عجيب أن كثيرين، حياة التدين عندهم منفصلة عن الله!!
فمثلًا هم يخدمون. وخدمتهم منفصلة عن الله. هي مجرد نشاط بشري، تعب بشري، ذكاء بشري، معرفة دينية تنتقل منه إلى الآخرين دون أن يظهر الله فيها...!
وهم يصومون. والصوم عندهم مجرد علاقة بينهم وبين الطعام والشراب، علاقة جسدية، لا علاقة لها بالروح، ولا علاقة لها بالله!
ويقرأون الكتاب، كمجرد معلومات تضاف إلى معرفتهم. معلومات يُذكر فيها اسم الله، بدون علاقة معه!
وبالمثل في الصلاة أيضًا: يتوجهون فيها نظريًا إلى الله، ويذكرون اسمه، كمجرد تلاوات بلا روح، والله بعيد عن قلوبهم، ولا يزيدهم الصلاة صله به!
وهكذا الحال بالنسبة إلى التوبة: تكون عندهم مجرد محاولات لترك الخطية، دون أن يدخل الله فيها.
لا يدخلونه في توبتهم كهدف. ولا يتخذونه في توبتهم كوسيلة. أي لا يلجأون إليه ليساعدهم على التوبة. لذلك فهم يتوبون، أو يظنون أنهم تابوا. ثم يعودون إلى الخطية مرة أخرى... وتتكرر المحاولات مرات عديدة. ويتكرر الرجوع مرات عديدة أيضًا. لأن الله ليس في توبتهم. بل هي مجرد عمل بشري للانتصار على الخطية، لم يشترك الله فيه.
![]() |
بينما يعلمنا الكتاب المقدس، وتعلمنا صلوات الكنيسة وبخاصة المزامير، أنه لا توبة بدون عمل الله فينا.
يكفي قول أرميا النبي للرب "توبني فأتوب" (أر31: 18)
نعم، لا بُد أن يدخل الرب في حياتنا، ويعطينا القوة التي بها نتوب: يعطينا الرغبة في التوبة، والقدرة على التوبة، والاستمرار في التوبة. كل ذلك بعمل من نعمته، وفعل روحه القدوس.
وهناك عبارة عميقة، قال فيها مار اسحق أسقف نينوى:
"الذي يظن أن له طريقًا آخر للتوبة غير الصلاة، هو مخدوع من الشياطين".
وفي الحقيقة هناك عبارات في صلواتنا اليومية تعطي نفس المعنى. عبارات نصليها ونكررها كل يوم. وللأسف نصليها، ولا نعنيها. نصليها ولا نحيا فيها! وكأنها مجرد كلام نردده، دون أن ندخل إلى عمقه، ألسنا نقول:
"قلبًا نقيًا اخلق فيّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي".
إذن فلست أنت تنقي قلبك، إنما أنت تطلب القلب النقي.
كعطية من الله. يخلقه فيك، كما لو كان غير موجود على الإطلاق. وكذلك تطلب منه الروح المستقيم، جديدًا من عنده... هذا في صلاتك، أما في حياتك العملية، فأنت تحاول أن تصل إلى نقاوة قلبك، بمجرد مجهودك الشخصي.
وأنت أيضًا في كل يوم، تقول في نفس المزمور:
انضح عليَّ بزوفك فأطهر، واغسلني فأبيضّ أكثر من الثلج".
في قولك "قلبًا نقيًا اخلق فيّ يا الله"، تعترف أن قلبك غير نقي، وتطلب النقاوة من عنده. وفي قولك "اغسلني" تعترف باتساخك من الداخل، وتطلب منه هو أن يغسلك... وسوف يطول بك الوقت، إن حاولت أن تغسل نفسك بنفسك. فالطهارة هي من عنده. ولن تنالها إلا إذا نضح عليك بزوفاه فتطهر... إن عبارة "اغلسني فأبيض" تشابه تمامًا عبارة "توبني فأتوب"...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
كذلك نحن نصلي في القداس الإلهي، ونقول:
طهرّ نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا.
