مبدأ أهمية العطاء من الأعواز يتضح بصورة عميقة في قصة الأرملة التي وضعت فلسين في الصندوق (حوالي مليمين) فامتدحها الرب وقال: "الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع لأن هؤلاء من فضلتهم ألقوا في قرابين الله.وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل المعيشة التي لها" (لو 21: 2 - 4)
إن الرب يعلمنا أن أعظم عطاء هو العطاء من الأعواز.
فالذي يعطي من أعوازه (من احتياجه) يدل على أن عطاءه فيه الكثير من الحب والبذل، ومن تفضيل غيره على نفسه...بعكس الذي يعطي مما فاض عنه من سعة، دون أن يشعر باحتياج.
وفي هذا الموضوع أود أن أتأمل معكم فيمن يعطي من أعوازه: سواء من جهة المال، أو أعوازه من جهة الوقت، أو من جهة الراحة والصحة...
كذلك من يعطي من أعوازه، من جهة الأولاد والأقارب.
أول مثل لذلك: أبونا إبراهيم أبو الآباء في تقديمه إسحق.
لقد أنجب أبونا إبراهيم ابنًا بعد طول انتظار، وبعد وعود إلهية وعقم من زوجته، وكان قد شاخ. وفرح بهذا الابن جدًا. وإذا بالأمر يصل إليه "خذ ابنك، وحيدك، الذي تحبه...وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال..." (تك 22:2).
وذهب إبراهيم ليقدم للرب هذا الابن من أعوازه. وكانت هذه التقدمة عزيزة جدًا في عيني الرب، فمنعه عنها بعد أن جهز المذبح والحطب والسكين. وقال له" من أجل أنك لم تمسك ابنك وحيدك عني، أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرًا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر" (تك 22: 16-17).
مثال آخر هو حنة أم صموئيل.
كانت عاقرًا، وكانت ضرتها تعايرها وتغيظها حتى أبكتها. فصامت، وصلّت صلاة في الهيكل، وبكت بكاءً، ونذرت نذرًا إن أعطاها الرب نسلًا أن تقدمه لخدمة الرب (1صم 1). وقد كان... فلما أعطاها الرب صموئيل، ما أن شبً عن الأرض، حتى أخذته وقدمته ليخدم الرب في الهيكل في شيلوه.
أعطته للرب من أعوازها، فباركه الرب، وجعله نبيًا له، وأعطاه أن يمسح شاول ملكًا (1صم 10) ويمسح داود ملكًا (1صم 16). كما أعطى الرب حنة أم صموئيل ثلاثة بنين وبنتين (1صم 2: 22).
![]() |
إنها أعطت للرب من أعوازها.فلم يدعها معوزة للبنين.
* للأسف بعض النساء حاليًا يبخلن بأزواجهن في سيامة الكهنوت! وأيضًا يبخلن بأبنائهن أو بناتهن في التقدم للرهبنة.
وقد حدث هذا معنا أكثر من مرة: الشعب وافق بالإجماع على ترشيح أحد الخدام للكهنوت. ولكن الزوجة رفضت، فلم تتم الرسامة!! لأن الكتاب يقول "المعطي بسرور يحبه الرب" (2كو 9: 7).
إعطاء الزوج للكهنوت قد يكون عطاء من الأعواز. قد ترى فيه الزوجة أنه سيتحول إلى (قطاع عام) بعد أن كان خاصًا بها...!
* مثال آخر ممن يعطي من أعوازه: وهو من يعطي نفسه للرب.
أقصد من يكرس ذاته للرب، ويعطيه هذه الذات التي لا يملك غيرها، ويترك الكل من أجله: أحباء ومقتنيات...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي عطاء المال من الأعواز.
قد يوجد إنسان له مال كثير ويعطي منه للرب. ولكن هذا العطاء لا يكون له العمق مثل من يعطي وهو محتاج إلى ما يعطيه.
* كإنسان يقول: مرتبي كله لا يكفيني. فكيف ادفع عشوره؟ حقًا، إنك ستعطي من أعوازك. لذلك سيبارك الله الباقي فيكون أكثر من المرتب كاملًا...
