محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
المكابيين الأول: |
في هذا الأصحاح يخوض اليهود "حرب للرب ولمقدساته" فيعينهم الله وعندئذ يقومون بواحد من أعظم الأعمال في تاريخهم، وهو عيد التجديد والذي يعدّ الأحدث في التقويم اليهودي.
(المكابيين الثاني 8: 23-29)
1وأخذ جرجياس خمسة آلاف راجل وألف فارس منتخبين، وسار الجيش ليلا 2ليهجموا على معسكر اليهود ويضربوهم بغتة، وكان أهل القلعة أدلاء لهم. 3فسمع يهوذا فسار هو ورجال البأس ليضرب جيش الملك الذي في عمّاوس، 4وكان لا يزال متفرقا في خارج المعسكر. 5وانتهى جرجياس إلى معسكر يهوذا ليلا فلم يجد أحدا، فبحث عنهم في الجبال، لأنه قال: "إنهم لهاربون منا". 6فلما كان النهار، ظهر يهوذا في السهل ومعه ثلاثة آلاف رجل، إلا أنهم لم يكن معهم من الدروع والخوذ والسيوف ما يوافق مرادهم. 7ورأوا أن معسكر الوثنيين قوي محصن وأن الخيالة من حوله وهم مدرّبون على الحرب.
يقصد بأهل القلعة هنا أولئك اليهود المتأغرقين والمتعاونين مع القوات السلوقية والمتمركزين في القلعة السلوقية في أورشليم مع نظرائهم من الجنود السلوقيين، وهم الذين نصحوا جرجياس بعدم مواجهة اليهود مباشرة، وإنما الالتفاف حولهم للإطباق عليهم، وبما لهم من الخبرة بطبوغرافية المكان، فقد دلّوا السلوقيون على طريق داخل الجبل يجعلهم في موقع استراتيجي.
وبالمقارنة مع ما ورد عن هذه الموقعة في (2مكا 8: 24) نفهم أن جرجياس القائد السلوقي، كان يعمل هنا بالتنسيق مع نيقانور (القائد الثاني) وكانت الخطة تقضي بأن يهجم نيقانور من الشمال بينما يهجم جرجياس من الجنوب، ومن المحتمل أن يكون كل من جرجياس ونيقانور قد تقدما من جهة الساحل حتى عماوس، حيث حاول جرجياس القيام بحركة التفاف، ولكن يهوذا المكابي بجيشه الصغير والمسلّح تسليحًا خفيفًا، استطاع أن يحرز نصرًا مزدوجًا على الاثنين.
إذ أنه وبينما كان يهوذا متمركزًا بجيشه، سمع بوجود جيش جرجياس على مقربة منه داخل الجبل (ويهوذا أقدر بمعرفة دروب ومسالك الجبال أكثر من جرجياس). ومع أن السفر هنا وكذلك سفر المكابيين الثاني (8: 12-27) لم يذكر أن يهوذا حصل على هذه المعلومات بطريقة خارقة للطبيعة، إلاّ أن كاتب كتاب أخنوخ - وهو معاصر لتلك الحملة - يشير إلى ذلك، وربما أراد مقارنة المكابي بداود النبي. قارن: (أخنوخ90: 14)(1) مع صموئيل الثاني 5: 23- 25 وأخبار الأيام الثاني 14: 14-16).
فبادر يهوذا على الفور إلى مهاجمة جرجياس، وهي إحدى ميزات يهوذا العسكرية (كما سبق القول)، وفي الوقت ذاته تحرّك جرجياس تجاه اليهود، غير أنه لم يجدهم حيث ظن أن قلوبهم قد ضعفت فهربوا في الجبال.
ويقول يوسيفوس في تاريخه أن يهوذا المكابي قرر مهاجمة المعسكر بنفسه وأنه جعل رجاله يتناولون عشاءهم مبكرًا وبعد أن ترك نارا مشتعلة في معسكره في عماوس(2)، ثم حاول تتبعهم طوال الليل حتى الصباح، حيث نظر الجيشان أحدهما الآخر عن بعد، ولأول وهلة ظهر جيش جرجياس قويًا مخيفًا مقابل جيش المكابي (قارن مع صموئيل أول 17: 38-47)، ولكن الأخير خطب في جنوده وألهب حماسهم للقتال عن طريق الوازع الديني، وهي عادة مرتبطة ببدء المعارك.
هذا وبينما تشبه خطة يهوذا هنا: خطة يشوع (راجع يشوع 8: 6) فإننا نجد تشابها بين عمل كل من داود ويهوذا المكابي، راجع (أخبار الأيام الأول 14: 14-16 وصموئيل ثان 5: 23-25)
راجل: الجندي العادي (المشاه على أرجلهم).
فارس: أو الخيال وهو راكب الفرس، وهو أخف حركة وأعلى تدريبًا ودوره أهم في المعركة.
درع: هو اللوح المعدني أو الجلد القوي لحماية صدر الجندي من سهام العدو.
(مكابيين ثان 10: 1-8)
8فقال يهوذا لمن معه من الرجال: "لا تخافوا كثرتهم ولا تخشوا بطشهم. 9أذكروا كيف نجا آباؤنا في البحر الأحمر، حين تتبعهم فرعون بجيشه. 10فالآن لنصرخن إلى السماء، لعله يرضى عنا ويتذكر عهد آبائنا ويكسر الجيش أمامنا في هذا اليوم، 11فتعلم جميع الأمم أن هناك من يفدى ويخلص إسرائيل".
ما يزال حدث عبور البحر الأحمر هو محور حياة اليهود وتاريخهم، ويعد الانتصار الأعظم في سلسلة حروبهم وانتصاراتهم (خروج 14)، إذ يمثل لهم الكثير لا سيما فيما يتعلق بحصولهم على الحرية بعد العبودية المرة في مصر، والتي تلازمهم ذكراها عند كل مرة يأكلون فيها الفصح "على أعشاب مُرة" وبالتالي دخولهم في حياة جديدة. والمقارنة هنا بين الخطر المحدق بيهوذا بسبب حصاره بين قوات جرجياس ونيقانور، وخطر الاستعباد، كذلك كان بني إسرائيل محاصرين بين البحر وقوات فرعون التي تطاردهم. كما يلمّح السفر إلى خلاص إسرائيل من سنحاريب، حيث نجد صدى ل (الآية 11) في: (ملوك ثاني 19: 19؛ إشعياء 37: 20)(3).
ويلاحظ في (الآية 10) كيف يستعيض كاتب السفر عن لفظة الجلالة ب"السماء" بشكل واضح، فلم يقل لنصرخن إلى إلى السماء لعلها ترضى عنا (حيث يمكن أن يقال ذلك عن السماء بسكانها والعون الآتي منها) ولكنه يقول (السماء... لعلّه!). وهو ما يلاحظ أيضًا في (آية 24) .. وعاد اليهود، وهم يسبحون السماء ويباركونها قائلين: "إنه صالح وإن للأبد رحمته" وكما شرحنا في المقدمة فقد كانوا وقتئذ يفعلون ذلك احتشامًا وحياءً. وأماّ "عهد الآباء" الذين يطلبون تذكّره هنا، فإن شأنه في ذلك شأن جميع وعود الله، حيث يعدّ بمثابة رصيد روحي متروكًا لهم من قبل الله يسحبون منه وقتما شاءوا.
12ورفع الغرباء أبصارهم فرأوا اليهود مقبلين عليهم.13فخرجوا من المعسكر للقتال، ونفخ أصحاب يهوذا في البوق 14وشنوا القتال فانكسرت الأمم وانهزمت إلى السهل، 15وسقط بالسيف جميع الذين في المؤخرة، فتعقبوهم إلى جازر وسهول أدوم وأشدود ويمينا، وكان الساقطون منهم نحو ثلاثة آلاف رجل.
فوجئ السلوقيون، ويصفهم هنا بالغرباء (راجع التعليق على 3: 41) بالجيش اليهودي قادمًا: فتهيأوا للقتال وكذلك فعل اليهود، ولكنه من الواضح أن السلوقيين لم يتوقعوا شجاعة المكابي وبسالة رجاله، فروّعهم ذلك برغم تفوّقهم العسكري، لقد ظن السلوقيون أنهم قد خرجوا في نزهة لا حرب!! وأن الجيش اليهودي لا يعدو في حقيقته سوى عصابة غير نظامية، بالرغم من سماعهم عن انتصاراتهم السابقة. ويمكن أن ننظر إلى ما حدث باعتباره هزيمة للسلوقيين في الواقع، أكثر من كونه نصرًا لليهود، فعند دخول أرض الموعد، نبّه الله اليهود إلى أن الذي يحدث هو انهزام الأمم أمامهم بسبب شرّهم، لا برّ اليهود.
