محتويات
|
كلمة "طقس" في اليونانية τάξις لغويًا معناها "نظام" أو "ترتيب"، أما كنسيًّا فتحمل معنى روح النظام وعمقه. فحينما نقول "طقس الرهبنة" لا نقصد مجرد القوانين الرهبانية من أصوام وصلوات ومطانيات metanoia سهر وقراءات إلخ.، إنما نعني شيئًا أعظم هو "الحياة الرهبانية وفكرها". وحينما نقول "طقس الملائكة" نقصد الحياة الملائكية المستنيرة بالله المتهللة والمسبحة النقية بلا دنس. والآن إذ أتحدث عن طقس المعمودية لا أريد تقديم بحث علمي عن النظام الخاص بخدمة المعمودية للموعظين والأطفال، إنما اشتاق إلى الدخول إلى روح الطقس والتعرف بالروح القدس على أسراره اللاهوتية التقوية.
في القرون الأولى كانت أغلب الكتابات المسيحية تنصب على الجانب الدفاعي وتحديد معالم الإيمان المسيحي في وجه الاتهامات التي صبّها اليهود والوثنيون ضد المسيحية، لهذا جاءت الكتابات عن الطقس شحيحة للغاية، إلا أن بعض الآباء قد سجلوا هذه الطقوس، إذ تعتبر مقال العلامة ترتليان عن المعمودية، والتقليد الرسولي للقديس هيبوليتس من أهم المصادر الأولى التي شرحت طقس المعمودية في إيجاز. كما حفظ لنا التاريخ مجموعات من المقالات والعظات التي ألقيت على طالبي العماد قبل عمادهم تحمل الكثير من المفاهيم اللاهوتية لطقس المعمودية، مثل مقالات القديس كيرلس الأورشليمي، والقديس يوحنا الذهبي الفم والأب ثيؤدور المؤبسستي (المصيصي). وقد تحدث الأخير مع طالبي العماد قائلًا: [يلزمكم الآن أن تتسلموا تعليمًا خاصًا بالطقوس التي تتم في السرّ نفسه حتى متى فهمتم سبب كل طقس تنالون معرفة ليست بقليلة [271].]
حقًا قد تختلف تفاصيل طقوس المعمودية في الكنيسة الأولى من منطقة إلى أخرى، لكنها وإن اختلفت في بعض العبارات أو بعض الترتيبات البسيطة لكنها تقدم ليتورجية واحدة بروح واحد، لها هيكل لاهوتي إيماني واحد وفكر إنجيلي واحد.
في سفر أعمال الرسل قَبِل خِصْي كنداكة المعمودية على يَديّ فيلبس الرسول وهو في طريق رحلته إلى بلده، فقد حرص الرسل في بدء الكرازة بالمسيحية أن يقدموا المعمودية للمؤمنين في أي وقت، انتهازًا لكل فرصة لخلاص المؤمنين. وما نقوله عن الخِصْي نكرره بشأن كرنيليوس وأهل بيته (أع 10: 48) وسجَّان فيلبي والذين معه (أع 16: 33) الخ.
وفي القرن الثاني إذ انتشرت المسيحية في كثير من الدول ألزمت الكنيسة طالبي العماد بالدخول في فترة إعداد طويلة بحرص شديد ومهابة، وبالتالي ظهرت أيضًا مواسم معينة لخدمة المعمودية. فيحدثنا العلامة ترتليان عن الفصح (عيد القيامة) والعنصرة (عيد البنطقستي) كموسمين للعماد المقدس: [الفصح هو الوقت الذي فيه نحتفل بآلام المسيح والذي فيه نعتمد، فإنه ليس من الخطأ أن نفسر رمزيًا الحقيقة التالية وهي أنه عندما أراد الرب أن يحفظ الفصح قال لتلميذيه: يلاقيكما إنسان حامل جرة ماء (مر 14: 13)، فمن خلال علامة الماء أظهر موضع الاحتفال بالفصح. أما الوقت الأكثر اتساعًا لممارسة الحميم فهو فصل البنطقستي (العنصرة) حيث عرفت قيامة الرب بين التلاميذ ومُنحت نعمة الروح القدس وظهر رجاء مجيء الرب. فإنه إذ عاد إلى السماء قالت الملائكة للرسل أنه سيأتي كما صعد إلى السماء، أي في وقت البنطقستي. أضف إلى هذا قول إرميا: "أَجمعهم من أقاصي الأرض في يوم العيد". هنا قصد يوم عيد الفصح وعيد البنطقستي.. ومع هذا فإن كل يوم بل وكل ساعة هي للرب. كل وقت مناسب للعماد. فإن كان هناك فارق في العيد لكن ليس الفارق في النعمة [272].]
