يقول "دكتور موريس بوكاي": "إن الأصحاحين (يقصد السفرين) الأول والثاني من أخبار الأيام وكتب عزرا ونحميا تنتمي إلى كاتب واحد اسمه القصَّاص الذي عاش في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وهو يتناول من جديد التاريخ برمته منذ الخلق وحتى ذلك العصر... الواقع أنه يستخدم فوق كل شيء كتاب صموئيل وكتاب الملوك، {بل هو ينسخها آليًّا دون أن يهتم بالمتناقضات الناجمة عن هذا النسخ} (أ. جاكوب). غير أنه يضيف أيضًا أمورًا معينة يؤكد علم الآثار صحتها. في هذه المؤلفات إذًا اهتمام بتكيّيف التاريخ مع الضرورات اللاهوتية، وكما يقول " أ. جاكوب " كان الكاتب هنا يكتب التاريخ منطلقًا من اللاهوت"(1).
ويقول "جوناثان كيرتش": "والحقيقة أن بعض كتَّاب التوراة أنفسهم لم يكونوا مرتاحين بالعرض الصادق في سفر صموئيل والملوك، ولذا فقد أعطونا ترجمة ثانية لحياتي داود وسليمان في أخبار الأيام الأول والثاني، اللذين يظهر أنهما نوع من تخاطر الأفكار في نهاية التوراة العبرية تمامًا، ولم يذكر سفري أخبار الأيام حب داود ليوناثان، وأعمال الزنى والإجرام التي قام بها داود مع بثشبع، واغتصاب ثامار، وتمرُّد أبشالوم، وتمت مراجعة حوادث أخرى في عهد داود بصورة جزئية، وأُعيدت كتابتها لكي تخدم التقويم الديني للمؤلف... وعلى سبيل المثال، كُتب بصورة صريحة في السفر الثاني لصموئيل أن داود أُمر من الله أن يجري إحصاء للإسرائيليين، وهو أمر أُعتبر قبيحًا من قِبل الإسرائيليين القدماء، لأن الإحصاء كان الخطوة الأولى نحو فرض الضرائب والتجنيد الإلزامي... غير أن الدعائي الذي صاغ أخبار الأيام محا تمامًا اسم الله وكتب اسم الشيطان لدى إعادة قصَّه نفس القصة {ونهض الشيطان على إسرائيل} (1أي 21: 1)"(2).
ج: نحو نصف سفري الأخبار يشغل أحداثًا سبق ذكرها في أسفار صموئيل والملوك، ولكن يجب ملاحظة الآتي:
1- هناك أحداثًا ذكرها كاتب سفر الأخبار لم يرد ذكرها في الأسفار السابقة، فمثلًا انفرد الكاتب بهذا الكم من سلاسل الأنساب، والتي استغرقت تسع أصحاحات كاملة، بهدف مساعدة العائدين من السبي التحقُّق من أنسابهم، وبهذا أجاب السفر على تساؤل العائدين من السبي عن أصلهم، وما هو ماضيهم، وربط السفر بين حاضر الشعب وماضيه، مؤكدًا على وحدة الجنس البشري المنحدر من آدم. ومن الأمور التي انفرد بها سفر الأخبار "صلاة يعبيص" (1أي 3: 10) وأن داود أقام خيمة جديدة لتابوت العهد في أورشليم (1أي 15: 1، 16: 1).
وقد نحى الكاتب بإرشاد الروح القدس منحى تاريخي فاهتم بتسجيل التفاصيل التاريخية لحفظها من الضياع، فذكر ما لم تذكره الأسفار الأخرى السابقة، فجاء سفر الأخبار مكمّلًا للأسفار السابقة وليس بديلًا عنها، وهذا ما أدركه مترجمو الترجمة السبعينية فدعوا السفر "أمور أُغفل ذكرها". وقد افترض كاتب السفر أن من يطالع سفره فهو على دراية بالأسفار السابقة، وجاء في " دائرة المعارف الكتابية" عن الكاتب: "قد كان هدفه الحفاظ على ما اعتبره أمورًا تاريخية كانت مُعرَّضة لخطر الضياع، وهى أمور متعلّقة بالعبادة في الهيكل مع أمور أخرى متنوعة، وكانت له غريزة المؤلف في الاستحواذ على كل أنواع التفاصيل ووضعها في صيغة ثابتة. وقد أوحى إليه الله أن ينحو هذا المنحى. لقد أراد أن يحفظ للمستقبل كل ما اعتبره حقائق تاريخية. إن طبيعة المواد التي وضعتها العناية الإلهيَّة تحت تصرفه كان لها نفس الأثر، إذ يبدو أنه أراد استكمال مجموعة الكتابات المقدَّسة"(3).
