الفصل العاشر
إسرائيل عند سفح جبل سيناء - الاستعداد للعهد - الوصايا العشر ومعناها (خر 19: 1 - 20: 17)
لقد كان الشهر الثالث بعد مغادرة مصر عندما وصل بنو إسرائيل مجموعة الجبال الداخلية التي منها تشتق شبه جزيرة سيناء اسمها. ولو نتكلم بصفة تقريبية فإن كل المنطقة تشغل مساحة تعادل ضعف منطقة يوركشاير(127). تجتازها كمثل طرق وديان كثيرة العدد، ويبدو أن كلها تؤدي إلى الهيكل المركزي العظيم حيث كان الله على وشك أن يعطي شريعته لشعبه.
هذه المنطقة الجبلية تحمل في الكتاب اسمين مميزين: حوريب وسيناء، الأول ربما يُطبق على المجموعة كلها، بينما الثاني لجبل واحد معين فيها. وربما اسم حوريب قد يعني "جبل أرضيته جافة" والذي لسيناء يعني "يعني "جبل الشوك". وفي الوقت الحاضر كل المجموعة السينائية تُنعت باسم جبل موسى. وهي تشكل "كتلة جبلية ضخمة طولها حوالي اثنين ميل بينما عرضها واحد ميل مع وادي ضيق من كلا الجانبين، ... وسهل فسيح في الطرف الشمالي الشرقي(128)"
وذاك الوادي يعرف في الوقت الحاضر بكونه "وادي الراحة" إذ حُسب تقديريًا أن يتسع ليستوعب حوالي 2مليون شخص. وقبل أن يقوم جبل موسى مباشرة، منه يبرز منحدر منخفض، يُرى من كل أجزاء الوادي. هذه هي رأس الصفصافة في الوقت الحديث، وكان بكل ترجيح سيناء التي عليها نزل الرب ومنها تكلم الوصايا العشر. في تلك الحالة يلزم أن وادي الراحة كان الموضع الذي وقف عليه إسرائيل وكومة الركام في الأمام (كحدود لا يمكن تخطيها)، وعلى الطريق الصاعد إلى رأس الصفصافة، البقعة حيث موسى "انفصل عن الشيوخ الذين صاحبوه إلى أبعد حد في صعوده".
وإذ غادروا رفيديم، سيجتاز السواد الأعظم من بني إسرائيل عبر ما يُعرف بوادي الشيخ، وهو وادي عريض مفتوح، يحتوي على أشجار الطرفاء و"مقطوع عبر جدار جرانيتي مباشرة". وعند الوصول إلى الدوران في الطريق "تكمن الرحلة بأكملها عبر صخور جرانيتية، ذات الحدود حادة التجعد، كما أيضًا العلو المتزايد والرمادي الداكن لألوان الجبال، تمنح مزيد من الجلال الوقور للمنظر".
![]() |
وقد وصف رحالة(129) فصيح مؤخرًا المدخل لسيناء هكذا: "في كل تقدم متعاقب، تحرر هذه المنحدرات ذاتها من التلال المحيطة والتي تتخللها، وفي النهاية تقف -عليّ بالأحرى القول، الكتلة العمودية التي تشكلها- تقف بمفردها أمام السماء. وعلى كل جانب التعقيدات اللانهائية للجبال الملتوية ذات النتوءات الحادة، تسقط بعيدًا عنها. على كل جانب السماء تحيطها دائريًا كما لو أنها بمفردها في البرية. وإلى هذه الكتلة العظيمة نحن نقترب عبر وادي واسع، سهل متواصل الطول يتم غلقه كما لو كان بين سلسلتين جبليتين حادتي الانجراف ألوانها من الأسود والأصفر الجرانيتي، ولها على الدوام عند طرفها هذه الكتلة الجبلية الهائلة والتي لا يمكنني سوى أن أقارنها بشارع عريض من خلاله جُعل المدخل إلى المعابد المصرية العظيمة".
