أُعطيت لنا هذه الأوامر ليتنا نعرف الدور الذي تقوم به النعمة عندما تقدم هذه الطلبات(40).
بحسب قدرة مجده،
لكل صبر وطول أناة بفرح" [11].
تبدو الوصيَّة الإلهيَّة صعبة وطريق الصليب ضيّق للغاية، لكننا إذ نعبر فيه مع مسيحنا المصلوب نختبر قوّة قيامته وبهجتها (أف1: 19-20). نمارس طول الأناة التي ليست منا، بل هي عمل الله الطويل الأناة فينا، ونفرح ونتهلّل لأننا نحمل شركة سماته. هذه هي خبرة الرسل الذين حين جُلدوا ذهبوا فرحين، لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه (أع5: 40-41).
في حديث القديس أغسطينوس عن مدينة اللَّه يوضّح أنّه يمكن حتى للأصحّاء عندما يصابون بمرضٍ فلا يقدرون أن يكملوا الطريق إلى مدينة اللَّه، لهذا يسمح اللَّه لهم بالضيقات والمتاعب ومقاومة الناس لهم حتى يتسلّحوا بالصبر وطول الأناة. هذا هو الدواء الذي يقدّمه اللَّه لمواطني مدينة اللَّه لكي يسندهم في الطريق(41)
* "فاشترك أنت في احتمال المشقّات كجندي صالح" (2 تي 2: 3)... لاحظوا أيّة كرامة عظيمة تحسب أن تخدم ملوكًا على الأرض. فإن كان جندي الملك يلتزم أن يحتمل مشقّات. فعدم احتمال المشقّات ليس هو دور أي جندي(42).
* يلزم جنود المسيح الحقيقيّون أن يكونوا دومًا حصونًا للحق ولا يسمحوا مطلقًا لأية إغراءات باطلة قدر المستطاع(43).
الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور" [12].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذا القول يتفق مع طبيعة الله الذي لم يقدّم لنا الميراث فحسب وإنما يؤهلّنا أيضًا له. ويقدّم لنا مثلًا بملكٍ يقيم حاكمًا على مقاطعة ما، فإنه لا يكفي أن يهبه هذا المركز، وإنما يلزمه أن يؤهّل الشخص حتى يمكنه على ملء منصبه فيقوم بمهمته بكفاءة. أما أن يهب الولاية على المقاطعة لشخصٍ دون تدريبه، تنتهي حياة الشخص بطريقة مؤسفة.
إنه يقدّم ميراثًا ويهيّئنا لهذا الميراث. أما دعوته ميراثًا، فلأنه لا يقدر أحد أن يقتنيه بجهاده الذاتي وقدرته وتدابيره، إنما هو عطيَّة مقدّمة من الآب لأولاده كنصيب ميراث لهم.
"في النور" [12]: هذا الميراث هو في المسيح يسوع، شمس البرّ، وسراج أورشليم العليا. فإن أورشليم الجديدة لا تحتاج إلى الشمس والقمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها، وهكذا تمشي شعوب المخلّصين في نورها" (رؤ21: 23-24). إنه النور الإلهي الذي يعكس بهاءه على مؤمنيه فيصيروا كواكب منيرة. "والفاهمون يضيئون كضياء الجلَد، والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور" (دا 3:12). "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت13: 43).
يرى القديس أغسطينوس في تقديم الشكر لله الآبالذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور علامة أن الله الذي أهلنا مشيئة التي تحررنا ليست مشيئتنا بل هي مشيئته(44).
* يمتلئ المسرح العظيم بالمشاهدين ليتابعوا صراعكم واستدعاءكم للاستشهاد, كما لو كنا نتحدث عن جمهور عظيم قد اجتمع ليتابعوا صراعات المصارعين الذين يُنتظر أن يكونوا أبطالًا.... هكذا العالم كله, وكل الملائكة من على اليمين وعلى اليسار, وكل البشر الذين هم من نصيب الله (تث 32: 9) والذين من غيره, هؤلاء يكونون كمشاهدين عندما نصارع من أجل المسيحية. حقًا فإن الملائكة في السماء تفرح بنا, والفيضانات تصفق معًا بالأيادي... لكن القوات التي من أسفل التي تفرح بالشر لا تتهلل(45).
ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته" [13]
من الجانب السلبي ينقلنا من العبوديَّة للظلمة التي أفسدت بصيرتنا، ومن الجانب الإيجابي يدخل بنا إلى حريّة مجد أولاد الله، كأبناء للنور. ينتزعنا من الفريق الحامل العداوة لله، مملكة الظلمة، إلى فريق النور والاتحاد مع الله.
جاءت كلمة "سلطان" باليونانيّة معناها "الحق الشرعي". فإن من يعطي ظهره للنور، ويلقي باختياره في هوة الظلمة، يصير لمملكة الظلمة الحق الشرعي لامتلاكه وتشكيله حسب سماتها وطبيعتها الفاسدة. يصير لعدو الخير كرئيس سلطان الظلمة المطالبة بامتلاك مثل هذه النفس واستعبادها لحساب مملكته.
* "الذي أنقذنا من سلطان الظلمة" أي من الخطأ، من طغيان الشيطان. لم يقل فقط "سلطان" بل "سلطان الظلمة"، لأن لها سلطان عظيم علينا يسيطر علينا بقوّة حقَا، إنّه يصعب تمامًا أن نكون تحت الشيطان، أما أن يكون له سلطان علينا هكذا، فهذا أصعب. "ونقلنا إلى ملكوت ابن محبّته". هكذا إذن ليس فقط خلّصنا من الظلمة، وإنّما أظهر محبّته للبشر(46).
* خدمت الملائكة الله لأجل خلاصنا قبل الناموس وفي الناموس, لكن الله لم يحضرنا إلى ملكوته خلالهم. الآن خلال ربنا، ابنه الوحيد الجنس, أُعطي لكم الملكوت.
* ليس الناموس بل المسيح الرب الذي حمل الناموس هو الذي أعطانا الخلاص خلال المعمودية المخَّلِصة عندما قدم بولس ذلك بيانًا عن الله مظهرًا إياه أنه صانع كل الأشياء.
* نفهم من هذه الكلمات أنه يوجد ملك واحد وهو خالق الكون كله. بينما على الجانب الآخر يوجد رئيس هذا العالم الذي يسمى نفسه ملك الظلمة. تخدم ربوات من الملائكة الملك الحقيقي، بينما يلتف حول رئيس قوى الظلمة ربوات من الشياطين (كو 13:1). تتبع الرئاسات والسلاطين والفضيلة ملك الملوك ورب الأرباب. وفي الآخرة حين يُسلم المسيح المُلك للّه الآب بعد أن يكون قد أباد كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة للعدو، فإنه لا بُد أن يملك إلى أن يضع جميع الأعداء تحت موطئ قدميه (1 كو 24:15، 25)(47).
* ليس شيء ينقذ الإنسان من قوة الملائكة الأشرار هذه سوى نعمة الله التي يتحدث عنها الرسول: "الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته".
قصة إسرائيل توضح هذه الصورة, عندما أُنقذوا من قوة المصريين، ونقلوا إلى ملكوت أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلًا إشارة إلى عذوبة النعمة(48).
"نقلنا": يرى القديس أغسطينوس أن شعب الله عبر من مصر خلال البحر الأحمر, هذا العبور أو الفصح (معناه عبور) هو نقل. هكذا نحن أيضًا ننتقل أو نعبر من الشيطان إلى المسيح, ومن العالم الزائل إلى المملكة الثابتة تمامًا. نعبر إلى الله الذي يدوم حتى لا نعبر نحن أيضًا من العالم العابر. هنا يسبح الرسول بولس الله من أجل هذه النعمة الممنوحة لنا(49).إننا نخلص ونجحد الشيطان أفلا نجاهد ألا نسلم منه (لو 12: 56-58) ولا يجعلنا خطاة مأسورين مرّة أخرى؟(50)
"الذي لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا" [14].
يرى العلامة أوريجينوس أن السيّد المسيح سلّم نفسه للعدو في الجحيم ليفدي مؤمنيه، وكان يظن العدو أنّه قادر أن يمسك به هناك، لكنّه لم يدرك أنّه هو وحده القادر أن يحطم المتاريس، لا لينطلق وحده، بل ليحمل على ذراعيه المسبيّين، ويدخل بهم إلى حضن الآب (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). يقول الرسول: "إذ صعد إلى العلاء سبى سبيًا" (أف 4: 8). لقد اشترانا بدمه وردّنا إلى حضنه.
ويرى القديس مار أفرام السرياني أن الكلمة صار حملًا فأراد إبليس الذئب أن يفترسه، فهجم عليه وابتلعه، لكن معدته لم تقدر أن تحبسه فيها، بل فجَّرها الحمل الإلهي وأنقذ من كان بداخلها.
