بعد العماد والتجربة في البرية "رجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل، وخرج خبر عنه في جميع الكورة المحيطة، وكان يعلم في مجامعهم ممجدًا من الجميع" (لو4: 14، 15).
من المعلوم أن السيد المسيح هو كلمة الله الممجد مع الآب والروح القدس ولكنه إذ أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، فإنه "إذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه" (فى2: 8) ليقبل قيادة الروح القدس. وذلك كما حدث في خروجه إلى البرية "رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس. وكان يُقتاد بالروح في البرية" (لو4: 1).
بعد الأربعين يومًا التي قضاها في البرية منقادًا بالروح، هكذا أيضًا رجع بقوة الروح ليبدأ خدمته في الجليل.
ما هذا الاتضاع العجيب؟! إن قوة الروح القدس هي نفسها قوة الكلمة الأزلي، فالأقانيم متساوية في كل القدرات والصفات المختصة بالجوهر الإلهي الواحد.. ولكن السيد المسيح كان يحلو له أن ينسب القدرة للروح القدس، وأن ينسب العمل إلى الآب السماوي لأنه لم يحسب مساواته لله اختلاسًا، ولهذا أخلى ذاته وأخذ صورة عبد (انظر فى2: 6).
ولكننا نسمع الآب يشهد للسيد المسيح أنه هو ابنه الحبيب الذي سُرت به نفسه، كما نلاحظ كيف جاء الروح القدس ليشهد للسيد المسيح بعد صعوده إلى السماء.. هكذا كان ينبغي أن يمجد الابن الوحيد من الآب ومن الروح القدس، بعد أن أخلى ذاته لأجل خلاصنا.. إننا نتعبد في خشوع أمام الثالوث القدوس، ونحن نتفكر في هذا الحب الأزلي العجيب الذي بين الأقانيم المتساوية في الجوهر الإلهي الواحد.
يقول معلمنا بولس الرسول عن نتيجة طاعة السيد المسيح واتضاعه: "لذلك رفَّعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب" (فى2: 9-11).
أراد السيد المسيح في إخلائه لذاته، أن يبرز انقياده للروح القدس، ومسحه بالروح القدس فجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر إشعياء النبي. ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه "روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأَشْفِيَ المنكسري القلوب لأُنَادِيَ للمأسورين بالإطلاق ولِلْعُمْيِ بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لو4: 18، 19، انظر أيضًا إش61: 1، 2).
"ثم طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم. وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه" (لو4: 20-22).
أراد السيد المسيح أن ينسب كل ما في خدمته من قوة وبركة وتأثير للآب وللروح القدس؛ فقال: "روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأُبشر المساكين.." (لو4: 18).
الابن الوحيد الحبيب هو الذي تجسد، وهو الذي تألم، وهو الذي قدّم ذاته ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا.. وها نحن نراه يُخفي نفسه ويقول: "روح الرب عليَّ لأنه مسحني.. لأُنادي للمأسورين بالإطلاق.. وأكرز بسنة الرب المقبولة".
وها نحن أيضًا نسمعه ينادي الآب في اتضاع ويقول: "أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم.. الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم.. أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته" (يو17: 6، 8، 4).
لقد علّمنا السيد المسيح كيف يمكن أن نمارس الاتضاع من خلال المحبة. لأن الذي يحب حقًا يمكنه أن ينكر نفسه. لأن المحبة "لا تطلب ما لنفسها" (1كو13: 5)، بل إن المحبة الكاملة هي العطاء الكلي للذات.
هناك من الأسرار الروحية ما يقف العقل أمامها مبهورًا، مشدودًا نحو التأمل في سر الأبدية مع السيد المسيح وفي السيد المسيح، حيث نور معرفة الله الذي تخشع أمامه النفس، وتستر وجهها من بهاء عظمة مجده.
كان هناك عرس في قانا الجليل، وكانت السيدة العذراء أم يسوع هناك.. ودعي أيضًا السيد المسيح وتلاميذه إلى العرس (انظر يو2: 1، 2).
كان السيد المسيح في بداية أيام خدمته، بعد عودته من الجبل بعد صومه الأربعيني المقدس، وقد وافق أن يقبل الدعوة لحضور العرس ومعه تلاميذه.. وهناك وبتوسط العذراء أمه، صنع أول معجزات خدمته أمام تلاميذه، إذ "لما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر" (يو2: 3)، فحوّل السيد المسيح الماء إلى خمر بناءً على طلبها. فكانت "هذه بداية الآيات فعلها يسوع.. وأظهر مجده فآمن به تلاميذه" (يو2: 11).
