الانتصار أمر محبوب. يفرح به كل شخص يكون منتصرًا، أو يظن أنه منتصر. على أن هناك انتصارًا حقيقيًا وانتصارًا زائفًا. فما هو الانتصار الحقيقي؟ وما شروطه؟ وكيف يكون؟ بل ما هو الانتصار الذي يريده اللَّه لنا، وتفرح به السماء لأجلنا؟
الانتصار الحقيقي هو الذي ينتصر به الإنسان على نفسه وليس على غيره. فلا يجوز للقاتل أن يفرح بانتصاره على القتيل وسفك دمه. فهذا القاتل في موقف المنهزم. لأنه لم يستطع أن ينتصر عمَّا في نفسه من قسوة ومن حقد، أو من رغبة في الانتقام. فكان ينبغي أن يخزى من كل هذه النقائص. كذلك مَن يشبع الطرف الآخر في الحوار ما يستطيع من تهكُّم ومن استهزاء لا يظن أنه منتصر. ولأنه لم يستطع أن يحتفظ بأدب الحوار، فهو إذن في وضع المنهزمين.
إذن الانتصار الحقيقي هو الانتصار أولًا على النفس. وأن ينتصر الإنسان في الداخل، وأن ينتصر على الخطيئة والشيطان. فهو بانتصاره الداخلي على كل شهوة خاطئة وكل فكر رديء، يستطيع أن ينتصر في الخارج على كل حروب الشيطان. فيوسف الصديق مَثَلًا، إذ كان منتصرًا في الداخل استطاع أن ينتصر على الشهوة التي حاربته من الخارج. وعلى الخطيئة التي حاربته من سيدته الخاطئة.
والإنسان الروحي ينتصر على جميع العوائق التي تحاول أن تعطله في طريق البِرّ أيًّا كانت. وهو لا يسمح لنفسه بأن يعتذر لتلك العوائق، ولا يُبرِّر نفسه إذا أخطأ.
والإنسان الروحي ينتصر أيضًا على الضيقات والمشاكل. فالمشاكل لا تهزه ولا تهزمه، ولا تُضعِف معنوياته، ولا تُعكِّر نفسيته، ولا تلقيه في دوامات من القلق والاضطراب والشك. أنه ينتصر على المشاكل بالإيمان وبالصلاة وبالصبر. ولا يضيق قلبه بها، ولا يفقد سلامه بسببها. وهو لا ينتصر فقط على الضيقات بالاحتمال، بل بالأكثر يفرح بها. لأنها تقدم له خبرات جديدة في معونة الرب له. ويرى أن كل شيء يؤول إلى الخير.
وحياة الانتصار مفرحة، لأن الإنسان الروحي يصبح بها قدوة لغيره. فيقدم للناس مثالًا على إمكانية حياة البِرِّ. وعلى أن حياة الانتصار هي واقع عملي يلمسونه أمامهم. ويثبت أن الأبرار أقوياء، ببرهم وبنعمة اللَّه العاملة فيهم.
إنَّ الانتصار لازم جدًا في الحياة الروحية، وبدونه لا يدخل أحد إلى السماء، ولا يتمتَّع بعِشرة الملائكة والقديسين. فالسماء لا يدخلها إلاَّ موكب الغالبين المنتصرين، الذين برهنوا على ذلك في فترة اختبارهم على الأرض، فهل أنت من هؤلاء؟ أم أنك تضعف أمام أي إغراء أو أيَّة خطيئة؟!
وقد قدَّم التاريخ لنا أمثلة من المنتصرين، لعلَّ في مقدمتهم أبطال الإيمان الذين جاهدوا الجهاد الحَسَن ونالوا إكليل البر. وفي مقدمتهم الشهداء القديسون، الذين انتصروا على كل التهديدات وعلى السجون، وعلى ألوان من العذاب رُبَّما تبدو فوق احتمال البشر، وثبتوا على إيمانهم، وقابلوا الموت ببسالة عجيبة، وكانوا مثالًا رائعًا جذبوا غيرهم إلى الإيمان.
