الفصل الحادي عشر
فرائض مدنية واجتماعية لإسرائيل كشعب لله - فرائضهم الدينية في وجهها القومي - العهد عُمل بذبيحة، وليمة ذبائحية عربون القبول (خر 20: 18 - 24: 12)
الانطباع الذي أحدثته الظواهر الطبيعية التي صاحبت إعلان الله لناموسه كان عميقًا جدًا حتى أنهم توسلوا أي اتصال إلهي آخر يمكن أن يُعمل من خلال موسى وتوسطه. كما بطرس عندما وقعت عليه فجأة القوة الإلهية للرب يسوع، شعر أنه كإنسان خاطئ لا يستطيع أن يقف في حضرة ربه، كذلك بنو إسرائيل كانوا يخشون الموت لو استمروا في حضرة الله.
لكن مثل مشاعر الخوف هذه لا علاقة لها بالروحانية في حد ذاتها. فبينما وافق موسى وأذعن لطلبهم، لكنه كان حريصًا على أن يشرح لهم أن هدف كل ما عاينوه ليس إثارتهم للخوف (خر 20: 20)، بل دعوتهم لفحص القلب تكون نتيجته ليس إدراك خوف العبودية من العواقب الخارجية، بل إدراك مخافة حقيقية لله تؤدي إلى تحاشي الخطية.
والآن وقف موسى مرة أخرى بمفرده في "الضَّبَابِ حَيْثُ كَانَ الله" (خر 20: 21). يلزم أن الفرائض التي أُعطيت له آنذاك تُعتبر كإعداد نهائي لذلك العهد الذي كان سيتم المصادقة عليه سريعًا (خر24). لأنه كشعب لله، يلزم لإسرائيل أن لا يشبه الأمم الأخرى. على السواء في الجوهر والشكل، ظروف حياتهم القومية، المبادئ الأساسية لدولتهم وما يُدعى الحقوق المدنية والنظم التي كان لها أن تشكل قاعدة وأساس المجتمع، يلزم أن تكون إلهية. ولو نستخدم التشبيه: إسرائيل كانت قنية الله. قبل أن يقدسها ويفرزها بالأساس، الله رسم خطوط حدودها وحدد إطارها كملكية له.
هذا كان مغزى ومعنى الفرائض والوصايا (خر 20: 22-23)، التي سبقت الختام الرسمي المسجل في (خر24): بناء على ذلك المبادئ والأحكام (خر 21: 1)، أو بالأحرى "الحقوق" أو الترتيبات القضائية التي كان للحياة القومية والمجتمع المدني في إسرائيل أن يقوم عليها ويتأسس، لم تكن فقط أسمى بما لا نهاية من أي ميثاق معروف أو تم التفكير فيه في ذلك الوقت، بل هي من النوعية التي تجسد مبادئ باقية ومتينة للحياة القومية لكل الأوقات. وفي الحقيقة هي تشكل الخلفية لكل التشريع الحديث حتى أن الفرائض الموسوية كانت وستتبقى النموذج العظيم الذي بمقتضاه يتم تشييد المجتمع المدني(137).
بدون الدخول في التفاصيل، نلاحظ الترتيب العام لهذه الفرائض. لقد كانت مسبوقة بإشارة عامة إلى الطريقة التي كان لإسرائيل أن يعبد الله بها. (خر 20: 22-26) حيث أن الله تكلم مع إسرائيل "من السماء" لذلك ليس لهم أن يصنعوا أي تصوير أرضي لما كان سماويًا.
من الناحية الأخرى، حيث أن الله سوف "ينزل" إليهم، من السماء إلى الأرض، وهناك يتحادث معهم، كان للمذبح الذي يقوم من الأرض تجاه السماء، أن يكون ببساطة "مذبح من تراب" (ع24)، أو لو كان من الحجارة فيكون بحاله كما وجد في الأرض. علاوة على ذلك، حيث تعين المذبح، فتلك الأرض حيث سيظهر بقصد مباركة إسرائيل، فينبغي بنائه وتشييده حيث صنع الله اسمه وحيث هو عيّنه.
وبأسلوب آخر ينبغي تنظيم عبادتهم بما يُظهره بنعمته وليس باختيارهم أو ما يفضلونه ويستحسنونه. لأن النعمة تشكل الأساس لكل تسبيح وصلاة. لم يكن للذبائح وعبادة إسرائيل أن تجلب النعمة، فالنعمة كانت السبب الأصلي لنعمتهم. وسوف تكون هكذا إلى الأبد. "نحن نحبه لأنه أحبنا أولًا"، وعطية ابنه الحبيب لنا نحن الخطاة مجانية وغير مشروطة من جانب الآب وتجعل رجوعنا إليه ممكنًا. ولأن هذه النعمة مجانية، يليق بالإنسان أكثر أن يعبد الله بوقار مقدس يُظهر ذاته حتى في سلوكه الخارجي (ع26).