نطلب منه أن يطهر كلّ ما فينا. ولا ندعي أننا سنطهر أنفسنا بأنفسنا... ونكرر هذه العبارات تقريبًا في صلاة الساعة الثالثة التي نقول فيها "ارسل علينا نعمة روحك القدوس، وطهرنا من كل دنس الجسد والروح. وانقلنا إلى سيرة روحانية، لكي نسعى بالروح، ولا نكمل شهوة الجسد"... كلها طلبات، لا نقول فيها أننا سوف نسلك في سيرة روحانية، إنما نطلب من الله أن ينقلنا من دنسنا إلى هذه السيرة... ونحن لا نقول ذلك تواضعًا منا، وإنما حسب قول الرب:
"بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا" (يو5:15).
فما دمنا بدونه لا نقدر أن نعمل شيئًا، إذن علينا أن ندخله في كل أعمالنا، لأن الخلاص هو من عنده. وهو الذي قال "إن ابن الإنسان جاء يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو10:19). وقد سمّى (يسوع) أي مخلص، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت21:1). وهكذا يصرخ المصلي في المزمور ويقول:
"اللهم باسمك خلصني" (مز1:54).
ليس فقط أن تخلصني من عقوبة الخطية. وإنما بالأكثر من الخطية ذاتها. أنا لست أدعى أنني أقوى من العدو في حروبه العنيفة. فقد قيل في الكتاب عن الخطية أنها "طرحت كثيرين جرحَى، وكل قتلاها أقوياء" (أم 26:7). لذلك حسنًا قال داود النبي في أحد مزامير التوبة: "ارحمني يا رب فإني ضعيف" (مز6).
إذن قف في صلاتك كضعيف، اطلب من الرب القوة التي تحارب بها عدو الخير، بل القوة التي تحارب بها شهوات نفسك ورغباتها وغرائزها. متجهًا إلى ذلك الراعي الذي قال "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت28:11).
لماذا إذن تتعب نفسك وأنت تجاهد وحدك، ولا تتجه إلى معونة ذلك القوي الذي يعرض عليك أن يعينك في جهادك، وأن يرفع عنك أحمالك الثقيلة؟! إنه يعرف تمامًا صعوبة ما يقابلك من جهاد، سواء في الداخل أو من الخارج...
صعوبة الخلاص من الخطية شرحه القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية:
فقال على لسان الإنسان المتعب في حروبه الداخلية "إني لست أعرف ما أنا أفعله. إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل... فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة فيّ... أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي... من ينقذني من جسد هذا الموت" (رو 7: 15 - 24)
إذن لا تقف أمام الله لتلقي عليه وعودًا في أن تحيا حياة فاضلة وتتوب...
بل تذكر فشلك في كل وعودك السابقة التي لم تستطع أن تنفذها، وردّد ذلك البيت في الشعر:
كم وعدت الله وعدًا حانِثًا ليتني من خوف ضعفي لم أعد
لا شك أن في وعودك شعورًا بقدرتك الخاصة، ونسيانًا لفشلك السابق في إنقاذ نفسك من الخطية. بل الأجدر أن تقول للرب:
لست أعدك. إنما أطلب منك وعدًا أن تنقذني من الخطية.
وما أجمل أن تتذكر وعود الله في سفر حزقيال النبي "أرشّ عليكم ماءً طاهرًا فتطهرون من كل نجاساتكم، ومن كل أصنامكم أطهركم. وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم... وأجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي، وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (حز 36: 25-27)
وأنت تذكر كلمات الرب هذه، قل له: اجعلني يا رب أسلك في فرائضك وأحكامك. وأجعل روحك في داخلي.
إنني في كل سقوطي، أذكر وعدك القائل:
"أنا أرعَى غنمي وأربضها -يقول السيد الرب- واطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح" (حز 34: 15-16).
نعم إنني يا رب هذا الضال والكسير والجريح، انظر عملك فيّ.
لقد سقطت، لأن مخافتك لم تكن في قلبي. لذلك أقول مع المرنم:
"سمّر خوفك في لحمي" (مز119).
اعطني مخافتك: أعطني أن أجعلك أمامي في كل حين. وفي كل خطية أتعرض لها أو أوشك على الوقوع فيها، أقول "كيف أفعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله؟" (تك9:39)...