* "فداء" هي كلمة مستخدمة عن ما يُعطى للأعداء مقابل خلاص الأسرى وإعادتهم إلى حرّيتهم. لذلك إذ سقطت الكائنات البشريَّة أسرى بواسطة أعدائهم جاء ابن اللَّه الذي صار لنا ليس فقط حكمة اللَّه وبرًّا وقداسة (1 كو 1: 30) بل و"فداء". سلّم نفسه كفدية عنّا، أيّ سلّم نفسه لأعدائنا وسكب دمه على الذين يتعطّشون إليه. بهذا تحقّق الفداء للمؤمنين(51).
* المسيح هو فداء، إذ قدّم نفسه كفّارة لحسابنا، وذلك عندما منحنا عدم الموت قنية لنا، لقد افتدانا من الموت بحياته(52).
* لم يجعلنا اللَّه فقط حكماء وأبرارًا وقدّيسين في المسيح، وإنّما وهبنا المسيح حتى لا يعوزنا شيء لأجل خلاصنا(53).
* الشخص الذي يترقّب الفداء أسير. لم يعد بعد حرًّا وذلك بخضوعه لسلطان العدو. لذا نحن أسرى في هذا العالم، مربوطين بنير العبوديَّة للرئاسات والقوّات، عاجزين عن تحرير أيادينا من القيود. لهذا نرفع عيوننا إلى فوق حتى يصل الفادي(54).
15 الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. 16 فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. 17 الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ 18 وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ. 19 لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ،
اقتبس الرسول بولس هذه التسبحة الخاصة بشخص السيّد المسيح، رئيس خلاصنا، وهي تتغنّى بمركزه الذي من خلاله يقدّم لنا إمكانيّاته الإلهيَّة. وسواء اقتبسها الرسول كما هي، أو هو واضعها، أو أعطى لمساته التفسيريّة واللاهوتيّة، فإنّها تعتبر من أهم القطع التي وردت في العهد الجديد بخصوص شخص السيّد المسيح.
"الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة" [15].
"صورة الله غير المنظور"، إن كانت الخطية قد حجبت عن الإنسان رؤية مجد الله، فقد جاء الكلمة المتجسّد لا ليقدّم لنا أفكارًا عقلانيّة نظريّة عن المجد الإلهي، وإنما أزال بصليبه الخطية، فانشق الحجاب وصار لنا حق رؤية الله خلال الصليب. لقد أشرق السيد المسيح بنوره الإلهي على شاول الطرسوسي وهو في طريقه إلى دمشق، فأصيبت عيناه الجسديّتان بنوعٍ من العمى، لعجزهما عن رؤية الله، بينما انفتحت بصيرته الداخليَّة وتمتّع بولس الرسول بالنور الحقيقي. هذه الخبرة تمتّع بها الرسل بطرس ويعقوب ويوحنّا على جبل طابور حيث تغيّرت هيئته قدّامهم، وأضاء وجهه، وصارت ثيابه كالنور (مت17: 1-5).
كلمة "صورة"، وفي اليونانيَّة "أيقونة" تعني الإعلان الكامل المنظور للإله غير المنظور، وهو الذي يحمل طبيعة جوهره ورسم بهائه، وهذا هو ما قاله الرب عن نفسه: "من رآني فقد رأى الآب".
جاء السيد المسيح، الكلمة المتجسّد، ليحقق الرغبة التي أوجدها عميقة في قلب الإنسان، ألا وهي الحنين إلى رؤية الله. فكانت شهوة قلب موسى النبي بعد كل ما ناله من أعمال عجيبة هي: "أرني مجدك" (خر33: 18). أيضًا يقول داود المرتل: "أدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله الذي يفرّح شبابي" (مز 43: 4) LXX. بل هذه هي مسرّة الله نفسه أن يتراءى لمحبوبه الإنسان، كما كان يفعل مع آدم في الجنة عند هبوب ريح النهار (تك3: 8-9). لقد جاء ليتمتّع الإنسان بالشركة معه على الأرض، لكي يحمله بالصليب إلى حضن الآب ويتمتّع بالرؤية الإلهية أبديًا.
* يمكن أن توجد صورة بين الآباء والأبناء ومساواة وتشابه لو كان فارق السن غير قائم. لأن تشابه الطفل يأتي من الوالد حتى يُدعى بحق صورة... على أي الأحوال في الله لا يوجد عامل الزمن، فلا يمكن تصور إن الله ولد الابن في زمن هذا الذي خلاله أوجد الأزمنة. لهذا ليس فقط الابن صورته لأنه منه (الله), والشبه لأجل الصورة, بل والمساواة عظيمة هكذا حيث لا يوجد أي تمييز مؤقت يقف حائلًا بينهما(55).
* لنتبصر أولًا وقبل شيءٍ ما هي الأشياء التي تدعى صورًا في الحديث البشري العادي. أحيانًا يستخدم تعبير "صورة" على رسم أو نحت على مادة ما مثل الخشب أو الحجارة. أحيانًا يُقال عن الطفل إنه صورة الوالد (أو الوالدة) عندما يحمل شبهًا لملامح والده في كل جانب... بخصوص ابن الله الذي نتحدث عنه الآن, فإن الصورة يمكن أن تقارن بالتوضيح الثاني هنا, فهو الصورة غير المنظورة لله غير المنظور(56).
* الصورة العادية صورة جامدة لكائن متحرك. هنا لدينا صورة حيَّة لكائن حي,ومتميزة عنه، مصدرها إلى درجة عالية أكثر مما لشيث الصادر من آدم, وأي نسل من والديه(57).
* يعلن الرب: "إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي" (يو 37:10). من ثم إنه يُعَلِّم إن الآب يُرَى فيه إذ هو يتمم أعماله, حتى إن قوة الطبيعة المُدركة تعلن طبيعة القوة غير المدركة, لذلك إذ يشير الرسول أن هذا هو صورة الله فيقول: "الذي هو صورة الله غير المنظور... وأن يصالح به الكل لنفسه". بهذا فإنه هو صورة الله بقوة هذه الأعمال(58).
* إنه يدعو المسيح الصورة غير المنظورة، ليس لأن الله يصير منظورًا فيه, بل بالأحرى لأن عظمة الله تظهر فيه.من ناحية نحن نرى طبيعة الله غير المنظورة في المسيح كالصورة, بمعنى إنه وُلد من الله... وأنه سيدين كل الأرض عندما يظهر في طبيعته اللائقة به فيوقت مجيئه الثاني. هكذا من أجلنا يأخذ حالة "الصورة" المنظورة والتي تنتمي ليسوع الأرضي, لوضعه البشري, وذلك لكي نقدر أن نستدل على طبيعته الإلهية.
* إذ هو نفسه صورة الله غير المنظور غير الفاسد, فليشرق عليكم كما في مرآة الناموس. اعترف به في الناموس حتى يمكنك أن تعرفه في الإنجيل(59).
إذ كان الرسول يكشف عن غاية التجسد الإلهي ويعالج مشكلة الغنوسيين الذين نادى بعضهم بعبادة الملائكة كوسطاء أو أيونات أو شفعاء، يحملون المؤمنين إلى المعرفة الحقيقية للكائن الأسمى، نادى آخرون بأنه ثمة تعارض بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد. لهذا استخدم الرسول تعبير: "صورة الله غير المنظور" ليؤكد أنه الكلمة المتجسد، وهو الخالق الذي به كان كل شيء، ولأجله كان، وفيه تقوم كل الخليقة، هو وحده إذ تجسد وأعلن بالصليب المحبة الإلهية قادر أن يعلن معرفة الآب. نرى الآب وندرك أسراره في الابن المتجسد كما في صورة ليست جامدة لكنها حيَّة قادرة على الكشف عن الآب.
"بكر كل خليقة" [15]
دعوته "بكر كل الخليقة" أو رئيسها، فلا تعني أنه أحد المخلوقات السامية، إنما وقد تجسد صار بإرادته أخًا ليضم الخليقة إليه، فيحملها إلى حضن أبيه. وأنه وحده قادر بدمه يتمم المصالحة بين الآب والبشرية.
يقول البابا أثناسيوس الرسولي أنه لم يرد قط عن السيد المسيح أنه "بكر من الله" أو "خليقة من الله"، إنما كُتب عنه أنه الوحيد الجنس، الابن، الكلمة، والحكمة، هذه كلها تمس علاقة الأقنوم الثاني بالأول، أما قوله "بكر كل خليقة" فهي تسمية تختص بتنازله وتفضّله من أجل الخليقة(60).
"فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات،
وما على الأرض،
ما يُرى وما لا يُرى،
سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين،
الكل به وله قد خلق" [16].