هنا يُوضح لنا العلامة ترتليان عادة العماد المقدس في عيديّ الفصح والبنطقستي، لكن العماد في نعمته -كما يقول- لا يختلف أن يُتمم في عيد أو في غير عيد.
ويشير القديس غريغوريوس النزينزي في مقاله عن المعمودية إلى عيد الغطاس (الأبيفانيا) كموسم للعماد المقدس: [يقول البعض أنه ينتظر الغطاس، اليوم الذي اعتمد فيه المسيح وظهر للعالم، والآخر يقول أنه يهتم بالفصح أكثر من غيره من الأعياد، والثالث يقول أنه ينتظر العنصرة.]
ومن القديس جيروم يصلنا نص عام جدًا هو نبوة زكريا التي تقول: ["وستخرج مياه حيّة من أورشليم في الصيف والشتاء". وهي إشارة إلى الغطاس والفصح [273].] ولما كان هذا النص قد ترجم في السبعينية والفولجاتا إلى "الصيف والربيع" مارس الغربيون المعمودية في الفصح والعنصرة، وقلما أعطيت المعمودية في الشتاء في الغرب، ولعل رداءة الأحوال الجوية هي السبب [274].
هكذا كان الكثيرون يفضلون العماد المقدس في هذه الأعياد الثلاثة [275] كما في فترة الخمسين المقدسة [276]، غير أن بعض الكنائس مثل كنيسة تساليا كانت تعمد في عيد الفصح وحده [277]، بينما كنائس أخرى مثل أورشليم كانت تعمد في أعياد أخرى مثل تكريس كنيسة القيامة [278]، وفي الغرب كانوا يُعمدون في أعياد الميلاد والرسل والشهداء خاصة القديس يوحنا المعمدان [279].
على أي الأحوال كانت بعض البلاد مثل أورشليم وأنطاكيا وكبادوكية وإفريقيا وبلاد الغال وأسبانيا وايرلندا تتطلع إلى الغطاس كموسم مفرح للعماد، حيث يشعر المؤمنون أنهم يشاركون السيد المسيح عماده [280]. أما الموسم الأكثر شيوعًا فهو ليلة عيد الفصح، قبيل الاحتفال بقداس العيد حتى يشترك المعمدون حديثًا مع المؤمنين في ليتورجيا العيد. أما الآن في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية فقد خصص يوم الأحد السابق لعيد الشعانين للعماد ودعي بأحد التناصير. أما سرّ ارتباط القيامة بالمعمودية فهو أن عيد قيامة الرب هو محور حياة الكنيسة ومركزها. قيامة السيد هي الصخرة التي تتكئ عليها الكنيسة لتعيش مطمئنة وسط دوامة هذا العالم، لا تخاف أمواجه أو عواصفه أو شروره، بل تحيا على رجاء القيامة مرتبطة بعريسها الذي لا يموت، متبررة متقدسة فيه. هذا الرجاء وهذا التبرير وهذا التقديس لا يمكن التمتع به إلا من خلال المعمودية التي فيها ندفن مع ربنا يسوع ونقوم، أي نقبل فصحه كفصحٍ شخصيٍ لنا. وكما يقول الرسول: "أم تجهلون أننا كلَّ مَنْ اعتمد ليسوع اعتمدنا لموتهِ. فدُفِنَّا معهُ بالمعموديَّة للموت حتى كما أُقِيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدَّة الحياة" (رو 6: 3-4). خلال المعمودية نجتاز مع السيد آلامه وموته ودفنه ونختبر عمل قيامته وأمجادها وقوتها في حياتنا الداخلية (رو6: 6). من أجل هذا رتبت الكنيسة أن تقوم بعماد الكثيرين ليلة عيد الفصح أو عيد القيامة، حتى يرفع المعمدون أنظارهم إلى قيامة ربنا على الدوام ويعيشون كل بقية حياتهم ينعمون بقوتها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. في نفس الوقت يرفع المؤمنون أنظارهم في تلك الليلة فيذكرون عمادهم فيلتزمون بالحياة كما يليق كأبناء لله مولودين روحيًا. في عيد القيامة تختلط الأفراح وتمتزج بين أفراح بقيامة الرب رأس الكنيسة وأفراح بقيامة جسده السري، أو بمعنى أدق قيامة بعض أعضائه، فترتج الكنيسة كلها متهللة بالمُعمدين حديثًا كأعضاء في هذا الجسد السري المقام من الأموات.
