محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
دانيال + تتمة السفر: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34 - 35 - 36 - 37
سنة 571 ق.م.
في الإصحاح السابق رأينا مقاومة العالم لملكوت الله وهنا نرى الله هو ملك الملوك ورب الأرباب وضابط الكل. والكل خاضع له. نجد هنا قصة نبوخذ نصر عن نفسه ضمنها دانيال في كتابه. وهنا نرى كيف تعامل الله مع الملك بطرق متعددة حتى يؤمن، فأراه حلم التمثال وأظهر له حكمة دانيال وجهل أوثانه، ثم أظهر له قوته في حادثة الثلاثة فتية. ولكن ما زال قلبه مرتفعًا وما زال مؤلِّهًا نفسه وهنا الله يحاول تحذيره من عواقب هذه السقطة الشيطانية أي الكبرياء وهي التي سقط فيها الشيطان. وما زال يُسْقِطْ بها كل البشر. والله استخدم حلمًا آخر ليدعوه للتواضع ولما لم يستجب ضربه وأدبه فآمن وتواضع.
الآيات (1-3): "مِنْ نَبُوخَذْنَصَّرَ الْمَلِكِ إِلَى كُلِّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ السَّاكِنِينَ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا: لِيَكْثُرْ سَلاَمُكُمْ. اَلآيَاتُ وَالْعَجَائِبُ الَّتِي صَنَعَهَا مَعِي اللهُ الْعَلِيُّ، حَسُنَ عِنْدِي أَنْ أُخْبِرَ بِهَا. آيَاتُهُ مَا أَعْظَمَهَا، وَعَجَائِبُهُ مَا أَقْوَاهَا! مَلَكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِيٌّ وَسُلْطَانُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ."
لم يستفد الملك من الحلم واستمر في ارتفاع قلبه وهنا لجأ الله للأسلوب الأعنف، فتحقق وعيد الله ونفذ الإنذار الذي كان قد سبق وأنذر به الملك وقد جُنَّ الملك فعلًا وبعد أن شفى كتب هذه الكلمات التي تُعبِّر عن توبته وشفائه الروحي. وهذا هو أسلوب الله دائمًا فهو الذي أرسل إرميا منذرًا بخراب أورشليم إن لم تتب ثم نفذ تهديده. وبعد أن عاد الشعب من السبي كان قد شفى تمامًا من العبادة الوثنية التي بسببها ذهب إلى السبي. وفي حالة نبوخذنصر هنا شعر الملك بسلطان الله وسيادته على كل الناس. هو استفاد من الدرس وأراد أن يفيد شعبه به فكتب الحادثة وسجلها واعترف بخطيته علنًا. ويعترف هنا بملكوت الله الأبدي بينما عرف أن مملكته ستزول. إلى دور فدور أي من جيل إلى جيل ولغة هذه التسبحة تميل للفكر الكتابي وهذا يظهر تأثير دانيال على الملك الوثني.
