الفصل الخامس: المحبة لا تطلب ما لنفسها (1 كو 13: 5)
المحبة لا تطلب ما لنفسها
المحبة لا تفكر في ذاتها، ولكن فيمن تحب.
تفكر في الذي تحبه: كيف ترضيه، وكيف تعطيه، وكيف تريحه وتجلب السرور إلى قلبه... وفي كل ذلك لا تطلب ما لنفسها. بل قد تبذل نفسها لأجل من تحبه... ذلك لأنه إن كان من طبيعة الأنانية أنها دائمًا أن تأخذ، فإنه من صفات المحبة أنها تريد أن تعطي...
عنصرا المحبة الرئيسيان هما أن تحب الله، وأن تحب الناس. وفي كليهما لا تطلب المحبة ما لنفسها...
وهكذا كانت صلاة التسبيح والتمجيد هي أقدس الصلوات. لأن الذات لا توجد فيها على الإطلاق، إنما الموجود فقط، هو التأمل في صفات الله وحده. فنحن حينما نقول فيها مثلًا (قدوس قدوس رب الصباؤوت. والسماء والأرض مملوءتان من مجدك) (أش6: 3). فإننا هنا لا نطلب شيئًا لأنفسنا. إنما من أجل محبتنا لله، نتأمل صفاته، وكفي...
إذن ما هو مركز الطلب في حياة المحبة؟ إنه:
الله أولًا، والناس بعد ذلك. والذات آخر الكل...
فنحن في الصلاة الربانية، إنما نطلب ما يخص الله أولًا: (ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض)... وحينما نطلب بعد ذلك لأنفسنا، إنما نطلب ما يخص علاقتنا بالله. فكان الله أولًا، ثم الله ثانيًا... وما أجمل وصية السيد الرب لنا (اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره) (مت6: 33). وهل بعد ذلك نطلب ما يخصنا من أمور العالم؟ هنا ويكمل الرب وصيته قائلًا (هذه كلها تزدادونها) أي يعطيكم الرب إياها حتى دون أن تطلبوا...
إذن إن كنت تحب الله، لا تجعل صلاتك كلها طلبًا...
أقصد: لا تجعلها كلها طلبًا لنفسك. وكما قال القديس باسيليوس الكبير (لا تبدأ صلاتك بالطلب، لئلا يظن أنه لولا الطلب ما كنت تصلي)... وإن طلبت (لأنه قال: اطلبوا تجدوا) (مت7: 7). فاطلب أولًا ملكوت الله وبره... ثم اطلب أيضًا الخير للغير. ولتكن نفسك آخر الكل. فهذه هي المحبة...
حقًا، ما أجمل قول المرتل في المزمور:
"ليس لنا يا رب ليس لنا. لكن لاسمك القدوس أعط مجدًا" (مز115: 1).
إذن إن كنت تحب الله، ففي كل خدمتك، وفي كل ما تعمله، لا تطلب الكرامة لنفسك. وإنما لتكن كل الكرامة لله. كما قال القديس يوحنا المعمدان (ينبغي أن ذلك يزيد، وأني أنا أنقص) (يو3: 30). وكل الخير الذي تفعله، ليكن ذلك لمجد الله، إن كنت تحب الله. كما قال الرب في العظة على الجبل (لكي يروا أعمالكم الحسنه، فيمجدوا أباكم الذي في السموات) (مت5: 16).
من أجل محبة الله، قام الآباء والرسل برسالتهم، ولم يطلبوا ما لأنفسهم، بل على العكس دفعت أنفسهم الثمن...
من أجل محبة الله، شهد المعمدان للحق، وقال لهيرودس الملك (لا يحق لك أن تأخذ امرأة أخيك) (مت14: 3، 4). فهل في ذلك كان يطلب ما لنفسه؟! كلا، بل إن نفسه قاست بسبب ذلك، إذ القي في السجن، ثم قطعت رأسه.
