كل فعل له رد فعل، عنيفًا كان أو خفيفًا. إنما هو ردّ للفعل حسب درجته. وحكيم هو الإنسان الذي يحسب حسابًا لرد الفعل قبل كل كلمة يقولها، وقبل كل موقف يتخذه... وجاهل جدًا مَن لا يحسب حسابًا لردود الفعل...
ولعل من الأمثلة الواضحة لحساب ردود الفعل، ما نراه في مشاهدة لاعبي الشطرنج. إذ يبدو كل منهما صامتًا، بينما هو يُفكِّر في عُمق: إن قام بتحريك شيء من اللعب، ماذا سيكون ردّ الفعل عند الطرف الآخر؟ فإن أجاب باللعبة الفلانية، ماذا يكون ردَّه هو على ذلك. وهكذا يطول التفكير في حساب ردود الفعل...
وردّ الفعل قد يشمل كل شيء: وقد يكون مشابهًا للشيء تمامًا أو متناسبًا معه. فرد الفعل للحب هو حب مثله، وقد يكون رد الفعل للصدّ هو صدّ مثله. ورد الفعل للترحاب هو الشكر. ولكن ردّ الفعل للإهمال قد يكون الألم أو البعد. وما أعجب رد الفعل في الإحسان إلى الناس إذ يقول الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم... فطالما استعبد الإنسان إحسانهم
أمَّا إذا قوبل الإحسان بنكران الجميل، فإن ردّ الفعل لنكران الجميل هو عدم استمرار الإحسان. وكما قال أحد الحكماء: "ليست عطية بلا زيادة إلا التي بلا شكر"!
إنَّ الإحسان إلى المحتاجين والفقراء، كثيرًا ما يكون ردّ فعله هو الدُّعاء من كل القلب لِمَن قد أحسن إليهم. وهكذا يكسب المحسن أصدقاء يشفعون فيه عند الله. وأيضًا " طوبى للرحماء فإنهم يُرحَمون". وعكس ذلك لِمَن يقسو قلبه على المعوزين والمساكين. لأنَّ مَن يسمع صراخ المسكين ولا يستجيب له، يصرخ هو أيضًا إلى الله في وقت ما، ولا يستجيب له.
صدقوني، حتى الذي يصنع جميلًا مع حيوان أو طير، قد لا ينسى له إطلاقًا هذا الجميل. فالذي يحنو على كلب أو قط، أو يخرج شوكة من جسم حيوان، يحظى برد فعل عجيب منه. وبالعكس يقول المثل " مَن يؤذي قطًا، يخربشه". إنه رد فعل.
إنَّ مَن يهين غيره، تكون لإهانته ردود فعل كثيرة. فإمَّا أن يكون ردّ الإهانة إهانة مثلها، أو يكون ردّ فعلها خصومة إذا لم يحتملها القلب. وإذا كانت إهانته كلمة نابية، تؤخذ عنه فكرة أنه سيء الخُلُق. قد يكون رد الفعل هو الانتقام. نفس الكلام نقوله عن ردود الفعل للمهاجمة أو التحدي أو التجريح... هل يظن مقترف مثل ذلك الإثم أن خطأه يمر دون أثر أو رد فعل..؟!
ما هي قصص الانتقام أو الأخذ بالثأر -وبخاصة في بلاد الريف- إلا ردود فعل؟ إن لم تكن في وقتها، فقد تكون بعد حين. وإن لم تكن من الجاني نفسه، فقد تكون من أولاده أو من أعز أحبائه، أو تكون انتقامًا في مقتنياته. إن سفك الدم له ردّ فعله الذي قد لا يُنسى. وكما قال الرب لقاتل هابيل الصِّدِّيق: "صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك"...
كذلك في عالم السياسة نرى ردود الفعل واضحة جدًا. فنائب الدائرة الذي لا يهتم بها، يكون لإهماله ردّ فعل في عدم انتخابه مرة أخرى. وهكذا أخطاء أي مسئول في الحُكم، تكون لها ردود فعل عند أحزاب المعارضة فتتناولها بالنقد. بل قد يكون لها ردّ فعل عند الدولة نفسها. فأحداث الأقصر التي قُتِل فيها بعض السائحين الأجانب منذ سنوات، كان من نتائجها أو ردود فعلها، تغيير وزير الداخلية...