ويقول "القس صموئيل يوسف": "كاتب سفري الأخبار أغفل بدوره أحداث كثيرة ذُكرت في سفري الملوك، وكل كاتب كما هو واضح اختار مادته طبقًا لهدف معين ثقَّله به الروح القدس"(4).
2- كرَّر كاتب سفر الأخبار بعض الأحداث بهدف معين، وتكرار الأحداث في الكتاب المقدَّس أمر وارد، بقصد توضيح الأمر أكثر أو تسليط الضوء على أمر معين، فمثلًا بعد أن ذكر موسى النبي قصة الخلق في الأصحاح الأول من سفر التكوين، عاد وسلّط الضوء على قصة خلق الإنسان بالتفصيل في الإصحاح الثاني، ويقول "القمص تادرس يعقوب": "يستخدم الكتاب المقدَّس أحيانًا الإعادة إلاَّ أن هناك حكمة في هذا، مثال ذلك: يوجد بعض التكرار في كل من إنجيلي مرقس ومتى، ولكن الروح القدس في حكمة يراعي توصيل كلمة الله بأن يُعطي الحقيقة مركَّزة ثم يعود ويختار بعض الأجزاء ليسلط الضوء عليها. وكأن الروح القدس ينظر إلى المساحة خلال تليسكوب، ثم يختار جزءًا معينًا، ويوضحه لنا بالتفصيل تحت الميكروسكوب. هذا هو ما حدث تمامًا في سفري أخبار الأيام الأول والثاني"(5).
3- يعتبر الدارسون أن سفري الأخبار هما شرح وتوضيح لكثير من الأمور التي وردت سابقًا في أسفار صموئيل والملوك، فمثلًا:
أ - في حادثة موت شاول يذكر في سفر صموئيل أن أهل يابيش صاموا سبعة أيام (1صم 31: 13) وقد رثاه داود هو ويوناثان ابنه (2صم 1: 17 - 27)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. أما في سفر الأخبار فيشرح سبب تخلي الرب عنه فيقول: "فَمَاتَ شَاوُلُ بِخِيَانَتِهِ التي بها خَانَ الرَّبَّ من أجلِ كَلامِ الرَّبِّ الذي لم يَحْفَظْهُ. وأيْضًا لأجل طَلَبِهِ إلى الجَانِّ للسُّؤَال، ولمْ يَسْأَلْ من الرَّبِّ، فَأماتَهُ وحَوَّلَ المَمْلَكَةَ إلى داوُدَ بن يَسَّى" (1أي 10: 13، 14).
ب - ذكر سفر الملوك أن سليمان كان يذبح ويوقد في المرتفعات، وذهب إلى جبعون المرتفعة العظمى (1مل 3: 3، 4). أما في سفر الأخبار فيوضح لماذا ذهب سليمان إلى جبعون فيقول: "لأَنَّهُ هُنَاكَ كَانَتْ خَيْمَةُ الاجْتِمَاعِ، خَيْمَةُ اللهِ الَّتِي عَمِلَهَا مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي الْبَرِّيَّةِ"(2أي 1: 3).