جازر: كلمة عبرية معناه (نصيب أو مهر العروس) وهي مدينة كنعانية تقع على مسافة 22 كم شمال غرب أورشليم، وعلى مسافة سبعة كيلومترات غرب عماوس (عمواس). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). إلى هناك تعقّب جيش المكابي جيش نقانور (1مكا 7: 45) وذلك في سنة 161ق.م.، وفي وقت آخر انتزعها من تيموثاؤس القائد العموني، ولكن بكيديس السلوقي استولى عليها وحصّنها تحسّبًا لمناهضة اليهود وذلك ضمن مدن أخرى (1مكا 6: 52) غير أن سمعان المكابي عاد فاستردها ثانية في سنة 141ق.م. حيث طهّرها وبنى له فيها بيتًا وأمّن الوثنيين الذين فيها، ثم جعلها مقرًا لابنه (1مكا 13: 43 - 48 و14: 7، 54). ومرة أخرى نرى التقابل بين عمل يهوذا المكابي وعمل داود النبي (راجع صموئيل ثان 5: 25 وأخبار الأيام الأول 14: 16).
ربما كان هناك بالفعل نقطة للسلوقيين في جازر تستخدم كملجأ للمطاردين في الحرب (انظر خريطة رقم 3) ويدل تحصين بكيديس لحصن جازر - كما سبق الاشارة - على أنه كانت هناك قلعة قديمة (1مكا 1: 33 و4: 61 و6: 7 و9: 52). والحفريات الحديثة للتنقيب عن الاثار توحي بأن أية نقطة دفاعية يونانية في جازر، ربما استخدمت تحصينات كنعانية سابقة، كانت ما تزال موجودة فوق الأرض، كما اكتشف موقعان هناك يُحتمل أن ينتميا إلى الموقع الدفاعي القديم، فقد اكتشف في طبقة تم تحديد تاريخها - من خلال الفخار الذي الذي عثر عليه - بأنها تعود إلى الفترة من 175-150 ق.م. كما اكتشف من خلال طبقة أخرى: إعادة تحصين بكيديس للموقع. وكذلك أمكن استنتاج وجود نقطة دفاعية ترجع إلى وقت نقانور وجرجياس، ومرحلة أخرى متأخرة تمثل انشاءات ضخمة تُنسب إلى سمعان المكابي(4). أمّا العالم Clermont-Ganneau فقد كشف عن جازر القديمة، ففي سنة 1873م. ووجد كتابة محفورة باليونانية والعبرية على أحد الصخور " تخوم جازرPEFQ 1873 " وهو المكان الذي أشار إليه سفر يشوع (16: 3). وكتب يوسابيوس أن جازر على بعد أربعة أو خمسة كيلومترات شمال نيكوبوليس (عماوس).
أدوم: كلمة عبرية (من آدم ومعناها أحمر) وجاءت في المخطوطات اليونانية Ιδυδαιας وقد سكن بني عيسو أو بني أدوم (الأدوميين) في نواحي الأردن بالقرب من أشدود وجازر، وقد سُميت المنطقة كلها أدوم وذلك لوجود صخور حمراء بها، وفي عصر المكابيين كان جرجياس هو قائد تلك المنطقة، وعند بيت صور في أدوم عسكر جيش ليسياس لمحاربة اليهود، ولكن يهوذا المكابي كسره هناك (آيات 28 - 34) وهناك حارب يهوذا أيضًا بنو عيسو لأنهم كانوا يضايقون اليهود حيث هزمهم وسلب غنائمهم (1مكا 5: 3) ومن هناك عبر جيش أنطيوخس الخامس مجتازًا وادي البطمة وعدلام ومودين حيث اشتبك مع اليهود (1مكا 6: 31 و2 مكا 13: 14).
أشدود: كلمة عبرية (معناها حصن أو قوة). تبعد عن يهوذا شمالًا بمسافة أربعة كيلومترات ونصف، وكانت حتى عصر المكابيين مدينة فلسطينية من بين المدن الخمس الفلسطينية (أشدود/عقرون/غزة/أشقالون/جت) وكان فيها معبد الإله "داجون" اشهر آلهة الفلسطينيين، ولكنها أصبحت هيلينية خلال الفترة من 333 - 63ق.م. حين تحول اسمها إلى أزوتوس Αζωτος (بحسب المخطوطات اليونانية) كانت أشدود حصنًا قويًا، وبينما لم يستطع داود اخضاعها فيما يبدو فإن الآشوريين احتلوها أكثر من مرة منزلين عقابًا بأهلها، وفي عصر المكابيين استولى عليها يهوذا ويوناثان وطهراها من الأوثان (1مكا 5: 68 و10: 84) وفي عصر الرومان قدمها اغسطس قيصر هدية لسالومى أخت هيرودس، وفي القرن الرابع كانت مقر أسقفية.(5) ويوجد مكا نها الآن قرية صغيرة على بعد 18 ميلًا شمال شرق غزة.
يمنيا: الكلمة صيغة يونانية للإسم العبري "يبنة" أو "يبنئيل" وقد ذُكرت في (2 أخ 26: 6) تحت اسم "يبنيت" ومعناها "الله يبني". ووردت في النسخ اليونانية هكذا Ιαμνεια. وهي مدينة تقع على حدود يهوذا الشمالية على مسافة 21 كيلومترًا إلى الجنوب الغربي من يافا، ومسافة سبعة كيلومترات شرق شاطئ البحر المتوسط على طريق غزة شمال أشدود. وقد هاجمها يهوذا المكابي بعد ذلك الوقت بقليل نظرًا لمضايقة أهلها لليهود، وعند يمنيا هُزم اثنان من قواد المكابي، وفيها مرفأ هام حيث كانت تعد عاصمة المنطقة البحرية. وفي سنة 90م قام علماء اليهود بعقد مجمع حددوا فيه الأسفار التي يقبلونها فيما يعرف بقانون العهد القديم.
سهول أدوم وأشدود ويمنيا: يبين ترتيب هذه الأسماء أنه كان هناك " لسان" من الأرض تسيطر عليه أدوم كان يمتد من مريشة ويفصل اليهودية عن المدن الفلسطينية (انظر خريطة رقم 4).
ورغم الهزيمة التي ألحقها المكابي بجيوش السلوقيين إلاّ أن المعركة كانت ما تزال قائمة ولم يُزل الخطر بعد. أمّا عن الثلاثة آلاف الذين سقطوا، فهو رقم غير مبالغ فيه، لا سيما وأن يهوذا قد استولى على الغنائم فيما بعد (آية 23).
16 ثم رجع يهوذا وجيشه عن تعقبهم 17وقال للشعب: "لا تطمعوا في الغنائم، لأن الحرب لا تزال قائمة علينا. 18فإن جرجياس وجيشه بالقرب منا في الجبل، فاثبتوا الآن أمام أعدائنا وقاتلوهم، وبعد ذلك تأخذون الغنائم بأمان". 19ولم ينته يهوذا من هذا الكلام حتى ظهرت فرقة تتشوف من الجبل. 20فرأت أن رجالهم قد انهزموا وأن المعسكر قد أحرق، كما دلهم على ذلك الدخان المتصاعد. 21فلما عاينوا ذلك خافوا خوفا شديدًا. وعند رؤيتهم جيش يهوذا في السهل مستعدا للقتال، 22فرّوا جميعا إلى أرض الفلسطينيين. 23فرجع يهوذا إلى غنائم المعسكر، فأخذوا ذهبًا كثيرا وفضة وأرجوانا بنفسجيا وأرجوانا بحريا وأموالا جزيلة.24وعاد اليهود، وهم يسبحون السماء ويباركونها قائلين: "إنه صالح وإن للأبد رحمته". 25وكان في ذلك اليوم خلاص عظيم في إسرائيل.
كان يهوذا المكابي ثاقب الفكر، فلم ينتش سريعًا للنصر ويلتفت إلى الغنائم، فالحرب ما تزال مستمرة، بل توقع بحسّه العسكري هجومًا مضادًا، ولذلك فإن الانشغال بالغنائم قد يُضعف الاستعداد القتالى لجنوده، فمن جهة سوف يتراخون بسبب الغنائم، ومن جهة أخرى سوف يتلهّون بها في حين يهجم الأعداء بغتة، (راجع 2مكا 8: 26).
وقد رصدت الفرقة السلوقية التي كانت تتشوّف (تراقب عن بعد من مكان عال) ما حدث فروِّعت عندما شاهدت آثار الهزيمة وعلامات الدمار، (يشوع 8: 8،19،20) وكذلك تحُفّز الجيش اليهودي للقتال، وعند ذلك قرر الجيش السلوقي أن يلوذ بالفرار.
وبالرجوع إلى (2مكا8) يتضح أن يهوذا أحرز النصر على كل من جرجياس ونيقانور، فقد قهر القوة التي مع نقانور في عماوس، ثم على تلك التي مع جرجياس جنوبي عماوس (آية 17) فإذا كان جرجياس كان قد عُيّن قائدا في أدوم، فإن الهجوم كان سيتّجه من الجنوب بالتنسيق مع نقانور الآتي من الشمال، ولكنه من المحتمل أن كليهما قد تقدما معًا من الساحل حتى عماوس.