ونحن نذكر من أمثلة المنتصرين أب الآباء إبراهيم، الذي انتصر على كل عواطف الأبوة، ولم يكن لديه مانع إطلاقًا من أن يُقدِّم ابنه الذي يحبه ذبيحة للَّه وطاعة لأمره. فكافأه اللَّه على ذلك ولم يسمح بموت ابنه.
ومن الأمثلة الأخرى النُّسَّاك والعُبَّاد والمتوحدون الذين انتصروا على كل شهوات العالم وتفرَّغوا للعبادة بعيدًا عن كل ملاهي المجتمع.
ومن أمثلة المنتصرين أيضًا، أصحاب الفكر العميق الذين استطاعوا بأفكارهم أن يُغيِّروا معالم المجتمع الذي عاشوا فيه، وأن يضعوا مبادئ راسخة اقتنع بها الناس وسلكوا بنهجها. قادة الفكر هؤلاء لم ينتصروا فقط في حياتهم وإنما أيضًا ساعدوا غيرهم على حياة الانتصار.
ويُمكن أن نضم إلى هؤلاء القادة والمرشدين الروحيين الذين سندوا الضعفاء بنصائحهم التي منحتهم قوة.
بعد كل ما قلناه على الانتصار في الحياة الروحية، نذكر أيضًا الانتصار في كافة نواحي الحياة: في الحياة الاجتماعية، والحياة السياسية والحياة الاقتصادية أيضًا. كل ذلك بعقلية راجحة وبالانتفاع بخبرات الغير، وبعدم اليأس في الحياة. بحيث إذا فاتتك فرصة تلتمس غيرها. وإن فشلت الخطوة الأولى تعاود الجهاد في خطوات أخرى ناجحة في المستقبل.
وهنا يواجهنا سؤال هام وهو: كيف ننتصر على الدوام؟ ينبغي أولًا أن يكون لك هدف واضح مُحدَّد في حياتك، ويكون هدفًا نقيًّا، وتتخذ له وسائل ممكنة في حدود قدراتك وظروفك. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وأن تسعى دائمًا إلى الكمال فإذا لم تصل إليه فعلى الأقل تصل إلى المُمكن.
ضع أمامك أيضًا أن تنمو باستمرار، وأن تتقدَّم في كل حين خطوة أكبر في حياة الفضيلة والبِرّ. فإن الذي يسعى إلى التَّقدُّم، من غير المعقول أن يرجع إلى الوراء. والذي يسعى أن يكون اليوم أقوى مما كان بالأمس، هذا لا يسمح لنفسه بأن يضعف وبأن يسقط. فهل أمامك برنامج روحي تسير على نهجه في النمو الروحي؟ وهل تتبع مسيرة حياتك هل هي تصعد أم تهبط؟ وهل هي تزيد أم تنقص؟ وهل أنت دائم الانتصار في حياتك أم أحيانًا تنهزم وتسقط؟
إذا كنت لست دائم الانتصار في روحياتك، فابحث ما هي نقاط الضعف التي فيك؟ وما هي أسباب السقوط أحيانًا؟ وعالج كل ذلك بحزم شديد. ولا تكن مجاملًا لنفسك أبدًا.. لكي تنتصر لا تعتمد على نفسك وحدها. بل باستمرار التمس معونة من فوق، من عند رب المعونة الذي هو قادر أن يسندك بقوته، وأن يحفظك بمعونته. ففي كل مشاكلك وفي كل نقائصك وفي كل ضعفاتك اطلب معونة إلهية. وليكن لك الإيمان في أن اللَّه سوف يستجيب صلواتك. وفي نفس الوقت جاهد على قدر ما تستطيع لكي تكون بلا عيب أمام اللَّه والناس.
بقى أن أقول لك إنك إذا انتصرت في حياتك فلا تفتخر بقوتك. إنما أشكر اللَّه الذي ساعدك وأعانك حتى تنتصر، لا بقوتك، بل بمعونته ونعمته.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/mw4g9cp