حقًا إن الله حنان ورؤوف ورحيم. وهكذا علمنا الكتاب في علاقات الله بالبشر، وبكل الخليقة. والأمثلة على ذلك عديدة جدًا:
يقول داود النبي في مزاميره "الرب رحيم ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة" (مز8:103). "حنان ورحيم هو الرب" (مز4:111). "هو حنان، ورحيم، طويل الروح وكثير الرحمة" (مز8:145). "الرب حنان وصديق" (مز5:116) (مز4:112). قد توجد في البشر قسوة. أما الله ففيه الحنان. لذلك قال داود:
أقع في يد الله، ولا أقع في يد إنسان، لأن مراحم الله كثيرة" (2صم14:24) (1أي 13:21).
وبهذا الحنان تغنَّى المرتل في المزمور وقال "لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا. لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض، قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب، أبعد عنا معاصينا. كما يتراءف الأب على البنين، يترأف الرب على خائفيه" (مز10:103-13).
الله أيضًا رؤوف من جهة وصاياه وأحكامه.
لذلك يقول القديس يوحنا الحبيب إن "وصاياه ليست ثقيلة" (1يو3:5). ونقرأ في الإنجيل إن الرب قد وبخ الكتبة والفريسيين لأنهم "يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل، ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بأصبعهم" (مت4:23). ووبخهم على ذلك قائلًا "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون. لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس. فلا تدخلن أنتم، ولا تدعون الداخلين يدخلون" (مت13:23). وفي رأفته على تلاميذه قال لهم "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم. ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن" (يو12:16).
وتلاميذه أيضًا تعلموا الدرس. ففي قبولهم للأمم، قالوا "قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلًا أكثر، غير هذه الأمور الواجبة: أن تمتنعوا عما ذبح للأوثان، وعن الدم والمخنوق والزنا..." (أع 18:15، 19).
ونرى أن القديس يعقوب الرسول، حينما وصف الحكمة النازلة من فوق، قال إنها "مترفقة مسالمة، مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة" (يع17:3).
وفي رأفة الله عندما يعطي وصية، يعطي قوة ونعمة لتنفيذها.
بل يعطي روحه القدوس يعمل فينا. وما أجمل قول القديس بولس: "إن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل المسرة" (في13:2). وقد شرح خبرته في ذلك وقال "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة. بل أنا تعبت أكثر من جميعهم. ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي تعمل معي" (1كو10:15).
نعم، إنها رأفة من الله أن جعل الروح القدس يسكن فينا.
وهكذا يقول الكتاب "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم" (1كو16:3). إنه يسكن فينا، ويعمل فينا. ولهذا يقول القديس بولس عن نفسه وعن زميله أبلوس "فإننا نحن عاملان مع الله" (1كو9:3).
إنها رحمة من الله ورأفة أنه أدخلنا في "شركة الروح القدس" (2كو14:13). وجعلنا "شركاء الطبيعة الإلهية" في العمل وفي حياة القداسة (2بط4:1). فوعدنا منذ القديم بسكنى روحه فينا، إذ قال في نبوءة حزقيال "وأجعل روحي في داخلكم. وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي" (حز27:36).
ووعدنا بأن روحه يمكث معنا إلى الأبد، ويعلمنا كل شيء، ويُذَكِّرنا بكل ما قاله الرب لنا (يو16:14، 26)، ويرشدنا إلى جميع الحق (يو12:16)، ولا نكون نحن المتكلمين، بل هو المتكلم فينا (مت20:10).
إنها رأفة وحنو بطبيعتنا الضعيفة، أن تجد لها سندًا هكذا من روح الله.
ومن حنو الله علينا، ما يقدمه لنا من رعاية وعناية.
أليس هو القائل: أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يو11:10) "خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها، فتتبعني. وأنا أعيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد. ولا يخطفها أحد من يدي" (يو17:10، 18). وهو القائل أيضًا في العهد القديم "أنا أرعَى غنمي وأربضها -يقول السيد الرب- وأطلب الضال، وأسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح" (حز15:34، 16) "هأنذا أسأل عن غنمي وافتقدها... وأخلصها من جميع الأماكن التي تشتتت إليها..." (حز11:34، 12).
