لقد قدم لنا السيد المسيح في تجسده الصورة المثالية لحياة الغلبة والانتصار إذ كان منتصرا في كل شيء:
لقد انتصر في كل كل حروب الشيطان، كما في التجربة على الجبل (مت 4) وانتصر في كل حوار له مع الكتبة والفريسيين والصدوقيين وكل قيادات اليهود (مت 21-23). وانتصر وهو على الصليب، إذ أمكنه أن يقدم فداء وخلاصًا للعالم كله، وداس على الموت بموته ((عب 2: 14، 15). كما انتصر على الموت بقيامته. وانتصر على العالم، إذ قال:
"ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33).
ومن جهة البر كان منتصرًا، فقد شابهنا في كل شيء ما عدا الخطية (عب 4: 15). وقد تحدى اليهود قائلًا "من منكم يبكتني على خطية؟!" (يو8: 46). وانتصر في كسب محبة الناس، فقيل عنه "هوذا العالم قد ذهب وراءه" (يو 12: 19). ودخل أورشليم منتصرًا كملك، وارتجت المدينة كلها (يو 21: 10). وقيل عن مجمل انتصاراته:
"هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا" (رؤ 5: 5).
وقيل أنه يغلب كل الموت الذين يحاربونه "لأنه رب الأرباب وملك الملوك (رؤ 17: 14). وإذ قد انتصر باستمرار وعدنا الكتاب أنه "يقودنا في موكب نصرته" (يه 114) "بقوة ومجد كثير" (مت 24: 30).
وكما قدم لنا الكتاب مثالية انتصارات ربنا يسوع المسيح، كذلك قدم لنا الكتاب وتاريخ الكنيسة أمثلة لانتصار القديسين:
نذكر في مقدمة هؤلاء المنتصرين أبا الآباء إبراهيم:
لقد انتصر انتصارًا عميقًا وعجيبًا، حينما أخذ ابنه وحيده إسحق ليقدمه محرقة لله (تك 22). انتصر على مشاعر الأبوة، وعلى آماله في نجوم السماء ورمل البحر (تك 15: 5). و(تك 13: 16). بل انتصر من جهة الإيمان أيضًا "إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات" (عب 11: 17-19).
وانتصر إبراهيم أيضًا على مشاعر القرابة والوطن، حينما قال له الله "اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك" (تك 12: 1). فأطاع "وخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب" (عب 11: 8).
نذكر مثالًا آخر في الانتصار هو أبونا يعقوب:
انتصار من نوع آخر، هو الصراع مع الله، إذ أمسك به، وصارعه حتى الفجر، وقال له "لا أطلقك إن لم تباركني" (تك 32: 26) ونال البركة فعلًا، وقال له الرب "لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" (تك 32: 28).
كان يعقوب خائفًا من أخيه عيسو. ولكنه لم يعتبر أن الصراع قائم بينه وبين عيسو. وإنما صارع مع الله، مؤمنًا أنه إذا انتصر في صراعه مع الله، ونال منه البركة والوعد والقوة، حينئذ لابد سينتصر في علاقته مع أخيه، وقد كان...
كان في صراعه مع الله، قد أخذ الإيمان الذي يقابل به عيسو. إنه درس لنا في الصراع مع الله، حتى ننال منه وعده "يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك -يقول الرب - لأنقذك" (أر 1: 19).
مثال ثالث في النصرة، هو أبطال الإيمان.
بولس الرسول الذي قال "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان. وأخيرًا وضع لي أكليل البر" (2تي 4: 7). بولس الذي وقف أمام ولاة وملوك، وخرج منتصرًا (أع 21: 28).
أثناسيوس الرسولي الذي بكل قوة انتصر على أريوس والأريوسية، ورد على كل هرطقاتهم. وقيل له "العالم كله ضدك يا أثناسيوس "فقال "وأنا ضد العالم".
مثال رابع للانتصار، هو الشهداء والمعترفون:
انتصروا على كل التهديدات، وعلى السجون، وعلى العذابات التي تفوق احتمال البشر. وثبتوا على الإيمان، وقابلوا الموت ببسالة عجيبة. وكانوا مثالًا رائعًا جذب الكثيرين إلى الإيمان. لذلك تكرمهم الكنيسة تكريمًا عظيمًا، ونقول إن دماء الشهداء هي بذار الإيمان.