الآيات (4-18): "أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ قَدْ كُنْتُ مُطْمَئِنًّا فِي بَيْتِي وَنَاضِرًا فِي قَصْرِي. رَأَيْتُ حُلْمًا فَرَوَّعَنِي، وَالأَفْكَارُ عَلَى فِرَاشِي وَرُؤَى رَأْسِي أَفْزَعَتْنِي. فَصَدَرَ مِنِّي أَمْرٌ بِإِحْضَارِ جَمِيعِ حُكَمَاءِ بَابِلَ قُدَّامِي لِيُعَرِّفُونِي بِتَعْبِيرِ الْحُلْمِ. حِينَئِذٍ حَضَرَ الْمَجُوسُ وَالسَّحَرَةُ وَالْكَلْدَانِيُّونَ وَالْمُنَجِّمُونَ، وَقَصَصْتُ الْحُلْمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُعَرِّفُونِي بِتَعْبِيرِهِ. أَخِيرًا دَخَلَ قُدَّامِي دَانِيآلُ الَّذِي اسْمُهُ بَلْطَشَاصَّرُ كَاسْمِ إِلهِي، وَالَّذِي فِيهِ رُوحُ الآلِهَةِ الْقُدُّوسِينَ، فَقَصَصْتُ الْحُلْمَ قُدَّامَهُ: «يَا بَلْطَشَاصَّرُ، كَبِيرُ الْمَجُوسِ، مِنْ حَيْثُ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ فِيكَ رُوحَ الآلِهَةِ الْقُدُّوسِينَ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ سِرٌّ، فَأَخْبِرْنِي بِرُؤَى حُلْمِي الَّذِي رَأَيْتُهُ وَبِتَعْبِيرِهِ. فَرُؤَى رَأْسِي عَلَى فِرَاشِي هِيَ: أَنِّي كُنْتُ أَرَى فَإِذَا بِشَجَرَةٍ فِي وَسَطِ الأَرْضِ وَطُولُهَا عَظِيمٌ. فَكَبُرَتِ الشَّجَرَةُ وَقَوِيَتْ، فَبَلَغَ عُلُوُّهَا إِلَى السَّمَاءِ وَمَنْظَرُهَا إِلَى أَقْصَى كُلِّ الأَرْضِ. أَوْرَاقُهَا جَمِيلَةٌ وَثَمَرُهَا كَثِيرٌ وَفِيهَا طَعَامٌ لِلْجَمِيعِ، وَتَحْتَهَا اسْتَظَلَّ حَيَوَانُ الْبَرِّ، وَفِي أَغْصَانِهَا سَكَنَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ، وَطَعِمَ مِنْهَا كُلُّ الْبَشَرِ. كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى رَأْسِي عَلَى فِرَاشِي وَإِذَا بِسَاهِرٍ وَقُدُّوسٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَصَرَخَ بِشِدَّةٍ وَقَالَ هكَذَا: اقْطَعُوا الشَّجَرَةَ، وَاقْضِبُوا أَغْصَانَهَا، وَانْثُرُوا أَوْرَاقَهَا، وَابْذُرُوا ثَمَرَهَا، لِيَهْرُبَ الْحَيَوَانُ مِنْ تَحْتِهَا وَالطُّيُورُ مِنْ أَغْصَانِهَا. وَلكِنِ اتْرُكُوا سَاقَ أَصْلِهَا فِي الأَرْضِ، وَبِقَيْدٍ مِنْ حَدِيدٍ وَنُحَاسٍ فِي عُشْبِ الْحَقْلِ، وَلْيَبْتَلَّ بِنَدَى السَّمَاءِ، وَلْيَكُنْ نَصِيبُهُ مَعَ الْحَيَوَانِ فِي عُشْبِ الْحَقْلِ. لِيَتَغَيَّرْ قَلْبُهُ عَنِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَلِيُعْطَ قَلْبَ حَيَوَانٍ، وَلْتَمْضِ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ. هذَا الأَمْرُ بِقَضَاءِ السَّاهِرِينَ، وَالْحُكْمُ بِكَلِمَةِ الْقُدُّوسِينَ، لِكَيْ تَعْلَمَ الأَحْيَاءُ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ، فَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ، وَيُنَصِّبَ عَلَيْهَا أَدْنَى النَّاسِ. هذَا الْحُلْمُ رَأَيْتُهُ أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرَ الْمَلِكَ. أَمَّا أَنْتَ يَا بَلْطَشَاصَّرُ فَبَيِّنْ تَعْبِيرَهُ، لأَنَّ كُلَّ حُكَمَاءِ مَمْلَكَتِي لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُعَرِّفُونِي بِالتَّعْبِيرِ. أَمَّا أَنْتَ فَتَسْتَطِيعُ، لأَنَّ فِيكَ رُوحَ الآلِهَةِ الْقُدُّوسِينَ»."