إذا كانت كل الخليقة قد خُلِقَت فيه، وهو قبل كل خليقة [17]، إذن فهو ليس بالخليقة بل خالق الخليقة. إذن قيل عنه أنه البكر، ليس لكونه من الآب، لكن لأن كل الخليقة به ظهرت إلى الوجود، وهو لم يزل الابن الوحيد الجنس للآب.
"فيه قد خُلق الكل" [16]، وبه، وله. خُلقت فيه أي في محيط التدبير العقلي للابن، أي خلال حكمة الله، الابن الكلمة والحكمة. وبه خُلقت إذ تحقّقت خطة الخلقة به، حين قال الله فكان. "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو1: 3).
تأكيد أن فيه خُلق الكل ما في السماوات... مقدمًا بين المخلوقات أعلى الطغمات السمائية" العروش والسيادات والسلاطين" [16]، فلكي يعلن ضرورة التمييز بين الخالق والخليقة، حتى وإن كانت أسمى المخلوقات السماوية، فهو ليس واحدًا منهم، ولا هم شركاء معه في الوساطة أو الشفاعة الكفارية، ورفع الإنسان إلى حضن الآب.
كان لا بُد للقديس بولس أن يؤكد مرارًا وتكرارًا أن كل الخليقة - ما في السماوات وما على الأرض - مدينة بوجودها لكلمة الله المتجسّد، يسوع المسيح ليطمئن المؤمنين أنه ليس من وجه للمقارنة بين السيد المسيح والملائكة، ردًا على أولئك الذين ادّعوا وساطتهم لدى الله عن البشريَّة دون المسيح.
* "كل شيءٍ به كان وبغيره لم يكن شيءٍ مما كان" (يو 3:1). لا يوجد استثناء واحد من هذا "الكل". الآن إنه الآب الذي صنع كل الأشياء به, سواء المنظور أو الغير المنظور, الحسي والعقلي, الوقتي من أجل تدبير ما أو الأبدي. هذه لم توجد خلال ملائكة ما أو قواتٍ ما, منفصلة عن فكره(61).
* لو أنه وُجد شيء قبل الابن, يتبع هذا فورُا أن كل الأشياء في السماء وعلى الأرض لم تُخلق فيه, ويظهر الرسول مخطئ في قوله هذا في رسالته. على أي الأحوال, إن كان لا يوجد شيء قبل مولده, فإنني أفشل في رؤية كيف يُقال عن ذاك المولود قبل الدهور قد جاء بعد وجود أي شيءٍ(62).
* لا يوجد شك في أن كل الأشياء هي بالابن, إذ يقول الرسول: " به كان كل شيء", وكل الأشياء قد جاءت من العدم, ولا يوجد استثناء في وجود الكل به, فإني أسأل كيف ينقصه شيء من طبيعة الله وقوته؟ فقد استخدم قوة طبيعته لكي توجد هذه الأشياء التي لم تكن موجودة, وإن هذه الأشياء توجد وهي موضوع مسرته(63).
* المسيح هو ابن الله الوحيد خالق العالم، لأنه "كان في العالم والعالم به كونّ" و"إلى خاصته جاء" كما علمنا الإنجيل (يو 10:1، 11). لقد خلق المسيح كأمر الآب ليس فقط الأشياء التي تُرى بل وما لا يُرى، إذ يقول الرسول: "فإن فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل".حتى إن تحدثت عن العوالم فإن يسوع المسيح أيضًا هو خالقها بأمر الآب، إذ "كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكي شيء الذي به أيضًا عمل العالمين" (عب 2:1). هذا الذي له المجد والإكرام والقدرة الآن وإلى أبد الأبد آمين(64).
* لم يصر كلمة الله من أجلنا بل بالحري نحن قد صرنا من أجله. وبه خلقت كل الأشياء. وليس بسبب ضعفنا نحن كان هو قويًا وصائرًا من الآب وحده، لكي يخلقنا بواسطته كأداة! حاشا! فالأمر ليس كذلك لأنه حتى لو لم يستحسن الله أن يخلق المخلوقات، فالكلمة مع ذلك كان عند الله وكان الآب فيه. وفي نفس الوقت كان من المستحيل أن تكون المخلوقات بغير الكلمة لأنها قد صارت به؛ وهذا هو الصواب. وحيث أن الابن هو الكلمة ذاته حسب الطبيعة الخاصة بجوهر الله، وهو منه وهو فيه كما يقول هو نفسه، لذلك لم يكن ممكنًا أن تصير المخلوقات إلا به. لأنه مثلما يضيء النور كل شيء بأشعته وبدون إشعاعه ما كان شيء قد أضاء- هكذا أيضًا فإن الآب خلق كل الأشياء بالكلمة كما بواسطة يد، وبدونه لم يخلق شيئًا(65).
* إذ هو نفسه صورة الله غير المنظور غير الفاسد, فليشرق عليكم في مرآة الناموس. اعترف به في الناموس حتى يمكنك أن تعرفه في الإنجيل(66).
"سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين،
الكل به وله قد خلق" [16].
يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير أنه توجد أنواع من الملائكة والشياطين:
* أُعطيت لهم أسماء مختلفة حسب نوع كل واحدٍ منهم. فالبعض من الملائكة يُسمون رؤساء ملائكة، والبعض منهم كراسي وربوبيات، والبعض رئاسات وسلاطين والشاروبيم. أُعطيت هذه الأسماء لهم حين حفظوا مشيئة خالقهم.
ومن الجهة الأخرى فإن شر الآخرين جعل من الضروري تسميتهم بأسماء: إبليس والشيطان، بسبب حالتهم الشريرة، والبعض منهم دُعوا شياطين، والبعض أرواح الشريرة وأرواح نجسة، والبعض مُضلّة، والبعض دعوا باسم رؤساء هذا العالم. وتوجد أنواع أخرى كثيرة منهم(67).
* كما سبق أن قلت أنه إن كان الكلمة مخلوقًا فلم يكن من اللازم أن يكون هو أولها بل يكون مع سائر القوات الأخرى، حتى وإن تفوق في المجد عن الآخرين بدرجة أكبر. وهذا ما يمكن أن نجده في القوات الأخرى، لأنها وإن كانت قد خُلِقَت كلها في نفس الوقت، ولا يوجد أول أو ثانِ، إلا أنها تختلف بعضها عن بعض في المجد، فيقف البعض عن اليمين والبعض حول العرش والبعض الآخر عن اليسار، والجميع يسبحون معًا ويقفون في خدمة الرب(68).
يرى القدّيس ديوناسيوس الأريوباغي أنّه توجد 9 طغمات سمائيّة، يقسّمها في ثلاث مجموعات(69) أو ثلاث رتب كل رتبة تضم ثلاث طغمات.
الرتبة الأولى: يسكنون أبديًا وعلى الدوام في حضرة الله، أكثر التصاقًا بالله، وفوق كل الرتب الأخرى. تضم هذه الرتبة الطغمات: الكراسي (العروش)، والشاروبيم والسيرافيم المملوئين أعيُنًا، وذوي أجنحة كثيرة. وهم متساوون في الرتبة، كاملون أكثر من غيرهم في تشبههم بالله، ومتحدون مباشرة بالنور الأول للاهوت.
الرتبة الثانية: تضم القوات والسلاطين Dominions والربوبياتVirtues.
الرتبة الثالثة: تضم الملائكة ورؤساء الملائكة والرئاسات Principalities.
ويرى ابن العبري(70) أن هذه المجموعات الثلاث هي أشبه بكنائس سمائية ثلاث:
الكنيسة الأولى تضم السيرافيم والكاروبيم والكراسي، هؤلاء الطغمات الثلاث يمثلون معًا العرش الإلهي، فيظهر في حزقيال أن السيرافيم هم مركبة الله الحاملة له، وجاء في المزامير: "أيها الجالس على الكاروبيم". ويحمل اسم الكراسي أو العروش معنى العرش الإلهي.
الكنيسة الثانية: تضم الطغمات: السيادات ثم القوات، فالسلاطين.
الكنيسة الثالثة: تضم الرئاسات، فرؤساء الملائكة ثم الملائكة.
وفي العهد القديم كان رئيس الكهنة يرتدي الصدرية وهي تحمل 12 حجرًا كريمًا، منها تسعة تمثل هذه الطغمات الملائكية، وهي:
الصف الأول: عقيق أحمر يرمز للسرافيم الناريين، وياقوت أصفر يمثل الكاروبيم أصحاب المعرفة، وزمرد يمثل الكراسي.
الصف الثاني: بهرمان وياقوت أزرق وعقيق أبيض.
الصف الثالث عين الهر ويشم وجمشت.
