ثالثًا: الرموز في العهد القديم ترسم لنا صورة الصليب.
س15: هل تحدّثنا عن رموز العهد القديم التي ترسم لنا صورة الصليب؟
ج: من أجل أهمية الصليب العظيمة ولزومه لخلاص البشرية اهتم اللَّه بالإشارة إليه منذ العصور القديمة، كما رأينا ذلك من خلال النبوّات، ومن خلال الذبائح، والآن نرى الصليب من خلال الرموز التي أشارت إليه في العهد القديم، فقد تقرَّب هابيل إلى اللَّه ونال رضاه بتقديم ذبيحة دموية هي رمز للصليب، وهرب الإنسان من دينونة اللَّه من خلال فلك نوح الذي هو رمز للصليب، وفي تقديم إبراهيم لابنه الوحيد نلمس محبة الآب السماوي لابنه الذي بذله من أجل حياة العالم، وفي سلم يعقوب نرى الوسيط بين السماء والأرض، وفي بركة يعقوب لابني يوسف عرفنا أن كل بركة لا تنبثق إلاَّ من الصليب المقدَّس مصدر النعم والبركات، وفي خروف الفصح رأينا المسيح فصحنا الجديد يدفع حياته ليحيينا، وفي عبور البحر الأحمر تعلّمنا كيف نعبر من العبودية للحرية ومن الموت للحياة بواسطة خشبة الصليب، وفي الشجرة التي حوَّلت ماء مارّة إلى ماء عذب وحلو تذوقنا عمل الصليب الذي يحوّل مرارة نفوسنا إلى مذاقة روحية، وفي صخرة حوريب رأينا المسيح يضرب مرة واحدة، وعندما بسط موسى يديه على التلة رأينا فيه صورة المصلوب، وفي الحيَّة النحاسية رأينا الصليب خشبة الحياة، وفي شريعة تطهير الأبرص رأينا الموت والقيامة، وفي مدن الملجأ رأينا كيف ينال القاتل حياة جديدة بالصليب، وفي الخشب الذي غيَّر طبيعة الحديد رأينا الصليب الذي يُغيّر طبيعتنا، ومع يونان في جوف الحوت عشنا موت المسيح ودفنه ثلاثة أيام وقيامته...
وكل هذا ليس فكرًا جديدًا إنما هو فكر الكنيسة منذ عصورها الأولى، ولهذا نجد الشهيد الفيلسوف يوستين في حواره مع تريفو اليهودي يقول: "في العهد القديم مثالات متنوعة لخشبة الصليب التـي بهـا ملك المسيح... لقد رُمِـز له (للصليب) بشجرة الحياة التي ذُكِر أنها غرست في الفردوس... وأرسل موسى ومعه العصا (الخشبية) ليخلص الشعب، وبهذه العصا في يديه وهو على رأس الشعب شقّ البحر الأحمر، وبها تدفّقت المياه من الصخرة... وعندما ألقى شجرة في مياه مارة المُر صارت عذبة... "(30).
وقال القديس غريغوريوس أسقف نيصص: "عندما بَسَط موسى يديه من أجل المصريين هلكت الضفادع في الحال. وهذا ما يمكن مشاهدته يحدث الآن، لأن أولئك الذين يرون الأيدي الممتدة لمعطي الناموس (موسى) وفي يديه المبسوطتين، ذاك الذي مدَّ يديه على الصليب"(31).
ولا ننسى أن للصليب وجهان، فعليه ثُبِّت السيد المسيح له المجد، وعليه سَحَق رب المجد الشيطان وانتصر عليه ظافرًا به، وكان أبلغ رمز لهذا الصليب، هو الصليب الذي أعدّه هامان ليصلب عليه مردخاي "وكان هامان قد دَخَل دار بيت المَلك الخارجيَّة لكي يقول للمَلِك أن يُصلَب مردخاي على الخشبة التي أعدَّها له" (أس 6: 4) ولكن الذي حدث أن ذات الصليب صُلِب عليه هامان "هوذا الخشبة أيضًا التي عَمِلها هامان لمُردَخاي... فقال الملك: اصلِبُوه عليها. فصَلَبوا هامان على الخشبَة التي أعدَّها لمردخاي" (أس 7: 9).
والآن هيا بنا يا صديقي إلى هذا البستان الشهي الغني، لنتذوق معًا جمال وحلاوة وتطابق الرموز مع صليب ربنا يسوع المسيح:
كان قايين وهابيل هما الأخان الوحيدان في العالم كله، وحاول كل منهما التقرُّب إلى اللَّه، فقدم قايين "من أثمار الأرض قربانًا للرب، وقَدَّم هابيل أيضًا من أبكار غَنَمِهِ ومن سِمَانها" (تك 4: 3، 4) فماذا كانت النتيجة؟ "فَنَظر الرب إلى هابيل وقُرْبَانه. ولكن إلى قايين وقُرْبَانه لم يَنْظُر" (تك 4: 4، 5).. لماذا حدث هذا رغم إن اللَّه بسابق علمه يعلم تمامًا أن هذا الرفض سيثير حسد قايين على أخيه فيقوم ويقتله، ومع ذلك أصر اللَّه على رفض تقدمة قايين... فلماذا؟ لأن قايين خالف أباه آدم ولم يسر على نفس الدرب، فقدم من ثمار الأرض التي لعنها اللَّه. أما هابيل فقدَّم ذبيحة دموية معترفًا بحاجته للمغفرة وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة، وفي هذا الرمز الواضح يمكن ملاحظة الآتي:
أ ـ لقد تسلَّم آدم طقس الذبيحة من اللَّه، فعندما فشلت أوراق الشجر في ستر عريه هو وزوجته، ذبح اللَّه حملًا وصنع لهما أقمشة من جلد فسترا عريهما، وعندما سار هابيل في نفس الدرب قبلت السماء ذبيحته الدموية. أما قايين الذي خالف هذا الطقس فقد رفض اللَّه تقدمته.
ب ـ هابيل نبت من شجرة قد فسدت بالكامل (آدم) لهذا فهو إنسان خاطئ محكوم عليه بالموت الأبدي، ولكن عندما أُهرق دم الحمل عوضًا عن دمه نظر اللَّه له نظرة رضى وقبول، لأن هرق دم الحمل إشارة لهرق دم حمل اللَّه... تقدّم هابيل وهو يشعر أنه إنسان خاطئ يستحق الهلاك الأبدي، ولكنه تقدّم بإيمان مستَّترًا في دم الذبيحة فنال الوعد بالنجاة والحياة الأبدية، لهذا شهد له الإنجيل فقال: "بالإيمان قدَّم هابيل للَّه ذبيحةً أفضل من قايين. فَبِهِ شُهِد له أنه بارٌّ إذ شَهِد اللَّه لقرابينه. وبه، وإن مات، يتكلَّم بعد" (عب 11: 4).. وذبيحة هابيل ليست أفضل لأن قيمتها أكبر ولكنها أفضل لأنها ترمز لذبيحة الصليب.
ج ـ اللَّه قَبِل ذبيحة هابيل التي سفك فيها الدم، وهذا إعلان وتأكيد أن الإنسان لن يتقابل مع اللَّه وتُغفر خطاياه إلاَّ بسفك الدم، فمهما عمل الإنسان أعمالًا حسنة وقدَّم عطايا وتقدمات وأصوام... إلخ فلن تُخلِّصه هذه جميعها من حكم الموت.
د ـ بهذه الذبيحة صار هابيل قريبًا للَّه: "فنَظَر الرب إلى هابيل وقُربَانِهِ" (تك 4: 4) وتصالح هابيـل مع اللَّه وبدأت حياة الشركة بينه وبين اللَّه من خلال الذبيحة. بل صار هابيل بارًا بسبب إيمانه بسرّ الصليب وبالتالي أصبحت أعماله مقبولة أمام اللَّه. أما قايين فلأنه لم يؤمن بسرّ الصليب لذلك رُفِضَت تقدمته وأعماله: "ليس كما كان قايين من الشرّير وذَبَح أخاه. ولماذا ذَبَحَه؟ لأن أعمَالَهُ كانت شريرة، وأعمال أخيه بارَّة" (1يو 3: 12).