في (4) أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ قَدْ كُنْتُ.. نَاضِرًا = كان الملك ناضرًا أي مزدهرًا فالله أعطاه الإنذار وهو بعد في كامل عقله وسلطانه بعد أن انتهى من كل حروبه وبالذات مع مصر وكان في السنة 34 أو 35 لحكمه. وهذا الحكم الإلهي تحقق بعد سنة من تاريخ الإنذار بالحلم، فالله يطيل أناته. وتم تنفيذ الإنذار وجُنَّ الملك لمدة 7 سنوات ثم شفى لمدة سنتين كتب فيهما هذه القصة ثم مات في السنة 45 له. وفي (5) روعني = هذا الذي لم يخشى إنسانًا ولا حربًا رَوَّعَه حلم لأنه من قبل الله. وفي (7) السحرة = وظيفتهم عمل الرقيات والتعاويذ وكتابات السحر وذلك عن طريق علاقاتهم بالأرواح الشريرة. وَالْمُنَجِّمُونَ (أو العَرَّافون) = هؤلاء يدعون المعرفة عن طريق الأرواح الشريرة أيضًا ويدعون معرفة الغيب (كمن يقرأ الفنجان الآن) وَالْمَجُوسُ = هؤلاء يَدَّعون معرفة المستقبل بقراءة النجوم ورصد حركاتها. وهم يعبدون النجوم ويؤمنون بأنها تسيطر على الإنسان. والكلدانيون هم كهنة الأوثان. وكل هؤلاء فشلوا في تفسير الحلم مع أنهم في أعين الناس حكماء (6) . ونجد شبهًا لهذا الحلم في حزقيال (حز 3:31) . وكانت الشجرة هناك هي ملك أشور ولكن حكماء بابل لم يعرفوا هذا.
أخيرًا دخل قدامي دانيال = هذه عادة كثيرين حتى الآن أن يجعلوا اللجوء لله آخر محاولاتهم بعد يأسهم من البشر. وحتى هذه اللحظة كان الملك يسمى بيل إلهه ولكن هذا تغيرَّ بعد الدرس (دا 1:4-3).
كان البابليون يعبدون شجرة ووجد في معابدهم رسومات لشجرة يقدسونها ويرتلون لها في عبادتهم. وغالبًا فهي شجرة معرفة الخير والشر، أو شيء يرمز لها. وقد وصلت القصة لهم عبر الأجيال فعبدوا الشجرة وتركوا الله. ولاحظ أن الملك كان متأثرًا بالتسابيح التي تقدم في المعابد. كان يسمعها دائمًا كلما ذهب ليصلي.
أحد أعمال هذا الملك العظيم، الحدائق المعلقة (أحد عجائب الدنيا السبع) وكانت على شكل جبل من أجل أن يرضي زوجته التي من مادي ويعوضها عن مناظر الجبال في بلادها وكانت هذه الحدائق تروي بواسطة آلات هيدروليكية لرفع المياه اخترعها نبوخذ نصر(اكتشاف أثري). وقام هذا الملك ببناء العديد من القصور والقلاع والهياكل وشق القنوات. والتعمير الذي قام به يجعله من عظماء أن لم يكن أعظم بناء في العالم. ويبدو أن منظر بابل من فوق قصره كان رائعًا، وقد دفعه هذا للغرور ثم للجنون. وقد وجد في النقوشات الأثرية تقريبًا نفس كلمات هذا الإصحاح. وكانت بابل التي بناها نبوخذ نصر عظيمة تحوي داخل أسوارها المنيعة العجيبة شعب بابل تحت حماية الملك كأنه شجرة يستظلون بها (دا 10:4). وكان لهذا الملك علاقة خاصة بالأشجار، فأينما ذهب لحروبه كان يجمع الأشجار لبناء