"الأحكام" التي نُقلت بعد ذلك إلى موسى حددت، أولًا الأوضاع المدنية والاجتماعية لكل من في إسرائيل تجاه بعضهم البعض (خر 21: 1؛ 23: 12)، وبعد ذلك أوضاعهم الدينية تجاه الرب (خر 23: 13-19).
يبدأ التشريع الإلهي -كما يقينًا لم يفعل قط أي تشريع آخر- ليس من القمة بل من أدنى درجة في المجتمع. فهو يعلن في المقام الأول الحقوق الشخصية للعبيد (خر 21: 2-6)، والإماء (خر 21: 7-11). هذا يُعمل ليس فقط باعتبار مقدس لحقوق الشخص، بل أيضًا برقة ولطف ودقة تفوق أية مجموعة مبادئ تم تشكيلها من قبل على هذا الموضوع.
![]() |
لو أن العبودية لا تزال مسموح بها كشيء موجود على أرض الواقع، فإن مبدأها الحقيقي بجعل الناس كالممتلكات والأثاث قد طعن في أصله والتشريع صار بإجراءاته الوقائية وتدابيره الاحتياطية، مختلف تمامًا عما كان بين الأمم سواء قديمها أو حديثها.
ثم أعقبها أحكام تحمي الحياة وتصونها (ع12-14)، والجرائم المختصة بسوء المعاملة ولعنة الوالدين (ع15، 17) وسرقة الإنسان (ع16) وُضعت على نفس المستوى. إن حرمة الحياة في ذاتها ومنبعها وفي ملكيتها الحرة هي التي محل اهتمام هنا، والعقوبة المقضي بها لمثل هذه الجرائم، ليس المقصود لها أن تكون تحذير أو تأديب بل هي بالحصر عقوبة، أي مجازاة.
من حماية الحياة وصيانتها تنتقل الشريعة إلى حماية الجسد ضد كل أذية، سواء بواسطة إنسان (ع18-27)، أو بهيمة (ع28-32). والمبدأ هنا هو التعويض قدر المستطاع مقرونًا بالعقوبة في الأضرار الجسيمة. بعد ذلك يأتي الكلام عن تأمين سلامة الممتلكات. لكن قبل الدخول فيه، فإن الناموس الإلهي، إلهي أيضًا في هذا أنه يحفظ ويحمي أيضًا حياة البهائم (خر 21: 33-36). يتم التعامل مع الملكية الخاصة تحت أوجه مختلفة.
أولًا لدينا سرقة الماشية -وبين الشعب الزراعي حفظها له الأهمية الأولى- نوع مختلف من الحماية تم السماح به بحكمة لأصحابها بالليل وبالنهار (خر 22: 1-4). بعد ذلك وضع تشريع يختص بالإضرار بالحقول ومنتجاتها (ع5-6)، وبعده تشريع يختص بخسارة وفقد ما تم إيداعه للحفظ والصون (ع7-15)، ومعها تم التعامل مع جرائم فقدان الشرف (ع16-17).
الفرائض التي تلت (ع18-30) مختلفة تمامًا في صفتها عن تلك التي سبقتها. وهذا يظهر حتى من حذف أداة الشرط: إن، إذا التي سبقت كل الفروض السابقة التي وردت. وفي الحقيقة هي لا تتأمل -كما في القوانين الوضعية الأخرى- أية حالة ممكنة، بل تقرر وتعين ما لا ينبغي مطلقًا السماح بحدوثه. فهي خارج إطار أي تشريع مدني عادي وتختص بإسرائيل بكونه شعب خاص لله. وإذ هم هكذا يعبّرون عما يتوقعه وينتظره الرب من شعبه المرتبطين معه بعهد. وهذا ربما أكثر جزء مدهش من التشريع الذي ينظم ويرتب ما لم يسع مطلقًا قانون مدني في التأثير به.
