ما هي إذن عناصر القوة في الخدمة؟
هي مقدار ما في الخدمة من عمق، ومن حب وبذل. وأيضًا ما فيها من تأثير، ومن قدرة على تغيير النفوس إلى أفضل.
ومن الأمثلة على القوة في العمل، ذهاب أبينا إبراهيم ليقدم ابنه الوحيد إسحق محرقة حسب أمر الرب له..
لاشك أن أبانا إبراهيم قدم ذبائح لا نستطيع أن نحصيها، في كل مكان يذهب إليه. ولكن هذه الوحيدة هي التي لا يمكن أن تنسى وسط جميع ذبائحه. مع أنه كانت بمجرد النية ولم تتم!!
كانت هذه الذبيحة (بالنية) أعظم من جميع ذبائحه التي تمت فعلًا.
بل كانت أعظم من جميع الذبائح التي قدمها الناي طوال عصور التاريخ. وقد سجلها الكتاب، كدرس للأجيال، لأنها تحمل قوة لا يعبر عنها في الحب والبذل، وفي الطاعة والإيمان، وفي ضبط النفس.. عمل آخر له قوته، هو تقديم الأرملة للفلسين. إنه مبلغ بسيط، ولكنه كان من أ‘وازها. لذلك امتدحها الرب، واعتبر إنها قد أعطت أكثر من الجميع. القوة هنا هي نوعية العمل، وليس في كميته.. لأنها أعطت من أعوازها، وهي محتاجة وفقيرة وأرملة.
ويمكن أن توجد للأرملة التي أعطت الفلسين، أمثلة في الخدمة.
منها ذلك الخادم، الذي لا يمكن أن يعتذر عن الخدمة، وهو في أيام الامتحانات، مع احتياجه لكل دقيقة للمذاكرة والمراجعة والاستعداد للامتحانات.. ولكنه يذهب إلى الخدمة. ولا ينسي له الله ذلك أبدًا. لأن الوقت الذي أعطاه للخدمة، قد أعطاه من أعوازه.. ومثله الذي يذهب إلى الخدمة. وهو مريض، ومحتاج إلى الراحة. ولكنه يبذل من هذه الراحة التي هي من أعوازه، ويقدمها للخدمة. وبالمثل الموظف الفقير المحتاج، الذي كل مرتبه لا يكفيه. ومع ذلك يقدم العشور، وربما يكون مديونًا وقتذاك.
إن العطاء من الأعواز، يدل على حب وإيمان:
حب للذين يعطيهم، ولله الذي أعطى الوصية. وإيمان بأن الله لابد أن يعوض، ويبارك القليل. كما يدل هذا العطاء أيضًا على الاهتمام بالغير أكثر من الذات، ففيه إذن إنكار للذات. وهكذا فعلت أرمله صرفة صيدا، حينما قدمت قليل الدقيق والزيت الذي عندها لإيليا النبي، أثناء المجاعة..
قوة العمل تظهر أيضًا في قصة داود أمام جليات..
إن حروبًا كثيرة عرفها العالم وسجلها التاريخ. ولكن لا يوجد فيها كلها ما يماثل جرب داود مع جليات.. كان داود طفلًا بالقياس لذلك الجبار. لم تكن له قوته ولا أسلحته، ولا خبرته في الحروب، ذلك الذي خاف منه كل الجيش..
ولكن قوة داود كانت في غيرته وفي إيمانه..
غيرته في قوله "من هو هذا الأغلف حتى يعير شعب الله؟! "وأيضًا في قوله "أنا أذهب وأحاربه".. أما إيمانه ففي قوله لذلك الجبار "اليوم يحبسك الرب في يدي"، "أنت تأتيني بسيف ورمح، وأنا آتيك باسم رب الجنود.. "من أجل قوة داود -في غيرته وإيمانه- هتفت النسوة قائلات "ضرب شاول ألوفه، وداود ربواته".. فما هي تلك الربوات؟
كانت هذه المرة الوحيدة في حروب داود تساوي ربوات..
كم من حرب خاضها داود، وكم كانت له من انتصارات، فيما بعد وهو قائد عظيم. ولكنها كلها لا تقاس بتلك الحصاة الملساء التي ارتكزت بإيمانه في رأس جليات.. كانت تساوي ربوات، إذ كان لها عمق معين، في غيرته التي لم تقبل تعييرات ذلك الجبار. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). كذلك كان هناك عمق آخر في عدم خوفه، وعدم رهبته للموقف، بل تقدمه للصفوف بمقلاعه وحصوته بكل إيمان أن الله سيدفع الجبار إلى يده، إلى يده الصغيرة الملساء مثل حصاته..! حقًا هذه قوة.. ليست مجرد العمل، بل القوة التي فيه، الإيمان الذي فيه..