أما الصف الرابع فهو يمثل كنيسة بني البشر المنضمة إلى الكنائس السمائية، وتضم زبرجدًا وجزعًا ويشبًا، إشارة إلى درجات الكهنوت الثلاث: رؤساء الكهنة، والكهنة والشماسة.
وفيه يقوم الكل" [17].
"فيه يقوم الكل" [17]: لم يكن الابن مجرد أداة لتحقيق الخلقة، لكنه كمالكٍ ومحبٍ لها يرعاها ويهتم بها، يعمل على استمرار ديناميكيتها، إذ هو "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب1: 3). تُقدّم له التسبحة السماويّة: "أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك خَلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك (لمسّرتك) كائنة وخُلقت" (رؤ4: 11). كل الأمور خاضعة له، وخلال قوّته الإلهيَّة الخلاّقة على الدوام تمتّع الخليقة بالاستمراريّة. أنّه ضابط الكل ومدبّر كل شيء. ليس شيء ما في العالم أو في الحياة وليد الصدفة، بل هي تحت سيطرة المسيح.
* إن كانت الخليقة قد خُلقت عن طريق الابن، وأن "فيه تثبت (تقوم) كل الأشياء في الوجود" [17]، فإن الذي يتأمّل الخليقة بطريقة مستقيمة، لا بُد أن يرى أيضًا بالضرورة الكلمة الذي خلقها، ومن خلال الكلمة يبدأ أن يُدرك الآب(71).
* لم يُلقّب بكرًا كمساوٍ للمخلوقات، أو أولهم زمنيًا [لأنه كيف يكون هذا وهو نفسه الوحيد الجنس بحق؟] لأنه بسبب تنازل الكلمة إلى المخلوقات، صار أخًا لكثيرين. وهو يعتبر وحيد الجنس" قطعًا، إذ أنه وحيد وليس له إخوة آخرون، والبكر يُسمّى بكرًا بسبب وجود اخوة آخرين... إن كان بكرًا لا يكون وحيدًا (1يو 4: 9)، لأنه غير ممكنٍ أن يكون هو نفسه وحيدًا وبكرًا إلا إذا كان يشير إلى أمرين مختلفين. فهو الابن الوحيد بسبب الولادة من الآب، لكنه يُسمّى بكرًا بسبب التنازل للخليقة ومؤاخاته للكثيرين... فهو مرتبط بالخليقة التي أشار إليها بولس بقوله: "فيه خُلق الكل" [16]. فإن كانت كل الخليقة خُلقت بواسطته فإنه مختلف عن المخلوقات، ولا يكون مخلوقًا بل هو خالق المخلوقات(72).
* "فيه يقوم الكل"، من الواضح أن الابن لا يمكن أن يكون "عملًا" لكنه هو يد الله وحكمته(73).
"وهو رأس الجسد الكنيسة،
الذي هو البداءة،
بكر من الأموات،
لكي يكون هو متقدمًا في كل شيء" [18].
"وهو رأس الجسد الكنيسة" حرف العطف "واو" يوضّح أن رعاية السيد المسيح للعالم تقوم على محبّته للبشريَّة، التي يشتهي أن تكون بأجمعها كنيسته الواحدة، بكونها جسده، وهو الرأس.
إنه يرعى العالم، كما يسمح بالتجارب بكل أنواعها لصالح جسده، لأجل تنقية الكنيسة وتمتّعها بشركة مجده. كل الأحداث بما فيها من آلام وأفراح تعمل لبنيان الكنيسة، ملكوت الله على الأرض، لتحقّق رسالتها كنورٍ للعالم، وملحٍ للأرض (مت5: 13-15).
بكونها جسده الواحد، يفيض عليها بقدراته وإمكانيّاته بكونه القدّوس، البار، حكمة الله، كلمة الله، الحق، الحياة، والقيامة. فيصير هو سرّ قداستها وبرّها وحكمتها وتمتّعها بالحق كما بالحياة المُقامة. إنه غذاؤها الروحي. هذا ما يعنيه الرسول بولس بقوله: "فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربّيه، كما الرب أيضًا للكنيسة" (أف5: 29)، "هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل مسرّته" (في2: 13).
"بكر من الأموات"، لا يعني هذا أنه مات كما مات كل واحدٍ من البشر، لكنه قبل الموت في الجسد القابل للموت، قبله بإرادته كاستعارة لكي يحطّم الموت بموته. فلما قام صار المتقدّم، أول القائمين بغير عودة إلى الموت، ودون أن يُصبغ بصبغة الفساد التي حلّت بنا بسبب الخطية. لقد لبس السيد المسيح طبيعتنا ليحملنا فيه، ولبس موتنا دون أن يضرب الموت بسهام الفساد في جسده. بهذا وهبنا حق القيامة والتمتّع بقوّتها، إذ صار لنا بكرًا، وأتى بنا كأبناء كثيرين إلى المجد (عب2: 10). وهو القيامة قدّم لجسده الخاص به خبرة القيامة، مع أنّه لم يكن ممكنًا لجسده أن يحل به الفساد لأنّه واحد مع لاهوته. هذه الخبرة قبلها فيه لكي يكون متقدّمًا في كل شيء، يقدّم لنا خبرته لكي نعيشها، فلا تكون القيامة أو الأمجاد السماويّة والخلود وعودًا مجرّدة، بل تصير بالنسبة لنا حقائق نتلمّسها فيه بكونه قد سبقنا.
"الذي هو البداءة" [18]
كلمة "البداءة" مأخوذة من Arche، وهي في اليونانيَّة تحمل معنيين: الأولويّة أو الأسبقيّة، والأصل. فالسيد المسيح هو بداءة الخليقة، بمعنى أنه أصلها: "في البدء كان الكلمة... كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو1: 1-3)، وهو بداءة الكنيسة، أي أصل الخليقة الجديدة (رؤ 3: 13).
"لكي يكون هو متقدّمًا في كل شيء" [18]: إذ أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ، وأطاع حتى الموت موت الصليب، "لذلك رفّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله" (في2: 7-11).
*بكونه ذاك الذي فيه خُلقت كل الأشياء يوُصف هنا أنه رأس الكنيسة, التي وُجدت في جسده خلال الميلاد الجديد الروحي, والتي تحمل شكل القيامة المقبلة. التي نرجو أن نشاركه فيها كشركاء في الخلود وذلك عندما نعتمد(74).
*المسيح هو رأس الكنيسة وبكر الراقدين خلال ناسوته، إذ يعبر هنا بولس من الحديث عن اللاهوت إلى التأمل في تدبير الخلاص(75).
*نحن المسيحيون نعرف أن القيامة عبرت بالفعل في رأسنا، وأما في الأعضاء فلم تحدث بعد. رأس الكنيسة هو المسيح, وأعضاء المسيح هم الكنيسة. ما حدث قبلًا في الرأس سيحدث تباعًا في الجسد. هذا هو رجاؤنا, وهكذا نؤمن, من أجل هذا نحتمل ونثابر وسط مقاومات هذا العالم العنيد, مترجين الراحة قبل أن يتحول الرجاء إلى حقيقة(76).
*"وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم" (رو 11:8). لهذا فإن الكنيسة الجامعة التي هي في سياحة الحياة الميتة، تنتظر في نهاية الزمن ما قد ظهر أولًا في جسد ربنا يسوع المسيح, الذي هو "بكر الراقدين", لأن الكنيسة هي جسده, وهو رأسها(77)
*كإنسانٍ هو بكر الراقدين, فإنه أولًا حطم غُصة الموت وأعطى الكل الرجاء العذب في الحياة الأخرى. إذ قام هكذا تألم. كإنسان إذن تألم، ولكنه بكونه الله المرهوب بقي بلا تغيير(78).
*أي نفع نقتنيه من الاعتقاد بأنه هو البداية؟ نحن أنفسنا نصير ما نعتقد به أنه كان عليه البداية(79).
* أنت تعلم بالحقيقة أن كثيرين ولدوا من جديد وكان هو بكرًا بينهم (رو 29:8)، "هو البداءة، بكر من الأموات" (كو 18:1)، هو الذي هزم ضربة الموت ورتب الميلاد من الأموات بقيامته (أع 24:2). كان المسيح أب لكل هذه الولادات رغم أنه لم يعاين هو نفسه من الآم الولادة. فلم يُجرب الولادة بالماء أو الولادة من الموت أو الولادة كأول مولود من هذا الخلق المقدس بل كانت ولادته خالية من الألم. لهذا السبب تقول العروس "مُختار بين ربوة"(80).