مثال خامس في النصرة، هو قديسو الرهبنة والنسّاك.
القديس الأنبا أنطونيوس مثلًا، كيف انتصر على محبة المال، ووزع كل أمواله على الفقراء. وانتصر في حروب الشكوك وفي كل المخاوف والمفزعات التي وضعها الشيطان في طريقه. وانتصر في احتمال الوحدة والفقر والنسك، وفي بقائه في البرية بلا مرشد أو أنيس لعشرات السنوات. وانتصر أيضًا في قيادته لكثيرين في هذا الطريق الملائكي، حتى أصبح نورًا للعالم.
ونضع مع القديس انطونيوس في موكب المنتصرين، كل آباء الرهبنة الكبار، والنساك والمتوحدين والسواح والعموديين. وكل صفوف هؤلاء "الملائكة الأرضيين أو البشر السمائيين" كما سماهم التاريخ... هؤلاء الذين انتصروا ثابتين في حياة الوحدة والصلاة والتأمل والموت عن العالم، والبعد عن المناصب والشهرة...
كل هذه وغيرها أمثلة من نوعيات عاشت حياة الغلبة والنصرة، وتركوا لنا مثالًا لنتبع خطواتهم. بقى علينا أن نسأل: كيف يمكننا نحن أيضًا أن نغلب وننتصر.
لا يمكننا إطلاقًا أن ننتصر، إلا إذا حارب الرب عنا...
إذا اعتمدنا على مجرد إرادتنا، وقوتنا، وخبرتنا، وذكائنا فلا يمكن أن ننتصر، لأن العدو أكثر قوة وخبرة وحيلة، والرب نفسه قال "بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا" (يو 15: 5).
إذن لا بد أن يحارب عنا، هو الذي يدافع عنا وينتصر. وكما قال الكتاب "الحرب للرب... والرب قادر أن يغلب بالكثير وبالقليل" (1صم 14: 6). وأما النصرة فهي من الرب (أم 21: 31).
أما الانتصار فكقول الرسول "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو 8: 37).
الرب ينتصر فيها، حينما نسلمه إرادتنا، نسلمه تدبير أمورنا، وحينئذ "يقودنا في موكب نصرته" (2كو 2: 14).
قال السيد المسيح "في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم". لم يقل "ثقوا أنكم ستغلبون" وإنما "أنا قد غلبت" فما فما بمعنى هذا؟ معناه إني أنا الذي سأغلب (فيكم) هذا العالم مرة أخرى إن سكنت فيكم. كما قال بولس الرسول "أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (... غل 2: 20).
إذن إن أردت أن تنتصر، التصق بالمسيح، اجعله يحارب عنك خذ منه القوة التي بها غلب العالم، فتغلب...
(بدوني لا تقدرون أن تعلموا شيئًا)، بدوني لا تنتصرون (يو 12:5).
إذن تمسك بالرب، بكل قوتك. قل له: لا تتركني ولا تتخل عني. أنا بدونك لا أستطيع أن أقاتل أصغرهم، كما قال القديس انطونيوس، ولكنني بك أقول مع القديس بولس الرسول "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني".
إذن الغلبة الحقيقية هي التصاقك بالرب كل حين.
مشكلتنا الكبرَى، هي أننا نريد أن ننتصر بقوتنا الخاصة، بإرادتنا بخبرتنا، بذكائنا، دون أن ندخل ربنا في المعركة...
وفى كل ذلك ننسى قول الرسول "شكرًا الله، الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1كو 15: 57).
نعم، هذا هو سر الغَلَبَة، ربنا يسوع المسيح، إن قاتل معك، ولهذا يقول بولس أيضًا "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو 8: 37).
ما أجمل قول الكتاب "الحرب للرب، والرب قادر أن يغلب بالقليل وبالكثير" (1 صم 14: 6).
مادامت الحرب للرب، إذن هو الذي سيقابل وليس أنت. يجب إذن أن تسلمه قيادة المعركة في قِتالاتك مع العدو، مع العالم، مع الخطية، مع ذاتك...
عبارة رائعة قيلت في حروب موسى "للرب حرب مع عماليق" (خر 17: 16)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. إذن موسى لم يكن هو الذي يحارب عماليق، ولا يشوع، بل الرب... لا تقل: اتركني يا رب أحارب عماليق، كلا. بل قل تواضع، أنا لا أستطيع فحاربه أنت...