هـ ـ هابيل الصدّيق الذي ذَبَحه أخوه حسدًا كان رمزًا للسيد المسيح البار الذي أسلمه إخوتـه اليهود حسـدًا ليذبح علـى الصليب بيـد بيلاطس البنطي "لأنه (بيلاطس) عَلِمَ أنهم أسلَموه حسدًا" (مت 27: 18).
"فقال اللَّه لنوح نهاية كل بشرٍ قد أتت أمامي لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم. فها أنا مهلككم مع الأرض. أصنع لنفسك فلكًا من خشب جُفرٍ.." (تك 6: 13، 14) فلك نوح الخشبي الذي كان واسطة النجاة للجنس البشري يرمـز لخشبة الصليب التـي عن طريقها نالت البشرية النجاة مـن الهلاك الأبدي "وليس بأحَدٍ غيره الخَلاصُ. لأن ليس اسم آخَر تحت السماء، قد أُعطيَ بين الناس، به ينبغي أن نَخْلُص" (أع 4: 12).
الذي اشتكى عليه الشيطان، واجتاز التجربة ونجح فيها، كان رمزًا لأيوب الجديد الذي جاز المعصرة وقام منتصرًا.
كان إسحق رمزًا للسيد المسيح المصلوب القائم في عدَّة أمور نذكر منها:
أـ إسحق ابن الموعد فهو الابن الحبيب لأبيه إبراهيم الذي صار شيخًا متقدِّمًا في الأيام "خُذ ابنك وحِيدَك، الذي تحِبُّه إسحق" (تك 22: 2) وإسحق هنا مثال لربنا يسوع الابن الوحيد الجنس الذي قال الآب عنه: "هذا هو ابني الحَبيب الذي به سُررت" (مت 3: 17).
ب ـ إسحق مضى به أبوه على جبل المُريَّا ليصعده محرقةً، وربنا يسوع مضى به اليهود خاصته وصعدوا به إلى جبل الجلجثة وصلبوه، وجبل الجلجثة هو جبل المُريَّا، ويقول التقليد أن اللَّه طلب من إبراهيم أن يصعد ابنه: "مُحرقةً على أحَدِ الجبال الذي أقول لك" (تك 22: 2) وقد عرف إبراهيم المكان المقصود بعد ثلاثة أيام عندما رأى علامة الصليب فوق هذا الجبل: (القمص يوحنا فوزي ـ شهادة الكتاب عن ألوهية المسيح ص 187).
ج ـ تبع إسحق غلامان إلى مكان الذبح، وسار مع السيد المسيح لصان إلى مكان الصلب حيث صُلِبا معه.
د ـ مكث إسحق ثلاثة أيام في الطريق محكوم عليه بالموت "وفي اليوم الثالث رَفَع إبراهيم عينيه وأبصَرَ المَوضِع من بعيد" (تك 22: 4) وربنا يسوع ظل في القبر ثلاثة أيام في حكم الموت.
هـ ـ حَمَل إسحق حطب المحرقة، وربنا يسوع حمل خشبة الصليب "فخَرَج وهو حَامِلٌ صَلِيبه" (يو 19: 17).. يقول الأب قيصاريوس: عندما حمل إسحق الخشب للمحرقة كان يرمز للمسيح ربنا الذي حمل خشبة الصليب إلى موضع آلامه. هذا السر سبـق فأعلنه الأنبياء، كالقول: "وتكون الرِّياسَةُ على كتِفِهِ" (إش 9: 6) فقد كانت رئاسة المسيح على كتفيه بحمله الصليب في اتضاع عجيب. أنه ليس بأمر غير لائق أن يعني بالرئاسة صليب المسيح. إذ به غلب الشيطان، ودعى العالم كله لمعرفة المسيح والتمتُّع بنعمته"(32).
و ـ سأل إسحق أباه: "وقال يا أبي! فقال هأنذا يا ابني. فقال: هوذا النار والحَطَب، ولكن أين الخروف للمُحرقة. فقال إبراهيم: اللَّه يرى له الخروف يا ابني" (تك 22: 7، 8) والحَمَل الحقيقي الذي رآه اللَّه أن يصلح لفداء البشرية هو ابنه الحبيب الذي أشار إليه يوحنا المعمدان قائلًا: "هوذا حَمَل اللَّه الذي يرفع خطيَّة العالم" (يو 1: 29).
ز ـ يقول الكتاب المقدَّس: "فأخَذ إبراهيم حَطَب المُحرقة ووضَعَهُ على إسحق ابنِهِ وأخذ بيده النّار والسِّكين. فذهبا كلاهُما معًا" (تك 22: 6) والعبارة الأخيرة "ذهب كلاهما معًا" تعكس معنى جميل وهو أن الذبيحة تُعتَبر ذبيحة إبراهيم الأب لأنه قدَّم ابنه في حب باذل، وأيضًا ذبيحة إسحق إذ قدَّم ذاته وأطاع حتى الموت، وهكذا كانت ذبيحة الصليب ذبيحة الآب الذي بذل ابنه الحبيب، وذبيحة الابن الذي أطاع حتى الموت موت الصليب "لأنه هكذا أحبَّ اللَّه العالم حتى بَذَل ابنَهُ الوحيد، لكي لا يَهلِك كل من يؤمِن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة" (يو 3: 16).
ح ـ أطاع إسحق أباه حين ربطه ووضعه على المذبح ومدَّ يده بالسكين ليذبحه دون أن يقاومه أو يهرب منه أو يجادله، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. إذًا قَبِل الموت ورفض مخالفة أو مقاومة إرادة أبيه، وربنا يسوع أطاع الآب السماوي حتى الموت موت الصليب، وكما كان إسحق مزمعًا أن يموت دون ذنب أتاه، هكذا مات المسيح دون ذنب جناه.
ط ـ "فرفَع إبراهيم عَيْنيهِ ونظر وإذا كبشٌ وراءَه مُمسَكًا في الغابة بقرنَيهِ، فذهب إبراهيم وأخَذ الكبش وأصَعَدهُ مُحرَقَةً عوضًا عن ابنه" (تك 22: 13) فالكبش المُمسك به في الغابة بقرنيه والذي ذُبِح فعلًا وفدى إسحق إشارة لربنا يسوع الذي صُلِب وفدى إسحق وإبراهيم وكل البشرية، والشجرة التي أُمسِكت بالكبش كانت رمزًا لخشبة الصليب التي سُمّر عليها مخلصنا الصالح.
ي ـ رجع إسحق حيًّا، وربنا يسوع المسيح قام من بين الأموات حيًّا، ولأن أبونا إبراهيم نجح في أصعب امتحان يجتازه إنسان لذلك أعطاه اللَّه أن يعاين قيامة ربنا يسوع فرأى وفرح، وهذا ما أشار إليه ربنا يسوع عندما قال: "أبوكُم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي فرأى وفَرح" (يو 8: 56).
ومن أجل كثرة أوجه الشبه بين ذبح إسحق وصلب ربنا يسوع اختارت الكنيسة هذا الموضوع لقسمة قداس خميس العهد.
"ورأى (يعقوب) حُلمًا، وإذا سُلَّم منصوبَةٌ على الأرض ورأسها يَمَس السماء، وهوذا ملائكة اللَّه صاعِدَةٌ ونازلَةٌ عليها. وهوذا الرب واقف عليها" (تك 28: 12، 13) فسُلَّم يعقوب التي تربط بين السماء والأرض والرب واقف عليها إشارة لخشبة الصليب التي عُلِّق عليها السيد المسيح فصالح السمائيين بالأرضيين، وقد أشار السيد المسيح له المجد لهذا السُلَّم عندما قال لنثنائيل: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحَةً، وملائكة اللَّه يصعَدون وينزلُون على ابن الإنسان" (يو 1: 51).