هياكل آلهته وبعد أن استقرت المملكة وانتهت الحروب استغل الملك السبايا في بناء بابل العظيمة. وجمع في مخازنها كميات هائلة من الحبوب. وُوجِد في النقوشات الأثرية "أنني جمعت كل الرجال في سلام وزمن حكمي هو زمن رخاء أنا صنعته" فوصف الشجرة يتفق مع أفكار نبوخذ نصر عن نفسه بأنه هو الذي وفر الرخاء لشعبه ولغيره من البشر الذين جمعهم تحته أو تحت ظله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). وهو كما كان مولع بجمع الذهب لآلهته كان مولعًا بأشجار الأرز العالية يأتي بها من لبنان لمعابد آلهته حتى أنه سمَّى لبنان جبل الأرز "غابة مرودخ الفخمة " وكان يتغنى بجمال وروعة الأرز. ووجد في النقوشات الأثرية قوله "أنا قطعت الأرز بيدي الطاهرتين أو النقيتين" وهذا تعبير ديني المقصود به أن الملك قطع بنفسه شجرة الأرز بعد أن تطهر ليبني به هيكل مرودخ. ولا توجد شجرة تعطي ظلًا وحماية كشجرة الأرز لذلك فهي تؤخذ كتشبيه للحكومة القوية التي تحمي مواطنيها. ولاحظ التشبيه فشجرة الأرز تمتد فروعها أفقيًا وهذه الممالك امتدت بطول الأرض (أشور وبابل..) ووجد في النقوشات قول نبوخذ نصر عن بابل حبيبته "تحت ظلها الأبدي جمعت كل البشر في سلام وقد جمعت وخزنت فيها كميات هائلة من الحبوب" وواضح أن ما قيل في هذا الإصحاح هو نفس ما وُجِد منقوشًا في الآثار. وقد تكون الشجرة التي حلم بها الملك أرزة كبيرة لكنها ذات ثمار وورق كبير لهذه الأسباب أنزعج الملك من الحلم فالشجرة مقدسة بالنسبة له. وهو شعر بأن هناك خطر قادم عليه.
وفي (10) شَجَرَةٍ.. وَسَطِ الأَرْضِ = كانت بابل قد أصبحت مركزًا لهذه الإمبراطورية الكبيرة وطولها عظيم = تشير لمركز الملك العالي. وَمَنْظَرُهَا إِلَى أَقْصَى.. الأَرْضِ. (11) إشارة لأن قوة نبوخذ نصر كانت حديث كل الأمم، الكل عينهم عليها إما عن إعجاب أو عن حسد. وفي (12) أوراقها جميلة = تشير لبهاء وعظمة بلاطه وحكومته وجيشه. وثمرها كثير = الخير فيها كثير، وهي ليست منظرًا فقط بل تحمي من حولها وتعولهم. (هكذا خلق الله الإنسان جميلًا ناضرًا مثمرًا لكن سقوطه في الكبرياء أذله وغيَّر صورته الجميلة). وأنظر فالله أعطى لهذه الدولة الخير والسلام ففيها الحيوان والطير في سلام والإنسان يشبع من كثرة الخيرات. ولكن خطية الكبرياء تخرب كل شيء.
وفي آية (13) سَاهِرٍ.. قُدُّوسٍ = ساهر جاءت في الإنجليزية watcher بمعنى مراقب أو من يسهر على راحة مريض. وحين تقال عن الملائكة فتعبير ساهر يعني أن الملائكة لا تنعس ولا تنام بل هي ساهرة على تنفيذ أوامر الله (لاحظ أن الله هنا يكلم الملك البابلي باللغة التي يفهمها. فهم كانوا يعتقدون في بابل أن هناك كائنات سماوية تدين أعمال البشر وتقرر مصيرهم).