وإن كان سبب خطيئتي، هو ضعفي أمام الخطية...
فلا تعاقبني يا رب على ضعفي، إنما أنقذني من هذا الضعف.
وبدلًا من أن تدينني بسبب نجاستي، طهرني يا رب من هذه النجاسة. لقد أعطيتني وصايا لكي أنفذها، فاعطني القوة التي بها أنفذ هذه الوصايا. أعطني محبتك التي تطهر قلبي، والتي بها أقاوم كل سهام العدو الملتهبة.
أنزع محبة الخطية من قلبي. وضع باستمرار وعدك في أذني.
يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك -يقول الرب- لأنقذك.
بهذه الوعود الجميلة، شجعت أرميا النبي في ضعفه وفي خوفه. شجعني أنا أيضًا بقولك "يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات. وأما أنت فلا يقتربون إليك" (مز90) حقًا كما قال موسى النبي للشعب الخائف أمام البحر "الرب يقاتيل عنكم، وأنتم تصمتون" (خر14:14).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
لا تحارب العدو وحدك، فإن "الحرب للرب" (1صم 47:17).
"وليس للرب مانع أن يخلص بالكثير وبالقليل" (1صم6:14). لذلك لما حارب الشعب عماليق، لم يكن هو الذي يحاربه، بل قيل "للرب حرب مع عماليق" (خر16:17). كذلك كل الخطايا التي تحاربك، يغلبها فيك الرب القائل "أنا قد غلبت العالم" (يو33:16) وحينئذ تتهلل وتقول: "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو37:8).
إنك إن جاهدت وحدك وانتصرت، ربما يجلب لك ذلك شيئًا من الفخر والمجد الباطل. أما إن صارعت مع الله، وأخذت منه معونة لإنقاذك، فإن الفضل في نجاتك سيرجع إلى الله الذي خلصك. تمسّك بالرب إذن في صلاتك.
فإن الإنسان الناجح في صلاته، هو الإنسان الناجح في توبته.
قل له: إنني يا رب ضعيف. فهل سيفشل الضعفاء في الوصول إلى ملكوتك؟! أنتَ يا من اخترت ضعفاء العالم لتخزي بهم الأقوياء (1كو27:1). أنا عاجز بذراعي البشري عن الوصول إليك، فانتشلني أنت بذراعك القوية واجذبني إليك، ولا تتركني لضعفي...
ألم تقل "اسألوا تعطوا" (مت27:7). هوذا أنا أسألك الخلاص من خطاياي، وأنتظر وعدك. هوذا أنا واقف هنا ممسكًا بقرون المذبح.
إن كثيرين خلصهم الرب بدون أن يطلبوا...
فكم بالأكثر الذين يطلبونه في لجاجة...؟!
في إقامة الموتى، بلا شك أقامهم دون أن يطلبوا. كانوا رمزًا للذين قيل عنهم إنهم أموات بالخطايا (أف 2: 1، 5). ليتك يا رب تقول لي كما قلت لابن أرملة نايين "أيها الشاب لك أقول: قم" (لو14:7) أو كما قلت لحبيبك لعازر "هلمّ خارجًا" (يو43:11).
إن الدرهم المفقود لم يعد بنفسه إلى كيس صاحبته.
إنما هي التي فتشت عنه وأعادته إليها (لو8:15). وكذلك الخروف الضال لم يعد بنفسه إلى حظيرة الراعي، هو الراعي المحب الذي بحث عنه حتى وجده وحمله على منكبيه فرحًا (لو5:15)... هكذا أنا أيضًا بالنسبة إليك يا رب: إن لم أبحث عنك، لا تتركني إلى ضلالي، بل ابحث عني. أقول لك كما قال داود في المزمور "ضللت مثل الخروف الضال، فاطلب عبدك" (مز119).
صل إذن وقل: اعطني يا رب أن أحبك.
فمحبة الله سوف تمحو من قلبك كل محبة الخطية. فإن لم تستطع أن تصل إليها بكل تداريبك، اطلب من الرب أن يسكبها في قلبك بالروح القدس. لا تجعل كل تركيزك على نفسك، بل جاهد مع الله ليعطيك.