في مقابل ذلك قسم يهوذا قواته للهجوم على نقانور بثلاثة آلاف جندي من الستة الذين معه (2مكا 8: 16) بينما ترك الباقي لحماية مؤخرة جيشه ضد هجوم جرجياس، والذي لم يحدث أصلًا (كما سبق الاشارة) فقد أدرك جرجياس أن نقانور يهرب، فهرب هو الآخر تاركا معسكره لينهبه اليهود بسهولة. أما نيقانور فقد هرب متنكرًا في ثياب بسيطة.
يقول يوسيفوس أن السلوقيين قد تغلبوا في البداية وقتلوا بعضًا من جنود يهوذا المكابي، حيث اتضح فيما بعد وهم يدفنوهم أنهم كانوا يحملون أصنامًا صغيرة ذهبية داخل ثيابهم (مثل تعاويذ) حيث اعتبر يهوذا أن ذلك هو السر وراء مقتلهم، ويضيف يوسيفوس أن اليهود بعد كسرهم للقواد الثلاثة، قاموا بسلب أموال التجار الذين أملوا أن يشتروا اليهود كوعد السلوقيين لهم، فقد عكس الله ظنونهم. ثم قام يهوذا بتقسيم الغنائم بالتساوي بين جنوده كما أرسل أنصبة للمحتاجين من الشعب مثل الأرامل والأيتام (زوجات وأولاد الجنود القتلى) والفقراء.
ومن بين الذين كانوا مع الجيش السلوقي المهاجم " فيكس" القائد المعّين من قبل أنطيوخس أبيفانيوس على اليهودية، والذي هرب من القتال مختبئًا في منزل بإحدى القرى، وأغلق بابه عليه، فقام عندئذ يهوذا بإحراق البيت فمات فيكس، وهو الذي كان قد عذّب الشيخ ألعازر الكاهن وقتله (كما سيجيء).
ومن بين الغنائم يُذكر الأرجوان Purpule وهو الثياب الثمينة التي يرتديها الملوك ورؤساء الكهنة والأمراء وُعلية القوم، والأرجوان في الواقع هو صبغة ذات ألوان (مثل الأحمر والقرمزي والبنفسجى) وهناك نوعان منه أحدهما مصنوع من الأكاسيد المستخرجة من التربة، والآخر هو البحرى والذي يستخرج من حيوانات بعض الأصداف البحرية. وأكثر من اشتهروا بصنع هذا الأرجوان هم سكان صور، وهو عالي التكلفة بطبيعة الحال، وكانت ثياب هرون الكاهن منه (سيراخ 45: 12) كما سنقرأ لاحقًا كيف أرسل الإسكندر بالاس الأرجوان إلى يوناثان المكابي بمناسبة تعيينه رئيس كهنة (1مكا 10: 20،62،64) ونقرأ كذلك عن الغني الذي يلبس الأرجوان مقابل لعازر الذي يتضوّر جوعًا (لوقا16: 19).
ونلاحظ في (الآية 24) هنا أن اليهود يشيرون إلى الله مرة أخرى ب "السماء" ويباركونها " يباركونه"، ومن المرجح أن يكونوا قد أنشدوا في هذا التسبيح مزامير الهلليل (113 - 118) راجع (أخبار الأيام الأول 16: 8-36 وأخبار الأيام الثاني 20: 21 ومزامير 106،107،136) وهي تهلل لانتقام الله لشعبه عندما يصبح صالحًا، والذي يضل أحيانا.
صار خلاص في إسرائيل، ومع أن الصراع لم يكن قد حسم بعد مع السلوقيين، إلاّ أن تلك الانتصارات كانت حلقة ذات مكسب هام في ذلك الصراع، ويمكنا أن نرى فيها أيضًا صدى لانتصارات داود، راجع (صموئيل أول 19: 5 وصموئيل ثان 23: 10،12 وأخبار الأيام الأول 11: 14).
وبعد النصر على جرجياس ونقانور ظلت اليهودية متحررة من قوة السلوقيين حتى حملة ليسياس (4: 28-35) وحيث أن الحامية الموجودة في قلعة عكرة كانت قد أصبحت أقل قدرة على التعامل مع قوة يهوذا (قارن 2مكا 8: 8) وأصبح اليهود الأتقياء الذين لم يتمردوا مع يهوذا، يشعرون بالحرية في اتباع تعاليم الشريعة علنًا، ومن هنا ربما كانت النتيجة المباشرة للانتصار على جرجياس ونيقانور هي الاحتفال بيوم 24 آب المذكور في كتاب " مجلات تعانيت Megillat Ta'anit " حيث يذكر الآتي: " في الرابع والعشرين من الشهر عُدنا إلى شريعتنا". ولا يمكن أن يكون هذا اليوم تذكارا لثورة متتيا لأنه لم ينتظر من شهر كسلو في الشتاء، إلى منتصف الصيف (بدء الاضطهاد) ليقوم بثورته.
26ووفد كل من نجا من الغرباء على ليسياس وأخبروه بكل ما حدث. 27فلما سمع ذلك بهت وانكسر عزمه، لأن الأمور لم تجر لإسرائيل كما كان يريده ولم تؤد إلى النتيجة التي أوصى بها الملك.28وفي السنة التالية، جمع ليسياس ستين ألف راجل منتخبين وخمسة آلاف فارس لمحاربة اليهود. 29فأتوا إلى أدوم، ثم عسكروا ببيت صور، فلاقاهم يهوذا في عشرة آلاف رجل. 30ولما رأى ذلك الجيش القوي، صلى فقال: "مبارك أنت يا مخلص إسرائيل الذي حطم بطش الجبار عن يد عبده داود، وأسلم معسكر الفلسطينيين إلى يد يوناثان بن شاول وحامل سلاحه، 31فأقفل كذلك على هذا الجيش في أيدي شعبك إسرائيل، وليخزوا مع جنودهم وفرسانهم. 32أحل عليهم الرعدة، وأذب ثقتهم بقوتهم، وليتزعزعوا بانسحاقهم. 33أسقطهم بسيف محبيك، وليسبحك بالأناشيد جميع الذين يعرفون اسمك". 34ثم التحم القتال، فسقط من جيش ليسياس خمسة آلاف رجل، سقطوا أمام اليهود. 35فلما رأى ليسياس انكسار جيشه وبسالة جيش يهوذا وأنهم مستعدون بشجاعتهم إما للحياة وإما للموت، ذهب إلى أنطاكية وجمع جيشا من الغرباء ليعود بجيش أكثر إلى اليهودية.
كان ذلك في بداية سنة 164ق.م. (راجع 3: 37) حين أبلغ الناجون من القتال (وُيسمون هنا بالغرباء ويستخدم السفر هنا الكلمة اليونانية التي تعني الفلسطينيين) ليسياس بأن الحملة على المكابيين قد فشلت وأن القوات السلوقية قد مُنيت بخسائر جسيمة، إذ وقعت فريسة سهلة لجيش المكابي، وهكذا حسب ذلك فشلًا له هو في المهمة المكلف بها من قبل انطيوخس للقضاء على المقاومة اليهودية. أُنظر خريطة رقم (6).
ومن ثمّ فقد كان لزامًا عليه أن يتولى ذلك بنفسه، ليحقّق رغبة الملك من جهة وليثأر لكرامته من جهة أخرى. فجمع حشدًا ضخمًا من الجنود لا يتناسب مطلقًا مع الجيش المكابي، حيث بلغ السلوقيون: ستين ألف مقاتل، مقابل عشرة آلاف مع يهوذا، وكان معه في المعركة السابقة أمام جرجياس ونيقانور ثلاثة آلاف فقط، ولكنه بعد انتصاره عليهما جمع إليه آخرين(6).
وتوحي زيادة عدد جنود يهوذا المكابي في هذه المرة مقارنة بالسابقة، بزيادة عدد مؤيديه من غير المقاتلين، بحيث تمثل هذه الزيادة نسبة مئوية كبيرة من التعداد اليهودي، وقد جاء هذا التأييد واسع النطاق ليس نتيجة لانتصارات المكابي فحسب، وانما لأنه أصبح من الممكن لجماعات اليهود الأتقياء - والتي كان قد لحقها التمزيق الشديد - أن تتحد لأنها كانت ترى في انتصار ليسياس كارثة كبرى على أمتهم ودينهم، فما أن يزول خطر ليسياس حتى تتفرق القوات من حول يهوذا، لأنهم كانوا لا يرغبون في القتال بشكل عام، بل أملوا في تدخل مباشر من الله، ويلاحظ في (2مكا 11: 29-32) أن منلاوس الكاهن الخائن قد راسل السلطات السلوقية لانهاء الاضطهاد.