ولكي نحاول أن ندرك المنظر المعروض علينا عند إعطاء الشريعة، يمكننا أن ندرك جيدًا كيف أنه "ارْتَعَدَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي فِي الْمَحَلَّة" (خر 19: 16). وادي الراحة الهائل وكل الوديان المجاورة والوديان الصغيرة المنعزلة كانت مزدانة بخيام إسرائيل. لا توجد أرض ليقيموا فيها خيامهم أكثر مناسبة من هذه والمنطقة المجاورة لها أفضل مواضع شبه الجزيرة كلها من جهة مصادر المياه العذبة حيث بها "وجد ما لا يقل عن أربع جداول مياه حية في الوديان الملاصقة".
الوادي ذاته ارتفاعه تقريبًا خمسة آلاف قدم فوق مستوى البحر. في المقدمة ذاتها -تقطعها وديان تتخللها من كل الجوانب- تقوم مجموعة جبال حوريب (أعلى نقطة فيها 7363 قدم)، ومنها يبرز في الوادي كمثل مذبح هائل أو منبر، الجرف السفلي لرأس الصفصافة (6830 قدم) -"الجزء السفلي من الجبل"- جبل سيناء ذاك الذي منه سُمع صوت الله الحي.
في المقدمة كومة الحجارة التي عندها فارق موسى الشيوخ عند طلوعه الجبل. تنشأ الصفصافة فجأة "حتى أنه يمكنك أن تقف تحتها بالضبط وتلمس قاعدتها"، وهكذا بطريق شاملة تنفصل الطبقة الجبلية عن كل ما حولها، حتى أنه لا يمكن أن توجد صعوبة تُذكر في وضح حدود للناس من حولها لمنعهم من الصعود إلى الجبل أو حد لمس تخومه (خر 19: 12).
خلف الصفصافة على شق حافة ناتئة كان موسى مع الرب لمدة أربعين يومًا، وعند نزوله في الوادي الملاصق، سوف يسمع -مثلما سجل أعضاء بعثة المسح والاستكشاف أنهم اختبروه مرارًا- الصوت من المحلة بدون أن يتمكن من رؤية ما يحدث فيها.
لكن عندما كان الناس يشخصون إليه آنذاك: "كَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ" (خر 19: 18). تلك الكتلة الجبلية الهائلة المعزولة -التي طولها اثنين ميل وعرضها ميل واحد- تبدو كلها مشتعلة بالنار! إذ "صَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُون" صعد إلى السماء، لذا "َارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا"، و "صَارَتْ رُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَسَحَابٌ ثَقِيلٌ عَلَى الْجَبَل"، "وَصَوْتُ بُوقٍ شَدِيدٌ جِدّا". لكن ما هو أكثر رهبة من الآيات المادية هو أنه "وَنَزَلَ الرَّبُّ عَلَى جَبَلِ سِينَاء"، "وَدَعَا اللهُ مُوسَى إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ" والله نفسه " تَكَلَّمَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْكَلِمَات" التي للوصايا.
لمدة ثلاثة أيام كان يتم إعداد الشعب بتقديس متواصل، والآن هم وقفوا مستعدين عند سفح الجبل وإن كانوا ممنوعين من الاقتراب منه. لكن بالرغم من ذلك: "وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ ارْتَعَدُوا وَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ.- وَقَالُوا لِمُوسَى: «تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ» (خر 20: 18-19).
هذا التقديس الخارجي لبني إسرائيل سبقه تقديس داخلي وإعداد روحي. كما هو الحال على الدوام، طلب وأمر الله يسبقه وعد منه. لأنه على الدوام يعطي ما يطلبه. إنه كما صاغها القديس أُغسطينوس بأسلوب جميل: "أعط ما تأمر وأمر بما تشاء".
وإذ وصل إلى سفح جبل سيناء، صعد موسى لحافة ناتئة أدنى، كما لو ليسأل ويطلب أوامر ربه، والرب كان يكلمه من رأس الجبل (خر 19: 20).