لكن ما نريد أن نؤكده أن الآباء حذروا من التأخير في نوال سرّ العماد وأوصوا بعدم الانتظار حتى لعيد من الأعياد مادام قد حان الوقت المناسب لنوال العماد:
* إن كل يوم هو يوم للرب وكل ساعة تصلح للعماد [281].
* لكل شيء وقت وفصل: هناك وقت للنوم ووقت للسهر، وقت للحرب وآخر للسلام، لكن لا يوجد وقت خاص للمعمودية، لأن عمر الإنسان كله للمعمودية. كل وقت هو وقت مقبول لقبول الخلاص سواء أكان بالنهار أم بالليل، كل ساعة ودقيقة ولحظة تصلح للمعمودية [282].
كما حذّر القديس غريغوريوس النزينزي [283] أنه يجب ألا يتأخر أحد عن المعمودية مادام مستعدًا لئلا يفاجئه الموت دون نوالها.
يبدأ طقس عماد الموعوظين مع بدء الصوم الكبير حيث كان طالبو العماد يُسجلون أسماءهم لكي يتهيأوا له. وقد وصفت الراهبة الأسبانية اثيريا Etheria هذا الطقس كما شاهدته في أورشليم في القرن الرابع: [كان من يرغب في تقديم اسمه في عشية بداية الصوم يتقدم، فيقوم قس بتدوين الأسماء. وفي اليوم التالي، أي في بداية الأربعيني الصوم حيث تبدأ الأسابيع الثمانية وفي الكنيسة الوسطى المعروفة باسم الاستشهاد Martyrium، يجلس الأسقف على كرسي ويقود القس كل راغب في المعمودية واحدًا يلو الآخر إلى الأسقف. ويأتي الرجال مع عُرَّابهم (أشابينهم Godfathers) والنساء مع عرابهن Godmothers. عندئذ يسأل الأسقف الذين جاءوا مع طالب العماد وخصوصًا جيرانه: هل يعيش بتقوى؟ هل يكرم والديه؟ هل يسكر ويكذب؟ فإن وُجد طالب العماد بلا لوم وشهد عنه الذين قدَّموه عندئذ يُسجل الأسقف اسمه بيده، أما إذا وَجد لومًا ضده في شيء ما، فيقول له: "اذهب أَصلح حياتك وعندئذ تقدم للمعمودية [284].]
تحدث أيضًا الأب ثيؤدور المصيصي عن طقس المعمودية في أنطاكية قائلًا: [من يرغب في نوال المعمودية المقدسة يتقدم إلى كنيسة الله، فسيستقبله الإنسان المكرس لهذه الخدمة. وحسب العادة المرعيّة يجب تسجيل أسماء المتقدمين للعماد، هؤلاء الذين يُسألون عن سيرتهم وطريقة حياتهم ليُعرف إن كانت توجد فيهم المتطلبات الخاصة بالمواطنة في تلك المدينة العظيمة وإن كانوا قد جحدوا كل شرور هذا العالم وطردوها عن أذهانهم بالكلية، فيظهرون مستحقين للمواطنة في هذه المدينة وتسجيل أسمائهم فيها.. فيقف الشخص كمن هو متهم في محاكمة. هكذا يرفع يديه كمن يصلي ويخفض عينيه إلى أسفل. ولهذا السبب يلزمك يا طالب العماد أن تخلع ثوبك الخارجي ونعليك وتقف على مُسح من الصوف [285].]
هكذا يمتزج تسجيل الأسماء بنوع من الاختبار يُفحص فيه طالب العماد فحصًا دقيقًا في وجود العرَّاب أو الإشبين والجيران للتأكد من صدق نيّته وسيرته قبل تسجيل اسمه، على أن يعود الأسقف ويفحصه مرة أخرى قبيل عماده مباشرة.
أشار التقليد الكنسي للقديس هيبوليتس [286] لمثل هذا الاختبار، كما قدم لنا القديس أغسطينوس [287] مثلًا رائعًا له.