وهكذا غنَّى داود في مزمور الراعي فقال "الرب لي راعي، فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، إلى ماء الراحة يوردني. يرد نفسي، ويهديني إلى سبل البر" (مز23)... ورعاية الرب ممزوجة بالحب والحنان. لذلك قيل "ولما أبصر الجموع، تحنن عليهم. إذ كانوا منزعجين ومنطرحين، كغنم لا راعي لها" (مت36:9) (مر34:6).
الله من حنوّه على الناس يرسل لهم ملائكته.
يرسل لهم ملائكته الذين قال الكتاب عنهم "أليسوا جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب14:1). منهم ما يُسَمَّى بالملاك الحارس. كما كتب "ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم" (مز7:34). وأيضًا "في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم" (أش9:63). وقيل عن هذا الحفظ أيضًا "يوصى ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك... وعلى أيديهم يحملونك، لئلا تصطدم بحجر رجلك" (مز11:91)
هو الله المتحنن الذي يرعانا، ويقودنا في كوكب نصرته (2كو14:2).
هو الرب الحاني الشفوق "المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه، والفقير والبائس من سالبه" (مز10:35). وما أكثر الوصايا التي وضعها الرب من أجل المساكين... والوصايا التي وضعها أيضًا من أجل الغرباء، ومن أجل العبيد، ومن أجل المعوقين... كلها حنو ورأفة...
يظهر حنوه أيضًا في التجارب التي نتعرض لها.
من جهة إشفاقه في التجارب، يقول الرسول "ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون. بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كو13:10). هو الذي قال "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعًا محصاة" (مت30:10). "شعرة من رؤوسكم لا تهلك" (لو18:21)... لقد دخل التجربة في تجسده. "وفيما هو قد تألم مجربًا، يقدر أن يعين المجربين" (عب18:2).
فلنتأمل كم أعان أيوب الصديق في تجربته:
وزاد على كل ما كان لأيوب ضعفًا... وبارك أخرته أكثر من أولاه. ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال (أي 10:42-16). وما أجمل ما قاله لملاك كنيسة فيلادلفيا:
أنا أيضًا سأحفظك في ساعة التجربة العتيدة أن تأتي...
الله الرؤوف المتحنن، يقف إلى جوار أولاده في التجارب، ليعينهم وينقذهم. على أن حنو الله لم يشمل أولاده فقط...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
بل أن رأفته شملت أيضًا الحيوان والطبيعة:
فكما منح الإنسان راحة في يوم السبت، أمر أيضًا أن تكون الراحة لثوره وحماره وكل بهائمه (تث14:5) وقال "وأما اليوم السابع ففيه تستريح، لكي يستريح، لكي يستريح ثورك وحمارك، ويتنفس ابن أمتك والغريب".
ومن حنو الله قوله "لا تحرث على ثورك وحمار معًا" (تث10:22). لأن الثور أقوى من الحمار وأسرع في الحركة. فإن حرث معه يرهقه ويؤذيه...
كذلك قوله "لا تنظر إلى حمار أخيك أو ثوره واقعًا وتتغاضى عنه، بل تقيمه" (تث4:22). حتى إن وقع الحيوان في يوم سبت، يمسه ويقيمه (مت11:12) ويقول الرب في حنانه أيضًا "لا تكم ثورًا دارسًا" (تث4:25). فإن أجهد وجاع، يمد فمه إلى الحبوب ويأكل منها.
والرب حينما يتكلم عن طيور السماء يقول "وأبوكم السماوي يقوتها" (مت26:6). ويقول المزمور "المعطي البهائم طعامها، وفراخ الغربان التي تدعوه" (مز9:147). إنه في حنو "يشبع كل حي من رضاه" (مز16:145).
بل إن رأفة الرب تدرك الخطاة أيضًا.
"ونحن أموات بالخطايا، أحيانًا مع المسيح... أقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات" (أف5:2، 6). ويَتَغَنَّى بولس الرسول بهذا الحنو فيقول "ولكن الله بين محبته لنا. لأنه ونحن بعد خطاة، مات المسيح لأجلنا" (رو8:5)... هذا هو حنان الله على العالم الخاطئ. تجلى في الفداء. "وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا" (أش5:53).
في حنانه لم يجرح مشاعر الخطاة. وبكل إشفاق قبل توبتهم.
لم يجرح شعور المرأة السامرية، واستدرجها إلى الاعتراف بكل لطف (يو4). كذلك المرأة المضبوطة في ذات الفعل، بكل حنو أنقذها من طالبي رجمها. وقال لها "ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا" (يو11:8).
