لعلي حينما أتكلم عن الطبيعة، أذكر قول المزمور:
"السموات تُحَدِّث بمجد الله، والفَلَك يخبر بعمل يديه".
نعم إن الطبيعة تتحدث. ولذلك يتابع المرتل تأملاته في هذا المزمور قائلًا "يوم إلى يوم يذيع كلامًا. وليل إلى ليل يبدي علمًا.." (مز19: 1، 2).
يمكن للإنسان إذن أن يستمع إلى أحاديث الطبيعة، إلى حديث السماء وحديث الفلك. فما هي الدروس التي تتعلمها حينما نتتلمذ على الطبيعة درسًا؟ أذكر من بينها:
1- تعطينا الطبيعة درسًا في النظام والدقة:
وفي مقدمة ذلك النظام العجيب الدقيق الذي يربط بين الشمس والقمر والكواكب والنجوم. كيف تدور الأرض حول محورها دورة منتظمة كل 24 ساعة ينتج عنها الليل والنهار، وأيضًا تدور دورة أخرى حول الشمس كل عام تنتج عنها الفصول الأربعة. وكل ذلك بنظام لم يختل مطلقًا خلال آلاف السنين، بحيث يستطيع كل إنسان أن يتوقع ماذا سوف يحدث بعد ساعات أو أيام أو شهور، من حيث ضغط الهواء والرياح والأمطار والبرد والبحر، وترتيب الأزمنة والأوقات حسب نظام الطبيعة الدقيق... إنه درسٌ لنا.
ومن أمثلة النظام والدقة أجهزة الجسد البشري.
وتقصد هذه الأجهزة كما خلقها الله، وليس كما يفسدها الإنسان بإهماله، أو بتعرضه للمرض والوبأ والحوادث... إنها أجهزة دقيقة جدًا، ومنظمة جدًا سواء في ذلك عمل القلب ودورة الدم في الجسد الإنسان، أو عمل المخ بكل مراكزه، أو الجهاز الهضمي، أو الجهاز العصبي أو غيرها... تأمل العين كجهاز دقيق، والأذن كجهاز للسمع، واللسان كجهاز للذوق وللكلام ولمساعدة الجهاز الهضمي. عجب في عجب، لدرجة أن علم الطب كانوا يدرسونه في كليات اللاهوت، لأنه يعطي فكرة عن قدرة الله في الخلق.
2- نأخذ من الطبيعة درسًا آخر، في أنها تعمل بلا كلل ولا ملل، ولا نطلب راحة لنفسها...
تصوروا لم أن الأرض اتكأت على محورها، وطلبت أن تستريح قليلًا من التعب هذا الدوران الذي لا ينتهي..! ماذا كان سيحدث حينئذ في اضطراب النور والظلمة؟! ولكن الأرض لا تتوقف مطلقًا عن عملها وكذلك القمر، وباقي أعضاء أسرة الفلك، من شمس وكواكب ونجوم. إنه عمل دائب، ونشاط عجيب، في سبيل تأدية الرسالة بكل أمانة هذه دروس لنا.
3- والطبيعة تعطينا درسًا ثالثًا في أنها تعمل لأجل غيرها، وأنها تنفذ مشيئة غيرها، بكل طاعة وبكل إخلاص.
حقًا ماذا يستفيده الطبيعة لذاتها من كل ما تعمل؟ ماذا يستفيده الماء حينما يتبخر بالحرارة ويصعد إلى فوق، ثم يتكثف كمطر وينزل إلى تحت. ويداوم الصعود والهبوط في كل موسم كل عام من أجل غيره..؟
الطبيعة كلها تعمل في خدمة غيرها. أما ذاتها فلا وجود لها في عملها. إنها تبذل وكفي. وهي تطيع القانون الذي وضعه لها الله، ولا تحيد عنه ولا تناقشه...
حقًا ماذا كان سيحدث، لو أن الأفلاك عقدت اجتماعًا، لتناقش فيه خطة عمل لها في السنة المقبلة؟! أو لو طلبت أن تدبر أمورها، أو لو احتجت على العمل المستمر بدون توقف وبدون عطلة!!