ولكن من أين أتى نبوخذنصر الملك الوثني بتعبير قدوس وهو تعبير لا يعرفه الوثنيون، بل اليهود فقط، فهكذا يسبح الملائكة الله (إش6: 1-4)، إلا إذا كان بتعليم من دانيال. وبنفس الطريقة من أين فهم معنى ساهر وأنه يشير للسهر على تنفيذ أوامر الله. فالملاك القدوس ليس هو الذي يقرر مصير البشر كما يفهم نبوخذنصر، بل هو يتلقى الأوامر من الله ويسهر على تنفيذها. واضح إمتزاج أفكار الملك مع تأثير دانيال. فالملك رأى ملاكا كلمه وهو بحسب عقيدته يؤمن بأن هناك كائنات سماوية تقرر مصير البشر، وبتأثير دانيال فهم أن من رآه أو رآهم هم ملائكة ساهرين على تنفيذ أوامر الله. دانيال شرح لنبوخذنصر أن هذه الكائنات السماوية ليست هي التي تدين البشر وتقرر مصيرهم، بل الله الذي يؤمن به دانيال هو الذي يقرر. والملائكة أو من يسميهم نبوخذنصر كائنات سماوية هم مجرد جنود لله ومنفذين لأوامره وساهرين على تنفيذها.
والملك كان يذكر كلمة كلمة من هذا الحلم المفزع والذي فيه رأى الحيوان والطير تهرب من تحت هذه الشجرة. ولنلاحظ فإن الازدهار العالمي هو شيء مؤقت وليس ثابتًا.
أتركوا ساق أصلها = هذا يعني أن هناك أمل في عودته، إذًا هي ضربة تأديب لكسر كبريائه كما قال بولس الرسول "أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1كو5:5).
وَبِقَيْدٍ مِنْ حَدِيدٍ وَنُحَاسٍ = وسيربط بقيود حديد ونحاس حتى لا يهلك نفسه أو غيره في أثناء جنونه. وقد وجد في الآثار من هذا العصر سبائك نحاسية تحيط بالحديد. والملاك فسر للملك معنى الحلم (16، 17) فمن وضع في قلبه أن يرتفع مثل الله (حز 28: 2) يخفضه الله وينزع عنه قلب الإنسان ويُعطَي قلب حيوان.
هذَا الأَمْرُ بقضاء الساهرين = كما قلنا فهذا ما يؤمن به نبوخذنصر، أن هناك كائنات سماوية تقرر مصير البشر، قال عنها الساهرين. لكن إيمان دانيال وإيماننا نحن فهو أن الله هو الذي يقضي والملائكة يقروا ويؤيدوا ويستحسنوا قضاء الله ويسهروا على تنفيذ قرارات الله. الله لا يحتاج لموافقة أحد.
والحكم بكلمة القدوسين = القدوسين المقصود بهم الملائكة الذين ينفذون حكم الله، وبحسب فهم نبوخذنصر أنهم هم الذين يصدرون الأحكام. الله الذي يقرر، أما هؤلاء القديسين من الملائكة ومن البشر يجدون راحتهم في قرارات الله ويفرحون بها. وقد تعني القدوسين أيضا أنهم شعب الله الذين أضيروا(1) من كبرياء وتعنت الملك، وهم بالتأكيد سيوافقون الله على حكمه. بل نحن نصلي "لتكن مشيئتك". وكلما ازدادت قداسة إنسان نجده لا يختلف مع الله في شيء، [وراجع تفسير أع15: 28].
هذَا الأَمْرُ بقضاء الساهرين، والحكم بكلمة القدوسين = مرة أخرى نقول أن كلام نبوخذنصر هنا يمتزج فيه تعليم دانيال مع عقيدة نبوخذنصر.
وفي (17) ينصب عليها أدنى الناس = فالله أقام داود على مملكته وهو راع للغنم، وأيضًا كان هو الصغير في إخوته.
وواضح من (16) أن الشجرة تشير لشخص إذ يقول = ليتغير قلبه عن الإنسانية.