عندما قـدَّم يوسف ابنيه منسى وأفرايم لأبيه يعقوب ليباركهما، جعل يوسف ابنه منسى على يمين يعقوب وابنه أفرايم عن يساره، ولكنه فوجئ بأبيه يعقوب يضع يده اليمنى على أفرايم الأصغر ويده اليسرى على منسى البكـر... "وضَعَ يديه بفِطنـةٍ فإن منسّى كان البِكر" (تك 48: 14).. "فلمَّا رأى يوسف أن أباه وضَعَ يَدَه اليُمنى على رأس أفرايم، ساء ذلك في عينيه. فأمْسَك بيد أبيه لينقُلها عن رأس أفرايم إلى رأس منسّى. وقال يوسف لأبيه: ليس هكذا يا أبي، لأن هذا هو البِكر. ضع يَمِينك على رأسِهِ. فأبى أبوه وقال: عَلِمْت يا ابني علمت" (تك 48: 17 ـ 19).
حقيقة كانت هذه نبوة من يعقوب على عظمة سبط أفرايم عن سبط منسّى فقال: "هو أيضًا يكون شعبًا، وهو أيضًا يصير كبيرًا. ولكن أخاه الصغير يكون أكبرَ مِنه" (تك 48: 19)، وقد تحقَّقت هذه النبوة، ففي أول إحصاء أُجري أيام موسى بلغ عدد البالغ سنهم أكثر من عشرين سنة من سبط أفرايم 40500، ومن سبط منسى 32200 (عد 1: 32 ـ 35) وإن كان سبط منسى الكبير أو البِكر يشير للشعب اليهودي فإن سبط أفرايم الصغير يشير للأمم الذين قبلوا الإيمان بالمصلوب فتزايد عددهم جدًا عن عدد اليهود المتنصرين. كما أن سبط منسى انقسم فكان نصفه شرق الأردن ونصفه الآخر غرب الأردن، والنصف الذي كان شرق الأردن اتصل بالشعوب الوثنية وعبد الأوثان أكثر من مرّة.
ومع هذا فإن وضع يعقوب يديه بهذه الصورة حمل أيضًا رمزًا جميلًا، فعندما وضع يعقوب يديه متقاطعتين فإنه صنع بيديه مثال الصليب، ومن خلال الصليب أعطى البركة لابني يوسف، فالبركة الحقيقية لا تأتي إلاَّ من خلال الصليب، وبهذا نستطيع أن نقول أن أول مكان رُشِمت فيه علامة الصليب كان هو أرض مصر، ونفس اليدين المتقاطعتين على شكل صليب نراهما في كل قداس عند اختيار الحمل، ولا يوجد شعب يحب ويعتز ويفتخر بالصليب، وعرف أعماق الصليب بالاستشهاد والرهبنة، مثل شعب مصر.
كان يوسف رمزًا للمسيح الميت القائم، ومن أوجه الشبه بينهما ما يلي:
أ ـ كان يوسف موضع حُب أبيه، وصنع له الأب قميصًا ملونًا، والسيد المسيح هو ابن اللَّه المحبوب، وقال: "الآب يُحبّ الابن وقد دَفَع كل شيء في يَدِه" (يو 3: 34) ووصفه بولس الرسول بالمحبوب (أف 1: 6) والقميص الملوّن يرمز للكنيسة المتعدَّدة المذاهب التي التصقت بالسيد المسيح كثوب له كما قال بهذا القديس أُغسطينوس والعلاّمة أوريجانوس.
ب ـ سار يوسف للميل الثاني من أجل افتقاد سلامة إخوته، فعندما لم يجدهم في شكيم ذهب إليهم في دوثان، والسيد المسيح جاء ليفتقد سلامة العالم وخلاصه، وأعطى وصية الميل الثاني.
ج ـ يوسف حسده إخوته وتآمروا على قتله، والسيد المسيح حسده إخوته اليهود وتآمروا على قتله: "لمَّا رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث! هَلمُّوا نقتُله ونأخذ ميراثه" (مت 21: 38).
د ـ طُرح يوسف بواسطة إخوته في جوف البئر (للموت) ثم خرج حيًّا، وربنا يسوع وُضِع في جوف القبر وقام حيًّا منتصرًا على الموت.
هـ ـ إخوة يوسف بعـد أن طرحوه في البئر جلسوا ليأكلوا طعامًا، واليهود بعد أن دبّروا مؤامرتهم ضد ربنا يسوع وهم؛ إخوته وخاصته وأُمّته وحُكِم عليه بالصلب يوم الجمعة جلسوا ليأكلوا الفصح.
و ـ إخوة يوسف باعوه لتجار الإسماعيليين بعشرين من الفضة، والتجّار باعوه لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط، وربنا يسوع باعه يهوذا لرؤساء الكهنة بثلاثين من الفضة، وهم أسلموه لبيلاطس الوالي ليصلبه.
ز ـ إخوة يوسف أخذوا قميص يوسف وغمسوه في الدّم، والذين صلبوا السيد المسيح نزعوا عنه ثيابه الملطّخة بالدّم وعلى قميصه ألقوا قرعة، ويقول الأب قيصاريوس: "وجد يوسف إخوته في دوثان التي تعني (ثورة) فقد كان الذين يطلبون قتل أخيهم في ثورة عظيمة بحق. عند رؤيتهم يوسف ناقشوا موته وذلك كما فعل اليهود بيوسف الحقيقي (المسيح الرب) إذ صمَّم الجميع على خطة واحدة أن يُصلّب. أغتصب إخوة يوسف ثوبه الخارجي الملوّن، ونزع اليهود عن المسيح ملابسه عند موته على الصليب. إذ نُزِع الثوب عن يوسف ألقيَ يوسف في جب أي حفرة، وإذ حطّموا جسد المسيح نزل هو إلى الجحيم. رفع يوسف من الجُب وبيع للإسماعيليين أي للأمم، والمسيح إذ عاد من الجحيم اشتراه الأمم بثمن الإيمان"(33).
ح ـ رئيس السقاة ورئيس الخبازين اللذان كانا مع يوسف أحدهما نال الحياة والآخر نال الموت، وهما يشيران إلى اللصين اللذين صُلبا مع السيد المسيح فنال أحدهما الحياة لإيمانه بالمصلوب، وهلك الآخَر بسبب تجديفه.
ط ـ يوسف رُفِضَ من إخوته بينما قبلته مصر الأمة الغريبة عنه، والسيد المسيح الذي رُفِض من إخوته قبلته الأمم كملك روحي لها، وتزوّج يوسف من أجنبية عن جنسه وهكذا اقترن السيد المسيح بكنيسة الأمم.
ي ـ ودعا فرعون اسم يوسف "صفنات فعنيح" (تك 41: 45) أي المخلص الذي سيعطي الحياة، وبدأ يدبّر أرض مصر وهو في الثلاثين من عمره وربنا يسوع المسيح هو مخلص العالم الحقيقي من أسر الشيطان، وهو واهب الحياة للعالم، وقد بدأ خدمته في سن الثلاثين. ويقول الأب قيصاريوس: "نزل يوسف إلى مصر ونزل المسيح إلى العالم! أنقذ يوسف مصر من عدم وجود الحنطة وحرَّر المسيح العالم من مجاعة كلمة اللَّه. لو لم يُبَع يوسف من إخوته لما أُنقِذت مصر. حقًا فأنه لو لم يصلب اليهود المسيح لهلك العالم"(34).
ك ـ اشترى يوسف كل المصريين وممتلكاتهم لفرعون فنالوا الحياة عوضًا عن الموت، والسيد المسيح اشترانا من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة وجعلنا ملوكًا وكهنة (رؤ 5: 10).
ل ـ إخوة يوسف عندما رأوه في أرض مصر في ملابس المُلك لم يعرفوه، ومريم المجدلية لم تعرف ربنا يسوع عقب قيامته، وأيضًا التلاميذ الأطهار عندما رأوه خافوا وظنوه روحًا.
م ـ سَجَد ليوسف إخوته، والرب يسوع أطاع حتى الموت موت الصليب: "لذلك رفَّعه اللَّه أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. لكي تجثو بِاسم يسوع كلُّ ركبة ممَّن في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض، ويعترف كل لسانٍ أنّ يسوع هو ربٌّ لمجد اللَّه الآب" (في 2: 9 – 11).