وتمركز جيش ليسياس في أدوم باعتبارها المنطقة المجاورة لليهود يسكنها الوثنيون، وكان معسكرهم "بيت صور" حيث توجد هناك حامية سلوقية (6: 7)، ويبدو أن الجيش السلوقي قد دار حول اليهودية من جهة السهل، من الجنوب عبر أدوم والمدينة الحدودية "بيت صور"، إذ تُمثل جبال اليهودية مشكلة كبيرة لهم، من حيث عدم درايتهم بها مما يدَعهم فريسة سهلة لليهود، حتى جاءوا إلى بيت صور.
بيت صور: Bethzur اسم عبري معناه (بيت الصخرة "الإلهية") وهي من أقدم مدن العالم وتبعد عن صيدا من جهة الجنوب 40 كم، وإلى الشمال من حبرون سبعة كيلومترات، وكانت تمثل حصنًا عظيما على الطريق بين أورشليم وحبرون، كما كانت من أقوى الحصون في العصر الفارسي، حيث بذل الإسكندر جهدًا مُضنيًا استمر سبعة أشهر، في سبيل اسقاطها والاستيلاء عليها، وعندها أصبحت إحدى الحصون السلوقية، ولمّا أساء أهلها معاملة اليهود جاء يهوذا المكابي وانتقم منهم، واستولى عليها فأصبحت من ثمّ حصنًا يهوديًا ضد الأدوميين، وذلك بعد تطهيرها من الأصنام وتحصينها (5: 15 و6: 7،26) ولكن ليسياس أسقطها من جديد سنة 163 ق.م. ليعيدها حصنًا سلوقيًا (6: 31، 49،50 و2 مكا 13: 19) وبعد أن خفت قبضة ليسياس عليها عادت لليهود، ولكن بكيديس أكد الاستيلاء عليها مرة أخرى ليجعلها سلوقية، كما أخذ أبناء رؤسائها رهائن (1 مكا 9: 52،54) حيث سميت "الحصن الثالث" وكانت ملجئا للمرتدين من اليهود باعتبارها مدينة هيلينستية وذلك في سنة 154 ق.م. (1مكا10: 14) وعندما وهب أنطيوخس السادس لسمعان المكابي إدارة مساحة كبيرة من المملكة السلوقية، كانت صور حدودها الشمالية، فأعاد سمعان تحصينها في نفس العام (1 مكا 11: 65 و13: 33 و14: 7) وظلت تحت السيادة المكابية حتى استولى عليها الرومان سنة 64 ق.م. ويبدو أنها كانت مدينة غنية إذ باع فيها ألكيمس نفائس الهيكل التي استولى عليها (2 مكا4: 32،39).
ربما حدث ذلك بسبب أمطار الشتاء، ولكن الأرجح أن ذلك الطريق وحده كان يتيح له دخول اليهودية -أرض العدو- بعدما يكون قد عبر قمم الجبال، لأن خطأ السماح للعدو باتخاذ وضعه أعلى التلال، كان قد أوقع الهزيمة بسلفه، وكان الأدوميون -كما سبق القول- أعداء تقليديين لليهود، ولا سيما اليهود التقاة (1مكا 4: 61 و5: 3،65،66 و6: 31 و2مكا 10: 15-23) في حين كانوا رعايا مخلصين للسلوقيين، ويوحي النص بأن بيت صور تابعة لأدوم، ولكنها في الواقع تابعة لليهودية، إذ نقرأ في سفر المكابيين الثاني أن ليسياس قد حاصر بيت صور باعتباره حصنًا مكابيا في ذلك الوقت (2مكا 11: 5). وبالتالي فلا صحة للرأي القائل بأن يهوذا قد استولى على بيت صور من أدوم مما دفع ليسياس لشن القتال عليه، إذ أن يهوذا لم يفعل ذلك إلاّ بعد انسحاب ليسياس حيث أكّد تبعيتها لليهودية.
استخدمت هذه العبارة قبلًا في (أخبار الأيام الأول 29: 10 وطوبيا 3: 11 ومزمور 119: 12.. وغيرها) وقد أصبحت مع الوقت الصيغة المحببة لدى اليهود في الصلاة.
أما عن السنة التي جمع فيها ليسياس جيوشه، فإن السفر هنا يميز بين " العام الشمسي اليوناني etos " و" المدة الزمنية البالغة عامًا كاملا emiautos " فقد تعطي الكلمة العبرية " šnh " أيا من هذين المعنيين، وأن كانت المدة الزمنية البالغة عامًا كاملا يمكن التعبير عنها بوضوح تام ب " snt ymym " (تكوين 41: 1) أو ب " ymym" وحدها (لاويين 25: 29).
وخلال مدة العام التي تلت هزيمة جرجياس ونيقانور، أعد ليسياس حملة جديدة ثم بدأ الزحف، وربما كانت هزيمتهما في صيف أو خريف سنة 165 ق.م. حيث أنها حدثت بعد رحيل أنطيوخس شرقًا، فهل استغرقت الترتيبات والحملة الفترة ما بين صيف أو خريف سنة 165 وشهر كسلو (ديسمبر) 164 من العام التالي.؟ لذلك فإن المدة بين انسحاب ليسياس وعيد التدشين: تعتبر كبيرة، كما كان من بين الأسباب التي دفعت ليسياس إلى القيام بحملة على اليهودية، هي حساسية موقع اليهود بالنسبة للبطالمة لا سيما وأن الملك ومعه نصف الجيش كان بعيدا عن البلاد.
انتهت حملة ليسياس في أذار (مارس) سنة 164 (أواخر الشتاء) وصحب ذلك إعلان بانهاء الاضطهاد ومنح اليهود عفوا عاما. وكان على تريفون Tryphon أن يقود حملة في الشتاء (1مكا 13: 20-24). واقترب كل من ليسياس وتريفون من أورشليم من جهة الجنوب الأكثر جدبًا، ربما لتجنّب أمطار الشتاء بقدر الامكان. أُنظر خريطة رقم (6).
على أية حال فإن العام التالي هنا ليس بحسب التاريخ السلوقي، لأن العام التالي لرحيل أنطيوخس بحسب ذلك التاريخ، لم يبدأ حتى ربيع سنة 164 ق.م. عندما كانت الحملة قد انتهت.!!
مرة أخرى يؤكد يهوذا المكابي لجنوده، أن العامل الفاعل في هذه المعركة هو الله لأنه سيقف معهم وبالتالي فهو أقوى من تلك القوة المعادية(7)، ويضع يهوذا نفسه في نفس موقف داود النبي ويوناثان مقابل جيش الأعداء، فبالرغم من عدم التكافؤ ما بين داود الفتى الصغير - والذي لم يقدر على ارتداء الثياب العسكرية - وجليات المصارع الخطير، فقد صرع داود هذا العدو الأسطورة، ولذلك فإن يهوذا يرى المشهد يتكرر ثانية بشكل مختلف، وها هوذا ينسب النصر إلى الله مسبقًا، ويرى في هزيمة أولئك الأعداء مجدًا لاسمه القدوس بين الشعوب. وقد ورد ذلك في (صموئيل أول 17: 4،48) أما انتصار يوناثان فمذكور في (صموئيل أول 14: 1-15).
فلماّ اشتبك الجيشان سقط خمسة آلاف رجل من جنود ليسياس، ويعني تعبير أنهم "سقطوا أمام اليهود" أن اليهود هم الذين قتلوهم، وقد استخدم المترجم اليوناني للسفر كلمة: epesonكترجمة للكلمتين العبريتين:(سقطوا wayyippelu وصُرعوا "هُزموا" wayyinnagepu). ويذكر يوسيفوس أن اليهود لم يشتبكوا إلاّ مع طليعة الجيش، ولكن الأصل العبري يفيد " سقط خمسة آلاف من طليعة الجيش". هذا وقد أتاح لليهود وجودهم على أرض المعركة، احصاء عدد القتلى، والذي زاد عن التقدير الأولي (2مكا11: 11،12).
ولما رأى ليسياس أنه لا طاقة له هو وجيشه بهؤلاء المستميتين وبهرته شجاعتهم: آثر العودة مع جنوده وإلاّ تضاعف القتلى والخسائر. وهنا مال ليسياس إلى مصالحة اليهود، لا سيما عندما سمع بأن فيلبس قد استولى على الُملك في أنطاكية، وربما كان في نيته العودة إلى اليهود من جديد بعد استرداد الملك (2مكا11).
اعتقد ليسياس في المراحل الأولى من حملته أنه باستطاعته سحق قوة يهوذا المكابي، ولذلك لم يستجب لالتماس منلاوس الكاهن في التصالح مع اليهود، فلما هُزم في بيت صور اتصل به وبجماعته، ورأى الطرفان أنه لا جدوى من مواصلة الحرب، لا سيما وقد ظن منلاوس أن انتهاء الحملة سيحتم على المتمردين التخلّى عن تمردهم فورا، وحينئذ وافق.