جـ - في حادثة هجوم شيشق ملك مصر على أورشليم قال سفر الملوك: "وَفِي السَّنَةِ الخامسةِ للمَلِكِ رَحُبعام، صَعِدَ شيشَقُ مَلِكُ مِصْرَ إلى أُورُشَليم" (1مل 14: 25) أما سفر الأخبار فيشرح الأمر قائلًا: "ولمَّا تثَبَّتَت مملَكَةُ رَحُبْعَامَ وَتَشَدَّدَتْ، تَرَكَ شَرِيعَةَ الرَّبِّ هُوَ وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ مَعَهُ. وَفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ لِلْمَلِكِ رَحُبْعَامَ صَعِدَ شِيشَقُ مَلِكُ مِصْرَ عَلَى أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُمْ خَانُوا الرَّبَّ" (2 أي 12: 1، 2). وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": "شيشنق: مؤسس الأسرة الثانية والعشرين لحكم مصر، وقد حكم ما بين 945 - 924 ق. م. تقريبًا... أن نقش شيشنق نفسه على جدار معبد أمون بالكرنك (طيبة) يوضح أن جيوشه قد واصلت حملاتها شمالًا حتى مجدو. السنة الخامسة: أي سنة 924 ق. م. تقريبًا، عادة ما يذكر أخبار الأيام مؤشرات زمنية لا ترد في كتاب الملوك (مثلًا 2أي 11: 17، 15: 10، 19، 16: 1، 12، 13، 17: 7، 21: 20، 24: 15، 17، 23، 26: 16، 27: 5، 8، 29: 3، 34: 3، 36: 21) وقد صارت هذه المؤشرات بمثابة الوسيلة التي يؤكد بها على الجزاء الفوري، وذلك بتقسيم فترات حكم كل ملك إلى دوائر من الطاعة والبركة، والعصيان والعقاب. ويتضح هذا التتابع في حياة رحبعام: ثلاث سنوات من الطاعة والبركة (2أي 11: 17) يعقبها عصيان من المفترض أنه حدث في السنة الرابعة (2أي 12: 1) وعقاب في السنة الخامسة (هنا)"(6).
د - جاءت قصة آسا في سفر الملوك مقتضبة (1مل 15: 9 - 24) بينما أسهب كاتب الأخبار في ذكر أخبار آسا فشغلت القصة ثلاث أصحاحات (2أي ص 14 - 16) وقد ربط بين الطاعة والبركة في حياة آسا، وكذلك بين العصيان والعقاب، فعندما فعل آسا ما هو مستقيم أراحه الرب ومنحه النصرة على جيش زارح الكوشي الذي بلغ تعداده مليون جندي، بينما كانت أواخر أيام آسا سيئة، فعندما هاجمه جيش إسرائيل استعان بجيش آرام ولم يطلب إلهه، ولم يصغِ لصوت حناني الرائي الذي قاله له: "لأَنَّ عَينَيِ الرَّبِّ تَجُولاَن في كُلِّ الأَرْض ليتَشَدَّدَ مَعَ الذين قُلُوبُهُمْ كَامِلَةٌ نَحْوَه" (2أي 16: 9). وبينما ذكر سفر الملوك اعتلال رجلي آسا، يوضح سفر الأخبار الأمر أكثر فيقول: "ومرِضَ آسا... في رِجْلَيْهِ حتى اشتَدَّ مَرَضُهُ، وفي مَرَضِهِ أيضًا لم يطْلُبِ الربَّ بل الأطبَّاء" (2أي 16: 12).
ه - ذكر كاتب سفر الملوك خبر تحطم سفن يهوشافاط (1مل 22: 48). أما كاتب سفر الأخبار فيذكر قول أليعزر ليهوشافاط "لأَنَّكَ اتَّحَدْتَ مع أَخَزْيَا، قد اقْتَحَمَ الرَّبُّ أعمَالك. فَتَكَسَّرَت السُّفُنُ" (2أي 20: 37).
و - ذكر كاتب سفر الملوك ثورة لبنة على يهورام ملك يهوذا (2مل 8: 22). أما كاتب سفر الأخبار فيقول: "عَصَتْ لِبنَةُ في ذلك الوقتِ من تحت يدِهِ لأَنَّهُ تَرَكَ الرَّبَّ إله آبائه" (2أي 21: 10) وهكذا في تسليم الله أيضًا ملك يهوذا ليهوآش ملك إسرائيل (راجع 2مل 14: 13 مع 2أي 25: 2) وكذلك سبب مرض عُزّيا (قارن 2مل 15: 5 مع 2أي 26: 16 - 21) وأيضًا موت يوشيا (قارن 2مل 23: 29 مع 2أي 35: 21)... الخ.
