فوق الصليب كان الذبيح معلقًا رافعًا ذراعيه نحو السماء. لأنه هو الكاهن الأعظم، وقد صعد إلى المذبح ليصلي، وهو يقدِّم ذبيحة نفسه المقبولة أمام الله الآب عن حياة العالم. كان هو الكاهن والذبيحة في آنٍ واحد.
كان قائمًا وهو مذبوح كما رآه يوحنا في سفر الرؤيا في وسط العرش (انظر رؤ5: 6).
لم يُذبح السيد المسيح ويُلقى على الأرض، بل كان معلقًا بين الأرض والسماء.. لأنه هو الطريق المؤدّي إلى الآب.. إلى الحياة الأبدية. وهو الشفيع بين الله والناس، بين السماء والأرض.
كل من ينظر إليه بإيمان يستطيع أن يعرف الطريق المؤدي إلى ملكوت الله.
فوق الصليب فتح السيد المسيح كِلتا ذراعيه لكي يُعلن دعوته للأمم كما لليهود، لكي يأتوا إلى أحضان الله ويتمتعوا بالخلاص والراحة الأبدية. ولهذا كان عنوان علته مكتوبًا فوق رأسه بأحرف يونانية ولاتينية (رومانية) وعبرية. فالخلاص هو لجميع الشعوب. وقد اشترك الرومان مع اليهود في صلب السيد المسيح، لأنه مات لسبب خطايا الأمم وخطايا اليهود معًا، ليحرر البشر جميعًا من سلطان الخطية.. كل من يؤمن ويتوب ويعتمد.
فوق الصليب حمل السيد المسيح لعنة الخطية، لأنه مكتوب "المعلّق ملعون من الله" (تث21: 23)، وبهذا "جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه" (2 كو5: 21).
واحتمل السيد المسيح كل تعييرات الشيطان على فم المعيرين لأنه مكتوب "تعييرات معيّريك وقعت عليَّ" (مز69: 9).
ولكن القيامة من الأموات محت كل آثار التعيير، كما أنها أثبتت أن اللعنة قد مُحيت وزالت لأن الكفارة قد قُبِلت، واستوفى العدل الإلهي حقه بالكامل.
لهذا رأى يوحنا الإنجيلي السيد المسيح بثوب مغموس بالدم، وهو بالعدل يحكم ويحارب، ويُدعى اسمه كلمة الله "وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء" (رؤ19: 15).
وسبق أن قال السيد المسيح بفم نبيه إشعياء: "قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش63: 3).
فوق الصليب صعد السيد المسيح إلى عرشه المجيد.. ولهذا تتغنى له الكنيسة بألحان المزمور في يوم الجمعة العظيمة "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك" (مز45: 6). وهكذا نرى كيف أن الرب قد ملك على خشبة.
اختفى الشيطان في الحية القديمة وخدع البشرية لتعصي الوصية المقدسة، وتأكل من شجرة معرفة الخير والشر، إذ نظرت الثمرة شهية للنظر وجيدة للأكل.
وهكذا أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع ذاته وأطاع الآب حتى الموت، وكان معلقًا على الشجرة. ورأى الشيطان أن الثمرة المعلقة على الشجرة هي شهية للنظر وجيدة للأكل.. فتجاسر الموت أن يلتهم الحياة.. وبهذا ابتلع ما هو ضده وما هو أقوى منه، فانهزم الموت وأبتُلع الموت من الحياة مثلما تبتلع الظلمة نورًا فإن النور هو الذي يبتلع الظلمة ويبددها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولم يستطع الجحيم أن يبتلع من له الحياة الإلهية القاهرة للموت.. بل إن الجحيم نفسه قد تحطمت متاريسه بقوة المصلوب..
لهذا كتب القديس يوحنا ذهبي الفم "عندما انحدرت إلى الموت، أيها الحياة الذي لا يموت: حينئذ أمتّ الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى، صرخ نحوك جميع القوات السمائيين: أيها المسيح الإله معطي الحياة المجد لك".
كانت دقات المسامير في يديّ وقدميّ السيد المسيح مثل معاول تهدم في مملكة إبليس.. لأن اليد التي سُمرّت هي تلك اليد المتحدة باللاهوت.. هي يد الله التي قدّمت الخير، كل الخير للخليقة، وهي اليد التي جبلت آدم وحواء كقول المزمور "يداك صنعتاني وجبلتاني" (مز 119: 73).
كانت طرقات المطرقة تدوي فوق الجلجثة أثناء تسمير السيد المسيح فوق الصليب، وكانت أيضًا معاول هدم حصون إبليس تدوي في أسماع الملائكة الذين وقفوا مبهورين من محبة الله الباذلة إلى المنتهى.
لقد ارتبكت الخليقة، واضطربت الأرض، وكأنها قد اقشعرت من القساوة التي عومل بها الله الكلمة المتجسد. ولهذا فقد تزلزلت الأرض والجبال وتشققت الصخور لأن دقات المسامير أفزعتها. وغضبت الطبيعة مما فعله الخطاة بخالق الطبيعة ومبدعها.
وحينما تعرّى الابن الوحيد من ثيابه: أخفت الشمس أشعتها وكأنها تشعر بالخجل من تعرية خالقها الذي ألبس المسكونة جمالًا وبهاءً، حتى زنابق الحقل ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها.
لقد سمح الرب للخليقة غير العاقلة أن تبدو في اضطراب ليبكّت قساوة الإنسان. فالصخور بدت وكأنها كانت أكثر إحساسًا وشعورًا من تلك القلوب القاسية التي صارت أقسى من الصخر لسبب الخطايا والشرور التي أعمت بصيرتها.
وهكذا أرعدت الطبيعة لكي يستفيق قلب الإنسان ويدرك مقدار من هو ذبيح فوق الصليب.. إنه الله الكلمة نفسه الذي تجسد وافتدانا من اللعنة والموت. فما أعجب محبتك غير الموصوفة يا ربنا القدوس..؟!!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/on.html
تقصير الرابط:
tak.la/jvggy8v