ن ـ كانت وصية يوسف لإخوته عند رجوعهم إلى أبيهم: "لا تتغاضَبُوا في الطّريق" (تك 45: 24) ووصية السيد المسيح للرُّسل: "هذه هي وصيتي أن تُحبُّوا بعضُكُم بعضًا كما أحببتُكم" (يو 15: 12).
من أوجه الشبه بين السيد المسيح المصلوب وخروف الفصح ما يلي:
أ ـ "تكون لكـم شاةً صحيحةً ذكرًا ابن سنةٍ، تأخذونه من الخِرْفان أو من المَوَاعِز" (خر 12: 5) أي أن خروف الفصح كان ذكرًا ابن سنة إشارة للسيد المسيح الذي قدم ذاته في عنفوان شبابه. من الخرفان أي حملًا وديعًا كقول إشعياء النبي عن ربنا يسوع: "ظُلِم أما هو فتذلَّل ولم يَفتَح فاهُ، كشاةٍ تُساق إلى الذّبح، وكنعجَةٍ صامتةٍ أمام جازّيها" (إش 53: 7)، وكقول يوحنا المعمدان عن ربنا يسوع أنه حمل اللَّه: "هوذا حَمَلُ اللَّه الذي يَرْفَع خطيّة العالم" (يو 1: 29) أو من الماعز الذي كان يُقدَّم ذبيحة خطية حسب الناموس (عدد 7: 16).
ب ـ كان خروف الفصح يظل تحت الحفظ من اليوم العاشر إلى اليوم الرابع عشر "ويكون عِندكم تحت الحِفظ إلى اليوم الرَّابع عشر من هذا الشهر" (خر 12: 6) أي خمسة أيام فربما ظهرت عليه أعراض المرض فيُرفض ولا يصلح أن يكون ذبيحة، وربنا يسوع دخل أورشليم يوم أحد الشعانين العاشر من الشهر، وظل تحت الحفظ أمام الكتبة والفريسيين يحاورونه ويجادلونه ويفحصونه ويمحصونه ويحاولون أن يصطادوه بكلمة ولكن ثبت أنه بلا عيب ولا مرض، وفي مساء يوم الخميس (اليوم الرابع عشر) قدّم جسده ودمه لتلاميذه وتم القبض عليه وأُسلم ليُصلب، والحكمة من إحضار الحَمل في اليوم العاشر إشارة إلى أن ربنا يسوع جاء بعد الناموس (الوصايا العشر).
ج ـ "يذبَحَه كل جمهور جماعَةِ إسرائيل في العشيَّة" (خر 12: 6) وربنا يسوع حكم عليه كل جمهور جماعة إسرائيل صارخين لدى بيلاطس: "اصلبه اصلبه" وكان الذبح يتم في العشية وبحسب شهادة المؤرخ اليهودي يوسيفوس في القرن الأول الميلادي أن الذبح كان يحدث بين العشاءين، أي بين بداية اختفاء الشمس وبين اختفائها الكامل، والسيد المسيح ظل مرفوعًا على الصليب حتى وقت الغروب.
د ـ "ويأخذون من الدَّم ويجعَلونه على القائِمَتين والعَتَبة العليا في البيوت التي يأكلونه فيها" (خر 12: 7) فما هذه العلامة إلاَّ علامة الصليب، وإن كان الدم لا يوضع على العتبة السفلى فلكي لا يُداس بالأقدام، وللأسف فإن كل إنسان يرفض الصليب متمسكًا بخطاياه يدوس دم العهد "فَكَم عقابًا أشرَّ تظنُّون أنه يُحسب مستحقًا مَن داس ابـن اللَّه، وحسب دم العهد الذي قُدّس به دنسًا، وازدرى بروح النِّعمة؟" (عب 10: 29) ويقول القديس هيبوليتس الروماني إن الدم على العتبة العليا يشير إلى الكنيسة، أما القائمتين فإنهما يشيران إلى اليهود والأمم.
هـ ـ دم الخروف فدى أبكار بني إسرائيل من الموت الجسدي "ويكون لكُم الدم علامَةً على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدَّم وأعبر عنكُم، فلا يكون عليكُم ضربَةٌ للهلاك حتى أضْربُ أرض مصر" (خر 12: 13) ودم الصليب يفدي المؤمنين به من الموت الأبدي وينقلهم للحياة الأبدية، ورغم إن الملاك المُهلك كان ذو معرفة وتميّيز عظيمان ولم يكن محتاجًا للدم ليعرف بواسطته بيوت بني إسرائيل من غيرهم، ولكن كان لا بد من علامة الدم كرمز لفداء الدم الذي صنعه ربنا يسوع على الصليب.
و ـ "ويأكلون اللَّحم تلكَ الليلة مشويًّا بالنار مع فطير. على أعشاب مُرّة يأكلونه. لا تأكلوا منه نيئًا أو طبيخًا مطبوخًا بالماء، بل مشويًّا بالنار... ولا تبقوا منه إلى الصباح" (خر 12: 8 ـ 10) كان خروف الفصح لا يؤكَل نيئًا ولا يُطبخ ولكن يشوى بالنار إشارة للآلام الرهيبة التي تحمَّلها السيد المسيح في رحلة الصليب. ويُسوىَ على أعشاب مرة إشارة للآلام النفسية التي جاز فيها ربنا يسوع حتى أنه قال: "نفسي حزينةٌ جدًا حتى الموت" (مت 26: 38) وكان الخروف يُشوى على سفودين (سيخين) متعامدين على هيئة صليب والسيد المسيح سُمّر على الصليب الذي هو عارضتين متعامدتين، وكان خروف الفصح يؤكل بالكامل ولا يبقى منه شيئًا إلى الصباح، ولذلك تجد الأب الكاهن في كنيستنا الأرثوذكسية يمسح الصينية بإصبعه ويغسلها بالماء ويشرب الماء لئلا تكون هناك جوهرة صغيرة جدًا من الجسد المقدّس تبقى لليوم التالي.
ز ـ أكل خروف الفصح إشارة لجسد ربنا يسوع ودمه اللذان قدّمهما للكنيسة في سر الأفخارستيا، فلم يكتفِ الرمز برش الدم فقط بل اكتمل بالأكل من خروف الفصح، وذلك للاتحاد بالفادي: "إن لم تأكُلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دَمَه فليس لكم حياةٌ فيكم. مَن يأكل جسدي ويشرَب دمي فَلَه حياة أبديَّة وأنا أقيمه في اليوم الأخير... مـَن يأكل جسدي ويشرَب دمـي يثبُت فيَّ وأنا فيه" (يو 6: 53 – 56). أي إن خـروف الفصح ليس تذكارًا لقصة تاريخية حدثت في الماضي البعيد، ولكنه يمثّل حياة شركة مستمرة بين اللَّه والكنيسة، حياة شركة تعيشها الكنيسة ليس مرّة كل عام، لكن في كل قداس إلهي تقيمه، ويقول الأب ميليتو أسقف ساردس: "يتحقَّق سر الفصح في جسد الرب. فقد اقتيد كحمل وذُبِح كشاة مُخلّصًا إيانا من عبودية العالم (مصر) ومُحرّرنا من عبودية الشيطان كما من فرعون خاتمًا نفوسنا بروحه وأعضاءنا الجسدية بدمه. أنه ذاك الواحد الذي خلّصنا من العبودية إلى الحرية، ومن الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، ومن الظلم إلى الملكوت الأبدي. أنه ذاك الذي (فصح) دبَّر خلاصنا. هو الحمل الصامت... الذي أُخذ من القطيع واُقتيد للذبح في المساء ودُفِن بالليل، من أجل هذا كان عيـد الفطير مُرًّا كما يقول كتابكم المقدَّس تأكلونه فطيرًا بأعشاب مُرّة. مُرَّة لكم هي المسامير التي استخدمت. مرُّ هو اللسان الذي جدّف. مُرَّة هي الشهادة الباطلة التي نطقتم بها ضده"(35).