*هذا أيضًا يؤيد اعترافنا هذا, بينما هذا هو الجسد الطبيعي الحقيقي وليس جسدًا آخر يقوم, إلا أنه يقوم متطهرًا من كل أخطائه وتاركًا فساده, إذ قول الرسول هو حق: "يُزرع في فسادٍ ويقوم في غير فسادٍ, يُزرع في هوان ويقوم في مجد. يُزرع جسمًا طبيعيًا ويقام جسمًا روحانيًا" (1 كو 15: 42-44). فإذ هو جسم روحاني ومجيد وغير فاسد فإنه يجهز ويزين بأعضائه اللائقة به, ليس بأعضاء تؤخذ من موضع آخر, وذلك حسب الصورة المجيدة التي أظهرها المسيح كنموذجٍ دائمٍ... وذلك بالنسبة لرجائنا في القيامة. لقد أظهر المسيح الكل مثل النموذج, حيث هو بكر القائمين وهو رأس كل خليقة(81)
* يملك مثل هؤلاء المسيحيّون مع الملك السماوي في الكنيسة السماويّة، "وهو بكر من الأموات" [18]، وهم أيضًا أبكار، ولكن بالرغم من أن هذه هي حالتهم وهو مختارون ومقبولون أمام الله، فإنهم يعتبرون أنفسهم أقل الكل وليس لهم أي استحقاق. وقد صار أمرًا طبيعيًا عندهم أن يعتبروا أنفسهم كلا شيء(82).
*حينما يُدعى "الابن الوحيد"، فإنه يُدعى هكذا دون أن يكون هناك أي سبب آخر لكونه الابن الوحيد إذ هو الإله الوحيد الجنس الذي في حضن الآب (يو 1: 18). ولكن حينما تدعوه الكتب الإلهية بالبكر فإنها تضيف حالًا عنه السبب الذي من أجله حمل هذا اللقب، فتقول الكتب: "البكر بين إخوة كثيرين" (رو 8: 29). وأيضًا "البكر من الأموات" (كو 1: 18). ففي المرّة الأولى دُعي بكرًا بين إخوة كثيرين بسبب أنه صار مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية. وفي المرّة الثانية دُعي "البكر من الأموات" لأنه هو الأول الذي أقام جسده إلى حالة عدم الفساد(83).
*تترجم الجلجثة "موضع الجمجمة". إذ هكذا دُعيت بروح نبوية، لأن المسيح هو الرأس الحقيقي قد احتمل الصليب هناك. وكما يقول الرسول: "الذي هو صورة الله غير المنظور" (كو 15:1، 18). وبعد ذلك بقليل يقول: "وهو رأس جسد الكنيسة". وأيضًا: "رأس كل رجل هو المسيح" (1 كو 3:11). وأيضًا: "الذي هو فوق كل رياسة وسلطان" (كو 10:2).
تألمت الرأس في "موضع الجمجمة". يا للظهور النبوي العجيب!
كأن هذا المكان يذكرك قائلًا: "لا تظن أن الذي صُلب هنا إنسانًا مجردًا، لكنه هو رأس كل رياسة، رأسه الآب؛ لأن رأس الإنسان المسيح ورأس المسيح الله (1 كو 3:11)(84).
"لأنه فيه سرّ أن يحل كل الملء" [19].
"لأن فيه سُرّ أن يحل الملء" [19]:هذه هي مسرّة الآب أن يتجسّد الابن الكلمة فيصير إنسانًا كاملًا وهو الإله الكامل "ملء اللاهوت".
"فيه سر أن يحل كل الملء" [19]، فإنه إذ صار إنسانًا، واتحد اللاهوت بالناسوت، لم يتغير لاهوته ولا انفصل عنه الناسوت، ولكن يعلن أن من يتحد معه يتمتع بالملء في كل شيء، لا يصير إلهًا، بل يحمل من سمات الكلمة المتجسد ما يجدد طبيعته، وذلك بعمل روحه القدوس فيتأهل للمجد السماوي. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي أن كلمة الله صار إنسانًا وبقي هو الله، ويهب الإنسان شركة سماته ويبقى إنسانًا.
أساء ثيؤدورت أسقف كورش وأتباعه وتلميذه نسطور تفسير هذه العبارة، فظنّوا أن يسوع المسيح يحمل شخصيّتين، فهو يسوع الإنسان، وقد حلّ ملء اللاهوت فيه ليصير الإله الكامل، وكأنه وجد زمن أيّا كان قدره كان يسوع إنسانًا بدون اللاهوت.
وقد ردّ القديس كيرلس الكبير على ذلك موضّحًا أنه لم يكن زمن ما ولو إلى طرفة عين وُجد فيه الناسوت دون اللاهوت، وأنه لا يمكن قبول طبيعتيّ المسيح الناسوتيّة واللاهوتية إلا في الفكر فحسب في صفرٍ من الزمن، لأنه لم يقم ناسوت المسيح في زمن ما ولو إلى طرفة عين ليحلّ فيه بعد ذلك اللاهوت. الاتحاد الأقنومي بين ناسوت السيد ولاهوته تحقّق في لحظة التجسّد دون زمن ما يفصل بينهما(85).
*في الرسالة إلى أهل أفسس يدعو بولس الكنيسة "الملء", لأنها مملوءة بالمواهب الإلهية. بعناية الله تحل في المسيح, وترتبط به, تحت سلطته, وتتبع ناموسه(86).
*بالنسبة للاهوته فإن لابن الله مجده الذاتي, فإن مجد الآب والابن هما واحد. إذن فهو ليس بأقلٍ في السمو, لأن المجد واحد, ولا أقل في اللاهوت, لأن ملء اللاهوت في المسيح(87).
20 وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلًا الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ، أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ. 21 وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الآنَ 22 فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ وَلاَ شَكْوَى أَمَامَهُ، 23 إِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الإِيمَانِ، مُتَأَسِّسِينَ وَرَاسِخِينَ وَغَيْرَ مُنْتَقِلِينَ عَنْ رَجَاءِ الإِنْجِيلِ، الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ، الْمَكْرُوزِ بِهِ فِي كُلِّ الْخَلِيقَةِ الَّتِي تَحْتَ السَّمَاءِ، الَّذِي صِرْتُ أَنَا بُولُسَ خَادِمًا لَهُ. 24 الَّذِي الآنَ أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ الْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لأَجْلِ جَسَدِهِ، الَّذِي هُوَ الْكَنِيسَةُ، 25 الَّتِي صِرْتُ أَنَا خَادِمًا لَهَا، حَسَبَ تَدْبِيرِ اللهِ الْمُعْطَى لِي لأَجْلِكُمْ، لِتَتْمِيمِ كَلِمَةِ اللهِ. 26 السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ، 27 الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ. 28 الَّذِي نُنَادِي بِهِ مُنْذِرِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إِنْسَانٍ كَامِلًا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. 29 الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَتْعَبُ أَيْضًا مُجَاهِدًا، بِحَسَبِ عَمَلِهِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ.
"وأن يصالح به الكل لنفسه،
عاملًا الصلح بدم صليبه بواسطته،
سواء كان ما على الأرض أم ما في السماوات" [20].
إذ دخلت الخطية إلى حياة الإنسان أفسدت طبيعته، فحملت عداوة نحو الله. أحيانًا لا يطيق الإيمان حتى بوجود الله، بل ويحاربه ويقاومه، كما يستبدله بالمخلوقات. وإن اعتقد بوجوده لا يقبل وصيّته، وينكر عناية الله ورعايته، ويحسبه كمن يستعبده ليقيّد حريّته ويفقده شخصيّته. "كل تصوّر أفكار قلبه إنما هو شرّير كل يوم" (تك6: 5).
لم يكن ممكنًا للإنسان من جانبه أن يطلب المصالحة، بل أصرّ أن يعطيه القفا لا الوجه (إر 2: 27). فأعدّ الله خطة المصالحة بالصليب، قاتلًا العداوة به (أف2: 16).
بالصليب أعلن الله مبادرته بالحب بلا حدود.
بالصليب قتل العداوة ونقض حائط السياج المتوسّط بين الإنسان والله، كما بين الإنسان وأخيه (أف2: 14-17).
بالصليب أعطى إمكانيّة الإنسان للتمتّع بطبيعة الحب.
تصالحت السماء مع الأرض، إذ أمكن للإنسان الترابي أن يلبس عدم الفساد ويوجد في حضن الآب السماوي القدّوس.
وتصالح الإنسان مع الملائكة، إذ طال انتظار الملائكة لرؤية خلاص الإنسان، فقد بعثهم الله برسائل سماويّة إلى رجال الله، وقد حملوا لهم حبًا كرسل للحب ذاته. وإذ تمّت ذبيحة الصليب تكشّف لهم السرّ المكتوم قبل الدهور من جهة خلاص الإنسان.