الذي بفعل هذا هو الإنسان (العاقل) الذي يتبعه عقله، والذي لا يأخذ دروسًا من الطبيعة، ولا ينفذ قوله لله: "لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض" (مت 6: 10).
4- والطبيعة تعطينا درسًا رابعًا في التعاون والعمل الجماعي Teamwork.
كلها تعمل معًا، لأداء واجب واحد. يكفي أن يأكل الإنسان وجبة من الطعام، لتجد اليد تعمل في تقديم الطعام، الأسنان تطحنه واللسان يلوكه، ويقذفه إلى البلعوم والمريء والمعدة، وإفرازات من هنا وهناك حتى يؤخذ النافع منه، ويتحول إلى دم وإلى أنسجة وإلى طاقة، والزائد تخرجه الأمعاء إلى خارج. وكل عضو وكل جهاز في الجسم، يعمل مع باقي الأعضاء من أجل خير الجسد كله، في تعاون عجيب يستلم من عضو، ليسلم لآخر، مشتركًا مع غيره. بحيث لا نستطيع أخيرًا أن نقول: [من الذي عمل؟] إنه الجهاز الهضمي كله. بل باقي الأجهزة كانت تعمل معه، كالقلب والمخ... حتى لو نسب العمل إلى جهاز وحدة...
نفس التعاون نجده أيضًا بين الحرارة والرياح والأمطار والنبات. الكل يعمل معًا، من أجل أداء سليم لنفع المجموع، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولا يمكن أن ينفرد جزء من الطبيعة بعمل وحده.
ونفس التعاون نجده في دولة النمل، وفي دولة النحل، بمشاركة عجيبة يعوزني الوقت للتحدث عنها.
ألا يستطيع أن نتعلم من الطبيعة هذا الدرس؟
5- مع درس آخر قال عنه الكتاب: "إن كان عضو واحد يتألم، فجميع الأعضاء تتألم معه" (1كو 12: 26).
يكفي أن عضوًا واحدًا يتألَّم، فتجد الجهاز العصبي يتدخل وتجد الإحساس بالألم يظهر، وربما تجد أجراس الخطر تدق لتدفع إلى علاجه: جرس من درجة الحرارة، أو جرس من نبضات القلب، أو ضغط الدم، أو من صداع أو غيره. كلها تنادى قائلة: [هنا مرض. عالجوه]. وإن دخل ميكروب في الجسم، تجد حركه دائبة من كرات الدم البيضاء، وتجد كل أجهزة المقاومة تستعد لمقاتلته... إلى جوار معونات من الأطراف ومن المخ...
ويكمل الرسول كلامه ويقول: "وإن كان عضو واحد يكرم، فجميع الأعضاء تفرح معه" (1كو 12: 26). الوجه يبتسم، والقلب يطمئن، والأعصاب تهدأ، واليدان والقدمان كلها تقوم للخدمة وللتعبير عن فرحها. إنه درس تقدمه الطبيعة في مشاعر الأسرة الواحدة.
6- درسًا سادسًا تقدمه لنا الطبيعة، وهو أنها تعمل دون أن تتأثر برأي الناس فيها...
المطر ينزل في موعده ويؤدي واجبه، لا يتأثر بشكر الزارع إذ روي زرعه، ولا بتذمر إنسان أبتل به، أو كوخ سقط من شدته، أو ملابس ابتلت... إن المطر لا يبحث عن المجد الباطل، لذلك لا يتأثر بمديحه أو مذمة. يكفيه أنه يؤدي واجبه بأمانة.
كذلك الشمس والحرارة، والبرودة أيضًا، والرياح. تؤدي واجبها، ولا يهمها في ذلك مديح مَنْ يرضى، أو احتجاج من يتضايق. إنما أداء الواجب هو كل ما يشغلها.
7- الدرس السابع الذي نأخذه من الطبيعة هو الحكمة.