وكل الشهداء والمعترفين، لم يطلبوا ما لأنفسهم، بل في محبتهم لله تعرضوا لكل ألوان التعذيب، ثم الموت أيضًا.
وهكذا كان الكارزون. ولنأخذ القديس بولس الرسول كمثال:
وهو شاول الطرسوسي كانت له سلطه ونفوذ، ويستطيع أن (يدخل البيوت ويجر رجالًا ونساء، ويسلمهم إلى السجن) (أع 8: 3). ولكنه لما دخل إلى الإيمان، وخسر كل الأشياء وهو يحسبها نفاية لكي يربح المسيح ويوجد فيه (في3: 8، 9).، حينئذ. في محبته للرب ما كان يطلب مطلقًا ما لنفسه. بل صار هو يحتمل السجن والهوان... جلدوه خمس مرات، وثلاث مرات ضرب بالعصي. وهو يخدم الرب ويقول عن خدمته هو وكل معاونيه (في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام لله، في صبر كثير... في أسهار في أصوام...) (2كو6: 4، 5). (بأسفار مرارًا كثيرة بأخطار سيول بأخطار لصوص، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية، بأخطار في البحر، بأخطار من أخوة كذبة... في تعب وكد، في جوع وعطش، في برد وعري) (2كو12: 24-27). ولماذا كل هذا العناء؟ إنه من أجل محبة الله، ومحبة ملكوته وإنجيله. والمحبة لا تطلب ما لنفسها.
إنه لم يطلب ما لنفسه، لأنه نفسه قد ماتت مع المسيح (2كو4: 11، 12). وهكذا يقول (مع المسيح صلبت، لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في) (غل2: 20).
حقًا ما أعجب وما أعمق عبارة "أحيا، لا أنا...".
إن المُحِب الذي لا يطلب ما لنفسه، لا يجد تعبيرًا أعمق من كلمة (لا أنا). هذه هي خدمة الحب، التي لا تطلب لنفسها راحة ولا مجدًا. خدمة الذي لا يعطي لعينيه نومًا، ولا لأجفانه نعاسًا، إلى أن يجد للرب (مز132: 4).
إنها خدمة الذي يجد متعة في أتعاب الخدمة، وليس في أمجاد الخدمة! الذي لا يبحث في الخدمة عن ذاته، في مجال الرئاسة أو السلطة أو الظهور... وهكذا فإن الخدام الذين فشلوا، هم الذين اهتموا بذواتهم أكثر من اهتمامهم بالملكوت.
وعبارة "لا أنا"، يمكن أن تُطْلَق في الروحيات الخاصة:
فالذي يحب الله، يقول له (لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك. وأنا لست أطلب شيئًا لذاتي، بل أسلمها تسليمًا كاملًا ليديك، وأنساها هناك، ولا اطلب إلاك أنت، وليس سواك.، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولهذا قال السيد المسيح (إن أراد أحد يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني) (مت16: 24). وإنكار الذات يعني أنه لا يطلب ما لنفسه.
إن الذات هي أكثر ما يضر الإنسان.
لا يضره العالم ولا المادة، ولا الجسد، ولا الشيطان، بقدر ما تضره ذاته، إن كان يطلب في كل حين ما يرضيها إن كانت هذه الذات، كلما تطلب ما لنفسها تبعده عن محبة الله. وهكذا لخص السيد الرب كل حياتنا على الأرض في عبارة واحدة خالدة، قال فيها:
(مَن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها) (مت10: 39). إن كان الإنسان يطلب ما لنفسه، فإنه يضيعها. لأنه يركز حول الذات وليس حول الله ومحبته.
ولننظر إلى آبائنا الرهبان والنساك.
الذين سكنوا الجبال والبراري وشقوق الأرض، من أجل عظم محبتهم للملك المسيح... إنهم لم يطلبوا أبدًا ما لأنفسهم. بل تركوا المال والأهل والوظائف وكل المتع الأرضية. وعاشوا منسيين، بلا طعام بلا راحة، لا يطلبون سوى الله، الذي صار لهم هو الكل في الكل...
