محتويات
قال سليمان الحكيم "البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يملك مدينة" (أم32:16).
فَمَن هو إذن الذي يملك روحه؟ أي الذي يضبط نفسه؟
لا شك أن ضبط النفس يشمل عناصر كثيرة منها:
ضبط اللسان، وضبط الفكر، وضبط الحواس، وضبط البطن (من جهة الأكل)، وضبط الرغبات والشهوات، وضبط الأعصاب (من جهة الغضب)، وضبط لك تصرفات الإنسان.
يقول الحكيم أيضًا "كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أما الضابط شفتيه فعاقل" (أم 19:10). ويقول القديس يعقوب الرسول "وأما اللسان فلا يستطيع أحد أن يذلله. هو شر لا يضبط مملوء سمًا مميتًا" (يع8:3). لذلك قال الرسول أيضًا:
"إن كان أحد لا يعثر في الكلام، فذلك رجل كامل، قادر أن يلجم كل الجسد أيضًا" (يع2:3).
ومن أجل هذا كان المرنم يلتمس معونة الله قائلًا:
"ضع يا رب حافظًا لفمي، بابًا حصينًا لشفتيّ".
والذي يضبط لسانه ينجو من خطايا عديدة جدًا.
فلا يقع في إهانة الآخرين بالشتيمة أو التهكم أو التوبيخ القاسي، أو التهديد، أو الترفع عليهم. ولا يقع في الكذب ولا المبالغة ولا الحلفان ولا التجديف... ولا في كلام المجون، ولا في الثرثرة... ولا المعلومات الخاطئة، ولا في الافتخار والبر الذاتي، والحديث عن النفس، ولا في إدانة الآخرين، ولا كلام الغضب بل أن الكتاب يقول:
"بل الأحمق إذا سكت، يحسب حكيمًا" (أم28:17).
وضبط الشفتين له فوائد إيجابية كثيرة:
فالذي يضبط شفتيه، يعطي نفسه فرصة للتروي والتفكير قبل أن يتكلم، ويأخذ فرصة أيضًا لانتقاء الألفاظ واختيار الكلمة المناسبة، وحسبان ردود الفعل لكل ما يقول.
لأن الكلمة التي تقولها تحسب عليك، مهما اعتذرت عنها.
فما دمت قد لفظتها، ووصلت إلى آذان الناس وإلى أذهانهم ومشاعرهم، لم تعد ملكًا لك وحدك تتصرف فيها! لقد كنت تحكم عليها قبل أن تقولها. أما بعد كلامك فقد أصبحت هي التي تحكم عليك "لأنه بكلامك تتبرر، وبكلامك تدان" (مت37:12).
يكفي أن القديس أرسانيوس قال مرة:
"كثيرًا ما تكلمت فندمت. أما عن سكوتي فما ندمت قط".
لذلك اضبط لسانك. القديسون أيضًا كانوا يسكتون لكي يعطوا أنفسهم فرصة للصلاة وللتأمل، كما قال الشيخ الروحاني "سكت لسانك لكي يتكلم قلبك" وأيضًا "كثير الكلام يدل على أنه فارغ من الداخل، أي من عمل الصلاة" قال حكيم:
"ليس كل ما يُسْمَع يُقَال. وليس كل يُقَال يُكْتَب".
فليس كل ما تسمعه، تردده على آذان غيرك، وإلا فإنك قد توقع بذلك بين الناس. وتصل إلى النميمة أو إلى الغيبة؟ وأخطر من ذلك ما تكتبه، لأنه يصير وثيقة عليك.
فاحرس إذن أفكارك. ولا تقبل كل فكر يأتي إليك. واحرص على أن تكون أفكارك نقية. وإن وصل فكر خاطئ. أحذ من التمادي فيه والتعامل معه. اطرده بسرعة لئلا يسيطر عليك، ويتحول إلى مشاعر في قلبك.
احذر من أفكار الغضب والانتقام والشهوة، ومن أفكار الإدانة وأفكار الأباطيل، وأيضًا من فكر الحسد والغيرة والحقد، ومن أفكار الكبرياء والمجد الباطل... ومن كل فكر لا يمجد الله. وإن لم تستطع، فأنصت إلى المَثَل الذي يقول:
"إن لم تستطع أن تمنع الطير من أن يحوم رأسك، فعلى الأقل لا تجعله يعشش في شَعْرَك".
لا تستبق في داخلك فِكرًا خاطئًا. وحاول أن تشغل ذهنك باستمرار بأفكار نافعة، أو بتأملات روحية، حتى إن حارب الشيطان أفكارك لا يجدها متفرغة له...
وهناك وسيلة أخرى لحفظ الفكر وهي ضبط الحواس:
الحواس هي أبواب للفكر. فأحرس هذه الأبواب:
اضبط السمع والنظر واللمس. حتى لا تدخل إليك فكرًا خاطئًا. ولتكن حواسك طاهرة. وما تقع عليه حواسك بدون إرادتك، لا تفكر فيه، ولا تعد إليه بإرادتك...