قبل إعداد الشعب لنوال الناموس، وجه الله موسى ليذكّرهم بخلاصهم وتحررهم من مصر وبأحكام يد الله والرحمة والإحسان الذي تلقوه منه. لأنه كما على جناحي النسر حملهم الرب: " أَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُور" (خر 19: 4)، تم مقارنة معاملات الله بتلك التي للنسر، الذي يبسط جناحيه القويين تحت صغاره عند بداية تعلمهم الطيران لئلا يخوروا أو يتعبوا فيتحطموا على الصخور (قارن تث 32: 11).
لكن كل هذه الرحمة -كان لموسى أن يخبر بني إسرائيل- أنها لم تكن سوى عربون لنعمة أغنى جدًا. لأن الرب سوف يدخل في عهد معهم. فلو سمع إسرائيل صوته وحفظوا عهده يكونون بحسب كلماته شخصيًا: " تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً (ملكية ثمينة(130) بحسب النص) مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوب. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً" (خر 19: 5-6).
هكذا نُقل الوعد بصفة خاصة وعامة، وهو يصف على السواء صفة شعب الله ومصيرهم. كل الأرض هي ملك لله ليس فقط بحق الخلقة والملكية، بل أيضًا بكونه مُعين لها أن تعترف به بكونه ربها. هنا يكمن وعد ببركة شاملة لكل البشرية، وبهذه المهمة كان إسرائيل مُلزم ومقيد بها جدًا.
لكن بينما كل الأرض كانت للرب، كان إسرائيل بالنسبة له ملكيته الثمينة من بين كل الأمم، كان هو كنزه المختار لأن هذا ما يتضمنه النص العبري، أو كما شرحها بولس الرسول في (تي 2: 14)، " شعبًا خاصًا"، وبطرس في (1بط 2: 9) "شعب اقتناء"، والأسلوب الذي به سوف تظهر هذه الكرامة، يتم شرحه بتعبيرات فيها يتم وصف إسرائيل بكونه: "مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً"، وعبارة "مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ" تعني مملكة مواطنيها كهنة، وعلى هذا النحو تقتني كرامة وسلطان ملوكي، أو بتعبير القديس بطرس "كهنوت ملوكي".
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
فعلى قدر ما الأمر يخص إسرائيل، كان الحكم الديني الذي أقامه الله بينهم، كان مجرد الوسيلة التي بها يتم نوال هذه الغاية، مثلما أن حفظهم العهد كان الشرط له. لكن العهد ذاته يصل إلى ما وراء العهد القديم وسوف يتحقق بكماله فقط عندما "إسرائيل الله" الذي الرب يسوع فعليًا هو "الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ"، "جَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ" (رؤ 1: 5-6؛ 5: 10)، سوف نشاركه مجده ونجلس معه على عرشه.
هكذا الهدف النهائي للكهنوت الملوكي لإسرائيل كان تلك الأمم، التي من بينها اختار الله شعبه كملكية ثمينة له. تجاههم كان لإسرائيل أن يعملوا ككهنة. لأنه كما أن الكاهن هو وسيط بين الله والناس، هكذا كان لإسرائيل أن يكون وسيط لمعرفة وخلاص الله لكل الأمم. وهذا كان لكهنوتهم أن يكون أساس ملوكيتهم، والوصف الأكثر مهابة لإسرائيل ولنا نحن المدعوين "إسرائيل الله" هو المختص "بأمة مقدسة".
وعن حق وصواب لاحظ أحد المشاهير فقال: "هذا الاسم أو اللقب المميز لم يكن يرجع إلى تقوى أو قداسة الشعب، بل لأن الله ميزهم بامتيازات خاصة عن الآخرين. لكن هذا التقديس يتضمن شيئًا آخر، أي أن من هم مميزين هكذا بنعمة الله، عليهم أن ينّموا القداسة ويتعهدوها لكي بدورهم يقدسوا الله".
التعبير العبري لكلمة "قداسة" يُفترض عمومًا أنها تعني أن يفرز أو يخصص. لكن هذا فقط هو معناها الثانوي، ومشتق من الغرض لما هو مقدس. فمعناها الأساسي هو أن يكون رائع، جميل، نقي وغير نجس. الله قدوس، بكونه النقي والمتألق والمجيد بصفة مطلقة.