والسياسة العنيفة للأجناس البيضاء في أفريقيا السوداء، كان من ردود فعلها -ولو بعد زمن- هو خروج أحد هؤلاء السود من السجن ليصير أوَّل حاكم أسود لجنوب أفريقيا وهو الزعيم مانديلا.. وكذلك من ردود الفعل لاستعمار كثير من دول أفريقيا بواسطة بلاد الغرب كان من نتائجها ظهور حركات استقلالية في أفريقيا نفضت عن كاهلها ذلك الاستعمار، وصارت تحكم نفسها بنفسها.. وفي الهند حدث نفس الوضع، فإذا كردّ فعل للاستعمار البريطاني، ظهر زعيم هندي جاهد لتحصل الهند على استقلالها، وهو الزعيم المهاتما غاندي الذائع الصيت.
وفي الدولة العثمانية، نذكر السلطان عبد الحميد الذي انفرد بالحُكم فكان ردّ الفعل ثورة ضده قال فيها أمير الشعراء أحمد شوقي:
عبد الحميد حساب مثلك في يد الملك الغفورْ
سدت الثلاثين الطوال ولسن بالحكم القصير
تنهي وتأمر ما بدالك في الكبير وفي الصغير
لا تستشير وفي الحمى عدد الكواكب من مشير
دخلوا السرير عليك يحتكمون في رب السرير
أعظم بهم من آسرين وبالخليفة من أسير
لا شك أنَّ التعالي على الناس له ردّ فعله، وقد يكون عسيرًا. وما الثورة الفرنسية المشهورة في أواخِر القرن الثامن عشر، إلاَّ دليل أكيد على هذا الأمر إذ غيرت الإمبراطورية تغييرًا كاملًا تحت شعار " الحرية والإخاء والمساواة". ثم كان لظلم روبير رد فعل آخر، ثم كانت دولة نابليون بونابرت، وتطوَّرت الأمور.
وفي النواحي الدينية نرى نفس ردود الفعل أيضًا. فردّ الفعل على محاكم التفتيش، وعلى نظرية السمو البابوي التي نادى بها جريجوري السابع، وما حدث في قصة إذلال كانوسا وغيرها وصكوك الغفران، كان من نتائجها ظهور مارتن لوثر وردّ الفعل البروتستانتي الذي أوجد انقسامًا خطيرًا في الكنيسة من القرن الخامس عشر حتى الآن.
كذلك كان لكتاب سلمان رشدي الذي أصدره في إنجلترا ردّ فعله الخطير في العالم الإسلامي مما حكمت به إيران عليه بتحليل دمه ومكافأة بالملايين لِمَن يقتله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وكذلك كان ردّ الفعل على الرسوم الدنمركية وعلى تصريحات البابا بندكت السادس عشر...
لذلك على كل إنسان أن يعمل حسابًا لكل فعل قبل أن يفعله، ولكل لفظة قبل أن يلفظها. لأنَّ أمرًا واحدًا قد تكون له ردود فعل كثيرة. وخطيئة واضحة قد تكون لها ردود فعل عالمية. وما أصعب ردود الفعل للقادة والرؤساء، ومَن ينظر إليهم باعتبار أنهم قدوة ومثالًا لغيرهم. لذلك قال الحكيم العربي "قدّر لرِجْلِك قبل الخطو موضعها...".
وردود الفعل قد تتخطَّى حدود المكان والزمان فالثورة الفرنسية كان لها ردود فعل خارج فرنسا. والثورة المصرية كان لها ردود فعل خارج مصر. بل أن انتصار أكتوبر سنة 1973 كان له رد فعل في العالم العربي كله وفي إسرائيل وفي نظرة أمريكا إلى مصر واحترام العالم كله لها. كما كان لها أيضًا ردّ فعل وتأثير في الخطط العسكرية التي يمكن تدريسها.
إنَّ نشاط الإنسان له ردّ فعل، وتكاسله له كذلك ردّ فعل. وأفكار الإنسان ليست قاصرة عليه، بل لها ردود فعلي عليه، وعلى كل مَن يتأثر بهذه الأفكار سلبًا أو إيجابًا.
لذلك في كل فكرك أو كلامك أو تصرفاتك، لا تنظر إلى نفسك فقط، إنما إلى كل ما تحدثه من ردود فعل سواء على مستوى الأسرة أو البيئة أو الرأي العام كله.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/z46852s