*كان ضروريًا لربي ومخلصي ليس فقط أن يولد إنسانًا بين البشر، بل وأن ينزل إلى الجحيم, كإنسانٍ مستعدٍ أمكنه أن يطلق نصيب (قرعة) الكفارة في برية الجحيم. وإذ عاد من ذاك الموضع كمل عمله, واستطاع أن يصعد إلى الآب, وقد تمم التطهير بالكامل على المذبح السماوي, وأمكنه تقديم عربون جسده الذي أخذه معه في طهارة دائمة. هذا هو اليوم الحقيقي للكفارة عندما صار الله كفارة عن البشر. وكما يقول الرسول أيضًا: "إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه" (2 كو 19:5). ويتحدث عن المسيح في موضع آخر: "عاملًا الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السماوات"(88).
*كما بدأ السلام أن يستتب أعلن الملائكة: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام" (لو14:2). وعندما تقبلت الكائنات الأدنى السلام من الكائنات الأسمى "صرخوا: مجد على الأرض، وسلام في السماوات" (راجع لو 38:19). في ذلك الحين عندما نزل اللاهوت والتحف في الناسوت صرخت الملائكة: "على الأرض السلام", وعندما صعد الناسوت لكي ما يُبتلع باللاهوت (دون زوال الناسوت) ويجلس على اليمين -"سلام في السماء"- صرخ الأطفال أمامه: "أوصنا في الأعالي" (مت 9:21). لهذا تعلم الرسول أنه يلزم القول: "عاملًا الصلح بدم صليبه سواء كان ما في السماوات أم ما على الأرض"(89).
*السلام الحقيقي علوي. مادمنا مرتبطين بالجسد نحمل نيرًا لأمور كثيرة تتعبنا. ابحثوا إذن عن السلام, وتحرروا من متاعب هذا العالم. اقتنوا ذهنًا هادئًا، ونفسًا هادئة غير مرتبكة, لا تثيرها الأهواء، ولا تجتذبها التعاليم الباطلة, فتتحدى إغراءتها لقبولها حتى يمكنكم أن تنالوا "سلام الله الذي يفوق كل فهم يحفظ قلوبكم" (في 7:4). من يطلب السلام يطلب المسيح, لأنه هو نفسه سلامنا, الذي يجعل الاثنين إنسانًا جديدًا واحدًا (أف 14:2), عاملًا سلامًا, وعاملًا سلامًا بدم صليبه سواء ما كان على الأرض أم ما كان في السماوات(90).
*احتمل المخلص هذا كله "عاملًا الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم في السماوات" (كو 20:1). لأننا كنا أعداء الله خلال الخطية وحكم الله على الخاطي هو الموت. لهذا كان لا بُد من تحقيق أحد أمرين: أما أن الله في عدله يبيد كل البشرية، أو في محبته المترفقة يزيل الحكم!
أنظر حكمة الله، فقد حفظ الحكم وفي نفس الوقت حقق محبته! لقد حمل المسيح آثامنا في جسده على الخشبة لكي "نموت عن الخطايا، فنحيا للبرّ" (1 بط 24:2). إنه لم يكن بالهيّن ذاك الذي مات عنا، فليس هو مجرد حمل حرفي ولا إنسان عادي، بل أعظم من ملاك، أنه الإله المتأنس، لم تكن خطايا البشر أعظم من برّ الذي مات بسببها.
لم تكن هذه الآثام كثيرة بالنسبة لبرّ ذاك الذي بإرادته وضع نفسه وبإرادته أخذها(91).
"وأنتم الذين كنتم قبلا أجنبيين،
وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة،
قد صالحكم الآن" [21].
إذ بسط السيد المسيح ذراعيه على الصليب ضمّ في أحضانه كل من يؤمن به من كل الأمم والشعوب، ليحملهم معًا بروح الحب إلى حضن الآب. لهذا يقول الرسول: "لستم إذًا غرباء ونزلاء، بل رعيّة مع القدّيسين" (أف2: 19).
*بقوله:"أعداء في الفكر" يوضح الرسول بولس أن العداوة التي من جانبهم نحو الله لم تكن عن ضرورة أو ألزام، إنما كانت "في الفكر" وعدم الرغبة في العودة لله(92).
*إذ يستدعي عطايا الله للأمم يظهر بولس كم هم مدينون بكل تقدير لنعمة الله.فقد كانوا أعداء مشورته التي بها قرر أن يفتقد الجنس البشري خلال عبده موسى. لم يستلموا تعليمه وقوته بل عبدوا آلهتهم ومارسوا أعمالهمالشريرة. عبدوا الأعمال التي هم صانعوها(93).
"في جسم بشريته بالموت،
ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه" [22].
إذ أحضرنا إليه كأعضاء في جسده، حملنا سماته، فصرنا به قديّسين وبلا لوم، لنا حق الوجود أمام العرش الإلهي دون قيام شكوى علينا.
*مرة أخرى يشير إلى الصليب، ويقدم نفعًا آخر... يقول بموته "يحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه". بالحق ليس فقط ينقذنا من الخطايا، بل ويجعلنا مزكين. احتمل هذا كله ليس فقط لينقذنا من الشرور، وإنما لكي ننال مكافآت، وذلك كمن لا يحرر مجرمًا من العقوبة فحسب، بل ويقدم له كرامة. أنه يضمكم إلى الذين ليس فقط لم يخطئوا بل بالحري الذين صنعوا برًا عظيمًا بحق. أنه يهبكم القداسة أمامه وتكونوا غير ملومين(94).
*إذ أراد الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي أن يظهر أن جسم المسيح هو جسدي وليس روحي مادته أثيريّة، قال بطريقة لها مغزاها: "وأنتم الذين كنتم قبلًا أجنبيّين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم في جسم بشريّته بالموت". مرّة أخرى في نفس الرسالة يقول: "وبه أيضًا ختنتم ختانًا غير مصنوع بيد بخلع جسم الجسد" (راجع كو 2: 11)(95).
*في المسيح إذ نزع موتنا بعطيّة الخلود... حتى أن كل عمل مستقيم صنعه يُحوى في الوعود التي تُعلن مقدمًا عن التجديد المقبل في وقت مقبل.
متأسسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل الذي سمعتموه،
المكروز به في كل الخليقة
التي تحت السماء،
الذي صرت أنا بولس خادما له" [23].
يقف القديس يوحنا ذهبي الفم في دهشة أمام هذه العبارة الرسولية الرائعة. فإذ يتمتع الإنسان بموت المسيح على الصليب يصير كمن في سفينة لا تستطيع رياح العالم أن تهزها، بل تكون متأسسة وراسخة وغير متزعزعة (غير منتقلين)، هذه السفينة حاملة بضائع إلهية فائقة منها الإيمان "ثبتم في الإيمان" والرجاء في الإنجيل(96).
*ما هو رجاء الإنجيل إلا المسيح؟ فإنه هو سلامنا، الذي يعمل كل هذه الأمور...ومن لا يؤمن بالمسيح يفقد كل شيءٍ(97).
يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم عن مدى ارتباط هذه العبارات بالحديث السابق، وهل يفتخر بأنه يتألم لأجلهم. ويجيب أنه يوجد ارتباط قوي مع الحديث السابق، حيث أبرز الرسول أن السيد المسيح وحده دون الملائكة هو الذي يقوم بالمصالحة بدمه على الصليب، وأن بولس نفسه كرسول لا دور له، لأنه ما يتألم به إنما هي آلام المسيح العامل فيه وبه. يقول: [انظروا كيف يربطنا (المسيح) به، لماذا تجعلون من الملائكة وسطاء (للمصالحة مع الآب)...؟ يقول: "صرت أنا خادمًا"،فلماذا تًدخلون الملائكة؟ "أنا خادم". لقد أظهر أنه ليس بشيء سوى أنه خادم(98).]
"الذي الآن افرح في آلامي لأجلكم،
وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي،
لأجل جسده الذي هو الكنيسة" [24].
يعلن القدّيس بولس شوقه نحو تكميل آلام المسيح، ليست آلامه الكفّاريّة هذه التي لا يشاركه فيها كائن ما، إذ اجتاز المعصرة وحده، هذه التي لا يمكن أن يقدّمها إلا من كان بلا خطية ما، قادر أن يقدّمها ذبيحة كفّاريّة عن العالم كله. إنّما هي آلام لامتداد ملكوت الله، يحتملها السيد المسيح الساكن في حياة خدّامه وشعبه بكونها آلام هو. هذا ما أوضحه السيد المسيح نفسه لشاول الطرسوسي، حين قال له: "لماذا تضطهدني؟" (أع9: 4). فما وُجّه من اضطهاد ضد المؤمنين حسبه السيد موجّه ضدّه شخصيًّا.