هؤلاء الرهبان، صلت عليهم الكنيسة صلاة أموات، لأنهم ماتوا عن العالم وكل ما قيه. وما عادوا يطلبون منه شيئًا لأنفسهم. أتراهم ضيعوا أنفسهم، أم وجدوها...!
ولكن لماذا نتكلم عن الرهبان وحدهم، فلنتكلم أيضًا عن الذين عاشوا في رفاهية العالم، ولكن لأجل محبة الله تركوا كل شيء.
موسى النبي لم يطلب ما لنفسه، بل يبدو أنه أضاعها.
كان أميرًا وقائدًا (ابن ابنه فرعون). وكانت أمامه كل خزائن فرعون. ومع ذلك (فَضَّل أن يُذَل مع شعب الله، عن أن يكون له تمتُّع وَقتي بالخطية) (عب11). وماذا كانت الخطية سوى تمتعه بحياة القصر، وشعبه مرهق بالعبودية!
لذلك ترك كل شيء، القص، والإمارة، والعظمة، والمال، ولم يطلب لنفسه شيئًا. لذلك رفع الله موسى وجعله سيدًا لفرعون.
مثال آخر هو إبراهيم أبو الآباء.
قال له الرب (أترك أهلك وعشيرتك وبيت أبيك، واذهب إلى الجبل الذي أريك) (فلم يطلب لنفسه أهلًا ولا وطنًا، إنما طلب طاعة الرب وحده. ثم قال له الرب (خذ ابنك وحيدك، الذي تحبه نفسك، إسحق وقدمه لي محرقة على الجبل الذي أريك إياه}. ومرة أخرى لم يطلب إبراهيم ما لنفسه، ولو كان أبنه الوحيد، وأخذ ابنه ليذبحه... تكفيه محبة الله التي تسعد نفسه...
فلنتناول أيضًا هذه الوصية "المحبة لا تطلب ما لنفسها" في الحياة الاجتماعية، وحياة الأسرة الواحدة.
تعيش الأسرة سعيدة، إن كان الزوج لا يطلب ما لنفسه، طاعة وسيطرة، إنما يطلب سعادة زوجية وأولاده، معتبرًا أن هذه هي رسالته في حياته الزوجية. وكذلك الزوجة إن اعتبرت رسالتها أن تسعد هذا الزوج، دون أن تطلب ما لنفسها مالًا ورفاهية وحرية. كذلك إن جعلت رسالتها أن تتعب من أجل راحة أولادها. كذلك أيضًا الأبناء إن كانوا في محبتهم للأب والأم لا يرهقانهم بكثرة الطلبات، ولا بالمخالفة. ولا يطلبون ما لأنفسهم إلا في حدود قدرة الأسرة...
وفي الحياة الاجتماعية: الذي لا يطلب ما لنفسه، يقدم غيره في الكرامة، ويتخذ المتكأ الأخير.
كما قال القديس بولس الرسول (مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة) (رو12: 10). ليس فقط تنفيذًا لوصية الاتضاع، بل بالأكثر عن حب. إذ يحب غيره ويفضله على نفسه، فيقدمه في الكرامة على نفسه، ويسعد إذ يجده مكرمًا...
وإذ يأخذ المتكأ الأخير (لو14: 10). وإنما يسعد بأن يترك المتكآت الأولي لغيره ما أجل محبته لهم.
وفي كل ذلك، وسبب محبته للآخرين، فإنه لا ينافس أحدًا، ولا يخاصم أحدًا من أجل شيء عالي، ولا زاحم الآخرين في طريق الحياة بل يترك الفرصة للغير أن يأخذ وينال ما يريد، دون يطلب ما لنفسه...