انظر مثلًا إلى الكرمة: إنها تنفض أوراقها في الشتاء، حتى تعطيك فرصه أن تتمتع بأشعة الشمس تحت التكعيبة. ثم تعود فتكتسي بالأوراق في الصيف، لأنك تحتاج وقتذاك إلى الظل وليس إلى الدفء.
وبالمثل أن نتحدث عن أشجار البنسيانا (من أشجار الظلال) وكثير من الأشجار التي تنفض أوراقها.
ومن الحكمة أيضًا أن كثيرًا من النباتات والثمار تظهر في الوقت الحسن، المناسب للإنسان:
البطيخ مثلًا يظهر في الصيف، لأنك محتاج أن ترتوي بمائه، بسبب حرارة الجو. والبرتقال يظهر في الشتاء لأنك محتاج إلى ما فيه من فيتامين (ج)، لتتقي نزلات البرد. وبنفس الوضع يمكن أخذ كثير من الثمار موضعًا للتأمل في حكمة مواعيد ظهورها...
8- الدرس الثامن الذي نأخذه من الطبيعة هو نكران الذات:
نأخذ هذا الدرس من الجذور مثلًا. فهي قابعة في الأرض لا تظهر، بينما هي تحمل الشجرة كلها وكلما تزداد الشجرة كلها، وكلما تزداد الشجرة ارتفاعا، تزداد الجذور تشعبًا واختفاء في الأرض، لكي تتمكن من نزولها إلى أسفل، أن تعطي فرصة ترتفع بها الشجرة إلى فوق، هل تُسَمِّي هذا بَذلًا أم محبة، أم اتضاعًا أم إنكارًا للذات أم خدمه للآخرين، أم كل هذا معًا؟ وإنه لكذلك...
تُرَى لو أصابت الجذور مشاعر من الغيرة، فحسدت الجذع والساق والأغصان والأوراق على ظهورها ومديح الناس لها، واشتهت أن تكون مثلها..! فترك الجذر أرضه واختفاءه وصعد إلى فوق مثل الأغصان الراقصة في الهواء؟! أما كانت تنهار الشجرة كلها. ولكننا نشكر اله، لأن الجذور لا تنصرف هكذا، فهي تواضعها، ولا تغار...
نفس الدرس نأخذه من أساسات الأبنية:
الناس يمتدحون العمارة الشاهقة في مبناها، وأتساعها، وعلوها، وديكوراتها، وأنوارها، وأثاثاتها...الخ. أما الأساس المختفي تحت الأرض، فلا أحد يتحدث عنه بينما هو يحمل البناء كله. ولكنه منكر لذاته. وكلما يرتفع البناء، كلما يهبط هو إلى أسفل. إنه لا يبحث عن المديح، وإنما عن سلامة المبني الظاهر. أما هو فيكفيه إنه في العمق...
9- والطبيعة تقدم لنا درسًا تاسعًا: في تنوع الفضائل.
فكلما رأينا لا يقتصر الأمر على الفضيلة واحدة، وإنما هي باقة متنوعة الألوان. فبينما تعطيك الزهرة فكرة عن الجمال والعطاء، تعطيك ثمرة فكرة عن أنها تعيش لتبذل ذاتها الحياة غيرها، وثمر أخر لعلاجه. وثمرة تقبل أن تكون مرة المذاق، لأنها هكذا تكون مفيدة...
10- وبعض أجزاء الطبيعة تعطينا الدرس العاشر في القوة والصمود.
مثل ذلك الجبل أو التل، الذي مهما هبت عليه الرياح والأمطار هو ثابت لا يتزعزع. ومهما حفر فيه الإنسان مغارات أو طرقًا، أو بَنَى عليه أبنية، هو قائم لا يهتز. ومثال ذلك أيضًا الجنادل في مجري النهر، تصدمها المياه والأمواج، وهي ثابتة لا تعبًا بالصدمات ولا تتأثر بها...
11- وأحيانًا نأخذ من الطبيعة درسًا في التأقلم مع البيئة.
