قال الرسول بولس "ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة" (عب 13: 14) فهذه الأرض ليست وطننا، وما نحن فيها سوى غرباء ونزلاء، وحياتنا هنا سفر الأبدية، وطريق غربة لابد من عبورها للوصول إلى الوطن الباقي. نحن سائحون في هذه الديار وسيأتي يوم فيه تنتهي غربتنا، ومهما طالت سياحتنا في هذه البرية فلابد من الذهاب إلى البيت الأبدي، (جا 12: 5).
أين الدهور الماضية والأقوام الذين سبقونا؟ ألم ينته زمان غربتهم فذهبوا إلى أبديتهم وتركونا؟! ردد في ذهنك واعلم أننا غرباء وَنُزَلاء مثل آبائنا. أيامنا كالظل على الأرض (أي 29: 15). قال بطرس الرسول "فسيروا زمان غربتكم بخوف" (1بط 1: 17) وينبغي أن يقول كل منا لذاته ما قاله داود لأتاي: ارجع وأقم مع الملك لأنك غريب ومنفي أيضًا من وطنك (2صم 15: 19). إن هذا العالم ليس هو وطنك بل هو فندق بعد قليل تفارقه متوجهًا نحو دار أبديتك، فأنت هنا غريب وضيف وسائح وعابر طريق وهل يرتاح الغريب في غير وطنه. ألا يئن ويحِن انعطافًا وشوقًا إلى مقر وطنه الحقيقي. فنحن ما دمنا في الدنيا فإننا لا نبرح غرباء في أرض مصر ومتضايقين في دار العبودية ولا نزال موثقين بالأغلال والقيود التي تجبرنا على الإقامة منفيين وجالسين على أنهار بابل نبكي كلما تذكرنا صهيون. (مز 137: 1) ولا تزال أنات الأشواق وزفرات الحب لوطننا تخترق حبات القلوب. فان المنفي لا يكف عن الأنين في دار منفاه المكتنف بغواشي الظلام والشقاء، بل يئن شوقًا للرجوع إلى وطنه. كما أن العضو المكسور لا يسكن ولا يرتاح إلا بوضعه في مكانه, والحجر المرشوق إلى الفضاء لا يزال مضطربًا إلى أن يعود إلى مركزه.
فلنفكر في ذلك حتى لا نضع قلوبنا في أمور باطلة ولا ندعها تتعلق بمحبة ما هو فان مع الزمان "غير ناظرين إلى ألأشياء التي ترى بل إلى التي لا ترى لأن التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية" (2كو 4: 18) "لأننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله غير مصنوع بيد أبدي. فإننا في هذه نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء. وإن كنا لابسين لا نوجد عراه فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مشتاقين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها لكي يبتلع المائت من الحياة... فإذا نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب... فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب" (2كو 5: 1-8).
إن الجسد لا يزال أسيرًا للتجارب، وبِذار الخطية لا تبرح تجاربنا في ميدان الكفاح. ولا نفتأ معرضين للمصائب، وحتى الآن لم ننل الحرية حرية مجد أولاد الله ولم نفز بإكليل النصرة. ونفوسنا لا تزال تتردد على شقاوات وتعاسات لا حد لها. حتى الآن لا نزال تحت سطوة الموت نجاهد ونصارع ضد الأهواء. فإذا نحن نتوقع راحة وننتظر ساعة فيها يكف الشغب ويبطل التعب والنصب. نرجو حياة ليس فيها بكاء ولا عناء. لنخلع الفساد والهوان والضعف ونلبس الخلود وعدم الفساد وننال المجد المزمع أن يتجلى فينا أننا ورثة ولنا ميراث في السماء لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل فقلوبنا ملتهبة فينا شوقًا لأخذ الميراث الأبدي والتحرر من كل عبودية. إننا سماويون غرباء على هذه الأرض فكيف نرتاح ما لم نصعد إلى وطننا ونلتقي بالآب السماوي، لننال فيض التعزيات الكاملة؟ نحن هنا أشقياء بؤساء مع أننا أبناء الملك السماوي، وكيف يرضى الأمراء بحال الذل والهوان. إنهم يشتاقون لأن يجلسوا على عروشهم وينالوا مجدهم ويتمتعوا بما خول الله لهم من حق السلطان والعظمة والمجد. إننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معًا إلى الآن وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا" (رو 8: 21- 23) فنشتاق إلى ظهور ذلك اليوم السعيد الذي فيه تعتق نفوسنا ويزول كل أنين وتعب وتبتلع أحزاننا في تلك التعزيات التي لا تخطر على بال حين لا نعود نذكر الشدائد التي قاسيناها في هذه الحياة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وما أشبهنا بالحمامة التي أطلقها نوح التي كانت تروح وتغدوا ولم تجد راحتها إلا بالرجوع إلى الفلك. ومثل بني إسرائيل قد كلت أقدامنا من تعب الطريق وباطلًا نجد راحتنا في البرية حيث أننا لا نجدها إلا عند الدخول إلى أرض كنعان. وكيعقوب وهو ناظر إلى العجلات وكان كلما طال أمد انتظاره اشتدت أشواقه لرؤية وجه ابنه يوسف. ليست هذه الحياة سوى أوقات قليلة وكلها تعب وعناء. وقد قال عنها أيوب: أليس جهاد للإنسان على الأرض وكأيام الأجير أيامه (أي 7: 1) الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبًا يخرج كالزهر ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا يقف... إن كانت أيامه محدودة وعدد أشهره عندك وقد عينت أجله فلا يتجاوزه... أما الرجل فيموت ويبلى. الإنسان يسلم فأين هو (أي 14: 1- 10) وقال داود عرفني يا رب نهايتي ومقدار أيامي كم هي فاعلم كيف أنا زائل. هوذا جعلت أيامي أشبارًا وعمري كلا شيء قدامك. إنما نفخة كل إنسان قد جُعل. إنما كخيال يتمشى الإنسان إنما باطلًا يضجون. يذخر ذخائر ولا يدري من يضمها (مز 39: 4) "كل جسد كعشب وكل مجد إنسان كزهر عشب. العشب يبس وزهره سقط" (1بط 1: 24) ترجع الإنسان إلى الغبار وتقول ارجعوا يا بني آدم.. بالغداة كشعب يزول. بالغداة يزهر فيزول. عند المساء يجز فييبس... أيام سنينا هي سبعون سنة وإن كانت مع القوة فثمانون وأفخرها تعب وبلية لأنها تفرض سريعًا فنطير (مز 90: 3- 10) إن الإنسان أشبه بنفخة, أيامه مثل ظل عابر (مز 144: 4) تحجب وجهك فترتاح. تنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود (مز 104: 29) "لأنه ما هي حياتكم. إنها بخار يظهر قليلا ثم يضمحل" (يع 4: 14).
فما هذا العالم إلا مغاير وكهوف في براري قَفْراء موحشة بالنسبة لبهاء ذلك الوطن السعيد أورشليم السماوية. وهناك الحياة الحقيقية المملوءة بالسعادة الأبدية. هناك التعزيات الدائمة غير المتناهية "يسلك المفديون فيها ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم ويهرب الحزن والتنهد" (اش 35: 9، 10) وليس أمامنا حاجز يمنعنا عن الوصول إلى دار أبديتنا سوى هذا الجسد، فإننا ما دمنا في الجسد فنحن متغربون عن الرب، ولكن متى نُقض هذا الحائط زال الحاجز وارتفع الحجاب حينئذ نبلغ مقر الراحة الأبدية قائلين "أين شوكتك يا موت، أين غلبتك يا هاوية" (1كو 15: 55) "استمع صلاتي يا رب وأصغ إلى صراخي. لا تسكت عن دموعي لأني أنا غريب عندك, نزيل مثل جميع آبائي (مز 39: 12) غريب أنا في الأرض لا تخف عني وصاياك (مز 119: 19).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/habib-guirguis/consolation/earth.html
تقصير الرابط:
tak.la/a9a9ypm