وتظهر وصية "المحبة لا تطلب ما لنفسها" في مجال العطاء أيضًا.
فالذي يدفع العشور والبكور، ليس فقط وصية الله، بل بالأكثر من أجل محبته للفقراء يفضلهم على نفسه، مهما كان محتاجًا للمال. بل أنه يدفع أكثر من هذا، بل يعطي من احتياجاته الخاصة. مثال ذلك تلك الأرملة التي أعطيت من أعوازها، ووضعت في الخزينة فلسين هما كل ما كانت تملك. ولهذا استحقت الطوبى من فم الرب، وتسجل عطاؤها في الإنجيل (مر12: 42-44).
هكذا أرملة صرفة صيدا، التي لم تطلب ما لنفسها في وقت المجاعة. وأعطيت كل ما عندها من زيت ودقيق لإيليا النبي (1مل17). فاستحقت بذلك أن يباركها الرب ويبارك خيراتها طول زمن المجاعة.
في العطاء والبذل، لا يطلب الإنسان ما لنفسه، بل إنه يبذل كل شيء حتى نفسه، ويعطي غير ناظر مطلقًا إلى احتياجاته الخاصة. لأنه في محبته للغير، يركز كل اهتمامه على احتياج الغير، وليس على ما يطلبه هو لنفسه. لذلك فهو يعطي ليس فقط من ماله، بل راحته أيضًا وصحته...
انظروا إلى السيد المسيح، وكيف أنه لم يطلب ما لنفسه.
بل من أجل محبته للبشر (أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد) (في2: 7). وابتعد عن كل مجد عالمي. ولم يكن له أين يسند رأسه (لو9: 58). وكذلك لم يطلب ما لنفسه، حينما انحني وغسل أرجل تلاميذه (يو13)، وحينما بذل ظهره للسياط، ثم صعد على الصليب، ولم يدافع عن نفسه. وبذل حياته عنا، البار لأجل الآثمة... (وبين محبته لنا. لأنه ونحن بعد خطاة مات لأجلنا) (رو5: 8).
والمحبة التي لا تطلب ما لنفسها، تحتمل وتغفر.
ولكني أود أن أؤجل هذه النقطة إلى موضع آخر. حيث أن الحديث عنها قد يطول وليس مجاله الآن. ويكفي أن الإنسان الذي يحب، يمكنه في محبته لغيرة أن يتنازل عن حقوقه، وأن يحمل ويغفر...
الذي يحب، لا يطلب ما لنفسه.
والذي لا يطلب ما لنفسه، يستطيع أن يحب.
فإن كنت لا تطلب ما لنفسك، يمكنك أن تتعب من أجل الله والناس... وتتعب في الصلاة، في الصوم، في السهر، في الخدمة. لأنك لا تفكر في راحتك وصحتك، إنما تفكر في الله وملكوته، وتفكر في خير الناس وخلاصهم... وهكذا تحب الله والناس، ويحبك الله والناس. لأنك لا تقول: ذاتي وصحتي وراحتي. إنما تقول ملكوتك يا رب، وكنيستك وشعبك. بل تقول محبتك يا رب وعشرتك قبل كل شيء...
بقي أن نقول نقطة ختامية وهي.
إن الذي يطلب ما لنفسه، إنما يضيِّع نفسه.
كالرجل الغني الغبي، الذي قال (أهدم مخازني وأبني أعظم منها... وأقول لك يا نفسي خيرات كثيرة لسنوات عديدة) هذا الغبي ضيع نفسه. وقال له الصوت الإلهي: في هذه الليلة تؤخذ روحك منك، فالذي أعددته لمن يكون؟ (لو12: 18-20).
كذلك داود النبي، لما طلب المتعة لنفسه، أضاع نفسه، لولا رحمة الله التي اقتادته إلى التوبة، مع عقوبة شديدة فُرِضَت عليه (2صم 11، 12).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/love/want.html
تقصير الرابط:
tak.la/bzr7j67