وكانت شروط ليسياس هي القاء السلاح، وقبِل ذلك عدد كبير من الجنود، فانخفضت قوة يهوذا مما أقنع ليسياس بترك المنطقة دون خوف، على أن يعود في العام التالي 163/162 بجيش أكبر (آية 35).
هذا ويتذكر اليهود يوم 28 اذار (كسنتكس) عام 164 كنهاية للاضطهاد، ومنذ ذلك التاريخ وحتى عيد التدشين كانت تجري عملية الترميمات واعادة البناء.
36فقال يهوذا وإخوته: "ها إن أعداءنا قد انسحقوا، فلنصعد الآن لتطهير الأقداس وتدشينها".37فاجتمع كل الجيش وصعدوا إلى جبل صهيون.38فرأوا المقدس مقفرا والمذبح منجسًا والأبواب محرقة، وقد طلع النبات في الأفنية كما يطلع في غابة أو جبل من الجبال، والغرف مهدومة. 39فمزقوا ثيابهم وناحوا نوحا عظيما وحثوا على رؤوسهم رمادا. 40وسقطوا بوجوههم على الأرض ونفخوا في أبواق الهتاف فصرخوا إلى السماء.
يؤكد يهوذا المكابي بأن قوات ليسياس لم تمض عنهم إلاّ بسبب عجزهم عن تحقيق أغراضهم، ويأتي بعد ذلك عامل آخر هو الأحداث التي تجري في أنطاكية. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). ويشير اجتماع الجيش كله إلى يهوذا (آية 37) إلى أن الغالبية العظمى من التقاة قد استجابوا للمبادرة الحشمونية، فصعدوا إلى جبل صهيون (جبل الهيكل / إشعياء 18: 7 ومزمور 74: 2؛ يوئيل 2: 1).
أما الوصف الوارد هنا عن القدس والذي يأتي عن شهود عيان، فهو يصوّر الحال الذي آل إليه الهيكل، ويؤكد ذلك التعبير "العاطفي" أن النبات قد طلع في الأفنية (آية 39). وقد اقفر الموضع بسسب طرد السلوقيين واليهود المتأغرقين لمن فيه (1مكا 1: 39 و3: 45).
لقد كان المنظر مؤلمًا للغاية، إذ غطت المكان آثار الدمار والخراب، وبالأمس القريب كانت الذبائح تُساق والأبواق تصيح والبخور يتصاعد والدموع تسكب في حضرة الله، ومئات من الكهنة يتحركون في كافة أرجاء القدس ومجد الرب يهيمن على المكان.
أما الآن فقد أصبح مهجورًا خربًا، ناهيك عن النجاسة التي لحقت به من جراء اقامة تمثال ل"زيوس" ومذبح وثني فوق مذبح المحرقة، ودم الخنازير الذي لوث أروقة الهيكل. ويذكّر ذلك بما ورد في (مزمور 74) أطلقوا النار في مقدسك ودنسوا للأرض مسكن اسمك، قالوا في قلوبهم لنفننهم معًا.. أحرقوا كل معاهد الله في الأرض.."
41حينئذ أوصى يهوذا بعض الرجال بمحاربة الذين في القلعة، ريثما يطهر الأقداس. 42واختار كهنة لا عيب فيهم من ذوي الغيرة على الشريعة، 43فطهروا الأقداس وذهبوا بالحجارة المدنسة إلى مكان غير طاهر. 44ثم تشاوروا في أمر مذبح المحرقات المدنس، وتساءلوا ماذا يصنعون به. 45فخطرت لهم فكرة صالحة أن يهدموه، لئلا يكون لهم عارا، وقد دنسته الأمم فهدموه.46ووضعوا حجارته في جبل البيت في مكان لائق، إلى أن يأتي نبي يجيب عن أمرها. 47ثم أخذوا حجارة غير منحوتة، وفقًا للشريعة، وبنوا المذبح الجديد على رسم الأولى. 48وأعادوا بناء الأقداس وداخل البيت وقدسوا الأفنية.49وصنعوا آنية مقدسة جديدة وأدخلوا المنارة ومذبح البخور والمائدة إلى الهيكل. 50وبخروا على المذبح وأوقدوا السرج التي على المنارة، فكانت تضيء في الهيكل. 51وجعلوا الخبز على المائدة ونشروا الستائر وأتموا جميع الأعمال التي عملوها. 52 وبكروا في اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع وهو كسلو في السنة المءة والثامنة والأربعين 53 قدموا ذبيحة بحسب الشريعة على مذبح المحرقات الجديد الذي صنعوه.
رغم انتصارات يهوذا المكابي وصعوده هو ورجاله إلى ربوة صهيون (جبل الهيكل)، إلاّ أن الوجود السلوقي في القلعة كان ما يزال يمثل تنغيصًا لهم وخطرا يتهدّدهم، كما أن العفو العام لم يشتمل على تصريح بإعادة العبادة في الهيكل (2مكا 11: 29-31 قارن بالخطاب الوارد في 2مكا 11: 24، 25) وربما كانت تلك الحامية السلوقية قد منعت يهوذا من ذلك. ومن هنا أرسل المكابي فرقة من الجنود تناوش الحامية التي هناك حتى تشاغلهم عما يدور في الهيكل من تجديد وتطهير.
وعند بدء التطهير أتى يهوذا بكهنة لا عيب فيهم (لاويين 21: 17-23) وجاءت في العبرية "تميميم"، وباليونانية αμωμους. فنزعوا "حجارة التدنيس"، ولا يُعرف بالضبط معنى التعبير، هل هي بعض المباني أو المذابح التي أقامها الوثنيون للإله زيوس أو بعض حجرات استخدموها في الطقوس الوثنية؟ إلاّ أنه ومهما كان من أمر هذه الحجارة، فقد حسم الأمر بإلقائها في مكان بعيد، وربما كان "وادي قدرون" (وادي هنوم) وهو الوادي الكائن بجوار الهيكل وكانت تلقى فيه القمامة والقاذروات، وفيه أُلقيت من قبل التماثيل التي ضلّ ورائها بني إسرائيل زمانًا (مكان غير طاهر/ آية 43). أكدت المشنا هذا الفعل إذ ورد: " ... في الجانب الشمالي الشرقي دفن أبناء الحشمونيين حجارة المذبح الذي دنسه ملوك اليونان" (مدوت 1: 6).
غير أن المشكلة الحقيقية التي واجهتهم هي حجارة مذبح المحرقات والتي تنجست بإقامة مذبح وثني فوقها قدمت عليه ذبائح وثنية، إذ أنه وبحسب ما ورد في الشريعة، تحتم على اليهود أن يهدموا أي مذبح في نطاق أرض الموعد يكون قد تنجس بعبادة الأوثان، على ألاّ يفعلوا ذلك بمذبح الرب!، وينطبق هذا على حالتهم تمامًا (تثنية 12: 2-4). وتمثلت المعضلة في أيهما أقوى: التقديس السابق (في عهد سليمان) أم التدنيس اللاحق (من خلال السلوقيين)!! ثم قرّ رأيهم (مشورة صالحة) على جمعها في مكان ما، في جبل الهيكل إلى أن يأتي نبي يخبرهم عما يصنعونه بها، إذ لم يكن هناك نبي كما كان في السابق، لقد كان آخر نبي عرفوه هو ملاخي. هذا وقد أشار السفر مرارًا إلى توقف النبوة (9: 37 و14: 41 وما بعده) راجع أيضًا (مزمور 74: 9؛ 77: 9 ومراثي 2: 9 وحزقيال 7: 26). وبهذا لم يفعلوا هنا ما يُفعل في حالة المذبح الوثني. إذ كان يجب سحق حجارته (ملوك ثان 23: 12 قارن مع 21: 5 و23: 15 وأخبار الأيام الثاني 34: 4،7)
ثم أخذوا حجارة جديدة غير منحوتة كما يقضي التقليد الكتابي (خروج 20: 25) وبنوا مذبحًا مكانه، ثم رموا ما تهدّم وأصلحوا ما فسد وأكملوا ما ضاع، وُيقصد بالتقديس الوارد هنا في (آية 47): التطهير لا المسح بالزيت، كما في خروج 30: 22-29 و40: 9) (8). أما الآنية التي صنعوها فهي تلك التي يُحمل فيها البخور والماء والدم والسكائب والملح، ثم الرفوش والملاقط والسلالم المتحركة لإنارة المنارتين، وغيرها. ومن المحتمل أن يكونوا قد رفعوا الأجزاء القابلة للنقل مثل المنارتان ومذبح البخور ومائدة خبز الوجوه، وهي أجزاء يمكن تحريكها بالفعل، فربما كانوا قد احتفظوا بها منذ وقت تدنيس الهيكل حتى اعادة تدشينه، بينما يمكنهم بسهولة تغيير الستائر، والتي تفصل بين موضع وآخر وعلى الأبواب وغيرها، وبذلك عوّضوا الخسائر الناتجة عن اساءة السلوقيين إلى الموضع (1مكا 1: 22،4: 28) راجع أيضًا (خروج 25: 31 - 39 و30: 1 - 10 و25: 23- 30).