قوة الخدمة قد تظهر أيضًا في نتائجها:
مثل قوة القديس أثناسيوس الرسولي في الدفاع عن الإيمان. وكيف أنه استطاع أن يحول دفة الموقف كله. وكما قال عنه القديس جيروم: "مر وقت كاد فيه العالم كله أن يصبح أريوسيًا، لولا أثناسيوس".. وبالمثل نقول عن قوة حياة القديس أنطونيوس الكبير، التي جذبت بتأثيرها الكثيرين، حتى انتشرت تلك الحياة الملائكية في العالم أجمع..
هناك خدمة قوية، ولا يلاحظها الناس، لأنها في الخفاء.
قد يكون هناك اجتماع ناجح، وتلقي فيه عظة قوية لها تأثير عميق. وربما يكون سبب هذا النجاح كله، اجتماع صلاة من اجل الاجتماع. ركب منحنية أمام الله تصلي من أجل أن يمنح الله كلمة للواعظ واستجابة من المستمعين.. هؤلاء المصلون لا يراهم أحد، ولكنهم يمثلون قوة في الخفاء..
الناس يعجبون بالنجف الساطع الضياء، ولا يرون الموتور المولد للكهرباء!
ويمتدحون الضياء الذي يرونه، ولا يذكرون إطلاقًا المولد الكهربائي الذي هو سبب القوة. لكنه يعمل في الخفاء. إنها خدمة الأساس المخفي وليس البناء الظاهر. وكم من خدمات قوية جدًا تعمل في الخفاء، ولا يراها أحد، مثل إرجاع مرتد إلى الإيمان، أو هداية فتاة منحلة، أو مصالحة أسرة متخاصمة. إنها خدمة في الخفاء، ولكنها قوية. وقد تكون وراءها خدمة أخرى قوية، وفي الخفاء. وهي قداس مرفوع لأجلها، وله قوته..
هناك نوع آخر من الخدمة القوية غير الظاهرة وهي الخدمة الفردية.
الناس دائمًا يمتدحون الاجتماعات العامة القوية. ونادرًا ما يلتفتون إلى الخدمة الفردية التي قد تكون أكثر وقعًا وتأثيرًا وتأتي بنتيجة قوية في القيادة إلى الملكوت. وتدخل فيها أيضًا خدمة الافتقاد، والجلسة الروحية بين أحد الآباء الكهنة وأسرة من رعيته. ترى لو خيرت بين إلقاء عظة في اجتماع يحضره المئات، وخدمة فردية لشاب ضال، أيهما تختار؟ لعازر الدمشقي سافر في خدمة هامة لاختيار زوجة لإسحق أصبحت جدة للمسيح. وقد يسر الله طريقه. ولاشك أن أبانا إبراهيم كان يصلي بحرارة من أجل ذلك. وهناك نسأل:
أكان نجاح المهمة بسبب صلاة أبينا إبراهيم، أم بإخلاص لعازر الدمشقي؟
قطعًا كان النجاح بكليهما: بالعمل الظاهر للعازر في أمانته ومحبته لسيده، وفي العمل المخفي لإبراهيم. وقبل كل شيء لنعمة الله الذي "يسر طريقه، تتحد قوة العمل وقوة الصلاة".
هناك نوع آخر من الخدمة القوية، وهو خدمة القدوة والبركة.
خدمة القدوة هي خدمة صامته، ولكنها ذات تأثير أقوى من خدمة الكلمة، لأنه تقدم النموذج العملي للحياة الروحية، وهو بلا شك أقوى من مجرد الكلام عن تلك الحياة.. أما خدمة البركة، فتتجلي في حياة أولئك الذين كانوا بركة في أجيالهم، وقال الرب أثناء شفاعة إبراهيم في مدينة سادوم "إن وجد عشرة (أبرار)، لا أهلك المدينة من أجل العشرة" (تك 18). لم يقل إن صلي هؤلاء العشرة من أجل المدينة، وإنما إن وجدوا، مجرد وجودهم هو خدمة كبيرة لأجل المدينة.. لا يهلكهم الرب لأجلهم.. كان إيليا بركة في بيت أرملة صرفة صيدا. وكان أليشع بركة في بيت. وكان يوسف الصديق بركة في أرض مصر. بل كان نوح بركة للعالم كله. من اجله استبقي الله
حياة للبشر استمرت على الأرض.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/jnxsk5v