اختار السيد المسيح أن يبدأ معجزاته في وسط تلاميذه، بناء على طلب من السيدة العذراء، ليعلّمنا أن شفاعتها التوسلية لديه مقبولة في كل حين وفي مقدمة كل الشفاعات.
لم يكن السيد المسيح متعجلًا أن يصنع معجزات يظهر بها قوته الإلهية.. مع أن الفرصة كانت متاحة له لصنع معجزة. إلا أنه مكث في العرس دون أن يفعل شيئًا. حتى جاءت أمه القديسة فائقة الكرامة مريم، الشفيعة المؤتمنة على جنس البشر والمكرمة جدًا أكثر من الشاروبيم والسيرافيم.. جاءت ترجوه في حب وثقة أن يفعل شيئًا من أجل أصحاب العرس، الذين تورطوا في حرج شديد حينما فرغت الخمر (غير المسكرة) التي يقدمونها للمدعوين.
الخمر في الكتاب المقدس تشير إلى محبة الله كقول عروس النشيد "أدخلني إلى بيت الخمر، وعلمه فوقي محبة" (نش2: 4)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهكذا دائماً تطلب العذراء من أجل فيض محبة الله أن يتجدد في أحشائنا بقوة شفاعتها غير المرفوضة.
كم هو جميل أن ندعو سيدنا يسوع المسيح ووالدته العذراء إلى عرس حياتنا حتى تتدفق فينا محبته بغزارة، وبحلاوة عجيبة.
قال السيد المسيح لأمه: "ما لي ولك يا امرأة" (يو2: 4) بمعنى أنه لا يمكن أن يرد طلب للعذراء الطاهرة المرأة التي أعادت اللقب الأول لحواء قبل السقوط "هذه تدعى امرأة لأنها من امرءٍ أخذت" (تك2: 23). لأنها آمنت وأطاعت وقبلت أن تصير أمًا لمخلص العالم. وترنمت بالروح القدس قائلة: "تبتهج روحي بالله مخلصي" (لو1: 47).
فهمت السيدة العذراء أن المخلص قد قبِل توسلها وطِلبتها، وأنه سوف يصنع المعجزة، مع أنه قال: "لم تأتِ ساعتي بعد" (يو2: 4)، فقالت للخدام: "مهما قال لكم فافعلوه" (يو2: 5).
وصنع يسوع المعجزة، وحوّل الماء إلى خمر شهد لها رئيس المتكأ. وقال الإنجيل عن هذه المعجزة "هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه" (يو2: 11).
في اتضاعه العجيب لم يفعل هذه الآية إلا بتوسل السيدة العذراء، ولهذا حسب أن ساعة صنعه للمعجزات لم تكن قد أتت بعد. وهكذا كان السيد المسيح دائمًا يحاول أن يخفي مجده، ولا يطلب مجدًا من الناس، بل يبحث عن خيرهم.
كان الحب هو دافعه.. في بحثه عن خراف بيت إسرائيل الضالة.. في سعيه من أجل خلاص البشرية.. في تعبه من أجل الخطاة.. "يجول يصنع خيرًا" (انظر أع10: 38) و"يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب" (مت 4: 23).
ولكن لماذا اختار أن يبدأ معجزات خدمته في عرس، وليس في أي مجال آخر؟
كانت علاقة الرب بالبشرية قد بدأت في الفردوس، حيث نشأت العائلة البشرية الأولى.. وكانت هذه العائلة الأولى من آدم وامرأته، هي الرمز الأول لعلاقة السيد المسيح بالكنيسة.
فمن المعلوم أن "الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضًا رأس الكنيسة" (أف5: 23) وقيل للرجال: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها.. مطهرًا إياها" (أف5: 25، 26).
وقال معلمنا بولس الرسول عن الزواج كصورة لارتباط السيد المسيح كعريس بكنيسته: "هذا السر عظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة" (أف5: 32).
وفي مَثل العذارى الذي يرمز إلى العرس السماوي قال السيد المسيح: "يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس.. ففي نصف الليل صار صراخ هوذا العريس مقبل، فاخرجن للقائه" (مت25: 1، 6).
ومعلمنا بولس الرسول يؤكّد هذه الحقيقة أن السيد المسيح هو عريس لكنيسته بقوله: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2).
لهذا اختار السيد المسيح أن يبدأ معجزاته التي أظهر بها مجده في وسط تلاميذه، في عرس قانا الجليل، وفي حضور العروس الحقيقية رمز الكنيسة كلها، وأم جميع القديسين، العذراء والدة الإله.