وإن لم تأخذ المحبة، فاطلب منه أن يعطيك مخافته.
فيجعلك تخاف من الخطية، وتخاف من انكشافها ومن عقوبتها، وتخاف من النار الأبدية ومن الانفصال عن الله... وتأكد أن الذي يسلك في المخافة، سوف يصل إلى المحبة...
اطلب من الله أن يرشدك إلى الطريق التي تسلك فيها، لكيما تصل إليه. قل له مع داود في المزمور.
عرفني يا رب طرقك. فهمني سبلك.
هذه الطلبات حينما تذكرها في صلواتك، قلها من كل قلبك. ولا تعتمد كل الاعتماد على نفسك. إنما اعمل بكل قوتك، ولكن لا تعمل وحدك. تذكر قول الأب الكاهن للرب في أوشية المسافرين "اشترك في العمل مع عبيدك..." وادخل باستمرار في شركة الروح القدس" (2كو14:13). واجعل أمامك قول المزمور:
إن لم يبن الرب البيت، فباطلًا تعب البناؤون" (مز1:127).
وأيضًا "إن لم يحرس الرب المدينة، فباطلًا سهر الحارس" (مز2:127). أتريد إذن أن تبني حياتك الروحية وحدك؟! أو تحرس نفسك من كل حروب عدو الخير وحدك؟! أو تصل إلى حياة التوبة وحدك؟! هوذا الكتاب يقول "باطلًا" عن كل هذا. ويقول أيضًا "لولا إن الرب معنا، حين قام الناس علينا، لابتلعونا ونحن أحياء... مبارك هو الرب الذي لم يسملنا فريسة لأسنانهم... عوننا من عند الرب الذي صنع السماء والأرض..." (مز124) إذن صارع مع الله وقل له:
قم أيها الرب الإله، وليتبدد جميع أعدائك.
أو قل "قم يا رب خلصني يا إلهي"... وثق أن الرد سوف يأتيك منه قائلًا "من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم - يقول الرب- أصنع الخلاص علانية"...
أطلب منه بسبب طباعك وعاداتك وخطاياك المحبوبة.
هذه كلها التي تقف أمامها عاجزًا "وقد أصبحت تجري في دمائك، وصارت جزءًا من تكوينك. وكلما تقوم منها تسقط ثانية. بل ربما إذا قال الله لك عنها "أتريد أن تبرأ" (يو6:5)، تحتار بماذا تجيب! لأن محبتها دخلت في قلبك، وأصبحت لا تستطيع أن تتحرك بعيدًا عنها...
اطلب من الرب أن ينزع محبتها من قلبك، وسلطتها من إرادتك.
قل له: أنا يا رب مثل المفلوج، الذي لم يستطع أن يتحرك نحوك. لكن أنت قادر أن تشفيه دون أن يتحرك...
في كل خطية، اطلب من الرب أن ينقذك منها، مهما بدت بسيطة أمامك. انظر مثلًا قول داود النبي عن سقطات اللسان:
ضع يا رب حافظًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتي.
لم يقل أعدك يا رب أن أترك خطايا اللسان وأتوب عنها، إنما قال "ضع يا رب حافظًا لفمي...".
وبنفس المنهج نطلب في آخر كل صلاة من صلوات الأجبية ونقول:
"سهل حياتنا، وارشدنا إلى العمل بوصاياك".
"قدّس أرواحنا، طهر أجسامنا. قوّم أفكارنا. نقّ نياتنا".
"نجنا من كل حزن رديء، ووجع قلب"(1).
_____
(1) توضيح من الموقع: بعد هذه الجملة يوجد في الكتاب جملة مكتوبة، ولكن واضح أنها ليست في محلها، حيث أنها هي نفسها جملة نهاية مقال "الحركة" بنفس الكتاب، فتم مسحها من المقال هنا. والجملة هي "أحيانًا أنظر إلى الشرق الأقصى، في الصين، واليابان، وأقول أين خريطة الإيمان هناك؟ وما هي حركة الكنيسة نحو هؤلاء؟"
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/dialogue-with-god/restore-me.html
تقصير الرابط:
tak.la/bf5bdyz