ز - جاء في سفر الأخبار عن عزيا ملك يهوذا: "وعَمِلَ المستقيم في عيْنَيِ الرَّبِّ... وكان يَطلُبُ الله... وفي أَيَّام طَلَبِه الرَّبَّ أَنْجَحَهُ الله" (2أي 26: 4، 5)، وقال عن يوثام ملك يهوذا: "وتَشَدَّدَ يُوثَام لأَنَّهُ هيَّأَ طُرُقَهُ أمام الرَّبِّ إلهه" (2أي 27: 6) وفي حرب فقحيا ملك إسرائيل مع يهوذا قال: "وقَتَلَ فَقَحُ بنُ رَمَلْيَا في يَهُوذَا مِئَةً وعِشرينَ ألفًا فِي يومٍ واحِدٍ، الجَمِيعُ بَنُو بَأسٍ. لأَنَّهُم تركُوا الرَّبَّ إله آبَائِهِم" (2أي 28: 6)... "لأنَّ الرَّبَّ ذلَّل يهوذا بسَبَبِ آحاز مَلِكِ إسرائِيل، لأَنَّهُ أجمَح يَهُوذا وخان الرَّبَّ خيانة" (2أي 28: 19) وقال عن حزقيا ملك يهوذا: "لأنَّ قلبَهُ ارتفَعَ، فَكَانَ غَضَبٌ عليه وعلى يهُوذَا وأُورُشَلِيمَ. ثُمَّ تواضَعَ حَزَقيَّا بسَبَب ارتفَاعِ قَلبِهِ هو وسُكَّان أورشَليم، فلم يأتِ عليهم غَضَبُ الرَّبِّ في أيَّام حزقيَّا" (2أي 32: 25، 26). وفي كل هذا يريد كاتب الأخبار أن يشدّد على مدى أهمية وضرورة طاعة الوصية الإلهيَّة، ومدى خطورة مخالفتها.
ويقول "القس صموئيل يوسف": "ويرى بعض علماء الكتاب، بأن سفري الأخبار بمثابة تفسير لأجزاء عديدة، عسرة الفهم وردت في أسفار الأنبياء الأولين (أسفار صموئيل والملوك). وجاء بالأخبار أيضًا أن إسرائيل واجهت المحن والكوارث العديدة لأنها لم تؤمن بإلهها وأنبيائه (2أي 20: 20) وهنا ينبر الكاتب على ضرورة بل حتمية الالتزام والإصغاء للكلمة النبوية من فم الرب"(7).
4- ردًا على دكتور موريس بوكاي نقول باختصار أن كاتب سفر الأخبار لم يتناول التاريخ منذ خلق آدم وحتى تاريخه، ولكنه فقط بدأ سلسلة الأنساب بآدم، ولم يتطرّق لأية أحداث قبل موت شاول سواء من تاريخ العالم أو تاريخ بني إسرائيل، ولم يورد شيئًا من الأحداث العديدة التي وردت في أسفار موسى الخمسة مثل قصص الخلق والطوفان وبرج بابل والآباء ويوسف، وأحداث بني إسرائيل في مصر، وفي البرية أو في أرض الموعد، وأيضًا فترة القضاة وصموئيل، ولم يكن في أسفار صموئيل والملوك متناقضات نقل عنها الكاتب كقول دكتور موريس بوكاي، لأن تلك الأسفار مُوحى بها من الروح القدس أي معصومة تمامًا من الأخطاء، ولذلك قبلتها الكنيسة على أنها أسفار قانونية، رغم المبدأ الذي كان سائدًا في تحديد قانونية الأسفار، وهو "إذا خامرك الشك في سفر فالقه جانبًا".
5- ردًا على "جوناثان كيرتش" نقول أن سفر الأخبار ليس ترجمة ثانية لأسفار صموئيل والملوك، ومحاولة لتنقية ما جاء في تلك الأسفار، ولا سيما فيما يخص داود وسليمان، إنما كان لكاتب السفر أهدافه في إظهار شخصيتي داود وسليمان كشخصيات مثالية ترمز للسيد المسيح، ولذلك أغفل ذكر ضعفاتهما وخطاياهما وسقطاتهما، إذ كيف يظهر رمز السيد المسيح زاني وقاتل، أو عابد للأصنام؟!
_____
(1) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص 34.
(2) ترجمة نذير جزماتي - حكايا محرَّمة في التوراة ص 338.
(3) دائرة المعارف الكتابية جـ 3 ص 227.
(4) المدخل إلى العهد القديم ص 257.
(5) تفسير أخبار الأيام الأول ص 11، 12.
(6) الكتاب المقدَّس الدراسي ص 1033.
(7) المدخل إلى العهد القديم ص 264.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1374.html
تقصير الرابط:
tak.la/d8b562w