إن المعجزة الحقيقية التي صنعها السيد المسيح، هي أنه أعاد العائلة البشرية مرة أخرى إلى الفردوس.
وهكذا جاءت هذه الصورة الجميلة، المسيح والكنيسة في عرس.
وكانت الكنيسة ممثلة في العذراء مريم الشفيعة المؤتمنة أمام ربنا يسوع المسيح، وفي تلاميذه الذين أبصروا مجده المعجزي الخالق في ذلك العرس الممتلئ فرحًا.
ارتبط عصير الكرمة المختمر بالعرس ارتباطًا وثيقًا. إن السيد المسيح هو الكرمة الحقيقية كما قال لتلاميذه.
وفي العشاء الأخير قال لتلاميذه: "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم" (لو22: 15). "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي" (مت26: 29).
إن الكرمة تذكّرنا بالفردوس الذي فقدناه بالخطية التي أسكرتنا زمنًا طويلًا.
وجاء السيد المسيح لكي يسقينا من خمر محبته، كقول عروس النشيد: "أدخلني إلى بيت الخمر وعلمه فوقي محبة" (نش2: 4). وقولها أيضًا: "نذكر حبك أكثر من الخمر" (نش1: 4).
في سر الافخارستيا يكون السيد المسيح حاضرًا في الكنيسة في وسطنا، بجسده ودمه الأقدسين، يسقينا من عصير محبته ويمنحنا الحياة.
هذا عشا العريس قُدم للعروس والوعد بالفردوس لحافظ العهد
إن الإفخارستيا هي العرس الدائم الذي تحيا به الكنيسة في غربتها الحالية، إلى أن تتمتع بشركة الحياة الأبدية مع السيد المسيح في ملكوت السماوات، حيث العرس الأبدي الذي لا توصف حلاوته الحقيقية.
في عرس قانا الجليل جاءت الخمر الجيدة الحلوة التي صنعها السيد المسيح في نهاية العرس. لكي نفهم أن حلاوة الحياة مع السيد المسيح سوف نتذوقها بما لا يقاس عند استعلان ملكوت السماوات.
ارتبط عرس قانا الجليل بمعجزة خلق واضحة.. حيث خلق السيد المسيح من الماء خمرًا حقيقية حلوة المذاق، قال عنها رئيس المتكأ إنها الخمر الجيدة.
فهذا العرس يذكرنا بالفردوس، حيث خلق السيد المسيح أبوينا الأولين على صورة الله ومثاله.
وفي العرس كان هناك ستة أجران يسع كل جرن مطرين أو ثلاثة. وقد أمر السيد المسيح الخدام أن يملأوها بماء إلى فوق ففعلوا هكذا.
وقد حوّل السيد المسيح الماء الذي في الأجران إلى خمر جيدة، بمجرد أن أراد ذلك في نفسه، وقال للخدام: "استقوا الآن، وقدّموا إلى رئيس المتَّكأ، فقدّموا.." (يو2: 8).
هذه الأجران الستة تذكّرنا بأيام الخليقة الستة.. لأن الرب صنع العالم والمخلوقات التي فيه في ستة أيام واستراح في اليوم السابع.
وقد خلق الرب الإنسان في اليوم السادس، كما أنه قد صُلب على الصليب في اليوم السادس من الأسبوع، وفي وقت الساعة السادسة.
الرقم ستة دائمًا في الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل، وإلى عمل السيد المسيح في خلق الإنسان وفي خلاصه من الخطية.
وها هو الرب الخالق يعود ليبدأ مع الإنسان من جديد لأنه "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدًا" (2كو5: 17).
ولكن هذا الجديد في حياتنا مع الله، ليس هو الجديد، بل هو الأصيل.. هو الأقدم والأعمق من العتيق. لأن الأصل هو في شركة الحياة الفردوسية مع الله.
مقصود بالأشياء العتيقة أي الخطايا والشرور التي دخلت إلى حياة الإنسان.. ولكن ما هو أقدم وأعتق، هو العلاقة المقدسة مع الله التي بدأت مع خلق الإنسان..
لهذا صنع الرب في الأجران خمرًا جديدة، أطيب من العتيقة.. أعتق في طعمها بكثير.. أليس هذا ما عبّر عنه القديس أغسطينوس في مناجاته عن الله ومحبته:
]آه.. تأخرت كثيرًا في حبك أيها الجمال الفائق في القدم والدائم جديدًا إلى الأبد[.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/start.html
تقصير الرابط:
tak.la/v6kpjcb