ويشير يوسيفوس إلى أنهم اتبعوا في التدشين الطقس الذي أتمه موسى في تدشين الخيمة، وربما كانوا قد أحضروا في ليلة 25 كسلو: الشمعدان ذو الُشعب ومذبح البخور والمائدة إلى القدس الداخلي، وقدموا البخور وأضاءوا السرج ووضعوا خبز التقدمة، وأما الذبيحة فقد أحضروها في صباح اليوم التالي، وبينما عند هذه المرحلة في وقت كل من موسى وسليمان، نزلت نار من السماء على الذبيحة كدليل على الحضور الإلهي، "الشاكيناه" (خروج 40: 22-27 ولاويين 9 وأخبار الأيام الثاني 4: 19،20 و5: 1 و7: 1) هكذا كان يهوذا ينتظر ومعه الحشمونيين، معجزة من هذا القبيل، ومن ثم قام الكهنة باشعال النار وتقديم الذبيحة (آية53) حيث اقتدحوا النار من حجارة ساخنة أو صوّان (2مكا10: 3) وقد اختار شيوخ اليهود الأجزاء التي تتلى من الشريعة في هذه المناسبة (سفر العدد 7: 1-8: 4).
ولا شك أنه كان منظرا مبهجًا أن تضاء المنارتان بعد ذلك الظلام الدامس الذي عاش فيه الهيكل وبالتالي الأمة (أخبار الأيام الثاني 4: 20) وكان ذلك يعبر عن الأمل في عودة الحضور الإلهي(9)، وكذلك البخور الذي رُفع، والأبواق التي انطلقت أصواتها تعلن استئناف العبادة في الهيكل. وكان عمل الكهنة في الهيكل يبدأ قبل الفجر.
52وبكروا في اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع، وهو كسلو، في السنة المئة والثامنة والأربعين، 53وقدموا ذبيحة بحسب الشريعة على مذبح المحرقات الجديد الذي صنعوه. 54وفي مثل الوقت واليوم الذي فيه دنسته الأمم، في ذلك اليوم دشن بالأناشيد والعيدان والكنارات والصنوج. 55فجثا كل الشعب وسجد وبارك السماء التي وفقته. 56وأتمّوا تدشين المذبح في ثمانية أيام وقدموا المحرقات بفرح وذبحوا ذبيحة السلامة والحمد. 57وزينوا واجهة الهيكل بأكاليل من الذهب وبشارات، وجددوا المداخل والغرف وجعلوا لها أبوابا. 58فكان عند الشعب سرور عظيم جدًا وأزيل تعيير الأمم. 59ورسم يهوذا وإخوته وجماعة إسرائيل كلها أن يعيد لتدشين المذبح في وقته سنة فسنة مدة ثمانية أيام من اليوم الخامس والعشرين من شهر كسلو، بسرور وابتهاج.
يعد تطهير الهيكل وتدشين المذبح، وهو ما يسمى اصطلاحًا بعيد التجديد، من أهم الأحداث في تاريخ اليهود، وقد أصبح عيدًا قوميًا وشعبيًا بقدر أهميته الدينية، إذ ارتبط العيد بالانتصارات المتلاحقة التي أحرزها اليهود على السلوقيين الذين دنّسوه، محاولين محو الهوية الدينية اليهودية.
يلاحظ أنه رغم انتهاء حملة ليسياس في الربيع، إلاّ أن تطهير الهيكل تم في الخريف (ديسمبر) ولم يكن يهوذا بالطبع ينتظر أمرا ملوكيا من أنطيوخس للسماح له بذلك، ويبدو لنا أن هذا التأخير كان بناءا على رغبة اليهود التُقاة (الحسيديين ولا سيما القادة الدينيين) والذين رأوا أن ينتظر الشعب حتى يحقق الله النبوات عن غزو أنطيوخس لمصر (دانيال 11: 40-45/أ) وقبل أن يحدث زمان الضيق الذي لم يكن مثله (دانيال 12: 1) وحدوث الزلازل والكوارث الطبيعية، الُمشار إليها في سفر موسى الأبوكريفي (10: 1-6) وينتهي عهد الهيكل المصنوع بيد إنسان، وتأتي نهاية الاضطهاد وينزل بأنطيوخس حكم البلاء (دانيال 7: 11،22،26؛ 11: 45/ب) وعقابا ينزل بالأمم (سفرموسى 10: 1-6) واليهود الأشرار (أخنوخ 90: 26،27) وتكون نهاية إمبراطورية السلوقيين وبداية إمبراطورية القديسين الأبدية (دانيال 7: 11-14،22،26،27؛ أخنوخ 90: 30) وينزل هيكل الله من السماء إلى أورشليم ليحل محل الهيكل الذي تدنس والذي شُيد بيد الإنسان (أخنوخ 90: 28،29).
وتعلل التقاة بأنه لا توجد في المقابل نبوة عن تجديد الهيكل بأيدي بشرية، وبالتالي فمن الجرأة تجديد الهيكل كان الله نفسه سيزيله ويستبدله، وكانت هناك نبوة بأن الله ذاته سوف يحطم جميع الأصنام (موسى 10: 7).
في المقابل لم يقتنع المكابيون (القادة العسكريين) بذلك، وانتظروا حتى يثبت عدم تحقيق هذه النبوات التي ينتظرها التقاة!!
كان التاريخ الذي سيعمل فيه الله ضد أنطيوخس أبيفانيوس، طبقا لما ورد في (دانيال 7: 25) هو أول السنة السبتية، والتي كانت تبدأ في تشري (الشهر السابع من السنة اليهودية) على الرغم من أن الطوائف اليهودية اختلفت على بداية السنة: هل تبدأ أول تشري Rosh ha- shanah أو يوم التكفير Day of atonment (راجع لاويين 25: 8،9).
وكان بامكان السلطات الدينية العليا تعديل مواعيد الأعياد، وفي المقابل لم يكن المسئول المدني قادرًا على تغيير ذلك وفقا لمشروعاته، غير أنه من غير المعروف إن كان بامكان القادة الدينيين في ذلك الوقت القيام بذلك، أي تنظيم التقويم الطقسي (دورة الأعياد) كما هو واضح من الخطاب العيدي في (2مكا 1: 1-10). وهكذا لا يوجد دليل على أن اليهود استطاعوا تغيير التقويم آنذاك(10).
في البداية رأى يهوذا ورجاله أن يُخرجوا من فناء الهيكل: (النافذة الشعرية) التي كانت مستخدمة في الطقوس الجنسية المتصلة بالعبادة الوثنية، ولم تكن في البداية مُعتبرة نجسة لأن النجاسة كانت ترتبط بالأواني المعرّضة للتدنّس (لاويين 15: 16-18) ولكن اكتشاف مجوهرات في تركيب النافذة فتحت مجالًا للشكّ، وربما كان اليهود ينتظرون أن يدمرها الله حسبما يشير ميخا (1: 7) ولم يبدأ يوشيا الملك في تدمير المباني المعدة لممارسة الدعارة الطقسية إلاّ بعدما أخرج الأصنام والأدوات الخاصة بذبائح الأوثان (ملوك ثان 23: 4-7) وبناءا على ذلك قام اليهود بتدمير النافذة في 23 من شهر: "مارهيشفان" وربما استغرقت عملية التطهير عدة أيام، وعندئذ أمكن تقديم تقدمة للرب من الدقيق على المذبح يوم 27 من شهر: مارهيشفان(11).
بينما تُركت الأصنام الموجودة أمام أبواب المنازل الخاصة (1مكا1: 55) دون تحطيم بناءًا على إصرار التقويين على أن يحطمها الله في أول السنة السبتية الصحيح، وأفادت "مجلة تاعنيت" بأنه في يوم 3 كسلوُازيلت الأصنام من أمام المنازل.
وظل يهوذا واليهود حتى يوم 22 من شهر كسلو، لعل الله يتدخل بشكل مباشر لتدشين الهيكل، فلما لم تحدث المعجزة ثبت بوضوح أن ما تخيله التقاة على أنه نبوات في هذا الشأن لم يكن صحيحا. وربما تشير الآية 26 (إلى أن يأتي نبي "حقيقي") إلى المرارة التي أحسها التقاة آنذاك تجاه النبوات الكاذبة.
