الله المؤدب الشافي: الذي يجرح ويعصب (أي 18:5).
إن الله يحب خليقته. بكل حب يعامل أولاده، هؤلاء الذين "أحبهم حتى المنتهى" (يو1:13). يحنو عليهم ويتراءف. ولكن ليس بالتدليل الذي ينحرفون فيه، إنما كما يقول الكتاب:
"الذي يحبه الرب يؤدبه" (عب6:12).
نعم، ويقول الكتاب أيضًا "طوبى لإنسان يؤدبه الله. فلا ترفض تأديب القدير. لأنه هو يجرح ويعصب. يسحق ويداه تشفيان" (أي 17:5، 18).
إنه تأديب لفائدتنا ولشفائنا، ننتفع به كما ننتفع بكل مواهب الرب وعطاياه. ويقول القديس بولس الرسول عن هذا التأديب "إن كنتم تحتملون التأديب، يعاملكم الله كالبنين. فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟! ولكن إن كنتم بلا تأديب... فأنتم نغول لا بنون" (عب7:12، 8).
إنه تأديب، ليس بقسوة، بل تمتزج به الرحمة.
وهكذا قيل إنه "يجرح ويعصب. يسحق ويداه تشفيان".
منذ البدء تعامل الله مع البشرية بهذا الأسلوب، كما في قصة أبوينا الأولين، آدم وحواء... خلق الإنسان الأول في أكمل صورة. "على صورة الله خلقه، وباركه وسلطه على كل الأرض (تك27:1، 28). ولكن لما أخطأ هذا الإنسان، عاقبه الله. وقال له "بعرق جبينك تأكل خبزك"، "ملعونة الأرض بسببك. وبالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكًا وحسكًا تنبت لك" (تك17:3، 18). وقال للمرأة "تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك. بالوجع تلدين أولادًا..." (تك16:3).
وفيما عاقب الله آدم وحواء، بشرهما بالخلاص.
بشرهما بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية (تك15:3). وهكذا جاء السيد المسيح من نسل حواء، ليسحق رأس الحية أي الشيطان (رؤ2:20). وإذا بالخلاص الموعود به يكون مع العقوبة في وقت واحد. حقًا إن الله يجرح ويعصب. يطرد آدم وحواء من الجنة، ويعدهما -وكل البشرية- بالخلاص...
نفس المعاملة، نراها في قصة يونان النبي.
لقد أخطأ يونان، وخالف أمر الله، وهرب منه في سفينة إلى ترشيش. وهنا نرى عصا التأديب واقعة عليه: نوء عظيم في البحر، كادت السفينة أن تنكسر به، ثم أُلْقِيَ يونان في البحر "وأعد الرب حوتًا عظيمًا فابتلع يونان" (يون17:1). ولكن الله الذي سمح للحوت أن يبتلع يونان، لم يسمح لهذا الحوت أن يضر يونان بل بقى يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام، وخرج منه سالمًا، لكي يؤدي رسالته. حقًا إن الله يجرح ويعصب. يسحق ويداه تشفيان... ما أجمل قول داود النبي:
"تأديبًا أدبني الرب. وإلى الموت لم يسلمني" (مز18:118).
نعم، ما أكثر التأديبات التي أدب بها الرب عبده داود. وبخه عن طريق ناثان النبي. فقال له "لماذا احتقرت كلام الرب، لتعمل الشر في عينيه... والآن لا يفارق السيف بيتك..." (2صم5:16-8). وسمح الرب أن يقوم على داود ابنه أبشالوم ويذله. ويصعد داود في جبل الزيتون باكيًا وحافيًا (2صم30:15). ويسبه شِمْعِي بْنُ جِيرَا بكلام موجع (2صم9:12، 10). ويخونه أخيتوفل، ويتعبه أيضًا رئيس جيشه يوآب (2صم19). وينقسم عليه شَبَعُ بْنُ بِكْرِي (2صم20). ويمنعه الرب من بناء الهيكل، مع ضيقات أخرى عديدة... ومع كل ذلك كان الرب مع داود وباركه ونجاه. فسبح بعمل الرب وقال "قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا" (مز118).
سليمان أيضًا ابن داود، عامله الله بنفس المعاملة. وقال عنه:
"إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ. وَلكِنَّ رَحْمَتِي لاَ تُنْزَعُ مِنْهُ" (2صم14:7، 15).
هنا كلمة (أؤدبه)، وكلمة (رحمتي)، تجتمعان في عبارة واحدة...
وعلى الرغم من أن الرب تراءى لسليمان مرتين: إحداهما في جبعون، والأخرى في أورشليم، إلا إنه لما أخطأ عاقبه، ولكن في حنو، ولم ينزع منه رحمته كما نزعها من شاول. بل قال "من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة منك تمزيقًا وأعطيها لعبدك. إلا أني لا أفعل ذلك في أيامك -من أجل داود عبدي- بل من يد ابنك أمزقها. على أني أمزق منك المملكة كلها، بل أعطى سبطًا واحدًا لابنك، لأجل داود عبدي، ولأجل أورشليم التي اخترتها" (1مل11:11-13). حقًا إنه "يسحق ويداه تشفيان" (أي 18:5).