الآيات (19-27): "حِينَئِذٍ تَحَيَّرَ دَانِيآلُ الَّذِي اسْمُهُ بَلْطَشَاصَّرُ سَاعَةً وَاحِدَةً وَأَفْزَعَتْهُ أَفْكَارُهُ. أَجَابَ الْمَلِكُ وَقَالَ: «يَا بَلْطَشَاصَّرُ، لاَ يُفْزِعُكَ الْحُلْمُ وَلاَ تَعْبِيرُهُ». فَأَجَابَ بَلْطَشَاصَّرُ وَقَالَ: «يَا سَيِّدِي، الْحُلْمُ لِمُبْغِضِيكَ وَتَعْبِيرُهُ لأَعَادِيكَ. اَلشَّجَرَةُ الَّتِي رَأَيْتَهَا، الَّتِي كَبُرَتْ وَقَوِيَتْ وَبَلَغَ عُلُوُّهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَمَنْظَرُهَا إِلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَأَوْرَاقُهَا جَمِيلَةٌ وَثَمَرُهَا كَثِيرٌ وَفِيهَا طَعَامٌ لِلْجَمِيعِ، وَتَحْتَهَا سَكَنَ حَيَوَانُ الْبَرِّ، وَفِي أَغْصَانِهَا سَكَنَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ، إِنَّمَا هِيَ أَنْتَ يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ، الَّذِي كَبُرْتَ وَتَقَوَّيْتَ، وَعَظَمَتُكَ قَدْ زَادَتْ وَبَلَغَتْ إِلَى السَّمَاءِ، وَسُلْطَانُكَ إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. وَحَيْثُ رَأَى الْمَلِكُ سَاهِرًا وَقُدُّوسًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: اقْطَعُوا الشَّجَرَةَ وَأَهْلِكُوهَا، وَلكِنِ اتْرُكُوا سَاقَ أَصْلِهَا فِي الأَرْضِ، وَبِقَيْدٍ مِنْ حَدِيدٍ وَنُحَاسٍ فِي عُشْبِ الْحَقْلِ، وَلْيَبْتَلَّ بِنَدَى السَّمَاءِ، وَلْيَكُنْ نَصِيبُهُ مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّ، حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ. فَهذَا هُوَ التَّعْبِيرُ أَيُّهَا الْمَلِكُ، وَهذَا هُوَ قَضَاءُ الْعَلِيِّ الَّذِي يَأْتِي عَلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ: يَطْرُدُونَكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَتَكُونُ سُكْنَاكَ مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَيُطْعِمُونَكَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، وَيَبُلُّونَكَ بِنَدَى السَّمَاءِ، فَتَمْضِي عَلَيْكَ سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ. وَحَيْثُ أَمَرُوا بِتَرْكِ سَاقِ أُصُولِ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّ مَمْلَكَتَكَ تَثْبُتُ لَكَ عِنْدَمَا تَعْلَمُ أَنَّ السَّمَاءَ سُلْطَانٌ. لِذلِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، فَلْتَكُنْ مَشُورَتِي مَقْبُولَةً لَدَيْكَ، وَفَارِقْ خَطَايَاكَ بِالْبِرِّ وَآثَامَكَ بِالرَّحْمَةِ لِلْمَسَاكِينِ، لَعَلَّهُ يُطَالُ اطْمِئْنَانُكَ»."
تحير دانيال = من القرار الصعب الصادر ضد الملك العظيم. وكيف يخبره بهذه الأخبار السيئة وهو الذي أحبه وأحسن إليه، وشجعه الملك وأجاب دانيال بكلام لطيف = الحلم لمبغضيك = فهو يتمنى له الخير، لكن أمنياته شيء وقرار الله شيء آخر. وقول الملك لا يفزعك الحلم = تعني إما أنه يريد أن يعرف بأمانة أو غير مهتم بما سيقال. ولأنه لم ينفذ رأي دانيال ولم يستمع لمشورته (27) فالأرجح هو الرأي الثاني. ودانيال أعطى نصيحة للملك بالتوبة، فالتوبة وحدها تنقذنا من الشرور. سبعة أزمنة = 7 سنين.
ساعة واحدة (19) = أي مدة قصيرة من الزمن (لاحظ أنه لم يكن هناك توقيت في ذلك الزمان). ولنلاحظ أن دانيال لم يكره الملك بالرغم من شره واضطهاده لشعبه، فأولاد الله لا يكرهون الخطاة بل يكرهون الخطية. ونصيحة دانيال للملك تشمل التوبة السلبية = فارق خطاياك وفيها التوبة الإيجابية = بِالْبِرِّ وَ.. الرَّحْمَةِ لِلْمَسَاكِينِ. ولو كان نبوخذ نصر قد فعل لارتد حمو غضب الله عنه كما حدث مع نينوى.