لم يكن هذا التسجيل مجرد كتابة أسماء في سجلات الكنيسة، لكنه حمل في ذهن الآباء معنى لاهوتي له أهميته الكبرى ينبع عن احساسات الكنيسة الأولى بأهمية العماد، وبالفارق الشاسع بين الإنسان الذي تثقَّل بالخطيئة والموت الروحي قبل العماد، والذي صار في حريّة مجد أولاد الله بعد العماد، فقد دَعي القديس ديونسيوس الأريوباغي في كتابه "الرئاسة الكهنوتية" سجل الكنيسة هذا "سفر الحياة"، ورأى القديس غريغوريوس النيسي في هذا العمل إصبع الله نفسه تسجل أسماءهم، إذ يقول: [أعطوني أسماءكم لكي ما أكتبها بالحبر، ولكن الرب نفسه ينقشها على ألواح لا تفسد، يكتبها بإصبعه كما سبق فكتب شريعة العبرانيين [288].]
[يا من تتقدمون للعماد، أن الذي أُوكل بهذا العمل ينقشكم بالحقيقة في كتاب الكنيسة بطريقة بها تعرفون أن أسماءكم قد نقشت من الآن في السماوات. الآن يهتم عرَّابكم (إشبينكم) بكم اهتمامًا عظيمًا ليعلمكم لأنكم غرباء عن المدينة، لكنكم قريبًا تدخلون إلى الحياة فيها وتتعودون عليها بأنفسكم [289].]
كانت الكنيسة الأولى حازمة ومتشدّدة في الموافقة على عماد الموعوظين، فالموعوظ يدخل تحت اختبار الأسقف نفسه حتى لا يتسلل إلى العضوية الكنسية إنسان بغير هدف سليم، أو إنسان يسلك بغير لياقة، فلم تكن الكنيسة تقبل "أنصاف المسيحيين" وكما يقول جنجمان: [لم تردّ الكنيسة مجرد أنصاف مسيحيين، بل كانت تفضل أن تكون قليلة في العدد عن أن تكون غير أمينة لمبادئها، أو عن أن تخاطر بهذه المبادئ. فإنه لم يقدر كثيرون أن يحشدوا الطاقة اللازمة لأخذ مثل هذا القرار فاستبعدوا وهم في حزن. ومن جهة أخرى كان هذا التشديد نفسه في القوانين يقدم نوعًا من الجاذبية القوية لدى أصحاب الفكر الأكثر نبلًا [290].]
كانت الكنيسة تهتم أولًا بنيّة طالب العماد، فكما جاء في التقليد الكنسي للقديس هيبوليتس: [ليُمتحنوا من جهة السبب الذي لأجله جاءوا إلى الإيمان، وليشهد لهم الذين يُحضرونهم]، [ليتأكدوا من جهة صدق نيّة طالب العماد. إن كان عبدًا فليُنظر إن كان سادته يشتكون عليه]، [وإن كان متزوجًا ليُنظر إن كان يتمم مسلمات قانون السلوك المسيحي [291].]
وفي حديث القديس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد: [إن كنت هاهنا بجسدك دون ذهنك فلن تنتفع شيئًا، فإنه حتى سيمون الساحر جاء يومًا إلى الجرن (أع 8: 13) واعتمد دون أن يستنير. فمع أنه غطس بجسده في الماء لكن قلبه لم يستنر بالروح. نزل بجسده وصعد، وأما نفسه فلم تُدفن مع المسيح ولا قامت [292].]
في الكنيسة الأولى وُجد في ذهن الأساقفة قائمة بالمرفوضين من الدخول في صفوف الموعوظين مثل كهنة الأصنام أو حافظي الأوثان فإنهم لا يُقبلون إلا بعد تركهم عملهم هذا [293]. وأيضًا اللاعبون في المسارح لأنهم يلهَوْن بحياة الناس، والمترددون على الملاهي [294]، والجنود إذ عرفوا في ذلك الوقت بالظلم والتزامهم بالقسم بالآلهة الوثنية [295]. غير أنه يمكن قبول الجند بشرط ألا يقتلوا أحدًا ظلمًا حتى وإن أُمروا بذلك، وألا يقسموا بالأوثان [296]. وغالبًا ما كانت الكنيسة ترفض أصحاب الوظائف الحكومية الكبرى في ذلك الحين بسبب استحالة تجنبهم الاشتراك في الاحتفالات الوثنية وتقديم ذبائح للأوثان [297]، غير أن البعض قبلوا الإيمان ونالوا المعمودية المقدسة، وكانت لهم الشجاعة في رفض الاشتراك في هذه الأمور، ومنهم من استشهد. أما بالنسبة لمعلمي الفلسفة، فلم يكونوا يُمنعون، لكن كانت الكنيسة في البداية تتردد في قبولهم، إذ كان يلزمهم أن يعلنوا نقائص الآلهة لتلاميذهم [298]، وهذا أمر صعب. وفي مصر نال بعض الفلاسفة نعمة المعمودية بل وتسلموا التعليم في مدرسة السكندرية، وهم يرتدون ثوب الفلسفة مثل القديس بنتينوس.