وهكذا قال الرب للكنيسة في العهد القديم:
"لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك" (أش7:54).
يتركها تذل بأيدي الأمم، ثم سيعود فيجمعها. يلقيها في سبي بابل وأشور، ويسمح أن يقتحمها نبوخذ نصر، وأن يبقى "سور أورشليم منهدمًا، وأبوابها محروقة بالنار" (نح3:1). ثم يعود الرب وينبه روح كورش ملك فارس (عز1:1)، فيخرج آنية بيت الرب التي أخرجها نبوخذ نصر من أورشليم وجعلها في بيت آلهته، ويعيدها (عز7:1، 8). كما يعطي نعمة لنحميا في عيني أرتحشستا الملك، فيرسله لإعادة بناء أورشليم (نح4:2-9).
سمح الرب بالسبي لأبنائه القديسين، ومنحهم نعمة في أرض السبي.
وهذا ما نقرأ عنه في قصة دانيال النبي والثلاثة فتية القديسين.
السبي كان تأديبًا للشعب كله. ولكنه كان خبرة روحية عجيبة رأى فيها دانيال والثلاثة فتية يد الله وهي تعصب وتشفى. سمح الله أن يضطهد حبيبه دانيال من جميع وزراء المملكة، ومن المرازبة والمشيرين والولاة، فدبروا مؤامرة ضده أُلْقِيَ بها في جُبِّ الأُسُود. ولكن "الله أرسل ملاكه فسد أفوه الأسود" (دا22:6). وكانت النتيجة أمر صدر من الملك بعبادة إله دانيال (دا25:6-28). ونجح دانيال.
كذلك سمح الله بإلقاء الثلاثة فتية في أَتُّونِ النَّارِ، ولكنه تمشَّى معهم في وسط الأتون (دا25:3). ولم تمسهم النار بضرر. وكانت النتيجة صدور أمر من نبوخذ نصر الملك بتمجيد إلههم. كما قدم هؤلاء الفتية في ولاية بابل... إنه الله الذي يجرح ويعصب.
يُذَكِّرنا هذا، بما حدث لمردخاي من هامان.
سمح الله أن يعد هامان خشبه طولها خمسون ذراعًا ليصلب عليها مردخاي ظلمًا (إس14:5). ولكن في تلك الليلة أطار الله النوم من عيني أحشويرش الملك، فأتى بسفر تذكار أخبار الأيام فقرئت أمامه، وإذ بها خبر عن مردخاي وكيف أنقذ الملك من اثنين تأمرا عليه. فعمل الملك على إكرام مردخاي إكرامًا عظيمًا (إس6). كما أعطى الرب نعمة لإستير في عيني الملك، فكشفت له مؤامرة هامان... وانتهى الأمر بأنهم "صلبوا هامان على الخشبة التي أعدها لمردخاي" (إس10:7).
أيضًا سمح الله بالتجربة ليوسف الصديق يوسف وأخرجه منها بمجد.
سمح أن يضطهده أخوته، وأن يلقوه في البئر، وأن يبيعوه كعبد (تك37). وسمح أن تتهمه امرأة فوطيفار ظلمًا بتهمة رديئة، فيلقي به في السجن فيبقى فيه سنوات. ولكن الرب كان معه وأنجحه في كل شيء. وأعطاه موهبة تفسير الأحلام. وأرسل الرب الله حلمًا لرئيس السقاة وحلمًا لرئيس الخبازين، زميليه في السجن، ففسرهما يوسف. ثم أرسل الله أحلامًا لفرعون ومنح يوسف حُسْن تفسيرها، كما منحه نعمة في عيني فرعون، فجعله الثاني في المملكة... وأتى أخوة يوسف إليه في مصر يطلبون قمحًا أثناء المجاعة، وسجدوا بين يديه. وقال لهم "لستم أنتم أرسلتموني إلى هنا، بل الله" (تك8:45). كما قال لهم بعد موت أبيه "أنتم قصدتم لي شرًا، أما الله فقصد به خيرًا... ليحيي شعبًا كثيرًا" (تك20:50)... حقًا، هذا هو الله الذي يجرح ويعصب.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
الله الذي سمح أن تكون نساء قديسات عواقر لا يلدن.
كان قد أغلق رحم راحيل، فلم تلد بينما أختها أنجبت أبناء عديدين. حتى أن "راحيل غارت من أختها، وقالت ليعقوب: هَبْ لي بنين، وإلا فأنا أموت" (تك1:30). ولكن الله عاد وتحنن "وذكر الله راحيل وسمع لها، وفتح رحمها. فحبلت وولدت ابنًا، وقالت "قد نزع الله عاري" (تك22:30، 23)... منحها يوسف الذي سجد له أخوته...