قد تكون النظرة الأولى مصادفة أو بغير إرادتك. ولكن النظرة الثانية لا شك أنها إرادية تحاسب عليها.
اعرف أن حواسك لا تجلب لك أفكارًا فقط، وإنما قد تتسرب في عقلك الباطن، وتتحول إلى أحلام وظنون.
فضبط الحواس يساعد إذن على نقاوة الفكر، ونقاوة الأحلام والظنون. بل يساعد على نقاوة المشاعر أيضًا.
لتكن مشاعرك منضبطة. وإن وجدت شعورًا خاطئًا قد دخل إلى قلبك، فلا تتجاوب معه. بل اطرده بسرعة، قبل أن يرسخ فيك. وحاول باستمرار أن تحتفظ بنقاوة قلبك.
لا تستسلم لأية شهوة أو رغبة خاطئة.
بل قاومها، قال القديس بولس الرسول "لم تقاوموا بعد حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية" (عب4:12).
لا تجعل الأمر يتطور معك إلى أسوأ...
اضبط حواسك حتى لا تجلب لك فكرًا. وإن وصل إليك الفكر، اضبطه حتى لا يتحول إلى شعور وإلى شهوة. وإن وصلت إلى مستوى الشهوة، اضبطها حتى لا تتحول إلى عمل... وإن تدرجت إلى العمل، فامتنع عنه بسرعة، حتى لا يتحول إلى عادة ويسيطر عليك...
واعرف أن التغصب يدربك على قوة الإرادة...
اغصب نفسك على تنفيذ الوصية، وعلى الطاعة والخضوع.
اضبط نفسك في طاعة الرب، وفي طاعة القانون والنظام العام، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولا تتحايل على مخالفة قانون، أو مخالفة ضميرك، ولا تجلب لنفسك الأعذار. ولا تسمح أن يتسع ضميرك ليقبل أشياء كثيرة...
اعرف أن الأعذار والتبريرات هما عدوان خطيران لضبط النفس.
فلا تعذر نفسك في أي خطأ من الأخطاء. وبدلًا من أن تدلل نفسك، حاول أن تقومها، وترغمها على عمل الخير، وتبعدها عن كل شر وشبه شر.
اضبط نفسك من جهة محبة الذات. فقد قال الرب "مَن يحب نفسه يهلكها. ومَن يبغض نفسه في هذا العالم، يحفظها إلى حياة أبدية" (يو25:12).
أبعد عن محبة الذات، وعن محبة النصيب الأكبر، وعن محبة المتكآت الأولى. ولا تفضل ذاتك على غيرك. ولا تجعل راحتك على تعب الآخرين. وإن وجدت ذاتك منقادة في طريق خاطئ، اضبط مسيرتها بكل حزم.
واضبط نفسك من جهة الاندفاع والتهور، ومن جهة اتخاذ أي قرار سريع.
إن وجدت نفسك منفعلًا، اضبط أعصابك، واضبط لسانك، واضبط ملامحك، واضبط حركاتك، ولا تسمح لنفسك بأن تخطئ في حق غيرك، مهما أخطأ هو في حقك.
واضبط نفسك من جهة استخدام الحرية.
حسنٌ أن تتمنع بالحرية. ولكن لتكن حريتك منضبطة.
لتكن حرية طاهرة لا تفعل فيها ما لا يليق. ولتكن حرية مسالمة وعاقلة، لا تتعدَّى فيها على حريات الغير ولا على حقوق الغير، ولا على النظام العام.
ليتحرر قلبك أولًا من كل خطأ. فإن تحررت من الداخل، يمكنك أن تستخدم حريتك الخارجية بحكمة وسلام.
اعرف أنك إن لم تنضبِط من الداخل، فسوف تُرْغَم على الانضباط من الخارج.
كإنسان يرغمه إلى الانضباط: القانون والعرف والعقوبة. وكابن لا ينضبط من تلقاء نفسه، فيضبطه التأديب والديه له. وكأي إنسان يضطر إلى الانضباط بطريق الخوف...
وهناك من يضطر إلى الانضباط بدافع الخجل من الناس، أو الخوف من الانكشاف ومن الفضيحة.
أو لص يضطر إلى الانضباط مؤقتًا خوفًا من الحراس.
أو إنسان يضطر إلى الانضباط نتيجة للتوبيخ.
أو نتيجة لوجود موانع كعدم وجود قدرة، أو عدم وجود فرصة، أو لمقاومة الآخرين له. كلها أسباب غير روحية.
أما الشخص الروحي فينضبط من الداخل، بإراداته، حبًا منه للخير، وحبًا منه لله وتقويمًا منه لنفسه.
وانضباطه الداخلي يساعده على الانضباط من الخارج أيضًا. أو أن انضباطه الخارجي يكون هو العبير العملي على الانضباط الداخلي.
على أنه باستمرارية الانضباط الخارجي، سواء أكان الإنسان مرغمًا عليه من الخارج أو أنه يغصِب نفسه على ذلك. بهذا الاستمرار قد يتعود الإنسان أن يكون منضبطًا...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/righteousness/self.html
تقصير الرابط:
tak.la/3rhdjv8