من هذا نتلمَّس في الكنيسة الأولى حرصها الشديد أن يكون طالب العماد هو من يتقبل التعليم المسيحي، لا لمجرد الدراسة الفلسفية ولا لغرض آخر سوى التعرف على الحق وتقبله في حياته الداخلية وسلوكه.
حقًا لقد دخل البعض إلى صفوف طالبي العماد بنية شريرة، أو حبًا للاستطلاع، أو بقصد إرضاء الغير، كأن يريد أحد الوثنيين الزواج بفتاة مسيحية. هؤلاء متى اكتشفتهم الكنيسة أثناء الصوم المقدس قبل العماد أفرزتهم وحرمتهم من التمتع بسرّ المعمودية. إنها تدرس حالة كل شخص على انفراد، فإن رأت إمكانية كسبه للإيمان عالجت ضعفه وصححت مسار أعماقه الداخلية [299]، لكنها لا تهادنه ولا تعمده ما لم تتغير اتجاهاته وسيرته.
يحدث القديس كيرلس الأورشليمي طالبي العماد، قائلًا:
[هل دخلت لأن الحارس لم يمنعك... أم لأنك تجهل الزي اللائق بدخولك الوليمة؟
ألم تعلم هذا مما رأته عيناك حين دخلت ونظرت ثياب الضيوف المتألقة؟!
لكن لأنك دخلت بغير لياقة، فبغير لياقة تخرج..
اخرج الآن بلياقة، ادخل غدًا وأنت أكثر استعدادًا [300].]
[حقًا أن العريس يدعو الجميع بغير تمييز لأن نعمته غنية، وصوت الرسل يعلو صارخًا لكي يجمع الكل. لكن العريس نفسه يقوم بفرز من دخلوا معه في علاقة زوجية رمزية.
آه! ليته لا يسمع أحد ممن سُجلت أسماؤهم هذه الكلمات: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس (مت 22: 12)؟! [301]]
تسجيل أسماء الموعوظين راغبي العماد في بدء الصوم الكبير واختبارهم لا يعني بدء علاقتهم بالكنيسة، فإنهم غالبًا ما يكونوا قد بقوا تحت رعاية الكنيسة مدة ثلاث سنوات [302]، ينتقلون فيها من فئة إلى أخري حتى تطمئن الكنيسة على حسن نيّتهم وجدّيتهم في طلب الخلاص، وتمسكهم بالإيمان وتُقوّى سيرتهم فينتقلون إلى آخر درجة من الموعوظين وهي "طالب العماد". هذا الانتقال يختلف من شخص إلى آخر حسب غيرته ودراسته الفردية الخاصة، قبل أن ينضم إلى صفوف الموعوظين أو أثناءها. جاء في التقليد الكنسي للقديس هيبوليتس: [إن كان إنسان ما غيورًا مثابرًا حسنًا... فليقبل، فليس الزمن هو الذي يحكم بل السلوك [303].]
هؤلاء كان يُسمح لهم بحضور الوعظ وسماع فصول الكتاب المقدس، ثم يُخرجهم الشماس [305]. هؤلاء لا يتمتعون مع الراكعين بحضور صلوات قداس الموعوظين خصوصًا أثناء وضع اليد.
هؤلاء يحق لهم حضور قداس الموعوظين، فيتمتعون بسماع الفصول من الكتب المقدسة والعظة ثم الصلاة الخاصة بالموعوظين [306] وهي جزء من الأواشي تصلى بعد العظة، ثم يأخذون وضع اليد للبركة وهم ركوع. إذا ارتكب الراكع جريمة أو ظل في خطيئته يصبح من السامعين، وإن بقى هكذا يطرد خارج الكنيسة.
ويُدعَوْن بالمستنيرين أو الذين سيُعمدون.