كنباتات الصحراء التي لا تجد لنفسها ماء، فلا تعرض أوراقها للبخر والنتح Transpiration، وإنما تنطوي بطريقة أبرية، فلا تفقد بذلك ماء. ومثال آخر في الدب القبطي والثعلب القبطي الذي يتكون له فرو ليتقي البرد، بينما الجواد والفرس يكون جلده عكس ذلك لأنه لا يعيش في جو بارد. أنأخذ من هذا درسًا أخر في عناية الله بمخلوقاته؟ لا شك نأخذ...
12- يذكرنا الشوك في البند السابق بأن كل الأشياء تعمل معًا للخير، وهذا درس إيماني...
قال أحد الآباء كلمة حكيمة وهي [حتى الأشواك يمكن أن تصلح سمادًا للحقل]!! وليس هناك غرابه في ذلك، لأن الشوك إذا حرقته، يتحول إلى رماد، والرماد يصلح أن يكون سمادًا وينفع الإنسان، إلى جوار منفعة أخرى. وهذا يعطينا درسًا آخر في أن ننتفع من كل شيء، حتى من الأشواك التي تبدو لأول وهلة أنها ضارة.
13- هناك درس في التواضع نأخذه من السحاب والماء.
يتبخر الماء فيجف ويرتفع إلى فوق ويصير سحابًا. ولكنه في ذلك لا ينسي أصله أنه كان تحت في مستوى أقل من سطح الأرض. وهكذا يتضع، لأنه يعرف أن هذا الارتفاع سوف لا يدوم. وسيأتي وقت يبرد فيه ويتكثف، وتهب ريح فتسقطه إلى الأرض وقد تمتصه جذور شجرة فيهبط إلى تحت الأرض...
أترى يستطيع السحاب أن يفتخر على الماء، وهو يعرف أصله ومصيره؟! أم هل يمكن أن يصاب الماء بصغر النفس إن تذكر زملاءه من القطرات التي تبخرت وارتفعت إلى فوق؟!
كلا فكل من الاثنين راض بحالته، سواء أصعده الله إلى السماء، أو أهبطه إلى الأرض، أو امتصته جذور شجرة أو دخل في شرايين الأوراق أو الأغصان...
إنه درس آخر في حياة التسليم.
14- درس آخر نأخذه من السباخ الذي تسمد به الأرض.
قد يراه إنسان فيحتقره، لنتانة رائحته وسوء منظره، بينما يرضى السباخ بحاله، والله خلقه قادر أن يغيره. فقد يدخل في طعام شجرة تمتصه، وتنقله غذاء لبراعمها، فيتحول إلى ثمرة، يأكلها الإنسان وتدخل في تركيب جسمه، وقد تتحول إلى نسيج فيه.
أترى يتضع الإنسان حينما يدرك أن بعض أنسجته كانت سباخًا في الأرض في يوم ما؟!
إنها دروس روحية لكل من يحب أن يتعلم، وأن يتأمل. يذكرنا بقول الرب: "انظروا، لا تحتقروا أحد هؤلاء أحد الصغار" (مت 18: 10).
15- درس آخر نأخذه في عناية الله واهتمامه:
يتضِح من قول الرب "تأملوا زنا بق الحقل كيف تنمو. لا تتعب ولا تغزل. ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدًا في التنور يلبسه الله هكذا، أفليس بالحري أن يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟! (مت 6: 28 -30).
إنه درس في إننا لا نحمل همًا بسبب احتياجنا. فالله هو المتهم بنا دون أن نطلب.
حقًا إن الله وضع آدم في الجنة، وضعه في مكان كله فوائد روحية لمن يتأمل. لقد أعطى له الله الحق أن يتسلط على الأرض ويخضعها (تك1: 28، 26) ولكن...
كان الأفيد له أن يتأمل ويتعلم، لا أن يتسلط!
ننتقل إلى نقطة أخرى في مصادر التلمذة وهي: تلمذة على عالم الحيوان.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/discipleship/nature.html
تقصير الرابط:
tak.la/ssmp9az