وسمح الرب أيضًا أن تكون حنة عاقرًا، وأن تغيظها ضرتها فننه، لدرجة أنها بكت ولم تستطع أن تأكل، لأن الرب قد أغلق رحمها (1صم6:1، 7)... ولكن الله الذي يجرح ويعصب، كان قد أعد لها صموئيل ابنًا، النبي الذي مسح داود ملكًا (1صم16).
بالمثل سمح الله أن تكون سارة عاقرًا، وعاد فمنحها أن تلد إسحق أبا الآباء وسمح أيضًا أن تكون أليصابات عاقرًا. ولكنه كان قد أعد لها أن تلد يوحنا الذي قال عنه الرب "لم يقم من بين المولودين من النساء، أعظم من يوحنا المعمدان" (مت11:11)... حقًا إنه الله، الذي يجرح ويعصب.
أيضًا سمح أن تترمل راعوث وتتغرب وتجمع من وراء الحصادين، لأنه كان قد أعد لها أن تتزوج بوعز، وتصير جدة للمسيح (را13:4، 21، 22).
نذكر أيضًا الضيقات التي سمح بها الله لرسله وشهدائه.
إذ قال لهم "في العالم سيكون لكم ضيق" (يو33:16)، "سيخرجونكم من المجامع. بل تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله" (يو2:16). قال لهم أيضًا "يلقون أيديهم عليكم، ويطردونكم ويسلمونكم إلى مجمع وسجون، وتساقون أمام ملوك وولاة لأجل إسمي"، "وتكونون مبغضين من الجميع لأجل إسمي" (لو12، 21،17)... الله الذي قال هذا، هو الذي قال أيضًا "أنا أعطيكم فمًا وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقوموها أو يناقضوها"، "وشعرة من رؤوسكم لا تهلك" (لو15:21، 18)... حقًا إنه الله الذي يجرح ويعصب.
سمح أن يُنْفَى القديس يوحنا حبيبه إلى جزيرة بطمس. ولكنه هناك أراه الرؤيا العجيبة، حيث رأى السماء مفتوحة، ورأى عرش الله والقوات السمائية (رؤ4). وكشف له الله ما سوف يكون في أواخر الزمان.
سمح أيضًا بآلام كثيرة لبولس الرسول، فكان "في الأتعاب أكثر، في الضربات أوفر، في السجون أكثر، في الميتات مرارًا كثيرة"، "بأخطار لصوص، بأخطار من جنسه، بأخطار من أخوة كذبة..." (2كو23:11-26). ولكن في نفس الوقت، منحه أن يصعد إلى السماء الثالثة، إلى الفردوس... وسمع كلمات لا ينطق بها (2كو2:12، 4).
"الله منع موسى النبي من دخول أرض الموعد، على الرغم من أنه كان أمينًا على كل بيته" (عد7:12). ولكنه مع ذلك سمح له أن يدخل تلك الأرض على جبل التجلي، معه ومع إيليا النبي أيضًا (مر4:9)... إنه يسحق ويداه تشفيان...
لذلك يا أخي اختبر الرب في كل جراحك، وفي كل تأديباته...
ليس فقط حينما يصعدك إلى السماء الثالثة، بل أيضًا حينما يعطيك شوكة في الجسد (2كو7:12). اختبر تجاربه الحلوة، وافرح بها كما قال الرسول "احسبوه كل فرح يا أخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع2:1). وتذكر أن القديس بولس وسيلا كانا في السجن الداخلي، وقد ضبطت أرجلهما في المقطرة. ومع ذلك كانا يصليان ويسبحان الله، والمسجونون يسمعونهما" (أع24:16، 25).
إن جرحت في محبة الله، فلا تتعب، بل قُلْ:
"أمينة هي جروح المحب" (أم6:27).
قُلْ أيضًا: المر الذي يختاره الرب لي، خير من الشهد الذي أختاره لنفسي. أنا يا رب لا أشك أبدًا في محبتك، مهما أصابتني من جراح، ومهما احتملته من تأديبات. كله للخير، وكله للبركة. عصاك وعكازك هما يعزيانني... إن مستني عصاك، فهي للقيادة والإرشاد، ولست أحس منها ألمًا. أنت المؤدب الشافي، الذي يجرح ويعصب.
أنت لم تقصد آلامًا لأيوب الصديق، بل قصدت له البركة عن طريق الآلام، وأخرجته منه أفضل مما كان، "وزدت على كل ما كان له ضعفًا" (أي 10:42) وباركت أخرته أكثر من أولاه (أي 12:42).
فليكن اسم الرب مباركًا كل حين... هكذا قال أيوب، ليس حينما شفاه الله، إنما قال ذلك وهو في عمق التجربة والألم (أي 21:1).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-and-man/healer.html
تقصير الرابط:
tak.la/4sva4z8