هكذا ينتقل الموعوظ من فئة إلى فئة حتى ينال المعمودية المقدسة. وقد كانت الكنيسة غير جامدة فإنها تسمح للموعوظ في أي فئة بنوال سرّ العماد متى كان في خطر الموت، كما ذكر القديس باسيليوس [307] في رسالته إلى القنصل الروماني Anneheus الذي قَبِل المسيحية عن طريق زوجته، وكان في خطر الموت فعُمّد فورًا، ويقول القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص أن الموعوظ الذي آمن بالقيامة من الموت وسكن هذا الرجاء في قلبه كان يُعمد إذا تعرض للموت لكي لا يموت رجاؤه.
على أي الأحوال كانت فترة الصوم الكبير هي الفترة التي تُعبأ فيها الطاقة لتعليم الموعوظين يوميًا، إذ تقول الراهبة اثيريا: [العادة هنا أن يأتي الذين سيتعمدون كل يوم في فترة الصوم الكبير.]
يصف القديس كيرلس الأورشليمي في فترة الصوم كيف يجتمع الرجال معًا ليقرأ أحدهم بينما يُصغي الباقون، وتجلس الحدثات معًا يُلحِّن المزامير أو يقرأن، لكن بصوت خافت فتتحرك شفاههن دون أن يسمع أحد أصواتهن. كما تجلس النساء المتزوجات معًا ويصلين، وتتحرك أيضًا شفاههن دون أن تُسمع أصواتهن، لكي يُوهب لهن صموئيل وتلد أنفسهن (العواقر) الخلاص الذي هو "الله يسمع الصلاة (صموئيل)" إذ هذا هو تفسير اسم صموئيل [308].
نحن نعلم أن الكنيسة منذ نشأتها كانت منطلقة للكرازة، تنفذ كلمات الرب: "مَنْ لا يجمع معي فهو يفرّق" (مت 12: 30، لو 11: 23). فالكل يشعر بمسئوليته نحو الشهادة للسيد المسيح، إن لم يكن بالكلام فبالسيرة الصالحة، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [كل تلميذ للمسيح هو صخرة، فيه تكتمل الكنيسة الجاري بناؤها بيد الله [309].]
ويُحمِّل القديس كيرلس الأورشليمي مسئولية تعليم الموعوظين أطفالًا كانوا أو بالغين على الآباء والأشابين (العرَّاب)، إذ يقول: [إن كان لك ابن حسب الجسد انصحه بهذا، وإن كنت قد ولدت أحدًا خلال التعليم فتعهده برعايتك [310].]
إذن كل مؤمن حقيقي يلتزم بالمساهمة في تعليم موعوظ أو أكثر، بصورة أو أخرى، فماذا نقول عن الكاهن الذي يدعوه القديس يوحنا الذهبي الفم: [أب كل البشرية]؟! لقد دخل القديس غريغوريوس العجائبي قيصرية الجديدة وبها سبعة عشرة مسيحيًا فقط، وحينما تنيح بسلام لم يكن بها سوى سبعة عشرة وثنيًا.
على أي الأحوال لم يكن يُحرم كاهن ما من خدمة الموعوظين المنظمة في الكنيسة، بل يقوم كل منهم بنصيب فيها. أما المرحلة الأخيرة من التعليم فغالبًا ما كان يقوم به الأسقف نفسه أو كاهن يثق فيه من جهة قدرته التعليمية بالنسبة لهم. وقد سجل لنا التاريخ أسماء أشخاص تخصصوا في تعليم الموعوظين مثل العلامة أوريجينوس الذي قدَّم من تلاميذه الموعوظين شهداء، وديوجرانيس الشماس بقرطاجنة.
أ. تقدم دراسات خاصة للذين كانوا من أصل يهودي تختلف عمن كانوا من أصل وثني، كل فئة لها ما يناسبها حسب ثقافتها ودراساتها السابقة وبيئتها.
ب. يقوم معلم (ديدسكالوس) بالقراءة لهم من الأسفار المقدسة وبعض الكتب الكنسية الهامة. وقد أشار العلامة أوريجينوس إلى هذه الأسفار، وهي غالبًا ما تمتاز بالاهتمام بالحياة السلوكية مثل إستير ويهوديت وطوبيا والحكمة [311]، كما أشار البابا أثناسيوس الرسولي إلى ذات الأسفار مع بعض الكتب الكنسية مثل الديداكيّة [312] والراعي لهرماس.
ج. تُقدم لهم دراسات تأملية لاهوتية مبسطة تضم أهم العقائد المسيحية، ظهرت في شكل "قانون الإيمان للرسل [313]"، والذي كان أشبه بدستور للإيمان المسيحي، وقد صار نواة لقانون الإيمان الأثناسيوسي الذي وضعه مجمع نيقية المسكوني عام 325 م.، وكمله مجمع القسطنطينية عام 381 م. ويعتبر هذا القانون ملخصًا شاملًا يُقدم للموعوظين مع شرح له لكي يفهمونه يحفظونه.