* مثال آخر، قول الرب "قدّس لي كل بكر، كل فاتح رحم" (خر13: 2)
وهذه هي وصية البكور. وكانت قديمًا من الإنتاج النباتي أو الحيواني، إنسان مثلًا يزرع شجرة، وينتظر أن تعطي ثمرًا. فتعطي ثمرها بعد ثلاث أو أربع سنوات. فيأخذ هذا الثمر كله (باكورة طرحها) ويقدمه للرب. إنه أيضًا عطاء من الأعواز. كان ينتظره ولم يأخذ منه لنفسه.
وهكذا إن كانت عنده بهيمة أو شاه. وينتظر أن تلد، فأول مولود لها يقدمه للرب...ولكن ماذا عن الوضع الآن؟
* غالبية الخريجين يشكون من البطالة. فإن حدث أن أحدهم نال وظيفة معينة، طالما كان ينتظرها. ويأخذ منها أول مرتب، فيقدمه لله لأنه باكورة إيراده.هذا أيضًا عطاء من الأعواز.
وبالمثل أول عملية جراحية يجريها طبيب، أو أول كشف أو علاج، يقدمها أيضًا للرب. وبالمثل يفعل كل مهندس، أو مدرس، أو محاسب، أو محامي، أو صاحب أية مهنة، يقدم أول مكسب له لله.
فهل تحاسبون أنفسكم على البكور القديمة التي لم تقدموها للرب؟
لا أقصد بمقدارها القديم الذي كان منذ عشر سنوات أو أكثر، وإنما بما يوازي ذلك القدر حاليًا...لأنك إذا دفعت حاليًا بنفس القيمة القديمة لا تكون قد أعطيت من أعوازك...!
إن الأمر يدل باختصار على مدى محبة الإنسان للمال أم ارتفاعه عن مستوى ذلك.
لذلك مال الفقير المقدم لله أكثر قيمة من مال الغني الموسر. إنه يمثل لونًا من العملة الصعبة.
* إنه يُذَكِّرنِي بقصة أولوجيوس قاطع الأحجار، الذي كان يكسب في اليوم درهمًا واحدًا. فيجلس في الغروب على مدخل بلدته، ليرى أي غريب فيستضيفه من درهمه الوحيد. وقد روي القديس الأنبا دانيال قمص شيهيت قصة هذا الرجل...
* يُذَكِّرنِي هذا أيضًا بقصة القمص يوسف مجلي، وكان أقدم كهنة الإسكندرية: قابله في الطريق إنسان محتاج يطلب منه صدقة. ولم يكن في جيبه شيء من المال، فاقترض من (بقال) قرب البطريركية، وأعطى ذلك المحتاج... منفذًا وصية "مَن سألك فأعطه"، حتى لو كنت لا تملك شيئًا.
من الأمثلة الأخرى، ذلك الأب الفقير الذي يعلّم أولاده من أعوازه. أو ذلك الأب المريض الذي يفضّل عدم شراء الدواء اللازم له، ويقدم ثمن الدواء ليغطي احتياجات أولاده...هل يذكر الأبناء عطاء آبائهم -من فقرهم- حتى أمكن تربيتهم؟!
هنا وأتذكر الكنائس التي تقصّر في إعطاء الفقراء احتياجاتهم معتذرة بأنها تحتاج المال لمشروعات بناء أو أنشطة أخرى...!!
هذه أيضًا كان يجب أن تعطي من أعوازها لتنفذ وصية الرب، ولكي تكون عنايتها بالفقراء عملية مهما كان الاحتياج...أعطوا الفقراء ولو من مال المشروعات المعتازة.
إننا جربنا هذا العطاء في بعض كنائس مصر الجديدة، فكانت النتيجة أن الإيرادات زادت جدًا عن ذي قبل. مع أن الكنيسة عندها مشروعات، ولكنها تعطي مع أن المشروعات محتاجة.
انتقل إلى نقطة أخرى، وهي العطاء من أعواز الوقت.
من جهة وقت العمل، أو وقت الراحة والصحة.