نفس الوضع رأيناه واضحًا في الحرب بين داود وجليات...
قال داود لذلك الجبار "اليوم يحبسك الرب في يدي" (1صم 17: 46). لست أنا الذي يغلبك، وإنما الرب. الرب هو الذي سيحبسك في يدي. وعندئذ أستطيع أن أجعل لحمك طعامًا لطيور السماء... هذه هي الغلبة...
"أنت تأتيني بسيف ورمح، وأنا آتيك باسم رب الجنود" (1صم 17: 45). لقد فهم داود السر، فأدخل الله إلى ميدان المعركة.
قبل مجيء داود، كان الناس يتحدثون عن "الرجل الصاعد "عن الجبار وقوته، ومكافأة من يغلبه. فلما وصل داود، بدأ يتحدث عن الرب ويدخل الرب إلى ميدان القتال...
هل انتصر داود إذن لأن يده كانت ماهر في القتال، أم لأن الرب حبس جليات في يد داود؟ السر كله في الرب نفسه. لذلك ما أجمل قول داود في كل حروبه "مبارك الرب الذي علم يدي القتال، وأصابعي الحرب" (مز 144: 1).
وأنت يا أخي، هل تحارب وحدك، أم الله يحارب عنك؟
مسكين أنت، إن حاربت وحدك. لأن الشيطان أكثر منك خبرة. له أكثر من سبعة آلاف سنة يحارب البشر. وهو أيضًا أكثر منك حيلة ومعرفة وقوة، فحذار أن تحاربه بمفردك.
خُذ معك إذن سلاح الله الكامل، الذي تستطيع به أن ترد كل سهام العدو الملتهبة (أف 6: 13، 16). وإن كان قائد الجيش لم يستطع أن يخرج للحرب وحده، دون أن تخرج معه دبورة النبية (قض 4: 8). فأنت لا تخرج للحرب بدون الله معك...
وقبل أن تحارب، أطلب من الرب أن يدربك، أن يعلم يديك القتال، وأصابعك الحرب... تتلمذ على الرب، فيستطيع مقلاعك أن يفعل الأعاجيب. وبحصاة واحدة تكسب الحرب. وفي كل حروبك، استمع إلى قول نبي بطل كموسى:
قفوا وانظروا خلاص الرب. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون (خر 14: 14).
الرب يقاتل عنك في كل حروبك: في الحروب الذي هي داخل القلب، وداخل القلب، وداخل الفكر، وفي الحروب الخارجية أيضًا... والروح يشفع فيك بأنات لا ينطق بها. الله يرسل ملاكه إليك في كل جب، فيسد أفواه الأسود.
الإنسان الروحي الذي يختبر الصلاة القوية، لا يعرف الهزيمة إطلاقًا...
لأنه بالصلاة يأتي بالرب، ويدخله الميدان، ويسلمه المعركة. لهذا قال داود "جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع... لا أتزعزع طالما الرب عن يميني...
كان في كل معاركه يصرخ إلى الرب: إلى متى يا رب تنساني؟ يا رب لماذا كثر الذين يحزنوني؟ أسرع وأعنى... (مز 3: 69).
إنك تتعب إن قمت بمفردك، تحارب عدوك بقوتك...
ولكنك تغلب إن قُلت (اَللهُ يَغْلِبُهُ لاَ الإِنْسَانُ) (أي 32: 13).
كذلك نرى خبرة روحية عميقة في قصة أبينا القديس أنطونيوس الذي حاربته الشياطين بقوة وعنف، وزلزلت المقبرة التي كان يعيش فيها في بدء نسكه. فقال لهم القديس "إن كان الله قد أعطاكم سلطانًا على، فَمَن أنا حتى أقاوم الله؟ وإن لم يكن الرب قد أعطاكم سلطانًا، فلن يستطيع أحد منكم أن يغلبني"...
إذن الحرب ليست بينك وبين الأعداء، وإنما هي أولًا وقبل كل شيء مع الله. إن صارعته حتى الفجر، وأخذت منه القوة، فلن يستطيع عدو أن يغلبك...
الحرب أولًا في قلبك. هل أنت واثق أن الله واقف معك، يحارب ويقاتل أعداءك إن وثقت بهذا تقول مع داود النبي "إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام على قتال، ففي هذا أنا مطمئن" (مز 26).