كان الرسول بولس يتهلّل بالآلام لأنها شركة في آلام المسيح، وأيضًا لأنها ضروريّة لبنيان الكنيسة. إنها هبة إلهيّة تقدّم للخدّام كما للشعب: "لأنه قد وُهب لكم... لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألّموا لأجله، إذ لكم الجهاد عينه الذي رأيتموه فيّ، والآن تسمعون فيَّ" (في1: 29-30).
لم يشعر في آلامه من أجل الكنيسة أنه متفضّل على الشعب بهذا، إنّما يحسبها أمرًا لازمًا وضرورة يلتزم بها إذ يحسب نفسه عبدًا لمؤمنين: "فإنّنا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح يسوع ربًا، ولكن بأنفسنا عبيدًا لكم من أجل يسوع" (2كو4: 5).
*جسده الآن هو الكنيسة، وقليلون الذين يلمسونها، وكثيرون يضيقون عليها ويزحمونها (لو 8: 45)، فبكونكم أبناء لها قد سمعتم أن جسد المسيح هو الكنيسة، وأيضًا: "وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (1 كو 12: 27). إن كنا جسده فإن ما يتحمّله جسده في الزحام تتحمّله الكنيسة الآن. كثيرون يضيقون عليها ويزحمونها، وقليلون هم الذين يلمسونها. الجسد يضغط عليها، والإيمان يلمسها. أنصحكم أن ترفعوا أعينكم، يا من لكم العيون التي ترون بها، لأن أمامكم أمورًا تُرى. ارفعوا أعين الإيمان. المسوا هدب ثوبه، فإن هذا يكفي ليهبكم الصحة(99).
*إني أومن هكذا أن ما أتألم به فهو من أجله، وليس فقط أتألم، وإنما أفرح في الألم، متطلعًا إلى الرجاء العتيد، وأنا لا أتألم من أجل نفسي وإنما من أجلكم(100).
*كيف هذا؟ لأنه لكي أكرز لكم يلزمني أن أتألم. حيث أن المسيح هو رأس الجسد، تتولّد المتاعب خلال كلمة الحق للذين هم في الكنيسة. هذه تُدعى طبيعيًا آلام المسيح.
*يملأ (يكمل) بولس آلام المسيح بمعنى أنه يحتمل الآلام لكي يكرز بالخلاص للأمم.
*يعترف بولس أنه يفرح في الآلام التي يحتملها، لأنه يرى نموًا في إيمان المؤمنين. هكذا آلامه ليست فراغًا، حيث بما يتألم به يُضاف إلى حياته. إنه يحسب تلك الآلام مرتبطة بآلام المسيح، للذين يتبعون تعليمه.
حسب تدبير الله المعطى لي لأجلكم لتتميم كلمة الله" [25].
إحساس أبوي رائع من جانب الرسول بولس، فإنّه وإن نال كرامة شركة الآلام مع المسيح، فإنّه وهو يتألّم يحسب نفسه خادمًا للشعب، قدّمه الله لهم بتدبيره الفائق لا كصاحب سلطان بل كخادمٍ وعبدٍ لهم. ما يمارسه هو جزء من خطًة الله من نحوهم، فهو لا يتألّم لأنّه أفضل منهم أو أقدر منهم على احتمال الألم، وإنّما بتدبير الله الذي يحبّهم.
في إسهاب يعلق القديس الذهبي الفم على هذه العبارة مظهرًا أن ما يمارسه الرسول من خدمة للأمم ليس من فكره الخاص، ولا بفضلٍ منه، ولا حدث فجأة، لكنها أمور كانت في خطة الله، أعلنت وتحققت في الوقت المعين.
"السرّ المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال،
لكنه الآن قد أُظهر لقديسيه" [26].
خلال الألم انكشف له السرّ المحتجب منذ الدهور، سرّ حب الله الفائق لخلاص العالم كله. هذا السرّ كان محتجبًا ومخفيًا حتى عن السمائيّين، فلم يكن ممكنًا لطغمة ما سماويّة مهما سمت أن تدركه أو تتخيّل مدى حب الله الفائق للإنسان. هذا السرّ اُظهر لقدّيسيه [26]، حيث رأوا ولمسوا عمل نعمة الله في حياة الأمم حين آمنوا بالخلاص. فصار هذا السرّ هو موضوع شهادة الكل وكرازتهم ليتمتّع البشر بالمجد المُعدّ لهم [27]. بهذا تعرف الرؤساء والسلاطين في السماويّات عليه بواسطة الكنيسة (أف 3: 10).
*إذ تحدث بما بلغنا إليه، مظهرًا رأفات الله والكرامة بعظمة الأمور الموهوبة، قدم اعتبارًا آخر وهو علو هذه الأمور حتى أننا لا نجد أمامنا من يقدر أن يعرفه (المسيح). وذلك كما قال في الرسالة إلى أهل أفسس أنه ولا الملائكة ولا الرئاسات أو أية قوة أخرى مخلوقة تستطيع ذلك، إنما ابن الله وحده يعرف ذلك (أف 5:3، 10،9)(101).
*إلى الآن لا يزل هذا السرّ مكتومًا حيث أعلن لقديسيه وحدهم(102).
ما هو غنى مجد هذا السرّ في الأمم،
الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد" [27].
وسط آلامه يعلن السيد المسيح غنى مجده الفائق ورحمته المقدّمة للأمم، المنسكبة على الجميع بلا تمييز بين يهودي وأممي، دون أدنى استحقاق من جانب الإنسان.
بقوله "المسيح فيكم" يُعلن الرسول لهم أنّه أقرب إلينا من أيّ كائن سماوي، فمع كونه خالق السمائيّين، إلاّ أنّه في داخلنا، ليس ببعيدٍ عنّا، نلتقي معه مباشرة دون حاجة إلى وساطة أيونات كما ادّعى الغنوسيّين.
هو فينا يهبنا كل شيء، هو "رجاء المجد"، فيه نتمتّع بعربون الأمجاد السماويّة. هو حكمتنا وحياتنا ورجاؤنا. فيه ندرك ما نعيشه، إنّنا وسط آلام الصلب معه ممجّدون فيه!
*"غنى مجد هذا السرّ في الأمم". فإنه قد صار ظاهرًا بالأكثر بين الأمم، حيث يقول في موضع آخر: "وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة" (رو 9:15) فإن عظمة مجد هذا السر قد ظهرت بين آخرين أيضًا لكن بالأكثر في هؤلاء. فحدث فجأة تحول الذين كانوا أكثر جمودًا من الحجارة إلى كرامة الملائكة. وباختصار في بساطة بالكلمات والإيمان دون متاعب ظهر السر وغناه. وذلك كما لو أخذ إنسان كلبًا يموت جوعًا ومملوء جربًا في بشاعة ورائحته كريهة وجعله دفعة واحدة إنسانًا لكي يحتل العرش. كانوا قبلًا على الأرض، لكنهم تعلموا أنهم هم أنفسهم أفضل من السماء والشمس وأن العالم في خدمتهم. لقد كانوا أسرى إبليس وفجأة صاروا فوق رأسه، يأمرونه ويجلدونه. تحولوا من أسرى وعبيد للشيطان إلى جسد سيد الملائكة ورؤساء الملائكة. تحولوا من عدم معرفتهم لله إلى أن صاروا فجأة شركاء حتى في عرش الله. أتريدون أن تروا الخطوات العديدة التي وثبوها؟
أولًا: تعلموا أن الحجارة ليست آلهة
ثانيًا: أنها ليست فقط ليست آلهة بل وأقل من البشر.
ثالثًا: أنها أقل من الحيوانات غير العاقلة.
رابعًا: أنها أقل من النباتات.
خامسًا: أنهم سقطوا في المبالغات.
إذ أدركوا هذا كما إلى شيءٍ من العمق كان يلزمهم أن يعلموا أن رب الكل هو الله، وله وحده ينبغي العبادة. وأن الحياة الفاضلة أمر صالح، وأن الموت الحاضر ليس موتًا، ولا الحياة الحاضرة هي حياة. التزموا أن يعلموا أن ذاك الذي هو فوق الكل والذي يحكم الملائكة والسلاطين وكل القوات الأخرى نزل وصار إنسانًا وتألم كثيرًا وقام وصعد.
هذا كله هو السر، وضعه معًا ومدحه قائلًا: "الذي هو المسيح فيكم". فإن كان فيكم، لماذا تطلبون الملائكة؟(103)
"الذي ننادي به منذرين كل إنسانٍ،
ومعلمين كل إنسان بكل حكمة،
لكي نحضر كل إنسان كاملًا،
في المسيح يسوع" [28].