ح ـ يقول الكتاب وكل إنسان غير مختون لا يأكل من خروف الفصح. "وأمَّا كل أغْلَفَ فلا يأكُل منه" (خر 12: 48).. والختان رمز للمعمودية، فالإنسان غير المُعمّد لا يشترك في وليمة القداس الإلهي.
ط ـ كان أمر اللَّه لبنـي إسرائيـل عنـد أكـل خروف الفصح بعدم كسر عظامه: "وعَظْمًا لا تكسِروا منه" (خر 12: 46) ومُعلّمنا داود النبي يقول عن ربنا يسوع: "يحفَظُ جميع عِظامِهِ. واحِدٌ منها لا ينكسر" (مز 34: 20) وفعلًا هذا ما حدث لجسد السيد المسيح على الصليب، فعندما أرادوا أن يكسروا ساقيه حتى لا تبقى الأجساد إلى السبت وجدوه قد مات: "لأن هذا كان ليَتمَّ الكتاب القائل عَظْمٌ لا يُكسَر منه" (يو 19: 36).
ي ـ الفصح معناه العبور، وكما عبر خروف الفصح ببني إسرائيل من الموت إلى الحياة هكذا عبر ربنا يسوع المصلوب بنا من الموت الأبدي للحياة الأبدية، وهذا ما أوضحه الإنجيل إذ قال أن يسوع المسيح هو فصحنا الجديد الذي ذُبح لأجلنا "لأن فِصْحنا أيضًا المسيح قد ذُبِح لأجلنا" (1كو 5: 7).
ك ـ كانت ذبيحة الفصح تُعتبر أول الذبائح وعيد الفصح يُعتبر أكبر الأعياد اليهودية، والشهر الذي تُقدَّم فيه هذه الذبيحة (نيسان) هو أول الشهور، وكأن الوحي الإلهي يريد أن يعلّمنا أن الحياة الجديدة تبدأ بعد الفداء بالدم.
وأخيرًا نقول بأننا نحن المصريين نفتخر لأن هذا الرمز الرائع للصليب تم في أرض مصر، وليس هذا الرمز فقط، بل أيضًا عبور البحر الأحمر، وماء مارّة، وضرب الصخرة، وغلبة عماليق، والحية النحاسية... إلخ، كل هذه الرموز كانت على أرضنا المصرية، لذلك يحق لسفر الرؤيا أن يقول: "ومصر حيث صُلِب ربنا" (رؤ 11: 8) وحَظَت مصر بأكبر عدد من شهداء المسيحية الذين حملوا صليب الاستشهاد بفرح، حتى قال المؤرخون: "لم يعرف العالم شهداء كشهداء المسيحية، ولم تعرف المسيحية شهداء مثل شهداء مصر. ولم تعرف مصر شهداء مثل شهداء إسنا ونقادة وأخميم"(36).
وملاحظة أخيرة على أحداث خروف الفصح إن الذين فُدوا بالدم يجب أن يكرَّسوا للَّه بالكامل، وكان عدد المفديين من أبكار بني إسرائيل 23273 شخصًا، فأخذ اللَّه بدلًا منهم سبط لاوي بالكامل وخصَّصه له، وكان عدد سبط لاوي ثلاثة وعشرين ألفًا، والفارق هو 273 شخص فدى كل شخص منهم بخمسة شواقل، وكلم الرب موسى قائلًا: "خُذ اللاّويِّين بَدَل كل بِكْر في بني إسرائيل، وبهائم اللاّويين بَدَل بهائمهم، فيكون لي اللاويُّون أنا الرب... لكل رأسٍ... وتعطي الفضة لهارون وبنيه فداء الزَّائدين عليهم" (عد 3: 44 ـ 48).
كان عبور البحر الأحمر إشارة لفاعلية صليب السيد المسيح:
أ ـ عصا موسى التي شقّ بها البحر الأحمر هي ذات العصا التي ألقاها أمام فرعون فتحوّلت إلى حيَّة التهمت حيَّات السحرة، وهي ذات العصا التي حوَّل بها ماء النهر إلى دم (خر 7: 14 ـ 22) ولمس بها مياه النيل ففاضت ضفادع (خر 8: 5 ـ 6) ورفعها إلى السماء فملأ الهواء بعوضًا وذبابًا (خر 8: 16 ـ 22) فهذه العصا التي استخدمها موسى لتأديب وعقاب المصريين كانت تمثّل رمزًا ومثالًا لصليب ربنا يسوع المسيح الذي هزم وأدّب به الشيطان وكل جنوده... يقول العلاّمة أوريجانوس: "موسى يأتي إلى مصر حاملًا العصا التي يُعاقِب بها ويضرب بها الضربات العشرة أي بالوصايا العشر. أما العصا التي تمّت بها هذه الأمور والتي أخضعت مصر وروّضت فرعون فهي صليب المسيح الذي قَلَب العالم، وانتصـر على رئيس هذا العالم وعلى "الرؤساء والسلاطين" (كو 2: 15). إذا ما أُلقّيت على الأرض تتحوَّل إلى حيَّة فتلتهم حيَّات سحرة مصر الذين قاموا بعمل نفس الشيء. وقد كشف لنا الإنجيل أن هذه الحيَّة هي الحكمة بالقول: "كونوا حكماء كالحيَّات" (مت 10: 16). وفي موضع آخر: "وكانت الحيَّة أحكم جميع الحيوانات التي في الجنة" (تك 3: 1) إذًا فصليب المسيح الذي كانت البشارة به تعتبر نوعًا من الجنون كان موجودًا في موسى أي في الناموس كقول الرب: "لأنه كَتَبَ عني" (يو 5: 46) هذا الصليب الذي كتب عنه موسى إذ طُرِح على الأرض آمن به البشر تحوَّل إلى حكمة تلتهم كل حكمة المصريين، أي يبتلع كل حكمة هذا العالم. انظر كيف صيَّر اللَّه حكمة هذا العالم جهالة؟! (1كو1: 21) برفع المسيح على الصليب الذي هو قوة اللَّه وحكمته"(37).
ب ـ دعى فرعـون موسى وهارون وسمح لهم بتقديم الذبائح في أرض مصر، ولكنهم رفضوا وقالوا: "نذهب سَفَر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرّب إلهنا كما يقول لنا" (خر 8: 27) فسفر ثلاثة أيام في البرية يشير للأيام الثلاثة التي أمضاها ربنا يسوع في جوف القبر.
ج ـ كان عمود السحاب الذي ظلل شعب بني إسرائيل إشارة لصليب ربنا يسوع. فانتقل ملاك اللَّه السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم "وانتَقَل عمود السحاب من أمامهم ووقَف وراءهُم. فدَخَل بين عَسْكَر المصريِّين وعَسْكَر إسرائيل، وصار السِّحابُ والظلام وأضاء الليل. فلم يقتَرب هـذا إلى ذاك كل الليل" (خر 14: 19، 20)، "وكان في هزيع الصُّبح أن الرب أشرَف على عَسْكَر المصريين في عمود النار والسحاب، وأزعَجَ عَسْكَر المصريين. وخَلَع بَكَر مركباتِهم حتى ساقوها بثقلةٍ. فقال المصريون: نهرُب من إسرائيل، لأن الرب يُقاتل المِصريِّين عنهم" (خر 14: 24، 25) فعمود السحاب الذي فصل بين المفديّين بالدّم وبين عدو الخير وأعوانه إشارة لصليب ربنا الذي يفصل بين المؤمنين والهالكين. أو قل أن للصليب وجهان أحدهما خلاصًا ونجاةً للمؤمنين وإضاءة لليل العابدين، والوجه الثاني هلاكًا لعدو الخير وكل جنوده وأعوانه وظلام لمملكته إلى الأبد.