مَمْلَكَتَكَ تَثْبُتُ لَكَ عِنْدَمَا تَعْلَمُ أَنَّ السَّمَاءَ سُلْطَانٌ = مملكتك تثبت حينما تعلم أن السماء (كناية عن الله السماوي المرتفع) هي التي تحكم وليس أنت (الأرضي المحدود).
الآيات (28-33): "كُلُّ هذَا جَاءَ عَلَى نَبُوخَذْنَصَّرَ الْمَلِكِ. عِنْدَ نِهَايَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا كَانَ يَتَمَشَّى عَلَى قَصْرِ مَمْلَكَةِ بَابِلَ. وَأَجَابَ الْمَلِكُ فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَابِلَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ الْمُلْكِ بِقُوَّةِ اقْتِدَارِي، وَلِجَلاَلِ مَجْدِي؟» وَالْكَلِمَةُ بَعْدُ بِفَمِ الْمَلِكِ، وَقَعَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: «لَكَ يَقُولُونَ يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ: إِنَّ الْمُلْكَ قَدْ زَالَ عَنْكَ. وَيَطْرُدُونَكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَتَكُونُ سُكْنَاكَ مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّ، وَيُطْعِمُونَكَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، فَتَمْضِي عَلَيْكَ سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَأَنَّهُ يُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ». فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَمَّ الأَمْرُ عَلَى نَبُوخَذْنَصَّرَ، فَطُرِدَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَأَكَلَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، وَابْتَلَّ جِسْمُهُ بِنَدَى السَّمَاءِ حَتَّى طَالَ شَعْرُهُ مِثْلَ النُّسُورِ، وَأَظْفَارُهُ مِثْلَ الطُّيُورِ."
الله أعطاه الإنذار ودانيال أعطاه النصيحة. ثم أمهله الله سنة لعله يتوب ولكنه مثل كثيرين يميلون أن ينسبوا العظمة لهم وليس لله. وصدر الحكم من السماء فحين تصوَّر أنه ليست قوة قادرة أن تأخذ منه شيء حُرِمَ حتى من كرامته كإنسان، وفقد عقله وأصيب بمرض يسمى ليكانثروبي Lycanthropy وهو يجعل الإنسان يتصور نفسه حيوانًا ويقال مرض الاستذئاب (يتصور المريض نفسه ذئبًا Werewolf) ويفضل المريض أن يسكن مع الحيوانات. حقا فالله يقاوم المستكبرين أما المتواضعين فيعطيهم نعمة. وغالبًا فلقد ملك ابن نبوخذ نصر وهو أويل مردوخ مكانه في فترة جنونه هذه.
الآيات (34-37): "وَعِنْدَ انْتِهَاءِ الأَيَّامِ، أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، رَفَعْتُ عَيْنَيَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَرَجَعَ إِلَيَّ عَقْلِي، وَبَارَكْتُ الْعَلِيَّ وَسَبَّحْتُ وَحَمَدْتُ الْحَيَّ إِلَى الأَبَدِ، الَّذِي سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ، وَمَلَكُوتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. وَحُسِبَتْ جَمِيعُ سُكَّانِ الأَرْضِ كَلاَ شَيْءَ، وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: «مَاذَا تَفْعَلُ؟». فِي ذلِكَ الْوَقْتِ رَجَعَ إِلَيَّ عَقْلِي، وَعَادَ إِلَيَّ جَلاَلُ مَمْلَكَتِي وَمَجْدِي وَبَهَائِي، وَطَلَبَنِي مُشِيرِيَّ وَعُظَمَائِي، وَتَثَبَّتُّ عَلَى مَمْلَكَتِي وَازْدَادَتْ لِي عَظَمَةٌ كَثِيرَةٌ. فَالآنَ، أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، أُسَبِّحُ وَأُعَظِّمُ وَأَحْمَدُ مَلِكَ السَّمَاءِ، الَّذِي كُلُّ أَعْمَالِهِ حَقٌّ وَطُرُقِهِ عَدْلٌ، وَمَنْ يَسْلُكُ بِالْكِبْرِيَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذِلَّهُ."