من ثم لم يكن ثمة داع لتأجيل تدشين المذبح، واستئناف العبادة الكاملة بما في ذلك تقديم الذبائح، ووفقا للتقويم الكبيس كان قد انقضى ثلاث سنوات منذ التدنيس الذي حدث على يد السلوقيين في 15 كسلو، ولم يبقَ على اليوم الخامس عشر -وهو المعد الشهري للذبائح الوثنية- سوى يومين (راجع 1: 54-56) ولعل يهوذا أُعجب بأن يكون موعد الذبيحة الأولى بعد التطهير، هو نفس الموعد عندما قدمت فيه أول ذبيحة لـ"زيوس" أي في الخامس والعشرين منذ سنوات ثلاثة مضت (سنة 167ق.م /راجع 1: 59). بل وفي نفس التوقيت من النهار، ويحدّد سفر دانيال المدة من بداية إبطال المحرقة الدائمة وتطهير الهيكل: 1290 يومًا، أي ثلاث سنوات ونصف (انظر صفحة 29).
وكانت مدة اليومين كافية للاعداد لهذا اليوم العظيم، وبالمقارنة مع مناسبات التدشين السابقة في الكتاب المقدس، فقد دشنه سليمان في زمن موسم المظال (ملوك أول 8: 2،65،66 وأخبار الأيام الثاني 5: 3 و7: 8-10). أما في أيام زربابل فقد كان تدشين المذبح من أجل الذبائح الاجبارية يتزامن مع عيد المظال (المشناه / مواعيد) أي سبعة أيام المظال يضاف إليها اليوم الثامن وهو يوم الاجتماع المقدس. أما موسى فقد دُشن المذبح المتنقل لمدة ثمانية أيام في أول الشهر الأول من العام اليهودي " نيسان" (خروج 40: 2، 17 ولاويين 9: 1،17).
أما وأن يُدشن الهيكل هنا بعد التدنيس الدي تعرّض له، فهو وضع مشابه لما حدث في أيام أحاز (أخبار الأيام الثاني 28: 22-30: 27) حيث قام الكهنة بقيادة حزقيا بتطهيره لمدة ثمانية أيام، اعتبارا من اليوم الأول حتى الثامن من الشهر الأول، وقدسوه ثمانية أيام أخرى اعتبارا من اليوم التاسع وحتى السادس عشر (أخبار الأيام الثاني 29: 17-36) حيث قدموا الكثير من المحرقات والذبائح في اليوم الأخير، ولكن الشهر الأول كان ما يزال بعيدا بالنسبة للمكابيين، إلاّ أنه فلكيا كان ما يزال موسم المظال مستمرًا (12).
وقد اشتملت احتفالات التدشين على مزامير الهلليل (مزامير 113 - 118) وتسمى الأناشيد وذلك بمصاحبة العيدان (جمع عود) والكنارات (آلة موسيقية بسيطة مثل الربابة) راجع (نحميا 12: 27 وأخبار الأيام الثاني 5: 13) وربما اشتمل الاحتفال على صلوات شكر مرتبة أصلًا أو رتبت خصيصًا لهذه المناسبة، وتحولت مع الوقت إلى جزء من الطقس.
وأماّ الذبائح التي قدموها فهي:
محرقة: ويقدمها الشعب أو الإنسان عوضًا عنه، وتحرق بكاملها، وتشير إلى الرب يسوع الذي قدم نفسه عنا، وهي أساس كل الذبائح.
ذبيحة سلامة (أو شكر): وكانت تقدم عرفانًا وشكرًا لله واعترافًا بفضله، وفي حين تحرق ذبيحة المحرقة كلها، فإن ذبيحة السلامة كان يأكلها مقدمها مع ذويه بعد أن يهب الكاهن نصيبه، وذلك في نفس اليوم، ويقدم معها فطير.
ويذكر يوسيفوس أنهم طلبوا من الله أن يرسل نارًا من السماء، فخرجت نار من الحجارة فأحرقت الذبيحة، ومن هذه النار أوقدوا المنارتين وقد استمرت هذه النار حتى خراب الهيكل في سنة 70 م. على يد الرومان، ولعلّ يوسيفوس يقصد بهذه النار تلك التي خرجت من سائل النفطار، الذي عثروا عليه حيث كانت الأواني قد أُخفيت (كما سيجيء في 2 مكا 1).
وقد أُكمل هذا الاحتفال المبهج والمهيب بتزيين واجهات الهيكل وتعليق الشارات، وقد اعتاد اليهود تزيين المدخل بالشمعدانات وعناقيد العنب، وفي هيكل هيرودس كان حجم عنقود العنب على جدران الهيكل بحجم الرجل، ومن غير المعروف ماذا كانت تلك الشارات والتي تشبه الأعلام.
من ثم قررّ اليهود أن يكون هذا الاحتفال عيدًا يحتفلون به من عام إلى عام - وهم يضعون هنا أسس الاحتفال بالعيد (آية 55،59) - يعيّدونه ثمانية أيام يتخللها مزامير الهلليل، يحملون فيه أغصان الزيتون وسعف النخل مثلما يحدث في عيد المظال أو الأكواخ، حيث دُشن هيكل سليمان في عيد المظال (ملوك أول 8: 2، 62 - 66) وكانوا يضيئون الُسرج وهو الذي أعطى لهذا العيد اسمه: الأنوار (الحانوكا) رمز الشريعة، وُتوضع السرج هذه في كُوى البيوت، مما جعل للعيد شعبية حتى بعد خراب الهيكل سنة 70م.
ورد هذا العيد في مجلة "تاعنيت" في التلمود تحت اسم عيد التدشين، "حانوكا Ha nukkah". فالأصل العبري للفعل " يدشّن hnk " يشير إلى تقديس مذبح جديد فقط، في حالة أن التدشين تمّ بواسطة نار معجزية من السماء (مثلما حدث في أيام موسى وسليمان). وفي سفر المكابيين الثاني ورد اسم محايد للعيد: (أيام المظال في شهر كسلو) ربما لم يكن الاسم مقبولًا لدى الحشمونيين في البداية، بسبب تشابهه المشئوم مع اسم احتفال يربعام (ملوك أول 12: 32،33) بل أنه كان أقل قبولًا من خلفاء الحشمونيين بسبب أن التقاة كانوا يرفضونهم بصفتهم: يربعامات معاصرين!!(13).
وقد أطلق سفر المكابيين الثاني على العيد تسميتي: "تطهير الهيكل" (2مكا 2: 16 و10: 5) و" تدشين المذبح" (2مكا 2: 19). أما يوسيفوس فإنه لا يستخدم الكلمة اليونانية " يدشّن enkainizein " بل تعبير يفيد الاستئناف أو الاعادة والتجديد، كما أطلق عليه اسم: السرج أوالأنوار.
كان العيد يبدأ كالعادة في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر (كسلو) ويستمر لثمانية أيام، وفي كل يوم كانوا يسبّحون "الهلليل" بينما يأتي جمهور المصلين حاملين سعف النخيل مع بعض الأغصان الأخرى، وكان الهيكل يضاء بالأنوار في جميع جوانبه، وكذلك كانت البيوت، وهذه الطقوس الثلاثة (التهليل والأنوار والأغصان) هي القاسم المشترك بين العيدين، أي عيد المظال وعيد التدشين (وقد شرحنا ذلك في تعليقنا على رسالة يهود أورشليم إلى يهود مصر في بداية السفر الثاني للمكابيين) فكما أُدخلت عادتا ترنيم الهلليل وحمل الأغصان إلى عيد التجديد، أُدخلت في المقابل عادة الإضاءة إلى عيد المظال (راجع2 مكا10: 6) هذا وربما تكون بعض الجماعات المسيحية في الغرب قد تأثرت بمظاهر الاحتفال بعيد التجديد، وذلك في احتفالاتها بميلاد المسيح (احتفالات الكريسماس) فهو عيد تجديد الهيكل (هيكل البشرية) الذي جدّده الله بواسطة هيكله هو من خلال ميلاده، راجع (يوحنا 2: 19).
أما عن كيفية إنارة الهيكل، فإن التقليد يُفيد بأنه بعد السبي واعادة ترميم الهيكل، وعندما أرادوا انارة المنارة الذهبية، عثروا على قنينة زيت واحدة مملوءه زيتا نقيًا ومختومة بختم رئيس الكهنة وكانت مخصّصة للمصابيح، ومع أن تلك الكمية لم تكن كافية إلاّ ليوم واحد، فقد حدثت المعجزة حين بارك الرب الزيت وبقيت القنينة ممتلئة لمدة ثمانية أيام، ولهذا السبب صدر الأمر بإنارة الهيكل والمنازل لمدة ثمانية أيام أيضا.