لم تقف رسالة القدّيس بولس والعاملين معه عند الكرازة والشهادة للسد المسيح كمخلّصٍ للعالم، بل تمتد أيضًا إلى التعليم بالحكمة الكائنة في المسيح يسوع، هذه التي لا أحد من حكماء هذا الدهر أن يبلغ إليها، لأنها ليست حكمة فلسفيًّة نظريّة، لكنّها قادرة أن تحمل المؤمن إلى الحياة الكاملة الفائقة، الشركة في الطبيعة الإلهيّة. وهي حكمة لا تقتصر على فئة معيّنة كالفلاسفة وتلاميذهم، وإنّما مقدّمة لكل إنسانٍ ليفتح بالروح القدس قلبه ويغرف من الحب الإلهي، بقبوله "المسيح الذي هو حكمة الله هو للجميع" (1كو1: 24، 31). هذا القبول حركة دائمة لا تتوقّف لعلّ المؤمن يبلغ إلى الإنسان الكامل، أيقونة المسيح التي بلا عيب، فيعبر الإنسان من الطفولة إلى النضوج الكامل.
*نحن وليس الملائكة نعلم وننذر، دون غطرسة ولا قهر، فإنه هذا أيضًا من لطف الله للبشر إلا نحضرهم له كمن هو طاغية. يقول: "معلمين" و"منذرين" وذلك كأبٍ أكثر منه معلم(104).
*"نحضر كل إنسان كاملًا في المسيح يسوع"، وليس في الناموس، ولا في الملائكة، لأن هذا ليس كمالًا.
"في المسيح"، أي في معرفة المسيح، لأن من يعرف ما يفعله المسيح تصير له أفكار أعلى ممن يكتفي بالملائكة(105).
مجاهدا بحسب عمله الذي يعمل فيَّ بقوة" [29].
*إن كنت أتعب لأجلكم، لاحظوا كم يلزمكم أن تتعبوا أنتم بالأكثر. مرة أخرى لكي يظهر أن هذا من عند الله يقول: "حسب عمله الذي يعمل فيَّ بقوة". إنه يظهر أنه عمل الله(106).
* بك وحدك أستطيع أن أدخل إلى أعماق الحب.
مع بولس الرسول يتسع قلبي بالحب.
أحب كل البشرية، لأنك محب للبشر!
أقدم لك مع كل نسمة تشكرات لا تنقطع، من اجل عملك مع البشرية.
وأقدم صرخات لا تتوقف،
مترجيًا قيام الكل وخلاصهم بك.
* بك أدخل إلى الأعماق،
أتلامس معك، فأتعرف على الآب خلالك.
فأنت صورة الآب غير المنظور.
صورة الوحدة معه في ذات جوهره.
أراك فأراه.
أتعرف عليك، فامتلئ من كنوز الحكمة والفهم.
* بك أتعرف عليك،
يا خالق المسكونة وضابط الكل،
والمعتني بكل صغيرة وكبيرة.
* أدخل إلى سرّ كنيستك،
فأكتشف قيادتك لها، يا أيها الرأس المحب لجسده.
تهبها روحك القدس، ليهيئها للقاء الأبدي معك.
تصير بالحق العروس السماوية التي بلا عيب ولا لوم.
يصير لها حق الشركة في المجد، لأنها جسدك المقدس.
تتمتع مع كل لحظة بملء أكثر فأكثر،
حتى تصير أيقونتك الحية.
* بدمك صالحتنا مع الآب.
وبآلامك حولت آلامنا إلى أمجاد.
بصليبك كشفت السرّ الأزلي المكتوم.
بقيامتك دخلت بنا إلى الكمال.
* هب لي أن تنطلق بي من عمق إلى عمق!
فإنني كلما التقيت بك،
يلتهب عطشي إليك!
_____
(17) G. Campbell Morgan: An Exposition of the whole Bible, 1959, p. 496.
(18) In Hebr. hom 10: 7.
(19) Hom. On Ephes. Hom 1
(20) Ep. to Ephess. 1:1:4.
(21) Comm. On 1Cor. 1:2 (1:15).
(22) Marius Victorinus: Ep. to Eph., 1.راجع سيرته في قاموس سير القدّيسين.
(23) Ep. to Ephess. 1:1:4, 18.
(24) Commentary on Colossians C f. Ancient Christian Commentary on Scriptures (ACCS).
(25) Ep. to Ephess. 1:1:4, 18.On his brother Satyrus, 2:124.
(26) Severian of Gabala: Pauline Commentary from the Creek Church.(ACCS)
(27) Interpretation of the letter to the Colossians.(ACCS)
(28) Homilies, 43.(ACCS)
(29) Maximus of Turin; Sermon 96:1.(ACCS)
(30) ACCS.
(31) ACCS.
(32) Letters, 199:12-51.
(33) Against Marcion, 5:19.
(34) Letters, 185: 1-5.
(35) Sermons, 214:11.
(36) راجع الدكتور يوسف سلامة: كولوسي.
(37) Marius Victorianus, On.Ephes. 1:3:14
(38) ACCS.
(39) Of the Holy Spirit, 1:7:89.
(40) Letters, 177:1-5.
(41) cf. City of God 15:6.
(42) Hom on 2 Tim, 4.
(43) Comm. On John 6:32.
(44) Letters, 217:1:3.
(45) Exhortation to Martyrdom, 18.
(46) Explanatory notes for the Ep. To Colossians, hom. 2. PG 62: 337.
(47) Homilies on Song of Songs, 14. ترجمة الدكتور جورج نوّار
(48) On the Psalms, 77:30.
(49) St. Augustine: Tractates on John, 55:1.
(50) Sermons on N.T. Lessons, 59 :1.
(51) Commentary on Rom. 3:24.
(52) On Perfection.
(53) Hom. On Corinth., 5:4.
(54) Ep. To Ephes. 1 (1:7).
(55) Three Different Questions, 74.
(56) De principiis, 1:2:6.
(57) Orations, 30:20.
(58) On The Trinity, 8:49.
(59) Letters, 20.
(60) Discourses Against Arians, 2:21 (63).
(61) Adv. Haer. 22:1.
(62) Of the Christian Faith, 4:100.
(63) On the Trinity, 5:4.
(64) مقالات لطالبي العماد 11: 24.
(65) St. Athanasius: Discourses Against Arians, Book 2,:18:31.ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
(66) Letters, 20.
(67) الرسالة السادسة.
(68) St. Athanasius: Discourses Against Arians, Book 2.، ص 79 ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
(69) Dionysius the Areopagite Celestial Hierarchy, 6.
(70) ركن 5، الباب 2، فصل 1، مقصد 1،2.
(71) Adv. Arian. 1:4:12.ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
(72) Adv. Arian. 2:21:62.ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
(73) Adv. Arian. 2:21:71.ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
(74) ACCS.
(75) ACCS.
(76) Commentary on the Psalms, 66:1.
(77) Letters, 55:2-3.
(78) Demonstrations by Syllogisms, Proof that the Divinity of the Savior is impassible.
(79) On Perfection.
(80) Homilies on Song of Songs, 13.ترجمة الدكتور جورج نوّار
(81) Rufinius of Aquileia: Apology for Origen, 1:6-7.
(82) Homilies, 27:4. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
(83) Comm. on The Gospel of Saint Luke, Sermon 1ترجمة: دكتور نصحي عبد الشهيد
(84) مقالات لطالبي العماد 13: 23.
(85) راجع للمؤلف: الاصطلاحان طبيعة وأقنوم في الكنيسة الأولى، 1987؛ طبيعة المسيح حسب مفهوم الكنيسة الأرثوذكسية غير الخلقدونية.
(86) ACCS.
(87) Of the Christian Faith, 2:9:82.
(88) Homilies on Leviticus, 9:4.
(89) Commentary on Tatian’s Diatessaron, 14.
(90) Homilies. 16:10.
(91) مقالات لطالبي العماد 13: 33.
(92) St. Chrysostom: In Colos., hom 4
(93) Commentary on the Letter to the Colossians.
(94) St. Chrysostom: In Colos., hom 4
(95) Letter to Pamachius against John of Jerusalem, 27.
(96) St. Chrysostom: In Colos., hom 4
(97) St. Chrysostom: In Colos., hom 4
(98) St. Chrysostom: In Colos., hom 4.
(99) Sermon on N.T. lessons, 12:5.
(100) St. Chrysostom: In Colos., hom 4.
(101) St. Chrysostom: In Colos., hom 5.
(102) St. Chrysostom: In Colos., hom 5.
(103) St. Chrysostom: In Colos., hom 5.
(104) St. Chrysostom: In Colos., hom 5.
(105) St. Chrysostom: In Colos., hom 5.
(106) St. Chrysostom: In Colos., hom 5.
← تفاسير أصحاحات كولوسي: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير كولوسي 2 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص تادرس يعقوب ملطي |
مقدمة الرسالة إلى أهل كولوسي |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/y3kdfxs