د ـ فرعون الذي أذلّ شعب اللَّه ولم يرد أن يطلقه بل قسّى قلبه كان رمزًا لإبليس القاسي القلب. لقد أراد فرعون التمسُّك ببني إسرائيل، ورغم أنه عاين يد اللَّه العالية في الضربات العَشر، ورأى البحر ينشق أمامهم، ولكنه اندفع إلى البحر فهلك هو وكل مركباته وفرسانه وجنوده، والشيطان أيضًا أثار اليهود والرومان ليصلبوا ربنا يسوع، ورغم أنه عاين المعجزات العظيمة التي صنعها ربنا يسوع، ورأى معجزات الطبيعة وقت الصلب، لكنه اندفع وأراد القبض على روح السيد المسيح فأُعتبر هذا تعدّي على الذات الإلهية، فنال عقابه وقيَّده ربنا يسوع، وأطلق كل الأسرى الذين كانوا في سجن الجحيم.
هـ ـ سبّح بنو إسرائيل بعـد العبور تسبحة النصرة: "يمِينُكَ يارب مُعتزَّة بالقُدرة. يمينك يارب تحَطّم العدو" (خر 15: 6) يمين الرب هي يمين ربنا يسوع المسيح المُّمتدة على عود الصليب تصنع خلاصًا... "حتى يَعْبُر شعبك يارب. حتى يَعبُر الشعب الذي اقتنيْتَه" (خر 15: 16) فهذا العبور كان إشارة ورمزًا لعبورنا من الموت للحياة بواسطة خشبة الصليب، وبعد الصلب وفي فجر الأحد أنشدت الملائكة تسبحة الانتصار على الموت: "المسيح قام" وردَّدت البشريَّة تسبحة النصرة "بالحقيقة قام".
ارتحل بنو إسرائيل من بحر سوف وساروا ثلاثة أيام في البرية ولم يجدوا ماء: "فجاءوا إلى مارَّة، ولم يَقدِرُوا أن يشربوا ماءً من مارَّة لأنه مُرُّ لذلك دُعيَ اسمها مارَّة. فتذمَّر الشعب على موسى قائلين ماذا نشرب؟ فصَرَخ إلى الرب فأراه الرب شجرة فطرَحَها في الماء فصار الماء عذبًا" (خر 15: 23 ـ 25). الشجرة التي طُرِحت في المياه فغيّرت طبيعتها المرَّة إلى طبيعة عذبة تشير لصليب ربنا يسوع الذي أنقذنا من مرارة الموت وفتح لنا باب الملكوت... كانت البشريَّة قبل الصلب مثل الحياة المُرَّة التي لا تصلح للملكوت، وبالصليب صارت مثل المياه الحلوة العذبة التي تصلح لسكنى الملكوت، فالسيد المسيح هـو شجـرة الحيـاة: "أنا الكَرْمَةُ الحقيقيّة" (يو 15: 1) ودعيَ بالغصن "ويخرُجُ قَضِيبٌ من جِذْع يسىّ، ويَنبُت غُصْنٌ من أصُولِهِ" (إش 11: 1)، وقال عن إرميا النبي: "ها أيام تأتي، يقول الرب، وأُقيم لداود غُصْن برٍ" (إر 23: 5) وقال عنه زكريا النبي: "هوذا الرَّجُل الغُصْن اسمه" (زك 6: 12) وكلمة الغصن بالعبرية "ينصر"، ولذلك قال عنه متى الإنجيلي: "لكي يتمّ ما قِيلَ بالأنبياء: أنه سَيُدْعَى ناصريًا" (مت 2: 23).
ويقول الشهيد يوستين في حواره مع تريفو اليهودي " في العهد القديم مثالات متنوعة لخشبة الصليب التي بها ملك المسيح... لقد رمز له (الصليب) بشجرة الحياة التي ذكر أنها غرست في الفردوس. وأرسل موسى ومعه العصا الخشبية ليخلص الشعب وبهذه العصا في يديه وهو على رأس الشعب شق البحر الأحمر. وبها تدفّقت المياه من صخرة. وعندما ألقيَ بشجرة في مياه مارَّة المُرَّة صارت عذبة"(38).
ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: "لأن الشخص الذي خلَّف وراءه ملذات مصر... تبدو له الحياة الخالية من هذه الملذات صعبة وغير مقبولة في أول الأمر. لكن إذا أُلقيت الخشبة في الماء ـ بمعنى إذا أقتبل الإنسان سرّ القيامة التي تبدأ بالخشبة (الصليب) حينئذٍ تصبح الحياة الفاضلة أحلى وأعذب مذاقًا من كل الحلاوة التي تداعب الحواس باللذة"(39).
صخرة حوريب التي ضُربت كانت رمزًا للمسيح المصلوب الذي طُعن بالحربة:
أ ـ قال اللَّه لموسى: "ها أنا أقِفُ أمامك هناك على الصَّخرة في حوريب، فتضربُ الصَّخرة فيخرُج منها ماءٌ ليشرَب الشَّعب. فَفَعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل" (خر 17: 6) فهذه الصخرة الصمّاء التي أنبعت ماءً كانت رمزًا وإشارة للسيد المسيح الذي بصليبه فاضت منه الحياة للبشرية، ولذلك ربط مُعلّمنا بولس الرسول الأحداث قائلًا: "وجميعهم شَربوا شرابًا واحدًا روحيًّا. لأنهم كانوا يشرَبون من صخْرَةٍ روحيَّةٍ تابعتهم، والصَّخرة كانت المسيح" (1كو 10: 4)، وقال السيد المسيح للمرأة السامرية: "مَن يشْرَبُ من الماء الذي أُعْطِيهِ أنا فلَن يَعْطَش إلى الأبد، بـل الماء الذي أُعطِيهِ يصير فيه ينبُوع ماءٍ ينبَعُ إلى حياةٍ أبديةٍ" (يو 4: 14). وعندما ضُربت الصخرة أمام عيون شيوخ إسرائيل جرى منها الماء الذي ارتوى منه الشعب كله ونجا من موت محقَّق، وهكذا عندما عُلّق ربنا يسوع على خشبة الصليب أمام عيون شيوخ إسرائيل وطعنه قائد المائة بالحربة جرى منه ماء ودم وهما سري المعمودية والأفخارستيا حياة للعالم، وقال عنه إشعياء النبي "لكن أحزاننا حمَلَها، وأوجَاعَنا تحمَّلها. ونحن حَسِبناه مُصابًا مضروبًا من اللَّه ومذلولًا" (إش 53: 4) وهذه الصخرة التي تفجَّر منها الماء صارت أنشودة المرنمين، فيقول آساف المرنم: "شقَّ صخورًا في البريَّة، وسقاهم كأنه من لُجَج عظيمةٍ. أخرج مجاري من صخرةٍ وأجرى مياهًا كالأنهار" (مز 78: 15)، وقال المرنم: "شقَّ الصَّخرة فانفَجَرت المياه. جَرَت في اليابسَةِ نهرًا" (مز 105: 41)، "المُحوِّل الصَّخرة إلى غُدران مياه، الصَّوَّان إلى ينابيع مياه "(مز 114: 8).
ب ـ الصخرة ضُرِبت في العلن مرة واحدة، هكذا عُلّق ربنا يسوع على خشبة الصليب مرة واحدة، وعندما أخطأ موسى وضرب الصخرة في المرة الثانية عندما قال له الرب: "كلّم الصخرة "، فانفعل وضربها عاقبه اللَّه وحَرَمه من الدخول إلى أرض الموعد.
أتى عماليق وحارب بني إسرائيل فخرج يشوع للقائهم، وصعد موسى على رأس التلة ليصلّي "وكان إذا رَفَع موسى يَدَه أنَّ إسرائيل يَغْلِبُ، وإذا خَفَضَ يَدَه أن عمَاليق يَغْلِبُ. فلمَّا صارت يَدا موسى ثقيلتين، أخذا حجرًا ووضَعَاه تحتَه فجَلَس عليه. ودَعَم هارون وحور يَدَيْهِ، الواحد من هنا والآخَر مِن هناك. فكانت يداهُ ثابتتين إلى غروب الشمس. فَهَزَم يشوع عماليق وقومَهُ بحد السيف" (خر 17: 11 ـ 13).