من ثمَّ هذا يتم الرمز إليه بالنور. الله ساكن في نور لا يُدنى منه (1تي 6: 16)، هو "أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ" (يع 1: 17)، نوره لا يمكن أن يصير معتمًا أو يخلي مكانه للظلمة. المسيح هو النور الذي أشرق في ظلمة عالمنا، "النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان" (يو 1: 5، 9).
وإسرائيل كان له أن يكون شعب مقدس لكونه يسكن في النور من خلال علاقة العهد مع الله. لم يكن اختيار إسرائيل من كل الأمم الأخرى هو الذي جعلهم أمة مقدسة، بل العلاقة التي بها دخل الله معهم. دعوة إسرائيل، فرزهم واختيارهم كانوا مجرد الوسائل.
القداسة ذاتها كان لها أن تُدرك من خلال العهد الذي يعطي الغفران والتقديس، والتي بتهذيب ناموسه وقيادة ذراعه القدوس، كان لإسرائيل أن يُقاد إلى الأمام وإلى أعلى. هكذا لو أن الله أظهر سمو اسمه أو مجده في الخليقة (مز8)، فإن طريق قداسته كان بين إسرائيل (مز 77: 13؛ مز104؛ 103).
هذه النظرة التفصيلية لمِا كُلّف موسى بقوله، سوف يساعدنا على فهم كل من الاستعدادات للعهد وللأسلوب المهيب الذي به تم افتتاحه رسميًا. عندما أشار موسى إلى الشعب وأخبرهم عن القصد الكريم لله، أعلنوا استعدادهم لإطاعة ما تكلم به الله. لكن من حيث أن الرب أمكنه أن يدخل في عهد مع الشعب فقط بتوسط موسى، من أجل ضعفهم وحياتهم الخاطئة، تكلم في الضباب مع عبده أمامهم جميعًا، لكي يمكنهم أن يروا ويسمعوا ويؤمنون إلى الأبد فيما بعد.
وكما أشرنا من قبل، فإن الاستعدادات الخارجية للشعب كانت مضاعفة.
أولًا، هم أجروا بعض تطهيرات رمزية للتطهير الداخلي.
ثانيًا: تم إقامة حدود حول جبل سيناء، لكي لا يمكن لأحد تجاوزها أو لمس الجبل(131). ثم في اليوم الثالث(132)، قاد موسى الشعب ووضعهم عند الجزء السفلي من الجبل "الذي يشتعل بنار"، هناك أعلن الله شريعته المقدسة والأبدية وسط آيات هائلة، تشير إلى أنه كان عظيمًا ومرعبًا في قداسته وإنه إله غيور ولو أن نار سخطه وغيرته كانت ملتحفة بضباب.
استعلان مشيئة الله والتي سمعها إسرائيل من جبل سيناء تحتويها وصايا عشر، أو كما دُعيت في النص الأصلي "الكلمات العشر"(133). هذه تم افتتاحها بهذا التصريح بما كانه الرب وما فعله: "أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّة" (خر 20: 2). هذا كما يقول أحد المشاهير: "ليعد نفوس الشعب للطاعة".
فيما بعد كُتبت الكلمات العشر على لوحي حجر، كان لها أن تُحفظ في تابوت العهد، "كرسي الرحمة" وضع عليها لدلالة ومغزى (خر 25: 16؛ 40: 20). ليس من السهل القول كيف تم ترتيبها على اللوحين، لكن ليس من المستبعد أن الكلمات الأولى الأربعة مع المقدمة (ع1) قد شغلت اللوح الأول، والوصايا الستة الباقية شغلت اللوح الثاني للشريعة(134).
لكن الأمر الوحيد الذي نعرفه بيقين أن "اللوحين كُتبا من كلا الجانبين، من الوجه الأول وعلى الجانب الآخر كانا مكتوبين. واللوحين كان من عمل الله والكتابة كانت كتابة الله محفورة على اللوحين(135).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وإذ نتأمل عن قرب أكثر لهذه الكلمات العشر التي للعهد، نلاحظ:
أولًا أن عددها عشرة، وعشرة هو رقم الكمال.