ترجع البيت وأنت في غاية التعب، ولسان حالك يقول " ثقل النهار وحرّه لم أحتمل لضعف بشريتي". وتريد أن تنام وتستريح. ولكن ماذا عن الصلاة؟! تقول ليس لدي وقت الآن. بكل صراحة أنا في غاية التعب، والنوم ضاغط عليّ...
إذن أنت لا تريد أن تعطي من أعوازك!
فلو أنت قاومت التعب، وأعطيت من أعوازك إلى الراحة، وصلًيت، حينئذ صلاتك تقتدر كثيرًا في فعلها. والرب يعطيك نعمة لتكمل...
* أو أحيانًا تتقدم للصلاة، وفي ذهنك موضوعات كثيرة تشغلك وتريد أن تفكر فيها. ومعنى ذلك أن تحلّ نفسك من كل تلك الموضوعات المهمة لكي تعرف كيف تصلي... فإن فعلت هذا تكون قد أعطيت من أعوازك.
لا تقل: أنتهي من هذا الفكر أولًا ثم أصلي... أو أنتهي من الحديث مع هذا الضيف الذي عندي ثم أصلي... أو أتعشى أولًا وبعد ذلك أصلي... وهكذا تجعل الله في آخر القائمة. ثم تذهب أخيرًا إلى الصلاة وأنت في غاية الإرهاق. فتقول أنام الآن، وعندما يأتي الصباح سوف أصلي!!
وكأنك تقول لله -كما قيل لبولس الرسول- "اذهب الآن. ومتي حصل لي وقت استدعيك" (أع 24: 25)... لا يصح أن تكون الأمور هكذا...
اعطِ إذن من أعواز وقتك: سواء لعمل الصلاة أو التأمل أو القراءة الروحية. واعطِ قلبك لذلك. والله سوف لا ينسى لك تعبك، وبذلك لراحتك...
نفس الوضع بالنسبة إلى الوقت اللازم للخدمة، الذي تقدمه لله على الرغم من كثرة مشغولياتك وعبء المسئوليات الأخرى...لا تحاول أن تعتذر عن الخدمة، مبررًا ذلك بأنه ليس لديك وقت. بل أعط للخدمة من أعوازك إلى الوقت.
أقول ذلك لخدام اجتماعات الشباب والأسرات الجامعية والوعظ. كما أقول نفس الكلام للآباء الكهنة ولزوم تخصيصهم وقت للافتقاد، وتلقي الاعترافات، وزيارة المرضَى، وحل مشاكل العائلات...
لا تعتذروا عن أداء هذه الخدمات، مبررين ذلك بأعذار، بل تذكروا تلك العبارة "إن طريق جهنم مفروش بالأعذار والتبريرات "...
حاول أن تنتصر على مشغولياتك، وأعط لله وقتًا من أعوازك...
عندما تعطي الله وقتًا في تعبك، هو يعوضك ويرفع عنك التعب. كما قيل إنه "يعطي المعيي قدرة، ولعديم القدرة يكثر شدة" (أش 40: 29).
أعرف أن عبارة "ليس عندي وقت" ربما يكون تفسيرها "ليس عندي اهتمام" الذي تعطيه أهمية سوف تجد له وقتًا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
أتكلم أيضًا من جهة واجبات التربية المنزلية.
الأب والأم مسئولان عن تربية ابنهما روحيًا، وليس فقط من جهة الصحة والتغذية والملبس والتعليم.
فهل يعتذر كل منهما بأنه ليس لديه وقت يقضيه في جلسة روحية مع أولاده؟ هوذا الله يقول: "لتكن الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك. وقصّها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك " (تث 6: 6).
في حضوري العيد الألفي لمعمودية روسيا، شكرت الكنيسة لحفظها الإيمان خلال 70 سنه من الشيوعية. وشكرت أيضًا الأمهات والجدات اللاتي كن يهتممن بالأطفال ويقمن بتلقينهم الإيمان وإعدادهم للمعمودية.
أعطوا إذن وقتًا -ولو من أعوازكم- لتعليم أولادكم دينهم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/dialogue-with-god/giving-from-needs.html
تقصير الرابط:
tak.la/h2p79dy