جاء في القوانين (الدساتير) الرسولية: [على الموعوظين أن يتسلموا قبل المعمودية معرفة الله الآب والابن الوحيد والروح القدس، ونظام خلق العالم والإعلانات الإلهية، ولماذا خُلق الإنسان والعالم، ويتعلم من ناموس الطبيعة لكي يعرف الهدف الذي خُلق لأجله. ويتعلم كيف يعاقب الرب الخطاة بالماء والنار وكلّل قديسيه في كل جيل، مثل شيث وأنوش وأخنوخ ونوح وإبراهيم وملكي صادق الخ. ويتعلم تجسد المسيح وآلامه وقيامته وصعوده، وما معنى جحد الشيطان والدخول مع المسيح في عهد [314].]
ويَظهر اهتمام الكنيسة بتسليم قانون الإيمان أن الأسقف بنفسه هو الذي يقوم بهذا العمل، فقد كتب الأسقف أمبروسيوس إلى أخته مرسيلينا: [في اليوم التالي، إذ كان يوم الرب، بعد الدرس والعظة، كما خرج الموعوظين، سلمت طالبي العماد قانون الإيمان في معمودية البازليكي [315].]
كذلك يفتتح القديس أغسطينوس مقاله عن "قانون الإيمان لطالبي العماد"، قائلًا: [استلموا يا أولادي دستور الإيمان الذي يدعى قانون الإيمان... وإذ تتقبلوه اكتبوه في قلوبكم ورددوه كل يوم قبل النوم قبل الخروج. تسلّحوا بقانون إيمانكم. إنه قانون لا يكتبه الإنسان لكي يقرأه بل لكي يردده، حتى لا ينسى ما قد تسلمه بعناية. سجلوه في ذاكرتكم.]
ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [عندما تتعلم "الإيمان" والاعتراف به، اُطلب هذا الإيمان وحده الذي تسلمه لك الكنيسة الآن. احتفظ بهذا الذي يشيده الكتاب المقدس بقوة... لا تكتبه على ورق بل انقشه بذاكرتك على قلبك... أنني أرغب في تقديمه لك كعون يسندك كل أيام حياتك.]
وكتب الأنبا يوحنا الأورشليمي للقديس جيروم: [العادة عندنا أننا نسلم التعليم بالثالوث القدوس بصورة عامة خلال الأربعين يومًا للذين سيتعمدون.]
د. بعد تسليم قانون الإيمان وشرحه يتسلم طالبو العماد الصلاة الربانية. وكما يقول القديس أغسطينوس أنه بعدما نعرف من نؤمن به نصلي إليه، فإنه كيف نصلي لمن لا نعرفه ولا نؤمن به؟!
ه. في الفترة الأخيرة يقوم المعلمون بتحفيظهم بعض التلاوات أي الصلوات القصيرة تساعدهم في الصلاة.
و. أخيرًا في الأيام القليلة السابقة للعماد المقدس تُقدم لهم الكنيسة مائدة دسمة عن شرح طقس العماد والميرون وسرّ الأفخارستيا بطريقة مختصرة روحية.
في اختصار يمكننا تقسيم مادة التعليم السابقة إلى قسمين رئيسيين: دراسة سلوكية وعقيدية مبسطة، ثم دراسة مبسطة لشرح أسرار الكنيسة.
في بدء العصر الرسولي كان يكفي لنوال المعمودية أن يكون طالبها متقدمًا بضمير نقي (1 بط 3: 22)، لكننا نجد في الديداكيّة التي يرجع بعض نصوصها إلى القرن الأول الميلادي يلتزم المعمد أن يصوم يومين أو يومًا قبل العماد ويشترك معه خادم المعمودية وغيرهما ممن يستطيعون [316].
جاءت كتابات الكنيسة تؤكد أن إعداد طالبي العماد لا يقف عند مجرد الاستماع إلى التعاليم وحفظ قانون الإيمان وبعض الصلوات، وإنما يليق أن يستعدوا بالصلاة والصوم مع السهر مع تقديم ثمار تليق بالتوبة.
* يجدر بالآتين إلى المعمودية أن ينشغلوا على الدوام بالصلوات والأصوام والمطانيات والأسهار، كل هذا مع الاعتراف بالخطايا السابقة [317].