أ ـ كان موسى على رأس التل رمزًا ومثالًا لربنا يسوع وهو مصلوب على جبل الجلجثة.
ب ـ كان الحجر الذي جلس عليه موسى مثالًا للصليب الذي سُمر عليه ربنا يسوع.
ج ـ عندما كـان يبسط موسى يديه على مثال الصليب كان يشوع يغلب عماليق. أي إن الغلبة بالصليب، ويقول العلامة ترتليان "إني مندهش أنه في الوقت الذي كان فيه يشوع يحارب مع عماليق، كان موسى يصلّي جالسًا بيدين منبسطتين مع أنه كان في ظروف حرجة وكان بالحري يلزمه أن يصلّي بركب منحنية، ويدين تقرعان على الصدر، ووجه منبطح على الأرض. لكنـه كان ضروريًا أن يحمل رمز الصليب حتى يغلب يسوع المعركة بالصليب"(40).
د ـ بصلاة موسى انهزم عماليق وانتصر بني إسرائيل، وبصلب ربنا يسوع انهزم الشيطان وانتصرت البشرية في شخص ربنا يسوع.
هـ ـ ظلت يدا موسى ثابتتين إلى غروب الشمس، وربنا يسوع بسط ذراعيه على عود الصليب إلى الغروب، وما زال يبسط يديه لقبول الخطاة التائبين حتى غروب شمس هذا العالم، ويقول الشهيد يوستين "ليس بدون قصد أن موسى النبي عندما عاونه حور وهارون ظل على هذا الوضع حتى المساء، فلقد ظل الرب على الخشبة تقريبًا حتى الغروب ودفن بعدها... وإشعياء أشار إلى الطريقة التي مات بها الرب قائلًا: "بسَطْت يدَيّ طول النهار إلى شعبٍ مُتَمَرِّد سائِر في طريق غير صالح" (إش 65: 2، رو 10: 21)(41).
ويقول القمص سيداروس عبد المسيح: "إن أول مصلوب بغير صلب، وبدون صالبين، وبلا حادثة صلب كان مصري الاسم والمولد، وكانت الحادثة في أرض مصر... موسى أول من مدَّ يديه في منظر المصلوب بلا صالب، كان مصريًا... له في عالم الناس أُمّان (والدتان) واحدة منهما كانت مصريَّة... قذفه نهر النيل، وأبى أن يجعل منه طعامًا لأسماكه، ولم يحمله إلى ابنة فرعون حوت بل سفط من البردي (خر 2: 3) دعت ابنة فرعون طفلها هذا الذي لم تلده ولم ترضعه بِاسـم مصـري وهـو "موشـى" وقالت إني انتشلته من الماء" (خر 2: 10)"(42).
و ـ كان عماليق يرمز للشيطان، وقال الرب: "سوف أمْحو ذِكْرَ عماليق من تحت السماء" (خر 17: 14) وفعلًا ستكون نهاية الشيطان ومحو اسمه بصليب ماسياس "وإبليس الذي كان يُضِلُّهم طُرِح في بحيرَة النار والكبريت، حيث الوَحش والنبي الكذاب وسيعذَّبون نهارًا وليلًا إلى أبد الآبدين" (رؤ 20: 10).
كان البرص (الجذام Leprocy) يشير لمرض الخطية، فالذي يُصاب به تتآكل أطرافه ويسقط شعره وهو مرض معدي جدًا، ولذلك كان يُعزَل الأبرص عن أسرته وأحبائه، حيث يضعونه في أطراف المدينة وتكون ثيابه مشقوقة ورأسه مكشوفًا ويغطّي شاربيه ويقدِّمون له الطعام والشراب من بُعد كبير، وإذا مرَّ إنسان غريب بهذه المنطقة ولا يعرف أنها مسكن لمرضى البُرص يصرخ الأبرص قائلًا: "نجس ـ نجس" (لا 13: 45) حتى لا يقترب منه الغريب ويقول القديس أُغسطينوس "أن البرص بالمعنى الرمزي هو الخطية ذات العدوى، تفعل في النفس ما يفعله البرص بالجسد. أنها تبعد الخاطئ عن صحبة القديسين والملائكة وتنفيه من المدينة المقدَّسة"(43). وأحيانًا كان يعافى الأبرص، وفي شريعة تطهيره أن الكاهن يخرج إلى خارج المحلة مع الرجل الذي أُصيب بالبرص ثم تعافى، ويتأكد أن ضربة البرص قد برئت تمامًا. ثم يأخذ عصفورين مع خشب أرز وقرمز وزوفا، ويذبح أحد العصفورين في إناء خزف على ماء حي، ويغمس العصفور الحـي مع الأرز والقرمز والزوفا في دم العصفور المذبوح، وينضح على المتطهر من البرص سبع مرات، ويطلق العصفور الآخر حيًّا على وجه الصحراء (لا 14: 1 ـ 8).
أ ـ العصفوران يرمزان للفداء بالصليب، فذبح أحدهما إشارة لذبح ربنا يسوع، وإطلاق الثاني حيًّا إشارة لقيامة ربنا يسوع من بين الأموات، ودم العصفور المذبوح الذي يطهّر الأبرص إشارة إلى دم المسيح الذي يطهرنا من برص الخطية "دَم يسوع المسيح ابنه يُطهّرنا من كل خطيّة" (1يو 1: 7). ويقول الشهيد يوستين: "شبه بطير إذ يُفهَم أنه من فوق من السماء... يغمس الطير الحي من دم الميت ويُطلَق لأن كلمة اللَّه الحي قد صُلِب ومات في هيكل الجسد كمن يتألم وإن كان اللَّه لا يتألم"(44).
ب ـ خشبة الأرز التي كانت تُغمَس في الدم كانت عبارة عن قطعة من الخشب متوسطة السُّمك طولها حوالي قدم ونصف، وهذه الخشبة تشير لخشبة الصليب التي تلطّخت بدم مُخلّصنا الصالح، ويقول العلاّمة أوريجانوس: "بدون خشبة الصليب مستحيل أن تَطهُر من برص الخطية، فإننا نلجأ إلى خشبة المُخلّص التي يقول عنها الرسول {إذ جرَّد الرِّياسات والسَّلاطين أشهَرَهُم جهارًا، ظافرًا بهم فيه} (كو 2: 15)"(45).
ج ـ القرمز عبارة عن قطعة من الصوف مصبوغة باللون القرمزي إشارة للون الدم، وأيضًا يشير إلى الملوك والعظماء، بينما الزوفا تشير إلى البسطاء، فالكل سواء كانوا ملوكًا وعظماءً أو بسطاء هم في حاجة إلى الخلاص والتطهير من الخطية.
د ـ الإناء الخزفي الذي ذُبِح فيه العصفور إشارة لناسوت ربنا يسوع الذي اتخذه ليتمم به الفداء.
عندما تكلم الشعب على اللَّه وعلى موسى وتذمّروا: "قائلين: أصعدتُمانا من مصر لنموت في البرية؟ لأنه لا خُبز ولا ماء، وقد كَرهَتْ أنفسُنا الطعام السخيف. فأرسل الرب على الشعب الحيَّات المُحرقة، فلدَغَت الشعب، فمات قوم كثيرون من إسرائيل" (عدد 21: 5، 6). وعندما صرخ الشعب للَّه وتابوا: "فقال الرب لموسى: اصنع لك حيَّة مُحرقة وضَعُها على رايةٍ، فكل من لُدِغ ونظر إليها يحيا. فصنع موسى حيّةً من نحاس ووضَعها على الرّاية، فكان متى لَدَغَت حيَّة إنسانًا ونظر إلى حيَّة النحاس يحيا" (عد 21: 8، 9) وهنا نلاحظ الآتي:
أ ـ لم يفنِ اللَّه الحيَّات المحرقة، ولكنه خلّص شعبه من هذه الحيَّات بواسطة الحيَّة النحاسية، وأيضًا اللَّه لم يفنِ الشيطان ولكنه خلّص شعبه من قوة الشيطان بواسطة صليبه المحيي.