ثانيًا نحن نرى أن الوصية الخامسة (الخاصة بإكرام الوالدين) تشكل نقلة وتحول من اللوح الأول إلى الثاني، حيث اللوح الأول يفّصل واجباتنا تجاه الله، بينما الثاني واجباتنا تجاه أخينا الإنسان. لكن واجبنا تجاه والدينا هو أسمى من أي واجب تجاه الناس عمومًا وبمعنى ما إلهي، مثلما أن العلاقة مع الأب الأرضي ترمز وتشير إلى علاقتنا بأبينا السماوي. من ثمَّ الوصية هي أن نكرمهم، بينما واجبنا تجاه الناس يتطلب منا فقط أن نحبهم.
أيضًا تكاد كل الوصايا تكون موضوعة في صيغة سلبية "لا... " فتعني ضمنًا أن التعدي وليس الطاعة والخضوع هو الشيء الطبيعي بالنسبة لنا. لكن "الوصية واسعة جدًا" (مز 119: 96)، وتتطلب بالمقابل حالة ذهنية صحيحة ومضبوطة. بناء على ذلك نجد أن ناموس الوصايا العشر يتم تلخيصه في هذا القول: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ» (لو 10: 27).
أخيرًا الخمس كلمات الأولى لها على الدوام سببًا أو دافعًا متعلقًا بها. ليس الأمر هكذا لوصايا اللوح الثاني والتي تكاد تكون وضعت في إطار عام، لإظهار أن مثل هذه الوصايا كمثل: لا تقتل، لا تزني، لا تسرق، لا تشهد بالزور، مقصود لها أن يتم تطبيقها لكل الحالات الممكنة وليست قاصرة على الأصدقاء أو رفقاء الوطن فقط (بل لكل البشر عمومًا).
وإذ نتجاوز من الاعتبارات العامة إلى الخاصة، نجد أن أول كلمة أو وصية، ليست فقط تمنع كل وثنية بالفكر أو القول أو الفعل، بل توصي بأن نحب ونخاف ونعبد ونلتصق بالرب (تث 6: 5، 13؛ 10: 12، 20).
الكلمة أو الوصية الثانية تبين الأسلوب الذي به سوف نعبد الرب، وبتفصيل أكثر ليس تحت أي شكل أو بأي تصوير مادي. وكما يعلّق أحد المشاهير، هي تدين: "كل العبادات الوهمية التي اخترعها البشر بحسب رأيهم" وليست بحسب كلام الله.
الكلمة الثالثة تمنع تدنيس اسم الرب الذي به أظهر مجده، باستخدامه سواء في كلام باطل أو كاذب، أو بالحلفان الكاذب أو الباطل، في اللعن أو السحر أو ما يشبه ذلك.
الكلمة الرابعة والتي تعني ضمنًا معرفة سابقة بالسبت من جانب إسرائيل، توصي براحة شخصية ومنزلية وعامة من كل تعب وعمل في يوم الرب المقدس والذي ينبغي قضائه في عبادة الله ولما فيه مجده.
الكلمة الخامسة توجه تكريم للوالدين، نائبي الله، ومن ثمَّ تتضمن توقير مشابه لكل ممثلي الله وبالأخص الحكام والرؤساء (المدنيين والدينيين).
اللوح الثاني يتقدم من الفعل الخارجي (في الكلمة السادسة والسابعة والثامنة) للتكلم (الوصية التاسعة المختصة بحسن الاستعمال لموهبة النطق) وأخيرًا بالعاشرة المختصة بالفكر والرغبة (اشتهاء زوجة القريب أو شيء من ممتلكاته).
الكلمة السادسة والسابعة والثامنة تنطبق أيضًا لكل ما يسئ ويؤذي حياتنا، العفة أو الملكية وتلك التي للآخرين. الكلمة التاسعة ينبغي ترجمتها حرفيًا: "لا تجاوب ضد قريبك كشاهد زور- أو كشاهد كاذب". وإذ نقارن هذه بالمقولة في [(تث 5: 20) بحسب النص] حيث التعبير "شهادة باطلة"، نستنتج أنه ليس فقط كل شهادة غير صادقة بل أيضًا كل أقوال ضد قريبنا لا أساس لها، تشتملها هذه الوصية.