الله يحارب عنك، هذا حق - ولكن ينبغي أن تجاهد.
عمل الله معك، ليس معناه أن تكسل. بل جاهد بكل قوتك. قاوم كل شهوة وكل رغبة خاطئة. كما قال الرسول "قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يع 4: 7) وأيضًا "قاوموه راسخين في الإيمان" (1بط 5: 9). إن مقاومتك تدل على رفضك للخطية. وبذلك تستحق معونة النعمة...
قاوم نقط الضعف التي فيك ولا تستسلم لها...
واثبت في الجهاد، إلى أن تنتشلك يد الله.
ولا تيأس أبدًا في جهادك، مهما بدت الحرب صعبة، ومهما كَثُرَت الفخاخ من حولك. وثق أن السماء ترقب جهادك، وملائكة وقديسون كثيرون يشفعون فيك... وليكن جهادك مسنودًا بالإيمان بيد الله القوية وذراعه الحصينة، التي تغنى بها داود قائلًا:
"دُفِعت لأسقط والرب عضدني. قوتي وتسبحتي هو الرب وقد الرب وقد صار لي خلاصًا"، "يمين الرب صنعت قوة. يمين الرب رفعتني".
جاهد إذن مع الله، وجاهد مع نفسك، وجاهد الشيطان. وكن قوي القلب. وتذكر أن الله كان يختار جبابرة البأس لحروبه، مثلما استخدام جدعون (قض 6: 12) وداود (1صم 16: 18). وكما قال عن الكنيسة في سفر النشيد إنها "مرهبة كجيش بألوية" (نش 6: 10)، وهكذا النفس البشرية أيضًا...
واستخدام أيضًا كل وسائط النعمة:
التصق باستمرار بمزاميرك، بصلواتك، وبقراءاتك الروحية وتأملاتك، بالترانيم والتسابيح، والتداريب ومحاسبة النفس واليقظة الروحية. التصق بالكنيسة، بأب الاعتراف، بالتناول، بالاجتماعات الروحية. فإن هذه كلها توقد الحرارة في قلبك، وتعمق محبة الله فيك، وتمنحك قوة للانتصار. أما إن بعدت عن هذه الوسائط الروحية، فما أسهل أن تفتر، ويجد العدو مدخلًا إليك....!
ثِق أن كلمة الله سلاح قوي يساعدك على الغلبة.
وما أصدق وأعمق قول داود النبي في اختباراته: "لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلتي"، "لأن قولك أحياني" (مز 119). تذكر أن السيد في تجربته على الجبل، كان يرد على الشيطان بآيات من الكتاب، فأرانا أم كلمات الكتاب تصلح سلاحًا للرد على أفكار العدو. وكما قال داود النبي "كلمة الرب مضيئة تنير العينين من بعد" (مز 19).
رَدِّد المزامير والآيات التي تشجعك وتقويك.
مثل المزمور التسعين، ومزمور الراعي (23) وتغنى مع الرسول في قوله "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو 8: 37). وتذكر وعود الله وتشجيعه لأولاده، وقوله لزربابل "مَن أنت أيها الجبل العظيم؟! أما زربابل تصير سهلًا" (زك 4: 7)، وقوله للقديس بولس "لا تخف... لأني أنا معك، ولا يقع بك أحد ليؤذيك" (أع 18: 9، 10). وقوله من قبل لأرميا "يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك، يقول الرب، لأنقذك" (أر 1: 19). وقوله كذلك ليشوع "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك" (يش 1:5)...
عِش في محبة الله، فتنتصر. وعلى الأقل عش في وخافته.
واستعِن في جهادك بالصبر والصمود. وإن أخافك عدو الخير، تذكر قول بولس الرسول "أستطيع كل شيء في المسيح. الذي يقويني" (في 4: 13).
وَثِق أنك كلما نلت خبرة في حروبك الروحية، سوف تزداد قوة وإيمانًا بالانتصار. وحاول أن نعيش باستمرار في جو روحي، وأن تبعد عن الأجواء التي تبرد محبة الله في قلبك. بهذا سوف تحتفظ بحرارتك الروحية، وتقوى على محاربات العدو. وليكن الرب معك.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/spiritual/war.html
تقصير الرابط:
tak.la/m9bpbm8