* إذ يتقبل كثيرون هذه الأمور التي يتعلمونها والتي ننطق نحن بها، ويؤمنون أنها حق، ويَعدون أن يعيشوا حسب وصايا ديانتنا، يتعلمون أن يُصلوا ويسألوا الله لأجل غفران خطاياهم بالصلوات والأصوام، وحتى نحن نشترك معهم بالصلوات والأصوام، عندئذ نحضرهم إلى حيث يوجد الماء ويتجددون بنفس الطريقة التي نلنا نحن بها التجديد [318].
* فليصم (المتقدمون للعماد) يوم الجمعة (العظيمة) [319].
التقليد الرسولي للقديس هيبوليتس
* ليصم من يتقدم للعماد قبل أن يعتمد [320].
الدساتير الرسولية
* إن اقترب يوم عرسكم أما تتركون كل شيء وتتفرغون تمامًا لإعداد الوليمة؟! لقد اقترب يوم تكريس نفوسكم لعريسها السماوي، أما تكفون عن الانشغال بالأمور الزمنية لتربحوا الروحية؟! ليتنقي ذهنكم كما بنار في وقار! لتصهر نفوسكم كالمعدن فتزول الشوائب ويبقى المعدن الخالص!
* هيئوا قلوبكم لقبول التعليم من أجل شركة الأسرار السمائية الخالدة.
صلوا بأكثر مثابرة لكي يجعلكم الله مستحقين الأسرار السمائية الخالدة. لا تنقطعوا عنها نهارًا وليلًا، بل عندما يُطرد النوم من أعينكم فلتتحرر أذهانكم للصلاة. وإن ثار فيكم أي فكر معيب حوّلوا أذهانكم إلى التأمل في الدينونة فتذكرون الخلاص. قدموا أذهانكم كلها للدراسة حتى تحتقروا الأمور الدنيئة [321].
_____
[272] De Baptismo 19.
[273] تفسير نبوة زكريا 8:14.
[274] الدكتور جورج حبيب بباوي، ص 91.
[275] ST. Jerome: Epist. Ad Pammach 16; ST. Chrys: Epist. 1 ad Innocent.
[276] Apost. Const. 5:28.
[277] Socrates: H.E. 5:22.
[278] Sozomen: H.E. 2:26.
[279] D. Stone: Holy Baptism p 142.
[280] D. Stone: Holy Baptism p 142.
[281] De Baptismo 19.
[282] عظة 13 على المعمودية (مترجمة د. جورج بباوي).
[283] Orat. 11 on Baptism.
[284] Per. Eth. 45.
[285] Theodore of Mopsuestia: Hom. Cat. 12:1.
[286] Apost. Trad. Of Hipp. 20.
[287] De Catech. Rud 9; PL 40:316-7.
[288] PG 46:417 B.
[289] J. Daniélou: The Bible and The Liturgy, P 22.
[290] J. Jungmann: The Early Liturgy. 1959, P 76, 77.
[291] Dix: Apost. Trad. Of Hipp. 23, v 1-2. 4,6.
[292] Protech. 1,2.
[293] Dix: Apost. Trad. 23, v 16.
[294] Ibid 25 f, v 12, 14, 15.
[295] Tertullian. De Corona Militus.
[296] Dix 25, V 17.
[297] Ibid v 18.
[298] Ibid v 11, 13.
[299] St. Cyril Jer: Catech. 5.
[300] Ibid 3,4.
[301] Cat. Lec. 3:2.
[302] Apost. Const. 8:32.
[303] Dix 28, v 2.
[304] راجع الدكتور جورج بباوي، ص 51-52.
[305] قوانين مجمع نيقية 14.
[306] الأحكام الرسولية 6:8.
[307] Protech. 14. PG 33:356 A.
[308] Protech. 14. PG 33:356 A.
[309] G. Foster: Why the Church? P 22.
[310] Cat. Lect. 15:18.
[311] In Num., hom 27:1.
[313] قمت بترجمته ونشره والتعليق عليه مع الديداكيّة السابق الإشارة إليها.
[314] Apost. Const. 7:39.
[315] Epist 20.
[316] Didache 7:4.
[317] De Baptismo 20.
[318] Apology 1:61.
[319] Dix 32, v 5-8.
[320] Apost. Const. 7:22.
[321] Protech. 6,16.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/holy-spirit/preparing.html
تقصير الرابط:
tak.la/wqt6j9f