أخيرًا الكلمة العاشرة تسبر غور أعماق قلوبنا وتمنع كل ظلم وشهوات جامحة من جهة أي شيء يخص قريبنا(136).
مثل هذا الناموس لم يعطه إنسان قط، بل ولن يحلم به مطلقًا في أسمى تصوراته. فلو فقط كان الإنسان قادرًا على مراعاته وحفظه، يقينًا ليس فقط سعادة وفرح يدركانه في الحياة الآتية بل أيضًا هنا على الأرض. كما حدث، فإنه جلب المعرفة بالخطية فقط. لكن تبارك الله إلى الأبد أن "الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1: 17).
_____
(127) بحسب مجموعة المسح العلمية (التي أشرنا إليها سابقًا) فإن شبه جزيرة سيناء المثلثة الأضلاع تغطي مساحة تعادل أحد عشر ألف وستمائة ميل مربع.
(128) كتاب "صحراء الخروج" الجزء الأول ص111 والاقتباسات لها من نفس هذا المصدر ما لم نُشر إلى غيره.
(129) دين ستانلي في كتابه "سيناء وفلسطين" ص72.
(130) الكلمة هي ذاتها المستخدمة لتعبير "كنز مختار" (1أخ 29: 3؛ جا 2: 8). ولقد ترجمنا العدد كله حرفيًا.
(131) عندما نقرأ في (خر 19: 24) "أما الكهنة والشعب فلا يقتحموا"، فعلينا ألا نفهم من تعبير الكهنة هنا الكهنوت الهاروني الذي لم يكن قد تأسس بعد، بل يقصد من كانوا إلى ذلك الوقت يقومون بالوظائف الكهنوتية وربما هم رؤساء البيوت.
(132) بحسب التقليد اليهودي كان هذا هو يوم الخمسين، خمسون يوم بعد الفصح.
(133) الوصايا العشر (قارن خر 34: 28؛ تث 4: 13).
(134) من المرجح جدًا أنه ليس كل وصية بكاملها، بل في كل حالة فقط التوجيه الفعلي (مثل "لا تسرق") قد حُفر على اللوح. فهذا سيعطي في العبرية لأول أربع وصايا مع المقدمة 73 كلمة وللوصايا الستة الأخرى 31 كلمة. ومن المعروف جيدًا أن الكنيسة الكاثوليكية واللوثرية يضمان أول وصيتين في وصية واحدة ويقسمان الوصية العاشرة إلى وصيتين. لكن بالنسبة إلى هذا الأمر لا يوجد أي ظل أساس أو سلطان سواء في النص العبري أو حتى في التقليد اليهودي.
(135) (خر 32: 15-16). عندما نقرأ أن الناموس أخذ بترتيب ملائكة (أع 7: 53؛ غلا 3: 19؛ عب 2: 2)، ليس لنا أن نفهم أن الله شخصيًا لم ينطق بكل هذه الكلمات، بل هو إما يشير إلى "ربوات" الملائكة أولئك الذين كانوا يلازمونه عندما تكلم على جبل سيناء (تث 33: 2؛ مز 68: 17)، أو أن الأكثر ترجيح يرجع للفرق بين تدبيري العهد القديم والجديد. ففي العهد القديم الأقنوم الثاني للثالوث المبارك ظهر فقط في شخص ملاك العهد، بينما في العهد الجديد صار متجسدًا في شخص يسوع المسيح الإله المتأنس.
(136) في (تث 5: 21) يوجد تعبيران مختلفان تم استخدامهما لكلمة تشته" الشهوة التي تُوقظ من خارج بالشيء الذي نراه جميل، بينما شهوة الطمع تنشأ من داخل، من الميول الشريرة أو الاحتياجات المفترضة لمن يشتهي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/6ffvcsh