هذا وقد اختلفت طقوس الاحتفال بالعيد من حيث التفاصيل، فإما أن يشعل رب البيت شمعة واحدة لكل أفراد الأسرة وإماّ شمعة لكل فرد، ومتى كان متديّنا فإنه يشعل لكل فرد شمعة في كل ليلة بحيث إذا كان أفراد الأسرة عشرة فإن الاحتفال يبدأ بعشر شمعات في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يرتفع إلى عشرين شمعة، وهكذا يصل عدد الشموع في نهاية الاحتفالات - في اليوم الثامن - إلى ثمانين شمعة. كان هذا طقس مدرسة هلليل، وأما مدرسة شمّاى (شمعي) فقد أوصت بترتيب عكسى للسابق، وأمّا طائفة القرائين فلم تمارس الاحتفال بالعيد أصلًا (15).
ولم يكن مسموحًا بالصوم بوجه عام في ذلك اليوم مثل يوم البوريم أيضا، هذا وقد اقترح دكتور هيرزفيلد Dr.Herzfeld - وهو كاتب يهودي معروف - أن عيد الأنوار جاء لإحياء ذكرى هبوط النار من السماء على المذبح في هيكل سليمان (أخبار الأيام الثاني 7: 1).. غير أن أعظم حدث جرى في هذا العيد، هو اشتراك المسيح فيه في الهيكل (يوحنا10: 22).
نظرا لوقوع العيد في نفس توقيت عيد الكريسماس في الغرب، فقد اتسمت احتفالات اليهود بطابع مسيحي، فالشمعدان أو "المينوراه" يقابل شجرة الكريسماس، كما أن الهدايا التي توزع على الآخرين تشبه هدايا "بابا نويل" التي تُوهب للأطفال، وهكذا مع الوقت أصبح العيد شعبيًا علمانيًا أكثر منه دينيًا، حتى أصبحت المينوراه تسمىّ "شجرة الحانوكا" كما ظهر ما يسمى "العم ماكس رجل الحانوكا"(16) ويقابل "سانتا كلوز" موزع الهدايا لدى المسيحيين. وهكذا اختفت الأدعية والنصوص الكتابية التي تتلى في عيد التجديد -كما سبق الاشارة- ليتحول العيد إلى عيد قومي يعبر عن اليهودية.
والآن وفي هذه المناسبة من كل عام توقد الشمعدانات الضخمة في الميادين العامة، وتنظّم مواكب ضخمة من السيارات والتي تحمل الشمعدانات فوقها، وفي بعض العواصم الأوربية مثل باريس، يصل الموكب إلى ميدان كبير مثل "كونكورد" حيث ينزل الناس من سياراتهم مكوّنين دائرة كبيرة يشترك فيها المئات منهم، يرقصون ويغنّون في صخب شديد وأما في إسرائيل فيصعد آلاف الشبان إلى قلعة ماسادا خلال تلك الاحتفالات.
60وفي ذلك الزمان بنوا على جبل صهيون من حوله أسوارا عالية وبروجا حصينة، لئلا تجيء الأمم وتطأه كما فعلت من قبل. 61وأقام يهوذا هناك جيشا يحرسه، وحصّن بيت صور، حتى يكون للشعب معقل تلقاء أدوم.
هكذا حققت الثورة المكابية في مرحلتها الأولى - والتي توصف بأنها "حرب للرب ومقدساته" - الهدف الأسمى لها وهو استعادة الحرية الدينية، واستمر الحال هادئًا في اليهودية خلال الفترة من 164 - 162ق.م بسبب موت أنطيوخس أبيفانيوس وما رافق ذلك من تبعات، وقد ظل اليهود يستمتعون بهذه الحرية الدينية حتى أيام السيد المسيح، إلى أن دُمر الهيكل سنة 70 م.
ومن هنا تبدأ المرحلة الثانية من كفاح المكابيين والتي يمكن وصفها بـ"حرب الطمع والاتساع والضلالة"(17) ولكن وبينما أعانهم الرب في المرحلة الأولى، فقد عانوا هم في المقابل كثيرًا فيما بعد، حتى وصل الأمر بهم إلى استعداء فريق منهم الحكام السلوقيين على الفريق الآخر، وذلك عندما انقسموا إلى فريقين رَسَمَ العداء العلاقة بينهما.
هذا وقد اتّخذ يهوذا المكابي بعض الاجراءات الوقائية لحماية الهيكل حتى لا يتعرض للتدنيس مرة أخرى، حيث أحيط جبل صهيون بسور عالٍ وبروج للمراقبة والدفاع، وأمّا بيت صور فقد حصنها لتكون "خط دفاع لليهود" مقابل الخطر الآتي من جهة منطقة أدوم.
".. ثم أتى أولادك إلى قدس أقداس هيكلك، وطهروا صحن معبدك وطهروا مقدسك وأضاءوا السرج في ساحاتك المقدسة، وأقاموا أيام التدشين الثانية هذه "
(واحدة من الصلوات التي صارت جزءا من طقس عيد التدشين)
_____
(1) انظر التعليق على الآيات: (26-35) من هذا الأصحاح114.
(2) وكانت استراتيجية ترك النار مشتعلة لخداع العدو: شائعة في قصص الحرب اليونانية (راجع 1مكا 12: 28،29).
(3) قارن أيضًا إشعياء 49: 24 وصموئيل أول 17: 46. وهو ما ذكر صراحة في 2مكا 8: 16-20 (راجع أيضًا إشعياء 36 و37 وملوك ثان 18: 13-19.
(4) لمزيد من التفاصيل عن تلك الحفريات: انظر تعليق يوناثان أ جولدشتاين على السفر - ص264و265.
(5) دائرة المعارف الكتابية - ج 1/ص 305.
(6) إلى هذه الحملة أشار كتاب أخنوخ الأبوكريفي (90: 15)" ورأيت سيد الخراف يأتي اليهم غاضبا. فالذين رأوه فرّوا هاربين، وأمام وجهه وقع الجميع في الظلمات" انظر كتاب مخطوطات قمران - كتابات ما بين العهدين. ج2 /ص98 وكذلك هامش هذه الآية في ص 156. دار الطليعة الجديدة- دمشق1998.
(7) راجع: (ميخا 7: 16 ولاويين 26: 36 وتثنية 28: 65 وصموئيل أول 10: 26؛ يشوع 5: 1 ومزمور 9: 11،12 و107: 26،27).
(8) لمزيد من التفاصيل، راجع توسفته: عابودا زاراه Aboda zarah Tosefta والتلمود البابلي: Makkat, 2,9، ومشناة ميدات.
(9) وبعكس ذبيحة المحرقة يمكن اضاءة السرج في أي موضع، كطقس تذكاري خارج المقدس (أستير 8: 16). انظر مشناة "تاميد" (1: 1-3: 3).
(10) لمزيد من التفاصيل عن التقويم اليهودي في تلك الحقبة، انظر تعليق يوناثان أ.جولدشتاين على 1(مكا4: 36).
(11) هذه المعلومات مأخوذة عن مجلة تاعنيت/ التلمود.
(12) هناك الكثير من الآراء حول مواعيد الاحتفال بالتدشين، وعدد أيام ذلك، سواء في أيام سليمان أوموسى أو حزقيا أو المكابيين. راجع في ذلك: تعليق يوناثان أ جولدشتاين ص / 276-280,
(13) راجع تعليق يوناثان أ. جولدشتاين / ص282.
(14) راجع كتاب الهيكل. ألفريد هيدرشيم /اعداد المؤلف- ص 298، 299.
(15) حاول بعض العلماء الربط بين تعليم كل من مدرستي شمعي وهلليل بخصوص ايقاد الشموع، وطقوس أحد الأعياد الوثنية في عصر المكابيين، وهو العيد المسمى: "انقلاب الشمس الشتائي" حيث أطلق أنطيوخس أبيفانيوس اسم هذا العيد على مناسبة تدنيس الهيكل. ويقضي الطقس في ذلك العيد بايقاد سراج واحد في اليوم الأول، على أن يضاف إليه في كل ليلة تالية سراجا آخر أو أكثر حتى احتفال ثمانية أيام،كرمز للشمس المستعيدة ضيائها. ولكنه وبينما استخدم اليهود تقويمًا قمريًا، استخدم الرومان تقويمًا شمسيًا، كما أن احتفال 25 كسلو اليهودي يقابل 25 ديسمبر الروماني والمعروف بعيد ميلاد إله الشمس sol. Incevitus والذي يُحتمل أن يكون قد صُدّر إلى روما من سوريا .. ومن هنا عكست مدرسة شمعي عدد الشموع. ولكن عيد التدنيس 15 كسلو= 6 ديسمبر، ويوم 25 كسلو = 16 ديسمبر، بينما عيد الشمس بعيد عن كليهما، لا سيما في أيام يهوذا. وهكذا فلا أساس لهذه الفكرة.
(16) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. عبد الوهاب المسيرى. ج5/ص 266.
(17) تاريخ إسرائيل/ القمص متى المسكين.
← تفاسير أصحاحات مكابيين أول: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16
تفسير مكابيين أول 5 |
قسم
تفاسير العهد القديم الأنبا مكاريوس الأسقف العام |
تفسير مكابيين أول 3 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/4y8pmbh