وكما من قبل تبدأ سلسلة الفرائض بمنع ما هو مضاد لأمة مكرسة لله. لذلك من البداية كل السحرة يتم إبادتهم (ع18)، ومعها كل الجرائم المخالفة للطبيعة (ع19)، وكل الممارسات الوثنية (ع20). باختصار، كما من قبل في العبادة، كذلك الآن في الحياة، سطوة ودناءة ومفاسد الوثنية يتم اكتساحها. ومن الناحية الأخرى، على خلاف كل انحصار قومي، للغريب من الناس (وليس من الآلهة) أن يتم الترحيب به (ع21)، والأرامل والأيتام لا ينبغي إذلالهم (ع22-24)، والذين في حالة احتياج مؤقت لا ينبغي إرهاق كاهلهم بالربا (ع25-27)، الله بصفته المشرع الأعظم لا ينبغي شتمه ولا من هم معينين من قبله أن يتم لعنهم (ع28)، وما يحق إعطائه للرب كملك ينبغي إعطائه ببشاشة وفرح (ع29-30) والكرامة المقدسة لشعبه لا ينبغي تدنيسها حتى في عاداتهم اليومية (ع31).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وأيضًا لا شيء غير صادق، بغيض أو ظالم له أن يُقال أو يُعمل أو يتم محاولته (خر 23: 1-3)، وذلك ليس في المعاملات العلنية وحسب، بل أيضًا البغض الشخصي ليس له أن يؤثر على السلوك. على العكس كل معونة تُقدم بمحبة حتى للعدو في وقت احتياجه (ع4-5)، والمسكين والمهضوم حقه لا ينبغي معاملته بغير عدل، ولا ينبغي أخذ رشوة "لأَنَّ الرَّشْوَةَ تُعْمِي الْمُبْصِرِينَ وَتُعَوِّجُ كَلاَمَ الأَبْرَارِ" (خر 23: 8)، ونفس القاعدة أو القانون يسري على الغريب كما الإسرائيلي (ع6-9).
أخيرًا فيما يختص براحة السنة السابعة واليوم السابع يتم الإشارة إليهما، ليس بصفتهما الدينية بقدر علاقتهما بالمساكين والعمال (ع10-12).
وإذ نجتاز من الفرائض التي تثبت الأوضاع المدنية والاجتماعية لكل من في إسرائيل، لوضعهم الديني من جهة الرب (خر 23: 13-19)، لدينا أول كل شيء توصية بالأعياد الثلاث السنوية الكبيرة. فمع أنها أعياد دينية بحصر المعنى، لكن هنا يُنظر إليهم بالأساس ليس في مغزاهم الرمزي التقليدي (والذي هو عام وأبدي)، بل في سمتها القومية: عيد الفصح بكونه عيد التحرر والعتق من مصر، عيد الأسابيع بكونه عيد الحصاد، باكورة غلاتك، وعيد المظال بكونه عيد الجمع عند نهاية السنة (ع14-17).
ومن بين الثلاث الفرائض التي تلي الآن (ع18-19)، الأولى تشير إلى الذبيحة الفصحية (قارن خر 12: 15، 20؛ مع خر 13: 7؛ 34: 25)، والثانية تشير إلى عيد الباكورة أو الأسابيع. من هذا سيترتب أن منع "طبخ جدي بلبن أمه(138)" (ع19)، يلزم أنه على الأقل أساسًا يحمل شيئًا من الإشارة إلى ولائم أسبوع عيد المظال، وربما كما يقترح المفسر العالم الربي آرابانيل Abarbanel لأن بعض ممارسات كهذه كانت مرتبطة بطقوس وثنية في وقت جمع الثمار.
الأحكام التي يوصي الرب بها شعبه على نحو ملائم يتبعها وعود (خر 23: 20-23)، وفيها كملك ورب لهم يتعهد بهدايتهم وحمايتهم وتمليكهم للأرض التي عينها لهم.
أولًا وقبل كل شيء أعطاهم ضمان وتأكيد بحضور شخصي للرب في ذلك الملاك الذي فيه وُضع اسم الرب (ع20). لم يكن هذا بملاك عادي مهما سمت رتبته، بل ظهور للرب نفسه، ظهور مسبق وإعدادي لظهوره في الجسد في شخص ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. لأن كل ما قيل هنا عنه منسوب للرب شخصيًا في (خر 13: 21)، بينما في (خر 33: 14-15) تم تحديده بوضوح بكونه وجه أو حضور الرب "وجهي - حضرتي".
بناء عليه عليهم إظهار كل طاعة لإرشاده وهدايته وكل احتكاك مع عبادة الأوثان والوثنيين ينبغي تحاشيه. في تلك الحالة (الطاعة والالتزام بوصاياه) سيحقق الرب كل خير وكل وعد كريم لشعبه ويجعلهم يمتلكون الأرض بكل اتساعها وامتدادها.
هذه كانت شروط العهد التي قطعها الرب مع إسرائيل كأمة. وعندما صادق الشعب عليها بالقبول (خر 24: 3)، كتبها موسى فيما دُعي "كتاب العهد" (خر 24: 7). أما العهد ذاته فكان له أن يُفتتح بذبيحة ورش الدم ووليمة ذبائحية. هذا التعاقد كان أهم حدث في كل تاريخ إسرائيل.