ب ـ كل إنسان يلدغ من الحيَّة المحرقة ويؤمن بكلام اللَّه فينظر للحيَّة النحاسية ينجو من الموت وكل إنسان يؤمن بكلام اللَّه وينظر للصليب ينال الخلاص وينجو من الهلاك الأبدي لأن: "أُجْرة الخطيَّة هي موت، وأمَّا هبة اللَّه فهي حياة أبديَّة بالمسيح يسوع ربنا" (رو 6: 23)، فالحيَّة كانت محط أنظار المصابين المحكوم عليهم بالموت المحقَّق، والسيد المسيح هو ملجأ الخطاة: "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمِّلِهِ يسوع" (عب 12: 2) ولهذا قال ربنا يسوع: "كما رَفَع موسى الحيَّة في البرّية هكذا ينبغي أن يُرفَع ابن الإنسان. لكي لا يَهلِك كل من يؤمِن به بل تكون له الحياة الأبديَّة" (يو 3: 14، 15) ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: "العمـل الأساسي للإيمان في السرّ، هو أن ننظر إلى ذاك الذي تألم لأجلنا. الصليب هو الألم، حتى إن من ينظر إليه كما يقول النص لا يؤذيه سم الشهوة. أن تنظـر إلـى الصليـب، يعنـي أنك تُميت حياتك كلها وتصلبها للعالم"(46).
ج ـ الحيَّة النحاسية كانت وسيلة الخلاص من الموت لكل من لدغته الحيَّة المحرقة. وصليب ربنا يسوع وسيلة الخلاص لكل من يخدعه الشيطان الحيَّة القديمة.
د ـ الحيَّة النحاسية كانت حيَّة بلا سم، والسيد المسيح هو القدوس الذي بلا خطية وحده الذي أخذ شبه جسد الخطية ولكنه لم يأخذ طبيعتنا الفاسدة.
عيّن الرب ست مدن للملجأ منها: ثلاث شرق الأردن وثلاث غرب الأردن، والطرق المؤدية لها مهيأة وإن كان يعترضها مجرى مائي يوضع عليه مَعبر دائم، وعند مفارق الطرق توضع لافتات مكتوب عليها "الملجأ ـ الملجأ" وهذه المُدن يهرب إليها القاتل من غير قصد ولا عَمْد، فلا يسير أكثر من ثلاثين ميلًا ممهدة حتى يجد إحدى مدن الملجأ فيلجأ إليها لحين انتهاء التحقيق والتأكد من أنه قتل بدون قصد، فيظل في المدينة في أمان، ولكنه لا يقدر أن يعود إلى أسرته ولا إلى بلدته، بل يظل أسيرًا لتلك المدينة لا يستطيع منهـا فكاكًا، لأنه لو خرج منها ووجده ولي الدَّم يقتله... إلى متى؟.. إلى أن يموت رئيس الكهنة الأعظم، فيُعتبر موت رئيس الكهنة بشارة مفرحة لكل أسرى مدن الملجأ، فينطلقون ويعـودون إلى بيوتهم، ولا يتعرّض لهم أحد... وهنا نجد الرمز واضحًا:
أ ـ كل قاتل عن طريق السهو يلجأ إلى مدن الملجأ ينجو من الموت، وهكذا الخاطئ الذي يلجأ إلى صليب المسيح ينال البراءة.
ب ـ أسرى مدن الملجأ يعودون إلى أوطانهم بعد موت رئيس الكهنة، وبموت السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم (عب 8: 1) عاد آدم الذي قتل نفسه وكل من مات على الرجاء إلى وطنه حيث الفردوس المفقود.
بينما كان بنو الأنبياء يقطعون الأخشاب من على ضفاف نهر الأردن ليقيموا مساكن، وكان معهم أليشع النبي... "وإذ كان واحِدٌ يقطَـعُ خشبَةً، وقَـعَ الحديد في الماء. فصرخ وقال: آه يا سيدي! لأنه عاريَةٌ. فقال رجل اللَّه: أين سقط؟ فأراه الموضِعَ، فقطع عُودًا وألقاه هناك، فطفا الحَديد. فقال ارفَعْه لنفسك. فمدّ يَدَه وأخَذَه" (2مل 6: 5 ـ 7).
لقد صارت الطبيعة البشرية ثقيلة مثل الحديد وغرقت في بحر الخطايا، ولم يستطع نبيًا ولا ملاكًا أن ينقذها، ولكن عن طريق عود الصليب غُفرت خطاياها وطفت فوق الطوفان، أي أنها سَمَت فصارت طبيعة سماوية مقدَّسة تصلح لسكنى الملكوت، وتقدر أن تعاين وجه اللَّه الآب من خلال عود الصليب.
أ ـ أرسل اللَّه يونان من أجل خلاص نينوى، وأرسل اللَّه الآب ابنه الحبيب يسوع المسيح من أجل خلاص العالم.
ب ـ بموت يونان نجا ركاب السفينة من الموت، وبموت السيد المسيح نجت البشرية، فيونان النبي فدى ركاب السفينة من الموت، والسيد المسيح فدى البشرية من الموت.
ج ـ عندما ابتلع الحوت يونان صار عليه حكم الموت، وربنا يسوع الذي نزل إلى جوف القبر سرى عليه حكم الموت.
د ـ مكث يونان النبي في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، ومكث السيد المسيح في جوف القبر ثلاثة أيام وثلاث ليال.
هـ ـ وعندما طلب الكتبة والفريسيون أن يروا آية من ربنا يسوع: "فأجاب وقال لهم: جيلٌ شرِّيرٌ وفاسِقٌ يطلُب آية، ولا تُعطَى له آيَة إلاَّ آيةُ يُونان النبيّ. لأنه كما كان يونان في بَطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، هكذا يكون ابن الإنسان في قَلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ" (مت 12: 39، 40).
ويجدر الملاحظة هنا أن ربنا يسوع قُبِض عليه يوم الخميس وأمضى الليل كله في المحاكمات وحكم عليه رئيس الكهنة والكهنة بالموت قائلين: إنه مستوجب الموت، وبذلك يكون حكم الموت سرى على ربنا يسوع ثلاثة أيام (الجمعة والسبت وجزء من يوم الأحد) وثلاث ليالٍ (ليلة الخميس في المحاكمات وليلة الجمعة والسبت في جوف القبر).
و ـ خرج يونان من جوف الحوت حيًّا وجسده لم يعاين فسادًا، وربنا يسوع انطلق من جوف القبر حيًّا وجسده لم يعاين فسادًا كنبوة أبينا داود: "لأنك لن تترك نَفسِي في الهاوية. لن تدَعَ تقيَّك يَرى فسادًا" (مز 16: 10).
_____
(30) نيافة الأنبا يؤانس المتنيح أسقف الغربية ـ المسيحية والصليب ص 19.
(31) المرجع السابق ص 20.
(32) القمص تادرس يعقوب ـ تفسير سفر التكوين ص 220.
(33) القمص تادرس يعقوب ـ تفسير سفر التكوين ص 307.
(36) القمص سيداروس عبد المسيح ـ الصليب على الطريقة المصرية ص 52.
(37) القمص تادرس يعقوب ـ تفسير سفر الخروج ص 55 .
(38) نيافة الأنبا يؤانس المتنيح ـ المسيحية والصليب ص 19.
(39) المرجع السابق ص 20، 21.
(40) القمص تادرس يعقوب ـ تفسير سفر الخروج ص 111.
(41) نيافة الأنبا يؤانس المتنيح ـ المسيحية والصليب ص 19.
(42) الصليب على الطريقة المصرية ص 38 ـ 40.
(43) القمص يوحنا فوزي ـ شهادة الكتاب المقدَّس عن ألوهية السيد المسيح جـ 1 ص 125.
(44) القمص تادرس يعقوب ـ تفسير سفر اللاويين ص 138.
(45) المرجع السابق ص 139.
(46) نيافة الأنبا يؤانس المتنيح ـ المسيحية والصليب ص 21.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/cross/symbols.html
تقصير الرابط:
tak.la/93drqvr