هو شُفِيَ لأنه نظر للسماء = رفعت عيني إلى السماء. ولاحظ أن الإنسان وحده هو الذي ينظر إلى السماء، بينما أن الحيوانات تنظر للأرض. وبهذا تحول هذا الوحش وعاد إنسانا كما ظهر في حلم دانيال عن نبوخذ نصّر "ٱلْأَوَّلُ كَٱلْأَسَدِ وَلَهُ جَنَاحَا نَسْرٍ. وَكُنْتُ أَنْظُرُ حَتَّى ٱنْتَتَفَ جَنَاحَاهُ وَٱنْتَصَبَ عَنِ ٱلْأَرْضِ، وَأُوقِفَ عَلَى رِجْلَيْنِ كَإِنْسَانٍ، وَأُعْطِيَ قَلْبَ إِنْسَانٍ" (دا7: 4). والنظر للسماء وليس إلى الأرض هو الذي يشفي، أو تحول النظرة من الإعجاب بالذات إلى الله وهذه هي التوبة والشفاء من الجنون. وهو نظر للسماء كتائب متواضع وبتقوى طالبًا الرحمة.
وهو شفي حينما عرف أن الله هو وحده الذي يحكم فنظر إليه فشفاه تحقيقًا
للآية (26) وحينما عاد له عقله سبح الله به، فلنسبح الله على كل ما أعطانا.
ما أعظم مراحمك يا رب فعقوبة هذا الإنسان كانت سببًا في خلاصه، وهذا الوثني
أنهَى حياته مؤمنًا بالله.
لننظر الآن لخطة الله مع نبوخذنصر ليجتذبه للإيمان:-
1. إصحاح1: نبوخذنصر الملك الذي يذِّل أولاد الملوك
ويظن أنه في جبروته وكبريائه أنه قادر أن يفعل ما يريد. هو أسس إمبراطورية واسعة هو يملك عليها. وعن مدى سلطانه قيل عن ملوك بابل "أيًا شاء قتل وأيًا شاء إستحيا" (دا5: 19).2. إصحاح2: حلم التمثال – بهذا الحلم عرف
نبوخذنصر أن مملكته ستنتهي وتأتي ممالك أخرى، والكل سينتهي ولكن مملكة الله هي الباقية. وكأن الحلم هو دعوة لنبوخذنصر أن يفهم أن يتواضع فمملكته ستنتهي، والأفضل أن ينتمي لهذه المملكة الباقية للأبد.3. إصحاح3: نبوخذنصر يتحدى ويقول بل
مملكتي باقية للأبد (التمثال الذهب الذي يعني لن تأتي ممالك من الفضة أو النحاس أو الحديد، بل أنا الرأس الذهبي مستمر للأبد، لست أنا رأس فقط بل أنا الكل المستمر). وهنا يرى قدرة الله الذي يحمي أولاده من النيران بل يصاحبهم فيها فلا تؤذيهم.4. إصحاح4: الدرس الأخير وهو عبارة عن
تأديب نبوخذنصر على كبريائه الذي أصر عليه، وعلى أنه لم يصدق الله. وبعد هذا الدرس الأخير أعلن نبوخذصر إيمانه بالله.
عجيب هو الله الذي في محبته يبحث عن القصبة المرضوضة والفتيلة
المدخنة ليجتذبها للإيمان والخلاص.
_____
(1) توضيح من الموقع: "أضير" أي تضرَّر أي أصابه الضرر
الحواشي والمراجع
لهذه الصفحة هنا في
موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
← تفاسير أصحاحات دانيال: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير دانيال 5 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص أنطونيوس فكري |
تفسير دانيال 3 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/zk24waj