بهذه الذبيحة الواحدة التي لم تتكرر قط، تم رسميًا إفراز وتخصيص إسرائيل كشعب لله، وكان هذا يشكل الخلفية لكل عبادة ذبائحية تلت بعد ذلك. فقط بعدها تم تأسيس الخيمة والكهنوت وكل خدماته. هكذا هذه الذبيحة الواحدة كانت رمز مسبق لذبيحة ربنا يسوع المسيح لأجل كنيسته، وهي كانت الأساس لدخولنا إلى الله وأساس كل عبادتنا وخدمتنا.
إنه أمر له دلالة في غاية الأهمية أنه بُني آنذاك مذبح عند سفح جبل سيناء وتم إحاطته باثني عشر عمودًا "لأسباط إسرائيل الاثني عشر"، وقام خدام شباب -لأن الكهنوت لم يكن تأسس بعد- بتقديم المحرقة وذبحوا ذبائح سلامة للرب. ونصف دم الذبائح وُضع في أحواض، بالنصف الآخر تم رش المذبح، بهذا عملوا صلحًا مع الله. ثم قُرئت شروط العهد مرة أخرى في مسامع الكل، والنصف الثاني للدم الذي به عُملت المصالحة تم رشه على الشعب وقال موسى أثناء رشه: «هُوَذَا دَمُ الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الأَقْوَالِ(139)» (خر 24: 8).
كأمة إسرائيل الآن قد تصالحت وتم فرزها وتخصيصها لله، وكلا الأمرين عُمل "برش الدم" بهذا صاروا مُعدين لتلك الشركة معه والتي رُمز إليها بالوليمة الذبائحية التي تلت (خر 24: 9-11). هناك الله كعربون على رضاه، أطعم شعبه بالذبائح التي قبلها. كانت الوليمة الذبائحية تعني شركة القبول، كان فرحها نابع من الشعور بهذه الحقيقة المباركة.
وآنذاك موسى وهارون وابنيه (كهنة المستقبل) مع سبعين من شيوخ إسرائيل صعدوا إلى الجبل "وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا" (خر 24: 11) من هذه الوليمة الذبائحية في الحضرة المرئية لإله إسرائيل، وليس فعليًا تحت أي شكل مادي (تث 4: 12-15)، لكن ببهاء سماوي تحت الشاكيناه.
هكذا "رؤية الله والأكل والشرب أمامه" كان سبق تذوق وعربون لتلك الغبطة الكاملة في معاينته فيما بعد. وكانت أيضًا رمز ومثال لما سوف يتم إدراكه عندما "تعلن كلمة الليلويا التي للجمع العظيم حكم ومُلك الرب الإله كلي القدرة، وعروس الخروف الفرحة والمبتهجة التي صارت معدة آنذاك للزواج ومتزينة بكل ثياب العرس، تسمع صوت الترحيب يستدعيها إلى عشاء عرس الحمل (رؤ 19: 6-9).
_____
(137) لكي نفهم تمامًا المبادئ السامية للناموس الموسوي أو بالأحرى الناموس الإلهي، يلزم فحصها بالتفصيل وهذا بالطبع يستحيل في هذا الموضع.
(138) من جهلنا للظروف، ربما هذا واحد من الموانع التي يصعب علينا فهمها. القارئ المتعلم سيجد كل رأي على الموضوع تم مناقشته في كتاب Bocharti Hierozoicon الجزء الأول ص634، 635. ومن المعروف جيدًا أن اليهود المحدثين يفهمونه بكونه يتضمن أن لا شيء مصنوع من اللبن له أن يُطبخ أو يؤكل مع أي نوع من اللحوم، حتى الأطباق والسكاكين يتم تغييرها، وتتخذ كافة الاحتياطات بتدقيق لمنع اختلاط الاثنين. أغلب الشراح يجدون سبب المنع في قسوة طبخ الجدي في لبن أمه. لكن يلزم أن المعنى أعمق من هذا بكثير.
(139) تفاصيل أخرى يقدمها لنا (عب 9: 19-22) حيث أيضًا التعاقدات التي تختلف من جهة التوقيت يتم جمعها معًا، بكونها تشكل جزء من هذا التكريس للعهد الأول بالدم. كون هذا هو المعنى يتضح من (عب 9: 22). رش الكتاب والشعب كما فيما بعد الخيمة وأوانيها، عُملت بالطريقة الموصوفة في ع19.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-2/israel-covenant.html
تقصير الرابط:
tak.la/w3fpznm