ولم يوبخ زكا العشار على حياته المملوءة قسوة وظلمًا، بل بكل حنو قلبه إليه، ودخل إلى بيته على الرغم من انتقادات اليهود، الذين رد عليهم قائلًا "اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو ابن لإبراهيم. لأن ابن الإنسان قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك" (لو9:19، 10).
وقصة الابن الضال، تظهر لنا مقدار حنو الرب على الخطاة الراجعين. إذ قيل "وإذ كان لم يزل بعيدًا، رآه أبوه فتحنن، وركض ووقع على عنقه وقبله" (لو20:15). وقيل عن العبد المديون لما تَرَجَّى سيده "فتحنن سيد ذلك العبد، وأطلقه وترك له الدين" (مت27:18). وقال السيد لسمعان الفريسي، عنه وعن الخاطئة الباكية "إنسان كان له مديونان: على الواحد خمسمائة دينار، وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما جميعًا" (لو41:7، 42). هذا هو حنان الرب على الخطاة العاجزين عن وفاء ديونهم... إنه سامحهم جميعًا! وقال للمرأة الباكية مغفورة لك خطاياك... إيمانك خلصك. اذهبي بسلام" (لو48:7، 50).
ومن حنان الله مغفرته لصالبيه، وللص المصلوب معه.
قال عن صالبيه "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون" (لو34:23). ويظهر عمق حنانه هنا، في أنه التمس لهم أيضًا عذرًا. أما اللص التائب فقال له "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو43:23)، ماحيًا كل خطاياه كأنها لم تكن!!
ويظهر حنانه أيضًا في قبوله توبة بطرس وبكاءه بعد إنكاره (مت75:26). وطمأنه على رتبته الرسولية، بقوله له بعد القيامة "ارع غنمي" (يو17:21)...
أما عن حنوه في حرب الخطية لنا.
فإنه يقصر أيام تجارب تلك الأيام، قائلًا في حنوه: "لأنه لو لم تقصر تلك الأيام، لم يخلص جسد" (مت 22:24). كما أن نعمته تسند في الحروب، كما يقول الرسول "حيث كثرت الخطية، ازدادات النعمة جدًا" (رو20:5).
إن رأفة الرب أيضًا تشمل الأعداء كذلك.
فهو "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت45:6). فعل ذلك بالنسبة إلى البلاد الملحدة التي أنكرت وجوده، وعلى البلاد الوثنية التي عبدت الأصنام. وصبر في رحمته على البلاد الشيوعية حتى رجعت إلى الإيمان. وكان خلال ذلك يمنحها العلم والتقدم والرخاء...
وعلمنا أن نفعل مثله قائلًا "أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. احسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (مت44:6). وهكذا قال الكتاب أيضًا "إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه" (رو20:12).
ولما طلبت الأرواح الشريرة أن يأذن لها بأن تدخل الخنازير، أذن لها!! (لو32:8). أي لطف هذا في المعاملة، حتى مع لجيئون!!
نلاحظ أيضًا أن معجزات السيد المسيح كانت تمتزج بالحنو.
ففي الشفاء مثلًا، قيل "أبصر جمعًا كثيرًا، فتحنن عليهم وشفاهم" (مت14:14). ومن جهة الأبرص الذي توسل إليه قائلًا "إن أردت، تقدر أن تطهرني" يقول الكتاب "فتحنن يسوع ومد يده ولمسه. وقال له أريد فاطهر" (مر40:1، 41). كذلك لما صرخ الأعميان خارج أريحا، قائلين ارحمنا يا ابن داود "تحنن يسوع ولمس أعينهما. فللوقت أبصرت أعينهما، فتبعاه" (مت34:20).
نرى نفس الحنو في إقامة ابن أرملة نايين. وكانت هذه الأرملة تمشي خلف نعش ابنها وحيدها وتبكي. يقول الكتاب "فلما رآها الرب، تحنن عليها وقال لها: لا تبكي" (لو31:7). وتقدم إلى النعش وأقام ابنها، ودفعه إلى أمه.
لا ننسى في إقامة لعازر من الموت، قول الكتاب "بكى يسوع" (يو35:11). والبكاء هو أعمق مظهر للإشفاق والحنو...
يبقى بعد سؤال:
هل حنان الله وإشفاقه ورأفاته تمنع من التأديب؟
تجد الإجابة على هذا السؤال في المقال المقبل: الله المؤدب الشافي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-and-man/tenderness-compassion-mercy.html
تقصير الرابط:
tak.la/ww677rk